دراسات وبحوث

الغزالي في الدراسات الحديثة والمعاصرة

ميثم الجنابيالغزالي من بين الشخصيات الكبرى، التي لم يكن تأثير ابداعها الفكري ذا نسق واحد. لهذا تباين تأثيره في مجرى تطور الفكر والثقافة الاسلامية والعالمية. فقد تجاوز تأثيره حدود العالم الإسلامي منتقلاً إلى أوروبا النصرانية اما بصورته المباشرة من خلال الترجمات أو بصورة غير مباشرة من خلال تأثير ابن رشد ومؤلفاته. وقد كان تأثيره في العالم الاسلامي متشعباً ومتبايناً بما يتناسب ويتوافق مع تشعّب اهتماماته وإبداعه. أما في العالم الأوروبي النصراني فقد انحصر في إطار الصراعات الفكرية الفلسفية اللاهوتية التي رافقت صراعات الرشديين اللاتينيين والاكوينية (الكاثوليكية).

فقد أدى تشعب اهتمامه من الفقه حتى الكلام والفلسفة والتصوف، أي في كل ميادين عصره الثقافية الكبرى إلى أن يجد انعكاسه في الأعمال اللاحقة للفقه والكلام والفلسفة والتصوف. وطبيعياً ألاّ يكون هذا التأثير موحداً ومتشابهاً، أي أنه كان في الاطار العام  متناقضاً ومتأرجحا ما بين التأييد والنقض. إلا أن الحصيلة العامة كانت تسير في اتجاه تعميق الفكر. إذ أننا لا نعثر في الواقع على أي من ممثلي الفكر الكبار اللاحقين في ميادين الفكر النظري العامة والمميزة للثقافة الاسلامية آنذاك، ممن لم يتأثر بهذا القدر أو ذاك بالغزالي، أو ممن لم يتناوله بالشرح أو الاختصار والرد.

إلا أن عمق تأثيره تجاوز انعكاسه في المؤلفات إلى الميدان الأكثر تعقيداً والمرتبط في جوهره بطبيعة وشكل استيعاب تطوره الفكري. ومن الممكن أن نفرز في تأثيره، في الاطار العام، اتجاهين أو مستويين. الأول ويقوم في موقف المفكرين منه في كتاباتهم، والثاني في موضوعية تأثيره اللاحق. وإذا كان تأثيره يسير في اتجاه التقبّل والرفض في الاطار أو المستوى (الأول) وهذا ما يمكن أن نجد انعكاسه في الدراسات الفقهية والكلامية والفلسفية والصوفية من مؤيد وداحض، فإن تأثيره في المستوى الثاني سار من خلال سريان تآلفه في منظومات الفكر الفلسفية والصوفية. بمعنى أننا نقف أمام ظاهرة اضمحلال تأثير مؤلفاته الفقهية وجزئياً الكلامية، وبقاء أثره الكلامي والفلسفي والصوفي، أي انها العملية الموضوعية لتغلغل فكره المنظومي وليس النقدي الجدلي. وهو ما يمكننا العثور عليه  في الفلسفة عند كل من ابن طفيل وابن رشد، وصدر الدين الشيرازي(ت- 1050 للهجرة)، وفي الفلسفة الصوفية عند السهروردي المقتول(ت-586 للهجرة) وابن عربي وغيرهم، وفي الطرق الصوفية عند أغلبها. بل اننا نستطيع الجزم، بأن من الصعب توقع ظهور الفلسفة الاشراقية السهروردية، وتآلف ابن عربي، ونظرية الشيرازي الأخلاقية، والطريقة القادرية والسهروردية وغيرها، دون تأثير تآلف الغزالي الفكري.

لقد تعدى تأثيره "دار السلام" إلى "دار الحرب" بالطريقة الأكثر سلمية في مسارها والأكثر رفعة في فعاليتها، باستثارة "الحرب" الفكرية الفلسفية في الوسط الأوروبي. وقد كان هذا التأثير متناقضاً ومتشابكاً من حيث مظاهره وفعاليته. ويبرز  ذلك بوضوح في طبيعة انتقال واستمرار الصراع الفكري من عالم الخلافة الإسلامية إلى أوروبا القروسطية النصرانية. فالطابع المتناقض له يقوم، على سبيل المثال، في التأثير الذي تركه كتاب (مقاصد الفلاسفة) في الفكر والمفكرين الأوروبيين

[1]. فقد أدى استعراضه لآراء الفلسفة المشائية عرضاً منهجياً موضوعياً الى انطباع خاطئ عن أرسطيته[2]. ولعل الطابع المفارق لهذا الكتاب من حيث تأثيره في الفكر الأوروبي، شبيه لحد ما بتأثير كتاب (الربوبية أو اوثولوجيا ارسطوطاليس) في الفكر الاسلامي[3]، وخصوصاً الكلامي والفلسفي والصوفي. أما الشكل الآخر لتأثيره في الفكر الأوروبي فيقوم في فعاليته المؤثرة على صراعات الرشديين اللاتينيين والاكوينية، من خلال ترجمة كتابات ابن رشد وخصوصاً (تهافت التهافت) وفيما بعد كتابه (تهافت الفلاسفة). إن الطابع المتناقض والمعقد لتأثيره في الفكر والدراسات الفلسفية يظهر أيضاً في كل من مؤيدي العقلانية واللاعقلانية[4]. فإذا كان تأثيره في الاتجاهات اللاعقلانية أشد فلأن العقلانيين الأوربيين قد وجدوا في خصمه (ابن رشد) الممثل الأكثر وضوحاً وتجانساً، مما جعله لحد ما ضحية الصراعات الفكرية، التي حولته إلى مصدر من مصادر دعم اللاعقلانية. إلا أن هذه العملية كانت  نتاجا للاستعمال أو التطبيق اللاحق لبعض أفكاره التي رافقت تطوره الذاتي. ومع ذلك فإن هذا الجانب يبقى نتاج استقلالية الفكر النسبية وإمكانية أخذ العناصر المنفردة خارج إطار طابعها التاريخي الملموس. وبهذا المعنى تصبح اللاعقلانية الغزالية نتاجا لتفسير او تأويل من تبعه، لاسيما وأن لهذه الظاهرة مثيلاتها العديدة في التاريخ الفلسفي القديم والمعاصر. وليس ذلك بغريب في مجرى التاريخ السياسي الفكري. فقد تحولت شخصياته الملموسة إلى راية الصراع، وفي حالات عديدة إلى شعار الثورة والثورة المضادة. وقد نسي الجميع شعار الغزالي المحبب والقائل "خذ ما تراه ودع شيئاً سمعت به، في طالع الشمس ما يغنيك عن زحل". ولكن إلى أية درجة استفادت الدراسات المعاصرة من "منهجه الشخصي"؟ فارنست رينان، الذي استشهد بهذا البيت، لم يفهم حقيقة مغزاه. فقد شدد في كتابه (ابن رشد والرشدية) على ما دعاه بلاعقلانية الغزالي. إلا أنه مع ذلك قيّمه تقييماً عالياً، عندما أكد على أن الغزالي هو "من ألمع العقول وأكثرها أصالة في المدرسة الفلسفية العربية"[5]. هذه الفكرة التي سبق لهيغل أن صاغها في محاضراته عن تاريخ الفلسفة، عندما قال عن الغزالي، بأنه كان "ثاقب العقل، شكوكياً، ذا عقل شرقي عظيم، صاحب كتاب تهافت الفلاسفة"[6]. إلا أن التقييم الهيجلي يبقى في إطاره العام حدسياً، أكثر مما هو مبنياً على دراسة ومعرفة وثيقة بالغزالي، أي أنه تقييم لا يتضمن على معرفة محققة ولا يستند إلى تحليل دقيق بقدر ما انه يعبّر عن الاعتراف الخفي الساري والمتغلغل عند المفكرين والفلاسفة الأوروبيين القروسطيين وعصر النهضة، بوصفه شكوكياً لاعقلانياً مهدماً لفكرة السببية (العلية). وعموما يمكننا القول، بان معرفة هيغل بما اسماه "بالفلسفة العربية" هي معرفة سطحية. ولعل الشيئ الذي يجعل احكامه اكثر دقة مقارنة بارنست رينان هو منهجه الفلسفي وعقلانية التي اتبع باثرها حدسه الشخصي اكثر من درايته الفعلية بابداع الغزالي. ومع ذلك، إن هذه القضية تبقى ضمن سياق البحث الفلسفي العلمي قائمة بذاتها خارج اطار التفسير والتبرير. فللعلم الفلسفي قواعده الدقيقة ومنطقه المناسب. ولا يغير من ذلك شيئا قلة او شحة معارف هيغل بهذا الصدد. لاسيما وانها اختلطت ايضا بعجينة المركزية الاوربية والمنهج الهيجلي. فهو يفرد اربع صفحات فقط "للفلسفة العربية" ضمن تاريخه العالمي للفلسفة. وفيها نعثر على هفوات واخطاء، لكنها تمتلك في الوقت نفسه قيمة علمية وثقافية تستمد مقوماتها من حدسه الفلسفي، وبالاخص حالما يتكلم عن اهمية "الفلسفة العربية" العالمية والثقافية، بمعنى اثرها في تطور العقلانية في الفسفة الاوربية.   

أما الدراسات المعاصرة المتخصصة أو التي لم يكن بإمكانها أن تهمله في موضوعاتها، فإنها لم تختلف عما كان مميزاً للتقييمات القديمة من حيث مواقفها المتعارضة في رؤية موقعه الفكري وتأثيره في الثقافة الإسلامية والعالمية. فقد رفعه البعض إلى مصاف الأنبياء وأهل الابتكار والعظمة الفكرية، بينما أنزله آخرون إلى حضيض التقليد والسرقة وعدم الأصالة والرجعية الفكرية والظلامية العارمة[7].

فالتقييمات المفرطة في مدحها له عادة ما تبرّز الجانب الديني الايماني الغيبي، بينما الأخير ليس إلا جانباً واحداً من جوانبه العديدة. في حين أن التقييمات المفرطة في موقفها السلبي منه فعادة ما تتوزعها الأحكام الايديولوجية المتسرّعة أو الجهل بمؤلفاته أو التحليل السطحي لآرائه.

ولا يمكن عزل هذه التقييمات المتعارضة عن كل ما عملت عليه الدراسات المعاصرة عن الغزالي في ميادين البحث المتخصص بقضايا الصحيح والمنحول في مؤلفاته وتحقيق تسلسلها التاريخي، والدراسات المتعلقة بتطوره الفكري الروحي وسيرة حياته الشخصية، وإبداعه الفقهي، وقضايا الكلام ومواضيعه الدينية الميتافيزيقية والاجتماعية السياسية وخصوصية الكلام عنده، إضافة إلى الفلسفة ومعضلاتها المعرفية والوجودية، والأخلاق ومصادره الفكرية وغيرها من القضايا، اضافة الى التصوف. ومن الممكن الآن الحديث عن علم خاص هو (الغزاليات) الذي أنتج منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر حتى الان كثرة هائلة من البحوث والدراسات المتباينة منهجياً وسعة وعمقاً في مواقفها منه وتحليلها لإبداعه.

فقد بدأ الاهتمام العلمي الكبير بالغزالي في الدراسات الاستشراقية منذ منتصف القرن العشرين. ومنذ ذالك الوقت جرى تذليل الكثير من العقبات التي لازمت دراسة الغزالي بمختلف جوانبه ومستوياته. وقد أدى ذلك، اضافة الى الدراسات العربية والإسلامية الى احراز تقدم كبير بهذا الصدد. فقد ساهمت هذه الدراسات بإلقاء الضوء على الكثير من جوانب حياة الغزالي وإبداعه الفكري ومنظومته الفلسفية والصوفية. وعموما يمكننا حصر هذا الاهتمام بخمسة جوانب كبرى وهي:

أولا الدراسات التي تخصصت بإلقاء الضوء على حياته الشخصية، وسيرته النظرية والعملية، وتطوره الفكري[8].

ثانيا: الكتابات التي بحثت في بعض مؤلفاته بالعرض والتحليل[9]، أي كل ما له علاقة بقضية الصحيح والمنحول في مؤلفاته[10].

ثالثا: ترجمة مؤلفاته والتعليق عليها[11].

رابعا الابحاث المتعلقة بمختلف مجالات وجوانب ابداع الغزالي الفكري، وبالأخص في مجال الفقه علم الكلام، بمعنى دورهما في تطور الغزالي الفكري، وبالأخص ما يعلق بمواقفه الاجتماعية والسياسية، وكذلك القضايا المتعلقة بإشكاليات الميتافيزيقيا ومقارنة افكاره بمثيلاتها في اللاهوت النصراني[12].

خامسا: الاعمال التي تناولت علاقته بالفلسفة، وكذلك حل عدد من القضايا الفلسفية المهمة المتعلقة بالوجود والسببية، وقضايا العقل والعقلانية، ونظرية الشك عند الغزالي. اضافة الى قضايا المنطق وعلم النفس والتربية والأخلاق وجوانب اخرى[13].

ان ظهور هذه الكمية الكبيرة والمتمايزة في الاهتمام المحترف بحياة الغزالي وفكره مؤشر كبير على تدقيق وتحقيق المفاهيم وطبيعة الابداع الفكري للغزالي. لكنها تشير في الوقت نفسه الى انها لم تبلغ حالة الانتاج الفكري المعمم لتجارب الابحاث العلمية الفلسفة ومدارسها ومناهجها ودقتها. وقد يكون الاختلاف الكبير والمتناقض في تحديد ماهية وحقيقة فكر الغزالي وشخصيته احد مظاهر هذه الظاهرة. اذ نعثر على انواع مختلفة ومتناقضة عديدة في حد!ها وتحديدها لماهية فكر الغزالي وحقيقته. ومن ابين اكثرها انتشارا هي حدّه بمفاهيم مثل المتكلم الاشعري[14]؛ والفيلسوف الصوفي، والمناهض للفلسفة[15]؛ وأرثوذوكسي لا عقلاني[16]؛ وممثل الورع الديني النقدي واللاأدرية [17]؛ وصوفي لا عقلاني[18]، وغيرها من الاوصاف مثل روحاني نقدي أو صوفي تستري أو سنّي أرثوذوكسي غير صوفي، أو صوفي خالص، أو صوفي محاسبي، أو صوفي سنّي، أو فيلسوف أرثوذوكسي،أو لاهوتي أرثوذوكسي سنّي، أو عرفاني شكوكي، أو ممثل ومنظّر الأخلاقية الصوفية اللاهوتية، أو فيلسوف فيضي، أو فيلسوف ديني إسلامي أو فيلسوف عقلي ديني، أو حجة الاسلام.أو ممن لا يمكن إدراجه تحت أي تحديد كان.

كل ذلك يشير إلى الاهتمام الواسع بشخصيته ومكانتها في الثقافة العالمية من جهة[19]. ومن جهة أخرى يكشف عن غياب أعمال تعميمية شاملة لشخصيته وتطورها الروحي ومنظومته الفكرية ككل. وهو ما يمكننا ملاحظته على مثال الصيغ المتضاربة والمتعارضة والمتنافرة، بل, الشديدة التناقض بصدد تحديده الفكري الفلسفي.

إننا نقف هنا أمام نفس البلبلة الفكرية التقويمية القديمة، إلا أن ما يميز التقييمات المعاصرة هو افتقادها لطابع الجدل المذهبي، مما يعطي لها صفة البحث التقييمي، أي أنه يعكس التعمّق المتعدد الجوانب في دراسة شخصيته الفكرية، التي حاول كل منهم إبراز ما أعتقده جوهرياً فيها.

ان هذا التنوع والاختلاف في التقييم والتحديد هو جزء من الاجتهاد النظري بهذا الصدد، كما انه يعكس تنوع المناهج ومن ثم المواقف. بمعنى ان كل منها ف يالاغلب نتاج منهجيته الخاصة في دراسة وتحليل او نقد الغزالي، وكذلك موقع وأهمية الغزالي ضمن مسار البحث عند هذا المؤلف او ذاك. من هنا صعوبة اخذ كافة هذه التقييمات والتحديدات بمستو واحد من الجدية. اذ هناك فرق بين من بحث ف يالغزالي بصورة محترفة وعميقة وعلمية وبين كتابات اولئك الذين كان الغزالي مجرد حالة عرضية او عابرة او ليست كبيرة ومهمة بحد ذاتها. غير ان ما هو جوهري بالنسبة لي هنا هو ظاهرة اختلاف وتباين الاحكام عن الغزالي عند بعض المؤلفين انفسهم. وليس ذلك على الدوام نتاج عدم الدقة او قلة المعارف وضعف الحصافة العلمية، بقدر ما يكون ذلك نتاج صعوبة حشر الغزالي ضمن تحديد واحد. وهي حالة نعثر عليها بقدر واحد في كتابات القدماء والمعاصرين. ومن الممكن اعتبار هذه الظاهرة جزء من تطور وتوسع وتعمق المعرفة بالغزالي، كما انها تمثل في الوقت نفسه صعوبة رؤية المنطق الداخلي في تعرجاته التي لا تحصى.

فإذا كانت التقييمات القديمة طالبت المرء بلوغ درجة الكمال في العقل من أجل استيعاب فضله، فإن صيغتها المعارضة لم تجد فيه سوى تلبيس ابليسي. وإذا كانت هذه التقييمات قد ظلت في الغالب بعيدة عن حقيقة الغزالي فليس إلا بمعنى تعاملها معه تعامل النفس بمتعلقاتها". لقد أعجزها "تذبذبه" عن رؤية الوحدة فيه فطوعته كل الاتجاهات بالصيغة التي يمكن أن يكون مفهوماً لها. لهذا رفعته إلى أعلى عليين، وأهبطته إلى أسفل سافلين. ولم يكن ذلك بمعزل عن أثر السياسة وصراعات العقائد. فعالم السياسة هو عالم العبور المرح للانتصار والتألم الحزين للخسارة. لكنهما كلاهما ليسا إلا فعل التاريخ المحلي، بينما كان سعي الغزالي في جوهره هو سعي البحث عن الحقيقة. فالتاريخ والحقيقة ليست كيانات يمكنها الوجود دوما في الذاكرة والوعي كوحدة ملموسة للمطلق الثقافي. وإذا كان سعيه يسير في هذا الاتجاه، فإن التاريخ السياسي و"حقائق" المعتقدات وصراعاتها قد جزأته إلى الدرجة التي أصبح فيها لحد ما لغزاً للإعجاب والشتيمة. وإذا كان من العبث البحث عن الحقيقة في الألغاز، فإن البحث عن الألغاز في الحقيقة ليس أقلّ عبثاً. لقد حولت الدراسات القديمة والكثير من المعاصرة، شخصيته وإبداعه إلى لغز بفعل تجزئتها الوحدة الفعلية في تطوره وعدم رؤيتها شمولية البديل الاصلاحي والطابع التوليفي لمنظومة الفكرية .بعبارة أخرى، إن حقيقة الغزالي في كلّها، أي في منطق تطوره التلقائي. وذلك لان الغزالي متعرج في سياق تطوره العقلي والروحي والفكري النظري والعملي، لكنه واحد في كلّه. وهي الرؤية التي اضعها واسعى للبرهنة عليها فيما اسمته بالتآلف اللاهوتي الفلسفي الصوفي للغزالي.

فالغزالي من بين عمالقة الفكر الذين لا يمكن التعامل معهم على أساس المعطيات "الثابتة" بفعل تطوره الدائم وبحثه عن الحقيقة، الذي مثّل في مجراه الصيغة المكثفة لتطور الحضارة الإسلامية في قرونها الخمسة السالفة وفي تمثلها لإنجازات الثقافة العالمية آنذاك (الاغريقية والرومانية والفارسية والهندية) وصراعها مع الأديان القائمة (النصرانية والمجوسية واليهودية).

فهو ممثل الصيرورة المطلقة وإحدى شخصياتها الفريدة. لهذا سوف لن اتعامل معه على أساس عقلنة الأحكام العاطفية تجاهه، ولا تأمله بالصيغة التي يصبح حتى الظلام فيه جميل!

***

ا. د. ميثم الجنابي

 .......................

[1] انظر البحث الذي كتبه الونسو الونسو، الي يورد عبد الرحن بدوي اختصاره في كتابه (مؤلفات الغزالي)، ص56-58.

[2] من الصعب الحديث عن نزعة ارسطية عند الغزالي، لكنه استطاع توظيف بعض الاراء الارسطية توظيفا بارعا.

[3] ليس هذا الكتاب في الواقع سوى اجزاء من تاسوعات افلوطين.

[4] لقد أثر الغزالي على شخصيات فكرية مختلفة ومتباينة ومتنوعة من حيث توجهها العام . ولا غرابة في الامر. فقد كان ارسطو في العالم القديم وهيغل في العصر الحديث ممن كانوا مستودعا لظهور مختلف القزى والتيارات المتعارضة منهما. الا ان الشيئ المهم بالنسبة لي هنا هو  اثره الفعلي والواقعي لقرون عديدة وما يزال في الفكر الاسلامي ككل، اضافة الى كونه احدى الشخصيات الفكرية الكبرى في التاريخ والثقافة العالمية. 

[5] أرنست رينان: ابن رشد والرشدية، كييف، 1903، ص63.(باللغة الروسية). وتجدر الاشارة هنا الى إن اغلب الاراء والاحكام التي وضعها ارنست رينان لم تعد تتسم بأهمية علمية دقيقة. وكل ما كتبه هذا الصدد له قيمته التاريخية ومعناه الثقافي فقط. بمعنى انه ساهم في اثارة الاهتمام بشخصية ابن رشد وسعى للكشف عن طابعها العقلاني وقيمتها الفلسفية التاريخية والثقافية. وما عدا ذلك مجرد اجتهاد منهجي هو جزء من تاريخ الثقافية الاوربي العلمية والفلسفية. بمعنى اننا نعثر فيها على نموذج للرؤية الاستشراقية (الفرنسية) في مرحلة صعودها الكولونيالي. لهذا كان حتى مدحه للغزالي ليس دقيقا. اذ جعل من نفسه حكما نهائيا دون إن يتتلمذ على ما فيها من حكمة ثقافية هائلة. فقد نظر الى ادواته المنهجية الشحيحة نظرة الكولونيالية الفرنسية انذاك الى قوة مدافعها. من هنا الطابع المتبجح والفج احيانا في احكامه عن الثقافة الشرقية بشكل عام والعربية الاسلامية بشكل خاص. فحتى في مدح للغزالي يسيئ فهمه. فعندما يتكلم عن انتقال الغزالي للتصوف نراه يشدد على ما يدعوه بانهماكه في البرهنة على عجز العقل ومن ثم السعي لبناء الصرح الديني الايماني على ارضية مذهب الشك (ابن رشد والرشدية، ص64). لقد خلط ارنست رينان في اماكن عديدة بما في ذلك تجاه قضايا عدة مع جهل واضح بحقيقة مؤلفات الغزالي وتطوره الفكري والروحي.

[6]  هيغل: محاضرات في تاريخ الفلسفة، موسكو-لينينغراد، 1935، ج2، ص105 (بالروسية).     

[7] لا اجد ضرورة هنا في استعراض اراء اولئك الذين حكموا على الغزالي بهذه المعايير، لان كتاباتهم لا تثري المعرفة ولا تضيف شيئا بالنسبة للتعميم الذي أشرت اليه أعلاه. ومن الممكن الرجوع الى بعض منها فيما سوف ادرجه ضمن جريدة المصادر.

[8] جورج صليبا، كامل عواد: مقدمة المنقذ من الضلال، بيروت، ص5-51.؛ العثمان ع.ك. سيرة الغزالي وأقوال المتقدمين فيه، دمشق 1961 ؛ كارا دي فو: الغزالي، القاهرة، 1958. اما المؤلفات الاجنبية فتجدر الاشارة الى كل من

Macdonald D.B. The Life of al Ghazaali, with special refe­rence to his religious experience// JAOS. 1899. Vol.20.- Po17-132; Watt W.M. Islamic Philosophy and Theology. Edinburg 

[9] De Boer T.J. Die Widerspruche der Philosophie nach al-Ghazzali und ihr Ausgleich durch Ibn Roshd. Strassburg, 1894; Horten М. Die Hauptlehre des Averroes nach sein Schrift «Die Widerlegung des Gazali. Boon, 1913; Zwemer S.M. A Seeker after God. N.Y, 1920; Obermann I. Der Philosophische und Religiose Subjektivismus Ghazali's. Ein Beitrag zum Problem der Religion. Leip­zig, 1921; Friсk H, Ghazalis Selbstbiographie, Ein Verleich mit Augustin's Konfession. Leipzig, 1910. 

[10] Gosche R. Uber Ghazalis Leben und Werke. Berlin, 1858; Маssignon L. Recueil de textes inedits concemant L'histoire de la mystique en pays d'Islam . Paris, 1929;A.M. La espiritualidad de Algazel у susentido cristiono . Madrid-Grenada, 1934--1941. V.4; Watt .W.M. The Authenticity of the works attributed to al-Ghazali// JRAS, 1952o- P.24-45; Hourani G .P. The chro­nology of Ghazali's writings// JAOS. 1959. V.79.- P.225-235. 

[11] ان التراجم المتنوعة الى الكثير من اللغات العالمية والمحلية هي جزء من تطور الوعي العلمي والفلسفي الذي يسعى للتعامل منع الغزالي بمعايير الفكر النظري والنقدي. ومن ثم فهي جزء من التطور الثقافي المعاصر. وبالتالي، فان ترجمة مؤلفاته تجعله جزء من الثقافة العلمية العالمية الحية. وفي الوقت نفسه تكشف عن ضعفها النسبي لحد الان مقارنة بما وضعه الغزالي ومساهمتيه الفكرية الهائلة في توسيع مدى وعمق وخصوصية الإبداع النظري في ميادين الفقه وعلم الكلام والفلسفة والتصوف. ومن بين الكتابات المهمة بهذا الصدد يمكن الرجوع الى كتاب عبد الرحمن بدوي: مؤلفات الغزالي....، ومن بين النماذج الجيدة في الروسية تجدر الاشارة الى كتاب ناومكن ف. ف. Трактат аль-Газали «Воскрешение наук о вере. М., 1983).، وكذلك الترجمة التي قام بها الاستاذ ناصيروف لكتاب (احياء علوم الدين)، حيث طبع لحد الان  الجزء الاول منه فقط. وهو من بين افضل التراجم الدقيقة. 

[12] لامبتون أ.ك. س. الفكر السياسي عند الغزالي. تراث الاسلام، الكويت، 1978،ج3، ص33-76؛ محمد عبد المعز: فلسفة السياسة عند الغزالي، ضمن كتاب (ابو حامد الغزالي في الذكرى المئوية..)، القاهرة، 1962، ص451-467؛ الالوسي: حوار بين الفلاسفة والمتكلمين، بغداد، 1967؛

Wensink A.J. Pensee de Ghazzali. Paris,1940.; Shehadi P. Ghazali's unique unknowable God. Leiden, 1964; Rahman P. Prophecy in Islam. London, 1958.-P.94-100; Zwemer S.M. Jesus Christ in the 'Ihya' of Ghazali// Moslem World. 1917» V.7.; Altmann A. The Delphic Maxima in Me­dieval Islam and Judaism// Studies in Religion and Mysticism. London, 19б3. 

[13] سليمان دنيا: الحقيقة في نظر الغزالي، القاهرة، 1965؛ توفيق الطويل: في تراثنا العربي الإسلامي الكويت، 1989، ص165-177؛ عبد الكريم العثمان: الدراسات النفسية عند المسلمين والغزالي بوجه خاص، القاهرة، 1962؛ زكي مبارك: الاخلاق عند الغزالي، القاهرة، 1971؛ السلجوقي س.: اثر الامام الغزالي في الأخلاق ضمن كتاب (ابو حامد الغزالي في الذكرى المئوية...)، ص70-81؛ احمد أمين: الجوانية الاخلاقية عند الغزالي، ضمن كتاب (ابو حامد الغزالي في الذكرى المئوية...)، ص133-149.

Jabre F.La Notion de la Ma`rifa chez ghazali. Beyrouth, 1958; Jabre F. La Notion de certitude selow Ghazali. Paris, 1958; Goodman L.E. Did al-Ghazali deny causality? //Studia Islamica/ 1979. V.47. P.83-120; Arberry A.J. Revelation and Reason in Islam. London, 1957; Rescher K. The Development of Arabic Logic. London,1964.-P.165-167; Abul-Quasem М. The Ethics of al-Ghazalio. Jaya, 1975; 1962; Кирабаев Н.С. Идея совершенства человека в этике аль-Газали// Философия зарубежного Востока и со­циальной сущности человека. М., 1988.- С.88-98; 

[14]  علي سامي النشار: نشأة الفكر الفلسفي في الاسلام، القاهرة، 1971، ج، ص367؛ ابو ريان: اصول الفلسفة الاشراقية، القاهرة، 1959، ص25؛

Macdonald D.B. The Life of al-Ghazali with Special Reference to his religious experience and opinion //JAOS, 1899. V.20; Watt W.M. Islamic Philosophy and Theology. Edinburgh, 1962. P.118; Abul Quasem M. The Ethics of al-Ghazali. Petaling Jaya, 1975.- P.36-37; 

[15] عبد الكريم العثمان: الدراسات النفسية عند المسلمين، ص4؛ عبد الامير الاعسم: الفيلسوف الغزالي، بيروت، 1981، ص30.

Fakhry M. A History of Islamic Philosophy. N.Y., London, 1970. P.244; Foster F.N. Al-Ghazali1s inner secret //Moslem World. V.23, N 41. P.378. Наумкин В.В. Трактат аль-Газали «Воскрешение наук о вере». М., 1983. С.9.

[16] Быковский Б.Э. Сигер Брабантский. M., 1979.- С.32; Касымжанов А.Х. Абу Наср аль-Фараби. M., 1982.- С.21-22,160-161.

[17] Corbin H. Creative Imagination in the Sufism of Ibn Arabi. Princeton, 1969.- P.8-9.

[18] Грюнебаум Г.Э., фон. Классический ислам. М., 1988.-C.I46; Over R. van. General Introduction. Eastern Mysticism// The Hear East and India. N.Y., 1977. V.1.- P.345. 

[19] ونعثر على ذلك في الاحتفالات التي اقيمت بمناسبة الذكرى المئوية التاسعة لميلاده المنعقد في دمشق عام 1916، والاحتفال الذي رعته الليونسكو عام 1986 بمناسبة مرور خمس وسبعين وثمانمائة عاما على وفاته.

 

في المثقف اليوم