دراسات وبحوث

نقد تقاليد الاستبداد (4): الحجاج.. مهندس القهر والإذلال

ميثم الجنابي"هلاك هذه الأمة إذا ملك الخصيان"

(سفيان الثوري)

وهو انتقام ليس إلا الوجه الآخر لحقيقته ومآثره الفعلية. إذ لم تكن مآثره الفعلية سوى "حسنات مغمورة في بحر ذنوبه"، كما قال الذهبي. فقد اشترك الحجاج بصورة فاعلة وقوية في توسيع جغرافية الإمبراطورية الأموية. حيث أرسل قتيبة بن مسلم الى خراسان عام 85 للهجرة ومنها استمر في فتح مدن بلخ وبيكند وبخارى وشومان وكش والطالقان وخوارزم وكاشان وفرغانه والشاس وكاشغر، بحيث بلغ حدود الصين. وهي المهمة التي استكملها من خلال إرساله الفتى المقدام والقائد الشجاع محمد بن قاسم الثقفي (في العشرين من العمر) لفتح بلاد السند (الهند) واستطاع خلال أربع سنوات (89-95) من فتح مدن وادي السند. وهي فتوحات جعلها الحجاج أسلوبا لتأجيج المنافسة بين قتيبة بن مسلم ومحمد بن القاسم، عندما وعد كل منهما بالإمارة على ما يحتله، وبالأخص إمارة الصين.

وفي مجال العمران المدني، فقد حفر الأنهار مثل نهر النيل (من الفرات) عند مدينة بابل، ونهر الصين (من دجلة). كما بنا المدن مثل مدينة النيل، ومدينة واسط، التي جعلها بين البصرة والكوفة. كما بنا الجسور والصهاريج لحفظ مياه الشرب، وكذلك حفر الآبار لوفير المياه للمسافرين. كما قام بإنشاء مختلف مشاريع الري والزراعة من اجل مواجهة القحط وآثار الجفاف، بطريقة تربط المدن بالأرياف. كما يعود إليه تنظيم منظومة الإشارات الضوئية والخبرية على الحدود. فقد كان يستعمل النار ليلا والدخان نهارا بين مختلف المناطق الممتدة من بحر قزوين إلى عاصمته واسط. كما ضرب بقوة على أيدي اللصوص وقطاع الطرق وتشدد في متابعة من يعينهم في مناصب السلطة. كما قام بجملة من الأعمال المهمة في ميدان تنظيم الحياة العادية والمدنية مثل نظافة المدن حيث منع التغوط والتبول والتمخط في شوارع عاصمته، وقام بتطهيرها من الحيوانات السائبة ومنع بيع الخمور. بل وتدخل في تنظيم بعض العادات والأعراف، مثل منعه النوح على الموتى في البيوت. والشيء نفسه يمكن قوله عن محاولاته توحيد قراءة القرآن. حيث تنسب إليه تنفيذ مهمة تنقيط حروف القرآن بوضع علامات الإعراب على الكلمات[1].

إننا نعثر في كل هذه الأعمال على هاجس الوحدة والإخضاع من خلال تنظيم الحياة والتحكم بها. بمعنى أنها ليست أسلوب تنظيم الحرية بل قمعها. وإذا كان مظهرها يسير باتجاه "قمع الفتن"، فان حقيقتها تقوم في توسيع مداها من خلال جعل الخضوع للسلطة المستبدة قيمة عليا. وهو عين التخريب والخراب الذاتي للروح والجسد، والفرد والجماعة، والأمة والثقافة، والدولة والحكومة. وذلك لأن حقيقة الفتنة ومصدرها لم تكن في موجات التمرد والانتفاض التي قامت بها مختلف حركات المعارضة للأموية، بقدر ما كانت تكمن في الأموية نفسها. فقد كانت الأموية هي مصدر الفتن وقامعها، أي "محييها ومميتها". وهي دورة لا تنتج غير العبث والخراب. ونعثر فيها على الحالة الرمزية التي يمكن رؤية ملامحها في بنائه لمدينة واسط. فقد بناها متوسطة بين البصرة والكوفة، أي بين بؤر المعارضة الأبدية للأموية. والشيء نفسه ينطبق على كل "مآثره" الأخرى.

فقد كانت جميع "مآثر" الحجاج تهدف الى تنظيم قبضة السلطة واستحكامها في كل شيء. وفيها كانت تكمن مفارقة "مآثر" الحجاج. وهي مفارقة تكمن في عيش الحجاج وفعله بمعايير زمن السلطة وليس تاريخ الحق والعدالة. وهو السبب الذي أعطى لكل ما أراد قوله وفعله معنى مشوها ومخربا لحقائق الروح ومرجعيات تراكمها في العقل والوجدان والخيال والحس السليم[2]. الأمر الذي جعل من أول مآثره الفعلية وآخرها أسلوبا لتهشيم وحدة التاريخ الثقافي والروحي وفكرة الدولة. وينطبق هذا الحكم بالقدر نفسه على "بلاغته" الخطابية. فقد كانت الخطابة والبلاغة جزء من تقاليد العرب الجاهلية. وتميزت الطائف بقدر كبير منها[3]. فقد نشأ الحجاج في الطائف المعروفة بصلتها الوثيقة بقبيلة هذيل، التي كان شائعا عنها بأنها من أفصح قبائل العرب. وضمن هذا السياق يمكن فهم تقييم الحسن البصري لبلاغته عندما قال مرة "ما سمعت الحجاج يخطب إلا وظننت أن أهل العراق يظلمونه". وهو حكم الظن لا غير. والشيء نفسه يمكن قوله عن العبارة التي نطق بها مرة أبو عمر بن العلاء: "ما رأيت أفصح من الحسن البصري ومن الحجاج". أما في الواقع فليس في بلاغة وفصاحة الحجاج شيئا غير فصاحة اللسان. وهو لسان بلا قلب، من هنا أثرها المدمر، لأنها لا تثير في الوجدان غير حمية الغريزة والاستخفاف بالقيم الإنسانية الكبرى. أنها بلاغة العبارة القاتلة، ومن ثم فإنها تقترب من معنى "الفصاحة" اللغوية الخالية من سمو الروح والعقل. وبالتالي عجزها عن إبداع بلاغة العقل والوجدان ووحدتهما الضرورية بوصفها مقدمة الحد البليغ، أي مصدر البلاغة الفعلية القادرة على إنعاش الروح والجسد، والمنطق والخيال. ولم تكن هذه الحالة معزولة عن شخصية الحجاج السياسية وطبيعة الانتقال العاصف من إمبراطورية الخلافة الثقافية (الإسلامية) إلى إمبراطورية الدولة القبلية (الجاهلية). فقد كان كلاهما من "مآثر" الزمن الأموي، أي زمن الانتقال من فكرة الحق والمنظومة إلى فكرة القهر المشؤمة. وهي رذيلة الزمن الأموي وثمرته المرة. مما جعل من ميراث الحجاج السياسي أحد النماذج المروعة للقمع السافر وأكثرها ترديا ودناءة وانعدام للمروءة والقيم المتسامية[4]. الأمر الذي جعل من الحجاج نموذجا لا يقارن في مجال انسلاخ الكينونة الإنسانية وتناسخها في غريزة الجسد. من هنا تحوّله إلى أحد الأشباح المريعة للذاكرة والقيم والأخلاق والحق. مما جرّد وسلخ قيمة "المآثر" المادية والمعنوية المحتملة في ظهوره الأول للوجود. فقد كان الحجاج نموذجا للعدم الثقافي والأخلاقي. ومن ثم لم تكن "مآثره" العديدة أكثر من أداة في ترسيخ وتثبيت قيم العنف والاستبداد.

فقد كانت شخصية الحجاج محكومة من ألفها الى يائها بأخلاق السلطة المستبدة وليس بالقانون ولا حتى بالأعراف. ومن ثم لا علاقة لها بحقيقة الإسلام الأول. لقد كان قانونها الوحيد الثابت هو ثبات السلطة وحقوقها التامة في الاستبداد. وهو تحول حالما استحكم في رؤية الدولة والسلطة وأشخاصها، فانه أدى إلى احتقار كل ما من شأنه أن يقترب من المساس بها. وهي حالة صنعت خدمها وعبيدها وسدنتها ومداحيها وجلاديها، التي وجدت في الحجاج أحد نماذجها الصارخة. ويكفي المرء استعراض مواقفه من المعارضة لكي تتضح هذه الصورة المنفرة للحس والعقل والذوق. وقد تكون حربه التي خاضها ضد عبد الله بن الزبير ونتائجها أحد الأمثلة النموذجية بهذا الصدد. إذ تعكس هذه الحرب البؤرة المعقدة لنفسية وذهنية الاستبداد التي أخذت تتفتح عن كمونها الداخلي. لاسيما وأنها كانت الاختبار التاريخي الأكبر لشخصية الحجاج ومفتاح دخوله بوابة الأموية الكبرى. وإذا خذنا بنظر الاعتبار توليه لهذه المهمة وهو في عمر لا يزيد على اثنتين وثلاثين سنة، فمن الممكن توقع عنفوان وهياج الجسد على نار النفس الغضبية لغريزة السلطة والعبودية لها. فقد كان احتلاله لمكة والعبث فيها وقتل كل ما وصلت إليه يداه تعبيرا عن سيادة أخلاق السلطة المستبدة والمحررة من قواعد القانون وقيم الأعراف. من هنا استعماله لكل الوسائل المتاحة. ولم يقف الحجاج أمام وساوس الضمير وهواجس الوجدان وشكوك العقل وتأمل البصيرة فيما كان يسعى إليه. وهو الشيء الجلي على مثال تمثيله بعد الله بن الزبير. فقد علّقه على جذع محاط بالقمامة. وعندما تناهت إلى أسماعه ما قاله عبد الله بن عمر في اعتراضه على ما قام به الزبير ودعوته إياه لترك معارضة السلطة، ورفعه من شأنه بوصفه صواما قواما ورعا، نرى الحجاج يأمر بإنزاله من الجذع ورميه في مقبرة اليهود! وهو انتهاك لأبسط الأعراف، لكنه يستكمله بدعوة أمه أسماء بنت أبي بكر. وعندما رفضت الحضور بين يديه نراه يخاطبها عبر رسوله بعبارة "لأبعثن إليك من يسحبك بقرونك". وعندما رفضت القدوم عليه قائلة "والله لا آتيك حتى تبعث إلي من يسحبني بقرون رأسي"، نراه يسرع إليها ويخاطبها في أول لقاء بها بعبارة:

- كيف رأيتني صنعت بعدو الله؟!

- رأيتك أفسدت عليه دنياه وافسد عليك آخرتك. بلغني انك تقول له يا ابن ذات النطاقين. أنا والله ذات النطاقين. أما احدهما فكنت ارفع به طعام رسول الله وطعام أبي بكر من الدواب، وأما الآخر فنطاق المرأة التي لا تستغني عنه[5]!

وليس مصادفة فيما يبدو أن تشتهر القصة التي تروي عن عبد الله بن الزبير خوفه من أن يجري التمثيل له بعد قتله، وإجابة أمه إياه، بان الشاة الميتة لا يؤلمها السلخ! فقد كانت هذه الحادثة وأمثالها العديدة أحد مظاهر الاحتقار التام لفكرة الحقوق وأحد الأمثلة النموذجية على انتهاك أبسط الأعراف. أما بعد القضاء على ابن الزبير، فان سبيكة الاحتقار الفعلي لفكرة الحق والحقوق والانتهاك السافر للأعراف قد أدت إلى بروز وتكامل شخصيته القمعية بوصفها الصورة التامة لباطن الأموية وظاهرها السياسي والأخلاقي. ووجدت هذه الصورة تجسيدها الخالص في الرفض التام والقاطع لأية معارضة للسلطة، أيا كان شكلها وحجمها ومستواها، أو الاختلاف معها حتى بالهواجس والوساوس. من هنا يمكن فهم سر تحوّل قتل المعارضة والقضاء المبرم علي أي مظهر من مظاهرها إلى شعار الدولة وأولويتها.

 

ا. د. ميثم الجنابي

.......................

[1] وهي مهمة أوكل بها لنصر بن عاصم. حيث تنسب إليه تجزئة القرآن ووضع إشارات تدل على نصف القرآن وثلثه وربعه وخمسه. وعمل على أن يقرأ الناس القرآن قراءة واحدة (مصحف عثمان وترك البقية الباقية).

[2] ينطبق ذلك حتى على انجازاته المدنية. فمن المعلوم عنه أن أمر بقتل الحيوانات السائبة، وبالأخص الكلاب. مما جعل احد الهاربين من الحجاج يتمنى أن يكون كلبا، بعد أن وجد كلبا نائما في ظل بارد، أي متحررا من مطاردة الحجاج. وعندما وجد بعد فترة الكلب مقتولا وسأل عن حاله قيل له "جاء أمر الحجاج بقتل الكلاب".

[3] وهي الحالة التي يمكن العثور عليها في القرآن وبالأخص ما يتعلق منها بالتساؤل عن سر نزول القرآن والوحي على محمد في مكة وليس على رجل آخر من مكة أو الطائف، التي كانت تنتمي إليها وتقطنها قبيلة ثقيف. وهي الفكرة التي يصورها القرآن في إحدى آياته القائلة "وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم". (سورة الزخرف، الآية 31).

[4] وهنا تجدر الإشارة الى النكتة التي أوردها الجاحظ في (البيان والتبيين) عن الكلب الذي كان يعيش في احد أبهى وأجمل قصور الجنة. وعندما جرى الاستفسار عن سبب ترقيته الى هذه الحالة الجليلة مقارنة بالأنبياء والرسل والقديسين (حسب التصورات الدينية) فان الإجابة كانت بسيطة للغاية وهي انه سبق له وان عض شرطيا في حياته! وإذا أخذنا ينظر الاعتبار أن الحاج بدأ شرطيا وانتهى من حيث الجوهر به، فمن الممكن توقع اثر مآثره في الواقع والذاكرة.

[5] وفي رواية اخر نعثر على الصيغة التالية :

- كيف رأيت ما فعل الله تعالى بابنك عدو الله الشاق لعصا المسلمين المفني لعباده والمشتت لكلمة أمة نبيه؟

رأيته اختار قتالك فاختار الله له ما عنده، إذ كان إكرامه خيرا من إكرامك! ولكن يا حجاج بلغني أنك تنتقضني بنطاقي هذين، أو تدري ما نطاقاي؟! أما النطاق هذا فشددت به سفرة رسول الله يوم غزوة بدر، وأما النطاق الآخر فأوثقت به خطام بعيره. فقال لي رسول الله أما إن لك به نطاقين في الجنة، فانتقصت علي بعد هذا؟ ولكن لا أخالك يا حجاج! أبشر! فإني سمعت رسول الله يقول "منافق ثقيف يملأ الله به زاوية من زوايا جهنم يبيد الخلق ويقذف الكعبة بأحجارها ألا لعنة الله عليه".

***

في المثقف اليوم