دراسات وبحوث

نقد تقاليد الاستبداد (3): الحجاج.. ملاك النقمة الأموية وشيطان استبدادها!

ميثم الجنابي"هلاك هذه الأمة إذا ملك الخصيان"

سفيان الثوري

إن إمكانية الحجاج بالنسبة للسلطة الأموية المتمركزة من جديد، والعاتية في انتصاراتها الكبرى، أخذت بالبروز مع صعود قوة الاستبداد فيها. فقد تلمست فيه ملاكها السياسي و"جبرائيل" وحيها الاستبدادي[1]! فقد كشف الحجاج عن أن النار الابليسية المحترقة فيه لا تحرق غير معارضة السلطة أيا كان معدنها وحجمها، وأنها النار الدافئة التي تعوضها عن برود التعاطف الروحي من جانب الأمة! وهي المعادلة التي جسدها الحجاج حتى موته في العراق، بوصفه مركز المعارضة التاريخية والسياسية والروحية والأدبية للأموية، ومنطلق السيطرة العامة والتامة على ممتلكات الإمبراطورية في آسيا. بمعنى إننا نعثر في هذين الجانبين على وجهين لشخصية الحجاج، بوصفه النموذج الأكثر تعبيرا عن حقيقة الأموية. وليس مصادفة أن يبقيان مترابطين في سلسلة العبودية الذهبية. من هنا الإبقاء عليه مع بقاء الأموية، وانتفاء الحاجة إليه مع زوالها. بحيث لم يبق منها شيئا غير ترسبات الأملاح المتكلسة على حواشي التاريخ والذهنية الخربة والضمير المتهالك وراء جشع الغريزة. من هنا يمكن فهم سر الاعتزاز به من جانب الوليد بن عبد الملك بعد توليه خلافة أبيه عام 86 للهجرة. فقد أبقاه واقره على كل ما كان فيه زمن والده. وليس مصادفة أيضا أن يفجع بموته بحيث نراه يصرخ، بان الحجاج ليس فقط جلدة عينيه، كما كان يقول أبوه عبد الملك بن مروان، بل وجلدة وجهه كله! الأمر الذي جعل الحجاج يستهزأ في حياته بتهديد ولي العهد سليمان بن عبد الملك في حال استلامه الحكم! وهو استهزاء متراكم في مجرى اليقين الفكري والسياسي الذي لازم حياة الحجاج وشخصيته الموالية للسلطة. بحيث وجدت هذه المولاة انعكاسها النموذجي في وصيته التي قال فيها، بأنه لا يعرف غير "طاعة الوليد بن عبد الملك، عليها يحيا وعليها يموت وعليها يبعث!"[2]. كما لو انه يعيد يقين الأنبياء والقديسين عن دنس الأشياء العابرة والنزوات الصغيرة وملهاة الحياة وما فيها. وهو وصف لا يخلو من دقة فيما يتعلق بالحجاج، الذي تجرّد عن كل شيء باستثناء حب السلطة والاستعداد الدائم لخدمتها بكلّه، بحيث لم يبق فيه شيئا لغيرها! من هنا يمكن فهم سرّ ردوده الجريئة والمتيقنة تجاه "الرحمة الأبدية" له ولأعماله. وهو يقين ينبع من طبيعة التماهي بين السلطة والله. فالعبودية لله هي عين العبودية للسلطة. لها نراه يجيب على سؤال وجه إليه قبيل موته:

- ألا تتوب؟

- إن كنت مسيئا فليست هذه ساعة التوبة، وان كنت محسنا فليست هذه ساعة الفزع!

وأكمل أجوبته هذه بعبارة قال فيها "اللهم اغفر لي! فان الناس يزعمون انك لا تفعل!"[3]. بل وينسب إليه تمثله ببيتين من الشعر:

يا رب قد حلف الأعداء واجتهدوا

إيمانهم إني من ساكني النار

أيحلفون علي عمياء؟! ويحهم!!

ما ظنهم بعظيم العفو غفار!!

وهي صيغة نموذجية معبرة عن شخصية الحجاج، أي الإيمان الجازم بصحة وسلامة ما فعل. والبقاء حتى الرمق الأخير وفيا لنفسية وذهنية الاستعداد للاستعباد والاستبداد.

فقد توفي الحجاج عام 95 للهجرة[4]. وما بعدها لم يكن "تاريخه" غير حالات الانتقام والهجران في الوعي النقدي والضمير الأخلاقي والوجدان الصادق. وليس مصادفة أن يتلاشى قبره في واسط العراق وتبقى ذكراه باعتباره النموذج التام للرذيلة السياسية والأخلاقية. وهي الحالة التي شاركتها أيضا بعض مراحل الدولة الأموية عندما كانت تخرج بصورة نسبية على نفسية وذهنية الأموية، كما هو الحال في زمن سليمان بن عبد الملك وخلافة عمر بن عبد العزيز. إذ تنسب لسليمان بن عبد الملك (96-99 هجرية) انه سال مرة كاتبه يزيد بن أبي مسلم:

- أتظن أن الحجاج استقرّ في قعر جهنم أم انه يهوى فيها؟!

- يا أمير المؤمنين! إن الحجاج يأتي يوم القيامة بين أخيك وأبيك، فضعه من النار حيث شأت!

وهي إجابة لا يرتقي إليها من حيث الصيغة والمعنى والرمز والباطنية الجميلة غير مواقف وتقييم الخليفة عمر بن عبد العزيز إياه. فقد استكمل عمر بن عبد العزيز ما بدأ سليمان بن عبد الملك. ولكل منهما أسبابه الخاص. فقد كان سلوك سليمان لا يخلو من نزعة انتقام شخصية. لهذا نراه يأمر بسبه على المنابر. وعندما امتنع خالد بن عبد الله القسري، أحد ولاة العراق الحجاجيين، عن سبّه وذّمه أرسل عليه سليمان يأمره بذلك، فتكلم على المنبر قائلا: "إن إبليس كان من الملائكة ففسق! وكذلك الحجاج!". وهي الأخرى صورة بليغة، والوجه الآخر لتقاليد النزعة الاستبدادية وانحطاط الروح الأخلاقي المميز للنخبة العائمة في زبد الأموية، والسائبة في سديم الخوف المرعب من معنى الحرية وفكرة الحق، التي وجدت في شخصية الحجاج نموذجا لحقيقة الإسلام! كما قال مرة احدهم: "من خالف الحجاج فقد خالف الإسلام"[5]. وهو إسلام عبودي، أي لا يأخذ منه سوى غلاف العبارة الميت. مع ما يترتب عليه من تحويل الإسلام الى إذعان بلا عقل، وخضوع بلا قلب، واستسلام بلا ضمير. لكنه، شأن كل ما هو عابر بمعايير الحق والحقيقة، سرعان ما يندثر بوصفه ذرة في غبار الزمن، وسراب في خيال الأشباح. وهو سراب بدد كثافته المتبقية بعد موت الحجاج سلوك رجال الدولة الأموية.

إذ لم يكتف سليمان بن عبد الملك بسب الحجاج وشتمه على المنابر بل وأمر عامله على الطائف بقتل آل أبي عقيل، لا لشيء إلا لأنهم من أقرب الناس إلى الحجاج. وهي مواقف تممها الخليفة عمر بن عبد العزيز بطريقته الخاصة. فقد كان عمر بن العزيز يعارض ويندد بسلوك الحجاج أثناء حياته.

غير أن موقعه ومكانته ووظيفته في السلطة آنذاك لم تسمح له بتغيير شيئا ما يذكر بهذا الصدد. لكن الروح الأخلاقية تبقى أيضا وفية للقصاص بالقدر الذي لا يتعارض مع ثوابت الفكرة المتسامية ورؤيتها الشخصية. الأمر الذي ميز مواقف وتقييم وسلوك عمر بن عبد العزيز تجاه "بقايا" الحجاج في الذاكرة والواقع من خلال اقتلاع بقاياه بالقدر الممكن. فقد نفى أسرة الحجاج الى اليمن وكتب إلى واليها يقول "أما بعد، فأنني بعثت في عملك قدر هوانهم على الله"[6]. بينما نراه يعزل أحد عماله بعد أن علم بأنه قد سبق وأن عمل مع الحجاج. وعندما قال له الرجل:

- إنما عملت له على شيء يسير.

- حسبك بصحبته يوما أو بعض يوم شؤما وشرا![7]ً.

في حين وضعته تقاليد الذاكرة الشعبية في إحدى أرذل الشخصيات المتخيلة في قصة (نعم ونعمة) من قصص ألف ليلة وليلة. وما بينهما ترامت مختلف الآراء والتقييمات والأحكام والمواقف منه. فقد وضعته تقاليد الحديث تحت أسم المبير، أي الظالم والمستبد[8]. بينما كفّره جمهرة من رجال الورع والزهد الإسلامي مثل مجاهد وعاصم والشعبي وسعيد بن جبير. وهي أحكام ليست معزولة عن مواقفهم السياسية، أي عن حقيقة الرؤية الإسلامية التي لا تعزل فكرة الإيمان عن قيم العدالة والحق والحقوق. وهي قيم لم يجرؤ أحدا على انتهاكها بالقدر والحجم والكمية والنوعية في تاريخ الإسلام أكثر من الحجاج. وليس مصادفة أن يقول الحسن البصري بعد سماعه بموته: "اللهم عقيرتك! أنت قتلته! فاقطع سنّته! وأرحنا من أعماله الخبيثة"، بل ودعا عليه[9]. بينما نرى موقفه من الحجاج أشد وضوحا في معرض إجابته على إحدى الحالات النموذجية التي استتبعت موته في العراق. فقد حلف رجل بالطلاق قائلا: "إن الحجاج في النار". فلما جاء إلى امرأته، فإنها امتنعت عن العيش معه. وعندما ذهب للحسن البصري يستفتيه في أمره، فأجابه الحسن البصري: "إذا لم يكن الحجاج من أهل النار، فما يضيرك أن تكون مع امرأتك على زنى!". وهي المرة الوحيدة التي ينطق بها الحسن البصري بهذه الطريقة الجازمة التي جعل من نفسه فيصلا نهائيا وناطقا بالحكم "الإلهي". لقد وجد في الحجاج تجسيدا تاما ومطلقا للرذيلة، بحيث جعله يستغرب التشكيك بالحكم المتعلق بضرورة العقاب الأبدي للحجاج في الجحيم. وبغير ذلك تصبح جميع الرذائل مباحة! وقيل أيضا، بأنه حالما بشروا حماد بن أبي سليمان بموت الحجاج، فانه سجد وبكى من الفرح. الأمر الذي جعل حماد يقول: "ما كنت أرى أحد يبكي من الفرح"[10].

من هنا يمكن فهم أحد البواعث التي جعلت ابن عبد ربه يفرد في كتابه (العقد الفريد) فصلا بعنوان (من قال إن الحجاج كان كافرا) استعرض فيه أقوال مختلف الشخصيات الإسلامية الفكرية والفقهية. بينما أجاب الشعبي على سؤال وجه إليه مرة[11]:

- أكان الحجاج مؤمنا؟

- نعم! بالطاغوت!

وقال عنه أيضا "لو جاءت كل أمة بخبيثها وفاسقها، وجئنا بالحجاج وحده لزدناه عليهم"[12]. وأطلق عليه الدميري عبارة "اللعين الحجاج! أخزاه الله وقبّحه"[13]. بينما قال عنه ابن عبد البر: "لا يؤثر حديثه، ولا يذكر بخير لسوء سره وإفراطه في الظلم"[14]. وقد يكون التقييم الذي رسم الذهبي ملامحه الأكثر دقة بهذا الصدد. فقد كتب بهذا الصدد يقول: "أهلكه الله كهلا! وكان ظلوما جبارا ناصبيا سفاكا للدماء. وكان ذا شجاعة وإقدام وكر ودهاء"[15]. وتكلم الذهبي عما اسماه بسوء سيرته في حصاره لابن الزبير بالكعبة ورميه إياه بالمنجنيق وإذلاله لأهل الحرمين ثم ولايته على العراق والمشرق عقدين من الزمن وحروبه مع ابن الأشعث وتأخيره للصلوات الى "أن استأصله الله! فنسّبه ولا نحبه! بل نبغضه في الله، فإن ذلك من أوثق عرى الإيمان. وله حسنات مغمورة في بحر ذنوبه"[16].

وقد تحول هذا الكم الهائل من التقييم النظري الرفيع إلى مسند الخيال الشعبي والأدبي الذي وجد أحد نماذجه الرفيعة في قصة (نعم ونعمة) ودخولها مسرح الذاكرة الفعالة في (ألف ليلة وليلة). بحيث أصبحت سمير الأسمار واللعنة التي ترافق ضحك الأطفال وشماتة الرجال وحقد النساء وغضبهن! فهي القصة التي تصوره رجلا غشوما ظلوما سارقا قاسيا عبدا للسلطة وفاقدا للضمير والوجدان أمام رغبة السلطان وغرائزه. لقد حولت قصة (نعم ونعمة) الحجاج الى نقمة وصبت عليها جام غضبها من خلال تطويع كل إمكانيات الخيال الشعبي. فبالقدر الذي استعمل كل الأساليب الدنيئة لاختطاف نعم من زوجها نعمة وتسليمها إلى عبد الملك بن مروان، فإنها استطاعت أن تبعثه في حبكة القصة بالاقتصاص منه من خلال جعله مرافقا طائعا وعبدا ذليلا للرهينة التي احتال من اجل اقتناصها والتقرب بها إلى مالكه عبد الملك بن مروان! فقد اشترطت المرأة من عبد الملك أن يكون الحجاج مرافقا وقائدا لبعيرها. وهي القصة التي تروي مختلف أصناف الاحتقار والتهكم به، التي يتقبلها الحجاج بوصفها جزء من مظاهر العبودية للسلطة. وهي مظاهر يجري تتويجها بالحادثة الطريفة التي تروي كيف أن المرأة (نعم) حالما وصلت من بلدتها الى قصر الخليفة رمت دينار على الأرض وقال للجمّال (الحجاج):

- يا جمّال! سقط مني درهم!

- هذا دينار!

- بل هو درهم!

- بل هو دينار!

- الحمد لله الذي عوّضنا بالدرهم دينارا! ناولني إياه!

بعبارة أخرى، إننا نقف أمام حبكة قصصية تسرد بطريقتها الخاصة رغبة الانتقام الأبدية من الحجاج. ومن ثم لم يكن دخولها (ألف ليلة وليلة) سوى الصيغة الأدبية للرغبة الجامحة في الإبقاء على صورته الخبيثة حية في الخيال والضمير والوجدان المعذب من ذكراه المريرة. لقد ادخله الوعي العراقي في قرآنه القصصي وجعله في متناول الشماتة النقدية والسخرية الجليلة والاستهزاء الذي لا يخلو من حقد النساء الجميل، أي جمعه لكل المكونات الضرورية لتفعيل ذاكرة الانتقام التاريخي الحي.

***

ا. د. ميثم الجنابي

.................

[1] ينقل لنا ابن عساكر في كتابة (تاريخ دمشق) على سبيل المثال "نصيحة" الحجاج لعبد الملك بن مروان بمنع القصاصين من الحديث عن سيرة الخلفاء الراشدين، وبالأخص أبي بكر وعمر بن الخطاب. إذ وجد فيما يقوله القصاصون مصدرا للثورة والانتفاض على السلطة". بحيث نراه يتكلم عما في هذه القصص من "إفساد للناس على أمير المؤمنين". بحيث يستصدر عبد الملك بن مروان أمرا يمنع فيه الحديث عن سيرة أبي بكر وعمر بن الخطاب. وهو أمر ظل ساريا حتى خلافة عمر بن عبد العزيز، الذي أعاد ترتيب هذه العلاقة بطريقة سليمة من خلال اختياره الشخصي للقصاصين.

[2] ابن عساكر: تهذيب تاريخ دمشق، ج4، ص68.

[3] ابن عساكر: تهذيب تاريخ دمشق، ج4، ص82. ابن كثير: البداية والنهاية، ج9، ص138.

[4] المسعودي: مروج الذّهب ومعادن الجوهر،ج3، ص187.

[5]أبن حبان: الثقات، ج5، ص421. وهي كلمات تنسب الى احد أتباع الحجاج وهو أبو حسان المنذر. وهي عبارة يشم منها رائحة العبودية التامة. وذلك لأن أولها كره المخالفة، أي عدم الخضوع، وآخرها رفض المخالفة، أي أولها الحجاج وآخرها الحجاج! لأن حقيقة الإسلام هنا هو الاستسلام للحجاج فقط!

[6] ابن عساكر: تهذيب تاريخ دمشق، ج4، ص 84.

[7] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج2، ص132.

[8] وفي وقت لاحق يجري ابتداع حديث "نبوي" مزيف عن ان المقصود بالمبير هو المختار الثقفي!

[9] أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء، ج2، 159.

[10] ابن سعد: الطبقات، ج6، ص280.

[11] عامر بن شراحيل الشعبي الحميري، 19-103هـ/640-721م): راوية، يُضرب المثل بحفظه. وُلِد ونشأ ومات بالكوفة. اتّصل بعبد الملك بن مروان، وأصبح احد ندمائه. كما عمل رسولا عنده إلى ملك الروم. وسُئِل عمّا بلغ إليه حفظه، فقال: ما كتبت سوداء في بيضاء، ولا حدّثني رجل بحديث إلاّ حفظته. وهو من رجال الحديث الثقات، استقضاه عمر بن عبد العزيز، وكان فقيهاً شاعراً. (الزركلي: الأعلام، ج3، ص251.)

[12] الأبشيهي: المستطرف في كل فن مستظرف،ج1، ص83

[13] الدّميري، كمال الدين محمد بن موسى: حياة الحيوان الكبرى، دار الألباب، بيروت/دمشق (ب-ت)ج1، ص81.

[14] ابن عبد البر: التمهيد، ج1، ص10.

[15] الذهبي: سير أعلام النبلاء، ج4، ص343.

[16] نفس المصدر السابق، ج4، ص343.

 

في المثقف اليوم