دراسات وبحوث

الإصلاح والثورة في روسيا.. العبرة التاريخية والبدائل المستقبلية (2)

ميثم الجنابيتبدع الأمة مرجعياتها في مجرى معاناتها الخاصة. وتتخذ هذه المرجعيات صيغا متنوعة ولكنها تساهم في نهاية المطاف في بناء ذهنية الأمة ونفسيتها. وهناك مرجعيات ضابطة للعقل والوجدان وأخرى مثيرة ومحيّرة لهما. وقد أبدع التاريخ الروسي إشكالاته العديدة المثيرة والمحيرة للعقل والوجدان في السؤالين المشهورين: من  المذنب؟ وما العمل؟ وهي ثنائية تعكس أولا وقبل كل شيء غياب الاستقرار في العقل النظري والعقل العملي الروسيين. فهما سؤالان أثارهما الفكر الثوري الروسي في مواجهته تجارب الإصلاح القيصري. فقد كان المد الثوري، حتى في أجنحته المتطرفة، يسعى أساسا لحل الإشكالية السياسية والثقافية لروسيا، من خلال حل مشكلة الحرية والنظام باعتبارها الوحدة الضرورية للعدالة.

شكلت الحرية والنظام والعدالة أضلاع المثلث الذي ارتكزت عليه التقاليد الثورية الروسية عند الخواص والعوام، وعند الأحزاب الكبرى والصغرى، وعند الحركات الاجتماعية والفردية، الفكرية منها والسياسية. وأبدع ذلك في حصيلته تراثا هائلا من "المعاناة الروسية" في محاولاتها تلمس خيط الإنقاذ من غياهب القيصرية. وهي معاناة وجدت انعكاسها في الشخصيات والآراء أيضا. فقد تعرض "الأب الروحي" للتقاليد الثورية الروسية راديشف (1749 – 1802) لحكم الإعدام بسبب آرائه المعروضة في كتابه الشهير(رحلة من بطرسبورغ إلى موسكو). وخفف عنه الحكم إلى السجن والنفي إلى سيبيريا. بينما اتهم تشادايف (1794 – 1856) بالجنون نتيجة آرائه المعروضة في كتابه (رسائل حول فلسفة التاريخ). أما حياة هيرتسن (1812 – 1870) وباكونن (1814- 1876) فقد كانتا نموذجا حيا للمواجهة العنيدة ضد الاستبداد، ومثالا مخلصا للمساعي الحقة من اجل الحرية. فقد تعرض هيرتسن للسجن والنفي، وقضى معظم حياته في الغربة والهجرة يواجه روسيا من بعيد ويتحسسها كما لو أنها اقرب إليه من حبل الوريد. في حين جّسد نشاط باكونن النموذج الإنساني "المتهور" للتضحية بالنفس من أجل الحرية، حيث واجه حكم الإعدام للمرة الأولى في محكمة سكسونيا، ثم أمام المحكمة العسكرية النمساوية، ولكن في المرتين استعيض عن الإعدام بالسجن المؤبد وجرى تسليمه إلى القيصرية الروسية التي نفته بدورها إلى سيبيريا فاستطاع الهرب منها إلى اليابان ومنها إلى أمريكا، ومن هناك  قفل راجعا إلى لندن! وهي الدورة التي استكملها فيما بعد تشيرنيشفسكي (1829 –1889) في ذاته عندما تحول سجنه ونفيه إلى ميدان إبداع فكري توجه بروايته (ما العمل؟) باعتبارها بحثا عن الخلاص العقلاني لإشكالية الوجود التاريخي لروسيا. وليست (ما العمل؟) سوى الإجابة الثورية على السؤال التاريخي الذي صاغه هيرتسن في كتابه (من المذنب؟). لقد نشأت هذه الثنائية المقلقة في مجرى التجارب الروسية وتمثلت في نفس الوقت باعتبارها أسئلة الكينونة الروسية نفسها. مما أوحى للوعي الروسي بقيمة هذه الثنائية رغم اشتداد المصاعب والمصائب، كما أعطى لهذه الثنائية فاعليتها المتميزة في استثارة النفس وجلدها أمام الجميع وتأنيبها من خلال استجوابها بالسؤالين الآنفي الذكر.

يمكن النظر إلى هذه الثنائية كنموذج لرؤية الإصلاح المعّذب، كما يمكن النظر إليها ما بين انتحار راديشف عام 1802 والموت الهادئ لتشيرنيشفسكي في عزلته عام 1889 التمثيل الشخصي لدراما القرن التاسع عشر. غير أن هذه المحاكاة الفردية للتاريخ ليست إلا الصورة الرمزية لدراما التاريخ الروسي آنذاك في بحثه عن سبل التحرر الاجتماعي. فقد كشفت هذه الدراما عن تنوع المساعي الروسية في البحث عن إصلاح معقول للأمة. وليس مصادفة أن يشكل التاريخ محور هذه المساعي، وأن تكون الثورة حصيلة التأمل الفلسفي والأدبي لها.

فقد توصل راديتشف في استعراضه آراء المفكر غبريل مابلي (1709-1785)، التي وضعها في كتابه (تأملات عن التاريخ الإغريقي) إلى أن القيصرية الروسية اكثر النظم منافاة للوجود الإنساني. في حين أثارت آراء تشادايف التي وضعها في كتابه (رسائل حول فلسفة التاريخ) زوبعة الجدل الفكري والسياسي، وشقت الفكر الروسي إلى "وطني" و"أوربي". لقد حاول البرهنة على أن انعزال روسيا وابتعادها عن المسار العام للتربية الإنسانية هو سبب قناعتها المزيفة بذاتها وكسادها المعنوي. بينما حصر بيلينسكي (1811 - 1848) نظراته الفلسفية عن التاريخ في إطار الكشف عن جوهرية الأفكار ودورها الهائل في تثوير العلاقات الاجتماعية والسياسية ودفعها إلى الأمام باعتبارها محرك التقدم البشري.

إن تحول فكرة التقدم الاجتماعي إلى محور الاهتمام الفلسفي وكذلك ربط هذه الفكرة بالأثر الفعال للأفكار يعني فيما يعنيه أيضا، التأسيس النظري لقيم جديدة ولإرادة عاقلة في مواجهة التخلف والانحطاط والانغلاق. من هنا وقوف بيلينسكي ضد القيصرية وضد أنصار السلافية وكذلك ضد من حاول وضع روسيا قوميا وثقافيا بالضد من أوربا.  بينما جعل هيرتسن من القانون الاجتماعي موضع اهتمامه الأساسي. ونظر إلى هذا القانون باعتباره حصيلة التطور الطبيعي للمجتمع ولنشاط الأفراد الواعي. ثمة في هذه الأفكار صدى للهيغلية، ولكن التوظيف "اليساري" للهيغلية يظهر على أتم وجوهه في الباكونينية، التي جعلت من مسار التاريخ أسلوبا للانتقال من "مملكة الحيوان" (الضرورة) إلى "ملكوت الحرية" (الإنسان). وذلك لأن ما يميز الإنسان عن الحيوان هو الفكر كما يقول باكونن. فالفكر يثير في الإنسان الإشكاليات والحلول، ويصنع التأملات والرؤية الدينية والدولة. من هنا استنتاجه القائل بأن وجود الدين والدولة مؤشر على التخلف الاجتماعي ومعيار على غياب الحرية. فالدولة حسب نظر باكونن، هي التجسيد السياسي للاستبداد الديني أو الشكل السياسي لتجسيد وظيفة الآلهة. من هنا استنتاجه القائل بأن الدين والدولة هما مصدر الشر الاجتماعي. وهي النتيجة التي وضعها تشرنيشفسكي في إطارها الواقعي من خلال حصر مقدمات الشر الاجتماعي في العلاقات الاقتصادية ومستوى تطورها. ومن هنا أيضا بحثه عن الشر العام بوصفه "سر التاريخ العالمي" في اغتراب السلطة عن الشعب. وتوصل إلى أن الصراع  بين الطبقات الاجتماعية هو محرك التاريخ الواقعي، وأن الثورات هي لحظات الإبداع الخاطفة فيه. من هنا صياغته لما اسماه بالأنانية العقلانية، أي ضرورة بلوغ النتائج العملية المباشرة، لا ترحيلها إلى المستقبل بالنسبة لرجال الفكر والسياسة الثوريين. إذ لا مستقبل دون الحاضر. وأن التعرجات الملتوية في التاريخ هي المصير الذي لا بد منه. وأن التاريخ لا يشبه شارع نيفسكي (الشارع الرئيسي في بيتيربورغ- بتروغراد-لينيغراد) في استقامته.

إننا نقف هنا أمام تعمق الفكرة الاجتماعية والسياسية الثورية عن التاريخ. إذ لم تعد الفكرة موضوعا للتأمل المجرد والبحث الأكاديمي البحت، بل أصبحت موضوعا تأسيسيا لتقاليد الروح الثوري الروسي في كيفية تذوقه مرارة الاستبداد القيصري.

لقد قطع الفكر الفلسفي التاريخي السياسي الأشواط الطبيعية والضرورية في فهم الواقع الروسي. انطلاقا من محاربة الانعزال القومي والثقافي إلى إدراك قيمة الفكر الفاعل ومنه إلى قانون موحد لموضوعية المسار التاريخي والإرادة العاقلة. ومنها إلى إثارة مشكلة الضرورة والحرية بحصرها في إشكالية الدين والدولة. وهي الحصيلة التي دفعت الفكر الاجتماعي والسياسي إلى تفحص استنتاجاته في ميدان المواقف العملية من الدولة، ومن ثم إنزال الفكر إلى الواقع بتلمس مشاكله الفعلية والبحث عن أسباب الشر العام فيها.

إن انتقال الفكر الفلسفي التاريخي الروسي من تأملاته المباشرة عن محدودية القومية (أو جسده الثقافي) إلى مستوى "الرؤية العالمية" يعكس أولا وقبل كل شيء تعمق رؤيته الذاتية. أي أن استنتاجاته النظرية كانت في آن واحد نتاجا وأسلوبا لوعي الذات الاجتماعي والسياسي. فقد تزامنت بلورة الفكرة الثورية عند تشادايف مع صعود فكرة الحق الطبيعي. إلا أن تشادايف لم يبق على فكرة الحق الطبيعي ضمن تقاليد التنوير الفرنسية، بل دفعها صوب البرهنة على ضرورة الثورة الشعبية ضد الطغيان السياسي للنظم المستبدة. أما تحوله من الأرثوذوكسية الروسية إلى الكاثوليكية فقد كان مرتبطا بموقفه المعارض للجمود الاجتماعي والسياسي في روسيا بشكل عام وبموقف الكنيسة منه بشكل خاص. لقد جعل تشادايف من الفعل الإنساني محور الكون الفاعل، وربط هذا الفعل بقيادة العقل الكوني والإرادة الكونية.

في حين نظر بيلينسكي إلى إبداعه الشخصي باعتباره تمثيلا للبطولة المجردة في صراعها الجمالي ضد الواقع القبيح. ومن هنا الأهمية البالغة التي أعارها للتنوير، لأنه وجد في التنوير أسلوبا لاستثارة الروح الفاعل وتغيير الواقع. وإذا كانت آراؤه هذه قد تعرضت في إحدى مراحل تطوره الفكري الروحي إلى "خمول فلسفي" بفعل تأثره بالهيغلية المحافظة، فانه سرعان ما عاد إلى تقاليد الثورية الديمقراطية. وقد صاغ ذلك في رسالته الشهيرة المعنونة (إلى غوغل) حيث حاول فيها توليف فكرة الإرادة عند فيخته وفكرة العقل عند هيغل بالشكل الذي يجعل من هاتين الفكرتين أداة للتغيير. وطوع هذا التوليف في مجرى صراعه الفكري  السياسي مع التيار المحافظ والانعزالي من أنصار السلافية، مؤكدا على أن القومي هو تعبير عن الأممي، وإن الأممي دون القومي تجريد لا  قيمة له. من هنا انتقاده الحاد لأنصار السلافية الذين وجد فيهم ممثلين للجمود والرومانسية الأبوية المحافظة، ودفاعه عن الرأسمالية التي وجد فيها خطوة كبرى إلى الأمام في تثوير  العلاقات الاجتماعية. غير انه لم يقف عند هذا الحد، بل ودعا أيضا إلى نظام عادل هو النموذج الواجب للوجود الإنساني. وهي الدعوة التي تلقفها وجاراه في تبنيها كل من هيرتسن وباكونن وتشيرنشفسكي.

فقد أسس لها هيرتسن في مجرى اهتمامه النظري بقضايا الفكر والوجود والحياة والمثال. وليس صدفة أن تطغي على اهتماماته هواجس البحث عن  "من المذنب" والماضي والتفكر فيهما. وأن يتعمق الجانب السياسي في كتاباته. ففي أول أبحاثه المنشورة (الحذلقة في العلم)، وجد في فلسفة هيغل "جبر الثورة". ووجد في مسار "العقل المطلق" إمكانية إبداع التجانس التام في الوجود الإنساني من خلال نفي المتناقضات. فالتفت إلى البحث في تاريخ اليونان والنصرانية وغيرهما من التواريخ، التي يمكن أن تؤيد هذه الفكرة. ولم يحصر آراءه هذه ضمن تأملات  فلسفية تاريخية خاصة، بل جعل منها "ناقوسا"1 ، حاول بمساعدته إيقاظ روسيا النائمة. بينما جعل باكونن من الثورة مثله الأعلى في تحطيم أساس الشر المطلق (الدولة والدين). وجعل من "الفوضى" بوصفها نقيضا للسلطة القمعية، الغاية النهائية للفعل الثوري. وهي الحصيلة التي طوعها تشرنيشفسكي في تناوله القضايا الاقتصادية والاجتماعية والبحث فيهما عن جذور الشرور كلها. مما حدد مواقفه القائلة بضرورة الثورة الاجتماعية والاقتصادية. إذ وجد في الثورة إحدى اللحظات الكبرى للإبداع الإنساني. لقد حاكى في مواقفه هذه الفكرة الماركسية عن الثورة باعتبارها قاطرة التاريخ. وهو، شأنه شأن ماركس، أدرك أن التاريخ ليس مستقيما في مساره وانه لا يشبه شارع نيفسكي، كما كان يحب القول.

إن ثقل المكان في الرؤية السياسية للفكر الثوري الديمقراطي هو البعد الأكثر التحاما بالزمن الروسي. فهما يصبان (المكان والزمان) في مصب البلورة التاريخية للرؤية المنطقية عن القضايا الأولية للمجتمع. فالإجماع شبه التام في الفكر الروسي الديمقراطي على ضرورة الثورة يعكس رؤية هذا الفكر لقيمة الإصلاح الشامل. وهو إجماع واجه إجماع القيصرية التاريخي على الجمود والرفض العنيد لأي تغير في بنية الدولة والنظام الاجتماعي الاقتصادي والسياسي.

اخذ التفكير السياسي الروسي منذ راديشف يرى نفسه في مرآة واقعه الخاص. ولا  يغير من ذلك شيئا استناد هذا الفكر على نتاجات الفكر الأوربي. فان محاولات راديشف الأولى سعت لكشف ما في "الحق الطبيعي" من قيمة بالنسبة للفكرة الثورية عن ضرورة إزالة "الحق القيصري" ونظامه الاجتماعي والسياسي. من هنا استنتاجه القائل بأن النظام الاستبدادي القيصري مناف للطبيعة الإنسانية. وجعله ذلك يمجد إعدام كرومويل للملك الإنجليزي. وينطبق هذا على موقفه من الثورة الأمريكية ودعوتها للحرية. حيث نظر إليهما نظرته إلى نماذج يحتذى بها بالنسبة للفعل الروسي الثوري. وتوصل في نهاية المطاف إلى أن الضمانة الوحيدة للحرية في روسيا هي الانتفاضة الجماهيرية لا الاعتماد على "إصلاحات الملك المستنير". وهي فكرة استخلصها من وقائع التاريخ الروسي نفسه. فقد برزت بوضوح أمام ناظريه انتصارات البرجوازية الأوربية وتعثر الإصلاحات في روسيا حتى في زمن حكم يكاترينا الثانية (نموذج المستبد المستنير في روسيا).

إن معاينة تعثر الإصلاحات الفوقية منذ زمن ايفان الرهيب مرورا ببطرس الأول وانتهاء بيكاترينا الثانية (بوصفهم ممثلي الاستبداد المستنير في روسيا) أدت بهيرتسن إلى نفس الفكرة. فقد عايش الثورات الأوربية وهزائمها في أربعينات القرن التاسع عشر. مما جعله يعيد النظر ويشك بفكرة عقلانية التاريخ. وهذا الشك عمق الرؤية الواقعية في نقد الطوباوية والأوهام السياسية. وأدى أيضا إلى تعميق رزانة الرؤية النقدية تجاه الحضارات وخصوصياتها. من هنا يمكن فهم شكوكه الأولية بالبدائل الأوربية، ومن ثم بروز الرؤية الروسية (الوطنية) للبديل الاجتماعي. وقد حاول تحقيق ذلك في نظرته للاشتراكية الروسية الفلاحية. حين انطلق من أن خصوصية روسيا تكمن في كونها أمة فلاحية ومشاعية، وقادرة  على تجاوز الرأسمالية، أي على بناء الاشتراكية دون المرور الحتمي بالرأسمالية. وهي رؤية شاطرها باكونن، من خلال رفضه الشامل للدولة (بشكل عام والقيصرية الروسية بشكل خاص) واقتراحه الفيدرالية الحرة بديلا للجمعيات الفلاحية،  كما ورد في كتابه (النظام والفوضى). لقد أسس هنا للفكرة القائلة بضرورة وجود مثال شعبي روسي له خصائصه الفلاحية المتميزة.

أثرت هذه الأفكار ووجدت استمرارها أيضا في التقاليد الشعبوية الروسية، وبالأخص عند حركة "الأرض والحرية" (حرفيا الأرض والإرادة). بينما سار تشرنيشفسكي باتجاه التوليف المتجانس لمضمون الإصلاح الثوري. فقد أكد منذ كتاباته الأولى، وبالأخص في كتابه عن الألماني (ليسنغ) بان النظام القيصري عاجز عن إجراء إصلاحات جذرية حتى تجاه القنانة. وكشف في وقت لاحق أيضا عن زيف "الإصلاحات الفلاحية" من جانب القيصرية بشكل عام والليبرالية الروسية بشكل خاص، مما دفعه في نهاية المطاف إلى صياغة قناعته التامة بضرورة الثورة الجذرية باعتبارها إصلاحا. انه لم  ينظر إلى الثورة باعتبارها شيئا ما عابرا أو عقدة مكثفة للتناقضات التاريخية فحسب،  بل وبوصفها لحظة خاطفة في الإبداع الحقيقي للنخبة السياسية والأمة على السواء.

أدى مخاض القرن التاسع عشر في روسيا إلى ولادة فكرة ثورية عن الثورة باعتبارها المصير الذي لابد منه لكل إصلاح جذري، وجعل من الإصلاح الأمثل ثورة ومن الثورة وسيلته المثلى. وهي نتيجة تصّيرت في مجرى الأزمة البنيوية التاريخية للنظام الاجتماعي والسياسي والثقافي للقيصرية الروسية. ذلك يعني أن الروح الثوري الروسي الذي توّج حصيلة القرن التاسع عشر في مختلف ميادينه،  كان الاستجابة الواقعية "للروح الروسي الغريب".  غير أن هذه الاستجابة لم تكن ردة فعل مباشرة، بقدر ما كانت إدراكا متعمقا في استشراف البدائل الإصلاحية المعقولة. وإذا كانت البدائل الإصلاحية تتطابق في انتقادها وأدلتها مع الدعوة للثورة، فلأن فكرة الثورة الروسية استثمرت نتائج الحركة النوعية في البنى الاجتماعية والاقتصادية لتجارب الأمم الأوربية. وشان كل ظاهرة فكرية سياسية معقدة كان من الصعب حصرها أو تأطيرها بقيود أو أطر محددة وثابتة. فاشتراك الجميع في التأسيس لفكرة الثورة لم يعن تشابههم جميعا في رؤية الوسائل والغايات. غير انهم اسهموا جميعا في بلورة وصياغة المقدمات النظرية والعملية للبديل الشامل من خلال مطابقة الثورة مع الإصلاح والإصلاح مع الثورة. الأمر الذي وجد انعكاسه الواضح في نماذج الثورية الديمقراطية (عند هيرتسن) والراديكالية الثورية الفوضوية (عند باكونن) وتوليفهما في الثورية الديمقراطية الإصلاحية (عند تشرنيشفسكي).

أدت الحصيلة النظرية بهيرتسن إلى الوقوف ضد الفردية البرجوازية وضد الجبرية والإرادية. واستكمل باكونن هذه الحصيلة لشحن معارضته الراديكالية الفوضوية، كما هو جلي في رسالته (إلى صديق قديم)، إلى أقصاها من خلال تطرفه الحاد في الموقف من الدولة والدعوة للقضاء عليها كليا. حيث توصل إلى أن العنف والقوة يساهمان في تنظيف الطريق أمام المستقبل، لأن المجتمع في حاجة إلى فكرة بناءة. وهي الفكرة التي أسس لها تشرنشيفسكي فيما اسماه بضرورة نفي اغتراب السلطة عن المجتمع. ووسيلته في النفي هي الثورة، بوصفها أسلوب القضاء على هذا الاغتراب وبناء النظام الاشتراكي. وجعل من السؤال المقلق للعقل والضمير الروسيين (ما العمل؟) عنوان روايته الشهيرة، التي تمثلت فيها تجارب الأمة الروسية في بحثها عن كيفية معاقبة المذنبين. ووجد في النظام الاستبدادي والاستغلال الاجتماعي شرا لا بد من القضاء عليه بالثورة. وليس صدفة أن يشكل تشرنيشفسكي النموذج الخفي (الروسي والعميق) للينينية، باعتبارها الصيغة الروسية للماركسية، من حيث توليفها السياسي للعقلانية الأوربية والروحانية الروسية حتى في موقفها من الإصلاح باعتباره ثورة، وموقفها من الثورة باعتبارها إصلاحا. (يتبع....)

***

ا. د. ميثم الجنابي

.................

1- (الناقوس) هو اسم المجلة الدورية التي أصدرها هيرتسن في المهجر لإيقاظ الروس من سباتهم.

 

في المثقف اليوم