دراسات وبحوث

سفيان الثوري – مثقف الاجتهاد الحر والالتزام العملي (1)

ميثم الجنابيتقديم عام للبحث: إن إحدى القضايا الجوهرية الضرورية بالنسبة لتأسيس وعي الذات الثقافي والرؤية العقلانية، والنقدية الواقعية تفترض "تنقية" التراث مما علق به من تشويه متنوع الأشكال والمواقف، إضافة إلى "تفسيره" المعاصر بمعايير الماضي المتكلسة وبعض قيمه السقيمة. وهي المهمة التي أسعى لتحقيقها من خلال إعادة النظر النقدية بمختلف جوانب التاريخ العربي الإسلامي. وسلسلة المقالات والأبحاث التي اكتبها وانشرها تحت عناوين (شخصية ومصير) و(شخصيات من التراث) و(شخصيات صوفية) وغيرها ترمي الى هذه الغاية.

إن مهمة هذا النوع من الكتابة تقوم في حلّ التحنيط المذهبي والعقائدي للشخصيات التي لعبت دورا هائلا في إرساء أسس الثقافة العقلية والعقلانية، والعاملة من أجل تأسيس فكرة الحق والشرعية والنزعة الإنسانية وفكرة الحرية. إضافة إلى تأسيس نمط نوعي آخر في التعامل مع التراث وشخصياته. إذ أغلب ما يكتب بهذا الجانب من مقالات وأبحاث "لا تحصى" مجرد تكرار سمج وممل لمعلومات تطفح بها الكتب التقليدية. ومن ثم يمكن اختصار كل الف مقال وبحث في مقال وبحث واحد، وهذا بدوره مجرد استفراغ مباشر لما في بطون الكتب التاريخية!

بينما المهمة الحالية والمستقبلية تقوم في تحليل ونقد الشخصيات التاريخية الثقافية الكبرى من أجل إعادة دمجها في الذهنية المعاصرة. وهي مهمة تهدف بقدر واحد إلى إرساء أسس الرؤية النقدية والعقلانية تجاه الماضي لما له من أثر كبير بالنسبة لبلورة الوعي الاجتماعي والسياسي الحديث، وكذلك بالنسبة لبلورة وعي الذات الثقافي والقومي المعاصر.

إذ لم يتعرض التاريخ الإسلامي وتراثه الهائل إلى مخاض النقد العقلاني العميق والمتناسق والمنظومي. فالتيارات الدنيوية (العلمانية) أما لا تفقه فيه شيئا أو أنها تعتقد، لأسباب منهجية وسياسية مستلبة، بأنه غريب عنها بالقدر الذي هي غريبة عنه، مما أدى إلى تصنيع اغتراب مزدوج، ملأته "اجتهادات" الفكر الديني المعاصر "بحداثة" مفتعلة أو بنكوص أشد صوب بنية تقليدية أشد تحجرا. الأمر الذي أدى ويؤدي بصورة متزايدة إلى تشويه الوعي الاجتماعي بمختلف مجالاته ومستوياته.

وفيما يخص سفيان الثوري فقد حقق في ابداعه الفكري وحياته العملية احد النماذج المعتدلة والعميقة لنقد الاستبداد السياسي ومذاهب التفرقة والصراع غير العقلاني، أي أحد النماذج الكلاسيكية في مواجهة تقاليد الاستبداد والعنف الذي رافق صعود الخلافة الأموية أولا والعباسية لاحقا، ومن ثم في اغلب نماذج السلطة الإسلامية على امتداد زمنها. الأمر الذي جعل التاريخ الإسلامي يجري في شقين متوازيين ولكل منهما عالمه الخاص، ألا وهو زمن السلطة والسلطان، وتاريخ العقل والوجدان الصادق. إذ طغى زمن السلطة على مظاهر الحياة والعقائد والسلوك والإيمان، بينما بقي تاريخ الروح والعقل الحر يفعل في قاع الوعي النقدي والضمير الحي. وهي الحالة التي مازال العالم العربي يعاني منها، بمعنى عدم خروجه من "مرجعياتها" القذرة.

حدد كل ذلك ما يمكن دعوته بهيمنة وسيادة الفقه والابتذال الديني العقائدي لكل شيء من جانب الفكر الخنوع والمراوغ والرياء غير المحدود "لعلماء السوء" كما وصفهم الغزالي في عدد من مؤلفاته. وقد تكون مدارس الفقه الإسلامي السائدة (باستثناء نسبي لأبي حنيفة) وتيارات الكلام (باستثناء المعتزلة)، وتيارات الفكرة السياسية (باستثناء الخوارج والشيعة الأوائل، أو ما يطلق عليهم تسمية الروافض). اذ استجاب و"يستجيب" جميعها بصورة مباشرة عبر دعم مختلف أصناف الفكرة الداعية لتقديس الخليفة والخلافة والإمامة وعدم المساس بها رغم جلاء خروجها على أحكام الشريعة (القانون)، أو بصورة غير مباشرة من خلال التأسيس لما يسمى بسد "باب الاجتهاد" وتعظيم التقليد ومحاربة العقل أو التقليل من شأنه مقارنة "بالشرع"، والانتقاص والذم لمضمون ووظيفة العلوم النظرية والفلسفية والطبيعية، أي كل ما يؤدي إلى اخماد العقل النقدي والروح الحر والضمير الحي في مواجهة إشكاليات الوجود الطبيعي والماوراطبيعي للفرد والجماعة والأمة والدولة والثقافة. وكان هذا في أغلبه من نصيب ما يسمى "بأهل السنّة والجماعة". فقد كان إلهها ومعبودها الخنوع أمام السلطة بشكل عام والجائرة بشكل خاص. بينما حقق التيار الآخر، أو ما اسميته بتيار التاريخ العقلي والوجدان الصادق، أي المخلص لمبادئ "الإيمان الحي"، الذي يمكن اعتبار سفيان الثوري وأمثاله أحد نماذجه الأولية الكبرى في التاريخ الثقافي لعالم الخلافة الإسلامية، أي كل ذلك الرعيل الذي بلور روح الثقافة الإسلامية الحية والكونية ونزوعها الإنساني والعقلي والعقلاني.

وما زالت هذه الحالة سائدة لحد الآن كما نراها في الكمية الهائلة من مزابل الفتاوى الحنبلية وبالأخص مزبلة ابن تيمية والوهابية المحدثة وما قبلها من وهابية البدو النجدية ومشايخ النكاح والسفاح، و"زعماء وقادة" الاستبداد والانحطاط.

***

سفيان الثوري- أصله ومنشأه وحياته الشخصية

هو ابو عبد الله سفيان بن سعيد الثوري التميمي (97-161 للهجرة). ولد في الكوفة وتوفي في البصرة. وتربى في عائلة تتسم بالعلم والمعرفة والأدب الإسلامي الرفيع. فقد كان والده من محدثي الكوفة الثقات، ومن أصحاب الشعبي وخيثمة بن عبد الرحمن. وكلاهما من ثقات الحديث الكوفيين. كما يشار إلى أثر أمه في تربيته وسمو اخلاقه. إذ ينسب اليها مخاطبته اياه في نشأته الاولى:"اذهب فاطلب العلم حتى أعولك بمغزلي. فإذا كتبت عشرة أحاديث فانظر هل تجد في نفسك زيادة فاتبعه، وإلا فلا تتعن". وأثر كل ذلك على تربية حب المعرفة وطلب العلم وسمو الروح الاخلاقي. فقد قام برحلات عديدة الى مختلف مناطق الخلافة من اجل طلب العلم والعرفة. بحيث قال عن نفسه مرة انه حالما أراد طلب العلم، فانه خاطب ربه قائلا:يا رب! لا بد لي من معيشة!" ووجد جوابه في رؤيته عن تلاشي واندثار العلم فقرر البحث عنه وفيه. ووجد في ذلك كفاية الكفايات. وهكذا ظل كما يقول عن نفسه مدى الحياة. وفي مجراها كانت حياته تترامى ما بين العمل والهروب من السلطة والعيش بمعايير المعرفة والعلم. وليس مصادفة أن يقال عنه بانه كان نموذجا لوحدة العلم والعمل. فقد كانت حياته علمه، وعلمه عمله.

حقق سفيان الثوري في ذاته وحياته ومماته الخصائص الجوهرية للكوفة في مراحل صعودها وصمودها في الصراع الدامي لصيرورة الخلافة العربية الإسلامية. فقد كانت هي صانعة القواعد الأولية للتفكير السياسي والروح النقدي واللغة العربية، أي المكونات الجوهرية المميزة لمراحل الانتقال الكبرى في تاريخ الإسلام وعقوله الثقافية، أو ما ادعوه باللحظة التأسيسية للتاريخ الذاتي.

وهذا بدوره لم يكن معزلا عن تاريخ وحالة التشيع المميزة للكوفة التي نشأ بها وترعرع. وبغض النظر عن ابتعاده ونقد للأبعاد المذهبية الضيقة في التشيع العملي، إلا أن وهج المواجهة النقدية والعملية والسياسية للطغيان والاستبداد كان محكوما بأثر التشيع. اما الأحكام القائلة بانه ترك التشيع حالما ذهب إلى البصرة متأثرا بأيوب السختياني وعبد الله بن عون فلا نصيب لها من الصحة. لقد كان ذلك بأثر تطوره الفكري العقلي والروحي والعملي الذي اوصله الى صيغة متميزة في الموقف من الاعتدال والتسامح والتشدد والوحدة والوسطية.

فللمدن تاريخها الخاص واثرها المخصوص في صيرورة شخصياتها الكبرى، تماما بالقدر الذي تتكامل هي في علمها وعملها وخيالها الشعبي باثر دورهم الظاهري والباطني في كينونتها التاريخية الثقافية. إذ كانت الكوفة من حيث صيرورتها الاولية الكف الذي لم يستطع الاستبداد الاموي كسر اصابعه، بل تحول الى كفوف تتراءى من خلالها انكفاء السلطة وراء العنف والقهر والاستبداد، ومن ثم التمتع من وراء هذا الستار الواقي للروح بالعزف على اوتار قصائد التحدي وعزة المروءة والفتوة. فقد كانت الكوفة في ذروة فتوتها العقلية والعلمية والروحية والسياسية. إذ مرت بذبذباتها المميزة لمراحل الانتقال العاصفة في تاريخ الخلافة من مقتل الحسين بوصفها الهزيمة الروحية الكبرى لفكرة الحق في التاريخ الاسلامي الأول الى اعادة الاعتبار للنفس بعد هذه الهزيمة في انتصار شعار وفكرة الثأر للروح الخذول كما جسدتها ثورة المختار الثقفي. لهذا أمتلئ كيانه وكينونته باثر هذا التاريخ المرير والجليل. فقد ولد هو في نهاية القرن الاول للهجرة فيها، كما ولد المختار الثقفي في بدايته. لقد كان ذلك قرن العظمة والانحطاط، الذي كسر واعاد لحم انكساراته في شخصياته الكبرى وابداعهم النظري وسلوكهم العملي. بحيث وجد تعبيره في شخصية سفيان الثوري. فقد نشأ في كوفة الروح والمعنى. إذ كانت الكوفة في ذلك العصر ليس فقط مركزاً من مراكز العلم، بل ومركز الرفض الروحي والاخلاقي والسياسي للاستبداد وانحراف الخلافة صوب الملوكية، والشورى صوب الاستبداد السلطوي. وفي هذا يكمن سر الروح المعارض لسفيان الثوري. إذ أرست فيه الكوفة وتقاليد التشيع الاول روح التحدي والمواجهة للسلطة حتى النهاية. لكنه سلك ذلك بطريقته الخاصة بوصفه مثقف الروح الحر والاخلاص للحق والحقيقة

جسّد سفيان الثوري احدى الحالات المأساوية في تاريخ فكرة الحق والدولة والسلطة. والقضية هنا ليست فقط في نوعية حياته المتخفية والمشردة والطريدة والسرية، وموته المخفي عن عيون الانام والانعام، بقدر ما كانت تكمن في تعرض الدور التأسيسي لفكرة الحق الشرعي والاجتهاد الحر والنزعة الاخلاقية الصارمة الى مهانة قاسية من جانب السلطة. فالروايات المحققة بهذا الصدد تقول، بانه حالما مات سفيان جرى بالليل للدفن خوفا من تتبع عيون السلطان. فحملناه بالليل". ليس ذلك فحسب، بل وجرى دفنه بسرعة بحيث لم يشهد دفنه بالصلاة عليه!!. وقد كانت تلك خاتمة العلاقة التي اختتم بها حياته الفردية والعامة، اي حياته الشخصية وعلاقته بالدولة وسلطانها واعوانها. فقد هرب اخر حياته الى البصرة وعمل بالبساتين. وتنقل احدى الروايات كيف ان الطبيب الذي فحصه وهو في مرضه قائلا: "أرى بول رجل قد احرّ الخوف كبده والحزن جوفه"، وفي رواية اخرى عن احد المقربين منه قال فيها "مرض سفيان فذهبت بمائه إلى الطبيب فقال: هذا بول راهب، هذا رجل قد فتت الحزن كبده، ما له دواء".

اذ اختفى وتخفى سفيان الثوري اواخر حياته نحو سنة هربا من السلطة. وتنقل لنا الروايات المحققة بهذا الصدد الحالة المحزنة والفريدة في غياب الشخصية الفكرية الرفيعة التي ابت الخنوع والانكسار وفضلت الاختفاء بالجسد والبقاء بالروح. بمعنى البقاء والمواقف مع النفس والعالم بمعايير الاخلاص للحق. وتنقل لنا الراوية المشهد التالي: غدونا على قبره ومعنا جرير بن حازم، وسلام بن مسكين من أئمة العلم. فتقدم جرير وصلى على قبره ثم بكى وقال:

إذا بكيت على ميت لمكرمة    فابك غداة على الثوري سفيان

وسكت، فقال عبد الله بن الصرباح:

أبكي عليه وقد ولى وسؤدده       وفـــضله ناظر كالغســل ريان

لقد بكاه ذوي الاخلاص وطير الخلاص، كما نعثر عليه في احدى الصور الواقعية التي قد لا تخلو من الخيال المرهف والرمزية المتسامية، التي تحكي كيف انه شاهد بلبلا محبوسا لابن صاحبه فقال له:

- لو خلى عنه!

- هو لابني. وهو يهبه لك

- لا! ولكن اعطيه دينارا

فأخذه وخلى عنه. فكان البلبل يذهب فيرعى ويجيئ بالعشى. فيكون في ناحية البيت. فلما مات سفيان تبع جنازته فكان يضطرب على قبره. ثم اختلف اليه بعد ذلك ليالي الى قبره. فكان ربما بات عليه وربما رجع الى البيت. ثم وجوده ميتا عند قبره فدفن الى جنبه وقبل معه في القبر.

اننا نعثر في هذه الصورة الواقعية - الخيالية على رمزية الحرية والأنا المتسامية، أي كل ما لازم شخصيته. أما لماذا جرت هذه الحالة التي تبدو في كل مكوناتها سلوكا معارضا ومضادا لعلاقة الإسلام ومنطق الحق، فإن سببها يكمن أولا وقبل كل شيء في طبيعة السلطة ونوعية تبلورها في ظل الهيمنة الأموية التي حرفت مسار التاريخ المحتمل للخلافة بكل ما فيه، مع ما ترتب عليه من حالة وضعها سفيان الثوري في عبارة تقول "هلاك هذه الأمة إذا ملك الخصيان!"

***

 

ا. د. ميثم الجنابي

 

في المثقف اليوم