دراسات وبحوث

فلسفة الغزالي في نقد التقليد (2-2)

 ميثم الجنابي"من شرط المقلد أن لا يعلم انه مقلد. فإذا علم ذلك انكسرت زجاجة تقليده، وهو  شعب لا يرأب" (الغزالي)

في معرض انتقاده "للتقليد الفلسفي" أشار الغزالي إلى تباين المناهج في علوم الفلسفة. وهنا تجدر الاشارة إلى أن الغزالي لم ينتقد المنهج الفلسفي المنطقي. على العكس. إنه رفعه إلى مستوى المنهج الحقيقي اليقيني. ووجد هذا الموقف انعكاسه في الكثير من مؤلفاته بما في ذلك في (المنقذ)، عندما أكد على أن الذي يأتي "بمعجزة" أمامه، يمكن أن يثير إعجابه دون أن يقدر على تغيير قناعاته بالحقائق اليقينية (المنطقية). فانتقاد الغزالي للتقليد في الوعي الفلسفي، مبني على أساس رؤيته إمكانية صنع الوهم. فهو يشير إلى أن دقة البراهين الفلسفية قد تصنع وهم ومظهر دقة براهينها في كافة علومها. الامر الذي قد يؤدي إلى إمكانية التقليد الأعمى لهم بأخذ كل آراءهم ومواقفهم  على أنها حق[1]. وضمن هذا السياق يمكن فهم وضعه وتقييمه للفلاسفة المسلمين كمقلدين أيضا. فهو لا يتطرق هنا إلى حقائق الفلسفة، بل إلى أسلوب الفلاسفة المسلمين في التعامل مع نتاجها الاغريقي بالأخص، مقارنة بعلماء الكلام مع نتاج ومادة علم الكلام.

فقد كانت تقليدية علم الكلام من وجهة نظر الغزالي مبنية أساساً على المقدمات التي تسلّموها من خصومهم، أو اضطرهم إلى التسليم بها أما التقليد وأما إجماع الأمة أو مجرد القبول من القرآن والأخبار[2].  وفي هذا الموقف نعثر على تحليل وأحكام الغزالي النقدية تجاه التقليد في علم الكلام عن صيغة عميقة ودقيقة تجاه انماط وعيه وأساليبه الجدلية في البرهان. كما شخّص نفسية وذهنية التقبل والانصياع للفكرة المعارضة سواء كانت فرضية أو نتيجة، بوصفها مقدمة التقليد. الأمر الذي جعل علم الكلام يدور في جدله وبراهينه واستنتاجاته على فرضيات ومقدمات تحتاج هي نفسها أولا وقبل كل شيء الى برهان يثبت طايعها اليقيني. من هنا يمكن فهم سبب اطلاق الغزالي في وقت لاحق على براهين المتكلمين عبارة "براهين أوهام النفس". وبهذا يكون قد كشف عن خواء الجدل الكلامي الذي انحدر اليه، ونضوب امكانياته الداخلية، ومحدودية افاقه في اكتشاف الحقائق والبرهنة عليها. أما الفلاسفة المسلمون فقد كانوا الوجه الآخر لهذا التقليد. وبغض النظر عن تباين أسس هذا التقليد، إلا أنه في الاطار العام، شبيه بالتقليد السماعي كتقليد اليهود والنصارى[3].

وتجدر الاشارة هنا الى النقص الكامن في هذه المقارنة بين ما اسماه الغزالي بتقليد المتكلمين والفلاسفة، مع معرفته المؤكدة بالفرق بينهما. وبالتالي تعكس مقارنته هذه عن أحد مستويات موقفه من الفلسفة في مجرى تطوره الفكري والروحي. فهي تعكس من جهة نزوعه اللاهوتي الأيديولوجي الذي ميّز انتاجه الفكري ما قبل التصوف كما نراه بصورة دقيقة في (الاقتصاد في الاعتقاد) و(ميزان العمل)، ومن جهة أخرى، سيعيد النظر بها في وقت لاحق. فقد كانت شخصية الغزالي الفكرية والوجدانية عنيفة بنزوعها اللاهوتي الأيديولوجي للدرجة التي أراد بها سحق خصومه دون رأفة، على مسنّه الجدلي الذي كان لابد له من ان ينقطع. فقد كانت الرأفة بعيدة عن قلبه وعقله تجاه الخصوم ولاحقا تجاه النفس. إذ دفعه هوس الجدل ضد الفلاسفة للوصول إلى حافة اتهامهم بالتكفير. لكنه حالما وقف في أحد أطوار حياته الحادة الى تأمل ما فيه وهو أمام هاوية الشك الشامل إلى التردد والتراجع لكي يبدأ مهمة اتهام النفس وتكفيرها بالتوبة الصوفية، ومن ثم اعادة "الاعتبار" لهم بصورة خفية ومبطنة سواء بالتقييم أو الفكرة والمنهج.  

ذلك يعني، انه وجد مصدر الانحراف (أو الكفر حسب تعبيره) في تقليد الفلاسفة الأعمى، بفعل سماعهم أسماء غريبة مثل سقراط وبقراط وأفلاطون وارسطوطاليس وأمثالهم، وبفعل حسن أصولهم ودقة علومهم[4]. فالتقليد يبرز هنا بصيغة الاستلاب الفكري أمام أئمة الفلسفة الإغريقية، الذي أدى بهم إلى متابعتهم بالطريقة التقليدية التي صنعت في تصوراتهم وعي وممارسة الترفّع عن "مسايرة الجماهير والدهماء". والغزالي لا يرفض الترفع عن مسايرة الجماهير والدهماء، إلا أن سيطرة نفسية الترفع التقليدية، تشترك في طابعها وحافزها مع كل أشكال التقليد بما في ذلك في أبسط وأدنى درجاتها كما نراه في إيمان العوام والمذاهب لتقليدية. فالغزالي كما هو واضح من تقييم انجازات الفكر الفلسفي يدرك "حسن الأصول ودقة العلوم" فيها، لكنه بالضد ممن يرفض "تقليد الحق بإتباع تقليد الباطل". بمعنى أنه رفض من حيث الجوهر التقليدية الفكرية بحد ذاتها، أو كما يقول في (تهافت الفلاسفة) ليس الانتقال إلى تقليد عن تقليد سوى خرق وخبال[5].  وسوف تتعرض هذه الفكرة الأولية في انتقاد التقليد والتي قدمت لنا مفهوم "تقليد الحق" الى تغيرات جوهرية. فإذا كان مضمونها الأولي كما وضعه في (تهافت الفلاسفة) يسير في تيار الانتقاد والاتهام اللاهوتي ضد الفلاسفة المسلمين، فانه أتخذ لاحقا منحى اخر. بحيث يضمحل ويتلاشى مفهوم "تقليد الحق" بوصفه مفهوما منهجيا ليستعيض عنه بمنهج التصوف في مفاهيم الذوق والكشف، باعتبارهما أسلوب المعرفة اليقينية. حينذاك كّف التقليد أيا كان شكله ونوعه عن أن يكون ذا قيمة ومعنى بالنسبة لإدراك الحقيقة. ولم يبلغ الغزالي هذه الحالة المنهجية لمعرفته بأثر الفكرة الصوفية وتأثيرها عليه، بل وبتاريخ نقده للفلاسفة والباطنية. فقد دفع الغزالي معارضته ونقده الشديد للتقليد عند الفلاسفة الى نهايته المنطقية في موقفه من الباطنية (الإسماعيلية). مما ألزمه لاحقا مهاجمة كل انواع التقليد "الحق" منه و"الباطل". غير أن نقده ونفيه "لتقليد الحق" جرى من خلال أسلوب بلوغ المعرفة على حقيقتها كما هي. فالمعرفة المستندة إلى تقليد المعلم، كما يقول الغزالي، في حال معاناة فهم حقائقها تكف عن أن تكون تقليدا. وذلك لأن بلوغ حقيقة المعرفة هو بحد ذاته نفيا للتقليد. إذ لا تقليد في الحقيقة. وهي الفكرة التي سيطورها لاحقا في آرائه ومواقفه من الحقيقة واليقين، والذوق والكشف. ولهذا السبب أيضا نلاحظ لماذا أخذت تغيب هذه الصيغ النقدية تجاه الفلسفة بشكل عام في أعماله المتأخرة. ففي (ميزان العمل) يضع الفلاسفة "الالهيين الإسلاميين" إلى جانب أهل الدين والصوفية باعتبارهم محقين في فكرتهم حول ربط العلم بالعمل باعتباره طريق بلوغ السعادة[6]. ولم يتناول الفلاسفة في (إحياء علوم الدين) بصورة مباشرة سوى مرتين، أما في (جواهر القرآن) فان الكلام حولهم يضمحلّ في التركيز على علم الكلام، ولم يظهروا بقوة جلية من جديد إلا في (المنقذ من الضلال) ولكن ليسوا كقوة معارضة، بل كرديف في الكثير من استنتاجاتهم لآراء الأنبياء والصوفية[7].

إن الموقف المعارض للتقليدية المستلبة، الذي تطور وتبلور في مجرى صراع الغزالي اللاهوتي المذهبي والعقائدي الفلسفي لم يبق في إطار التأمل والقناعة الذاتية، بل تعداه الى تعميق أحكامه في مواجهة ونقد التقليد بشكل عام. ومأثرة الغزالي هنا تقوم في إفراطه الجدلي واتهامه العقائدي لما دعاه بالتقليد الخالص للفلسفة الإسلامية. بمعنى أنها تحتوي على صواب أفكاره بالمعنى التاريخي بوصفه ممثلاً بارعاً لكسر التقليد الفكري أياً كان مصدره وممثله. فقد بحث الغزالي عن استقلالية الفكر في تتبع منطقه الخاص. فأكثر العلماء، كما يقول في (ميزان العمل) مقلدون في أعيان المذاهب، وأدلة تلك المذاهب على الوجه الذي تلقوه من أرباب المذاهب. بحيث جعله ذلك يقول:"من قلّد فهو أعمى، فلا خير في متابعة العميان"[8]. ولا يمكن فهم وهضم حقيقة هذه الفكرة الجريئة ودورها في تنظيم بنية الوعي المتحرر عند الغزالي ودورها في تعميق توجهه الفكري صوب صنع التآلف اللاهوتي الفلسفي الصوفي، دون الأخذ بنظر الاعتبار الشكل التاريخي الملموس لهذا التوجه. فالتحرر الفكري واستقلالية البحث عن الحقيقة وتساميها في حافز الوعي وغاية الإدراك للخلافة الإسلامية وثقافتها اتخذت من محاربة التعصب العقائدي المذهبي ذروتها الفعلية باعتباره أسلوب تعميق وعيها الذاتي الحقيقي. لهذا السبب نستطيع إدراك قيمة الفكرة التي وضعها في (الإحياء) في نصائحه للمريد الصوفي والقائلة بضرورة رفض التعصب العقائدي. بينما يشدد في (فيصل التفرقة) على أن المسارعة بالتكفير هي الصفة المميزة لذوي العقول التقليدية والجهل. فالتعصب العقائدي، كما يقول الغزالي هو من "آفات علماء السوء" إذ هو سبب ترسيخ العقائد في النفوس. فعلماء السوء "يبالغون في التعصب للحق وينظرون إلى المخالفين بعين الازدراء والاستحقار فتنبعث منهم الدعوة بالمكافأة والمقابلة والمعاملة وتتوفر بواعثهم على طلب نصرة الباطل ويقوى غرضهم في التمسك بما نسبوا إليه"[9]. إذ لو كان بالإمكان إزالة التعصب بحيث يصبح طلب الحقيقة باعث الفكرة المختلف عليها، ويكون اللطف والرحمة أسلوب البحث لنجح الكثير في تذليل الخلاف وإدراك الحقيقة. إلا أنه "لما كان الجاه لا يقوم إلا بالإستتباع ولا يستميل الأتباع مثل التعصب واللعن والشتم للخصوم، اتخذوا التعصب عادتهم وآلتهم، وسمّوه ذبا عن الدين ودفاعاً عن المسلمين، وفيه على التحقيق هلاك الخلق ورسوخ البدعة في النفوس"[10]. وليست هذه الصياغة سوى التعبير البارع عن إدراك الغزالي للبواعث الاجتماعية السياسية والمصالح الاقتصادية لعلماء السوء، أي الفقهاء والمتكلمين وغيرهم من ذوي الارتباطات بالمصالح  الشخصية والسلطان، وكذلك نفسية التعصب الفكري والتقليد. فالأخير لم يعد نتاج محدودية الوعي الاجتماعي بل والممارسة الاجتماعبة والسياسية والحقوقية (الفقهية). وهذا ما يفسر لنا أيضاً انتقاداته اللاذعة لممثلي السلطان (الفقهاء وعلماء السوء). ومن هنا دعوته للناظر الفقيه أن يكون مجتهداً برأيه لا بمذهب الشافعي (والغزالي كان شافعياً في توجهه الفقهي الأولي وظل يكن له احتراماً عميقاً مدى الحياة)، أو أبي حنيفة وغيرهما. ذلك يعني انه ينبغي للفقيه الناظر أن يتبع كما يقول الغزالي رأيه الاجتهادي ويجعله بالتالي أسلوب البحث عن الحلول الحقيقية والسليمة. فإذا وافق الشافعي ترك الحنفي. والعكس هو الصحيح.

وسوف يعطي لآرائه المناهضة للتقليد في كتاباته الصوفية طابعاً أعمق يستند إلى موقفه من حقيقة المعرفة وأسلوب رؤيتها. حيث يبني أحكامه المعارضة للتقليد على مستويات عديدة، لن أتناول منها هنا سوى ما دعاه الغزالي بمفهوم الحجاب، أي النزعة الإرادية والعندية المكبّلة لحرية إعادة النظر في مضمون الحقائق المعترف بها. فعندما يناقش على سبيل المثال ما دعاه بأسباب عدم استيعاب معاني القرآن، فإنه يشير إلى التقليد بوصفه من بين الحجب الأربعة المعيقة لمعرفته الحقة. أنه يقف بالضد من المعرفة القرآنية المبنية على أساس غير أساس البصيرة الداخلية والمشاهدة. فالاستيعاب المبني لا على أساس البصيرة الداخلية والمشاهدة ما هو إلا تقليد مبني على تقييد المعتقد الشخصي، أي أنه لا يمكن أن "يخطر بباله غير معتقده. فصار نظره موقوفاً على مسموعه. ولمثل هذا قالت الصوفية إن العلم حجاب. وأرادوا بالعلم العقائد التي استمر عليها أكثر الناس بمجرد التقليد أو بمجرد كلمات جدلية حررها المتعصبون للمذاهب"[11].

إن رفض الغزالي للتقليد لم يكن مجرد رد فعل مباشر لأجل فسح المجال للاجتهاد وحرية الرأي، بل ونفي لهما على أساس تجديد الحيوي في تقاليد الوعي والممارسة. حيث وجد في الصوفية وطريقتها في إدراك حق اليقين الأسلوب الأمثل بوصفه طريق المشاهدة الباطنية، التي "تجعلها تترقى عن حد التقليد بمجرد السماع"[12].

لقد حاول الكشف عن محدودية الأحكام والبراهين العقلية للمتكلمين وأمثالهم، حيث وجد فيها مجرد "كلمات جدلية". وبالتالي أراد القول بأن الجهد العقلي مهما كان كبيراً فإنه يبقى في إطار التفكير التقليدي مجرد خادم وضيع للتعصب المذهبي. وكشف عن فكرته هذه استنادا إلى معطيات عدد كبير من الأمثلة. فالتقليد بوصفه حجاباً من الحجب المعيقة لرؤية الحقيقة يمكنه أن يتخذ صيغة "الحجاب العلمي" التقليدي العاجز عن كشف الحقيقة كما هي بفعل كونه لا يتوجه إلا صوب "حقيقة" معلومة له. فهو يتكلف عناء التفكير من أجل البرهنة على مقدمات يعتنقها كحقائق أولية، مما يفقد عملية المعرفة طابعها الحقيقي ويعيق بالتالي القلب من رؤية ما هو مخالف لتقليده[13].

 وسوف نرى فيما بعد الدور الذي تلعبه هذه الفكرة في نظريته المعرفية ومنظومته الأخلاقية، وآرائه الكلامية والاجتماعية والسياسية. فالفكرة المبدئية التي بلورها عن ازالة الهوى والتقليد لا تعني في منظومته الفكرية سوى تذليل التعصب العقائدي ونفي مطلق الحقائق الجزئية والنسبية في مجرى المعرفة، بوصفها ميدان اللامتناهي وغير المحدود في تتبع "أفعال الله" في الوجود. وترتب على هذه الفكرة استنتاجات عديدة في مواقف الغزالي من المعرفة كما هو الحال في الموقف من الشك واليقين، والإيمان والإسلام، والنبوة وغيرها من القضايا. في حين ستتخذ من مفهوم التخلق بأخلاق الله أحد امثلتها الملموسة في رؤية وتجسيد صفات المطلق في السعي نحو الكمال. أما في مجال انتقاد التقليد، فانه حاول الكشف عما فيها بوصفها شكلا من أشكال وأدوات الخداع الذاتي.

وانطلق الغزالي من هذه المقدمة لمهاجمة تقليد المذاهب هجوماً عنيفا. فهو يقف إلى جانب أن يكون الإيمان مبنياً على أساس ارتفاع كل معبود سوى الله، أي ارتفاع الهوى والتقليد. ولا بأس للمرء أن يصل إلى حقيقة ما استمعه تقليداً بعد انكشاف حقيقة الأمر في اعتقاده، فإما الإيمان وإما غير الإيمان. وعلى هذا الأساس بنى استنتاجه القائل بأن الممارسة الوحيدة، التي تمتلك أحقيتها المعرفية هي تلك التي تتكشف من "المجاهدة لا من المجادلة"[14]. إذ لا طريق حق في بلوغ الحقيقة سوى طريق المعاناة الفردية المتحررة من قيد التقليد والجدل المتعصب. لكن ذلك لا يعني أن الغزالي يشجع النزعة العندية بقدر ما انه يرفع من قدر الذات الإنسانية في ضرورة إدراكها الحقائق كما هي. فهي الوسيلة الحقة لتجاوز التقليد. فالجدل ليس أسلوب بلوغ الحقيقة، بل المجاهدة الفردية. إلا أن ذلك لا يعني أن الغزالي يقف بالضد من الجدل كأسلوب ممكن لإدراك الحقائق. لقد وضع المجاهدة والجدل على طرفي نقيض لا لشيء إلا لأن أسلوب الجدل السائد آنذاك كان أسلوباً جدلياً عقائدياً متعصباً.

لقد أعطى الغزالي لمفهوم الجدل طابعاً سلبياً. وسوف نرى في وقت لاحق، حال الحديث عن موقفه من علم الكلام، المخاطر التي رآها في الجدل الكلامي (اللاهوتي) وبالأخص تشويهه الحقائق والأخلاق ووحدة العلاقات الاجتماعية السياسية والروحية للأمة. لهذا نراه يضع مفهوم المجاهدة في اولوية بلوغ الحقيقة وكذلك بوصفه أسلوبا في نفي الجدل. وبالتالي ليست المجاهدة من حيث وظيفتها المعرفية سوى جدل معرفي وأخلاقي رفيع المستوى وعميق المحتوى. أنه "الجدل" المنفيّ في السعي الحقيقي للمعرفة ولأجلها، بوصفها مثال تجلي المطلق. وتضمّنت هذه الفكرة في أعماقها على منهجية معرفية عميقة. بمعنى أنها شددت على أن الجدل الكلامي والجدل بشكل عام لا يبدع الحقائق. وأن طريق المعرفة هو طريق اكتشاف الحقيقة كما هي. إذ لا يمكن للمرء، كما يؤكد الغزالي، أن يخلق الحقيقة. إنه يستطيع أن يكتشفها لأنه لا حقيقة إلا في الوجود. وأن الحقيقة هي "سنّة الله في الوجود". وسوف يعطي لهذه الفكرة أبعاداً هائلة عندما يؤكد على أن إبداع الإنسان واكتشافاته أياً كان مستواها وحجمها ما هي في نهاية المطاف سوى نتاج رؤية الصلة الداخلية والممكنة بين الأشياء بوصفها "سنّة الله في الوجود". وبهذا المعنى ليس هناك غير اللامتناه، والذي يدركه الإنسان بصورة مستمرة. وإذا كان ذلك ممكناً كعملية فإنه مستحيل كنهاية مطلقة. مما حدد ذلك لدرجة كبيرة موقفه من المجاهدة بوصفها أسلوب الإدراك الفعلي للحقيقة عوضاً عن الجدل. وبفعل توجهه الأخلاقي الصارم أراد أن يجعل من القلب (أي عالم الروح المعرفي الأخلاقي) مرآة الوجود، الذي ينبغي أن تنعكس فيها كل حقائقه. وفي ظل منظومة كهذه فمن العبث توقع إعارة أهمية فيها للجدل العقائدي والتعصب التقليدي. لهذا أكد على أن من طلب الحق بالتقليد فإن أي استقصاء له، من حيث النظر في آراء مؤيديه ومعارضيه، سيضعه أمام حيرة لا حل فيها ولها، أي أنه سيقف أمام خيار الاضطرار في الحيرة أو الابقاء على معتقداته بفعل ميل النفس التقليدية إلى التشبّث بما تعودت عليه. آنذاك تصبح "الحقيقة التقليدية" من حيث جوهرها ووظيفتها شبيهة بعصا العميان. فالأعمى يتكأ عليها ويستعملها في طريقه دون أن يعي جمادها وعميها وصمّها وبكمها. أما بلوغ الحقيقة في مجال رفض التقليد فلا يمكن بلوغها إلا بالطريقة التي تجعله يقف في آن واحد أمام سلبية وإيجابية التقليد من أجل حلّها على أساس الممارسة المستجدة. فعندما يرفض الغزالي التقليد فإنه يتناول جوانبه الأساسية: أما الرفض القاطع للتقليد من خلال رفض التحجّر الذهني والقناعة الساذجة، أو بإعادة النظر بالفكرة من خلال استيعاب الوحدة الجديدة للفكرة التقليدية بمضمونها التاريخي وطابعها المجرد على أساس التجربة المعاصرة. بمعنى أن يكون اعتماده "في علومه على بصيرته وإدراكه بصفاء قلبه، لا على الصحف والكتب ولا على تقليد ما يسمعه من غيره"[15]. وحتى في حالة تقليد صاحب الشرع والصحابة فإنه ينبغي أن ينظر إلى سرّ الكلمات والأفعال[16]. بصيغة أخرى، إن الغزالي يحوّل الماضي بكل آرائه وأفعاله وممارساته إلى مستودع رمزي يجري إعادة الاعتبار إليه وتقييم أسراره من منطلق المعاصرة، بالبحث فيه عن الحقائق غير المتناهية. من هنا شعار المثال الذي يستشهد به، والذي استقاه من روح المتنبيالقائل:

ولم أر في عيوب الناس شيئاً    كنـقص القادريـن على التمـام

وهنا تجدر الاشارة إلى أن الرجوع إلى القدماء أو التمسك بتجاربهم بالنسبة للغزالي هو اخذ الجوهري والحيوي في إبداعهم أو الجوانب التي اعتبرها أقرب إلى الحقيقة. فهو لم ينظر إلى تجارب الأسلاف باعتبارها كيانات ميتة. على العكس! انه اعطى لها وطابقها مع فكرة الاستمرار كما هو بوصفه أحد العناصر الضرورية للوعي المعاصر في تعامله مع قضاياه الخاصة. لهذا طالب الفقيه الناظر في قضية ما بضرورة الاجتهاد في تحكيم الفكر في القضية والاتفاق مع الشافعي إن كان حل الشافعي صحيحا بنظره، أو مع أبي حنيفة إن كان الحق إلى جانبه. مع ان القضية بالنسبة للغزالي لا تقوم في ضرورة المطابقة الفعلية مع أي إمام من الأئمة، بقدر ما انه يتناول حقيقة الموقف المجتهد لا الشخصية التي يمكن نسب هذا الحل أو ذاك إليها. وقد اطلق على هذا الأسلوب عبارة "أسلوب القدماء من المسلمين"، أي اولوية الحقيقة والاجتهاد لا التبجح الفارغ بتقليد الأئمة. وبما انه لا شافعي ولا حنفي ولا مالكي في العصر الأول للإسلام، لذلك لا مرجع مطلق يمكنه أن يستعيض عن الاجتهاد الشخصي تجاه القضايا والأمور المتغيرة. لقد سعى الغزالي للبرهنة عل أن النبي محمد نفسه طالب الجميع بإعمال الفكر بالقضايا المستجدة. وبالتالي ليست تجربة القدماء سوى أحد نماذج تجربة التعامل الحر في البحث عن الحقيقة. بل نراه يصل في إحدى درجات التحدي من أجل الاستقلال والدفاع عن حرية التفكير، بعد أن وجّهوا له الانتقادات على مخالفته لمذاهب الأصحاب المتقدمين والمشايخ المتكلمين وعدوله عن مذهب الأشعري إلى الدرجة التي يقول فيها في (فيصل التفرقة) "استحقر من لا يحسد ولا يقذف، واستصغر من بالكفر أو الضلال لا يعرف" [17].

لقد وضع الغزالي هنا من جديد معياراً لحرية التفكير في اتباع الحقيقة دون الألقاب. فهو يحارب "عماية التقليد" ويدعو "للتعطش إلى الاستبصار"، ويصرّح بأن من يضع حد التكفير على أساس الخلاف الفكري لأي مذهب كان من المذاهب، فليس هو في نهاية المطاف سوى "غرّ بليد قيّده التقليد. فهو أعمى من العميان"[18]. ويكشف انتقاده اللاذع ضد احتكار الحقيقة من أي طرف كان عن جرأته وحرية تفكيره الواسعة. لقد أكد على واقع "مخالفة الباقلاني للأشعري في صفة البقاء لله. وماذا ترتب على ذلك؟ ولماذا يمكن أن يكون أحدهما أولى بالكفر من غيره؟ ولم صار الحق وقفاً على أحدهما دون الآخر؟ فإذا كان الاعتبار للزمن والأقدمية فقد سبقت المعتزلة الاشعري"[19]. لقد حاول الغزالي بذلك الكشف عن ضعف أساس الحكم التقليدي وافتقاده لمعيار الموقف من الحقيقة كما هي، وبالتالي كشف عن تهافت الأحكام والقناعة التقليدية. ولم يقصد بذلك تخطئة الاشعري أو تفضيل الباقلاني، بقدر ما انه يوجه أفكاره للدفاع عن حرية التفكير والحقيقة. فالأخيرة لوحدها هي معيار ذاتها. وهي الوحيدة التي تمتلك حق الوجود وتستلزم الدفاع عنها. لقد حاول الغزالي هنا تذليل أسس الاتهام الفكري المبني على التقليد. فالخلاف حول قضية ما لا يعطي الحق لأحد دون الآخر. وبالتالي لا ينبغي للاختلاف الفكري أن يشكل أساساً للاتهام العقائدي. فالحقيقة كيان قائم بحد ذاته لا يتحدد بالماضي. على العكس! إن الجديد لا يظهر إلا مع الزمن الجديد، ولا معنى لتقييد حرية التفكير باسم الزمن (الماضي). فالزمن ليس من بين عناصر الفكرة – الحقيقة. إنه أساس وجودها ووجود الذات المفكرة. وقد جعلته هذه المقدمة يهاجم، بل و"يكفّر" المكفرين التقليديين أنفسهم. إذ نراه يؤكد على أن من "جعل الحق وقفاً على واحد من النظار فهو إلى الكفر والتناقض أقرب"[20]. لهذا أيضاً يمكن أن نفهم بواعث تلك الصيغة الصارمة التي بدأ بها في كتاب (الإملاء على اشكالات الإحياء) في رده على أولئك الذين نسبوا كتبه (الإحياء خصوصاً) إلى الضلال وحاربوا قراءته واتهموه بالزيغ في الشريعة عندما شدد على تقليديتهم المتحجرة. فهو لم يجد في تلك الهجمة ضده سوى هجمة "شركاء الطغام وأمثال الانعام وإجماع العوام وسفهاء الأحلام وذعار أهل الإسلام"[21]، أولئك الذين حجبوا عن الحقيقة بأربع، الجهل، والإصرار، ومحبة الدنيا، وإظهار الدعوى"[22]. أننا نقف في الواقع أمام نفس الصيغة الجوهرية لمحاربة التقليد والدعوة للاستقلال الفكري. فليست الحجب الأربع هنا سوى حجب التقليد المجزأة. ولم يفتأ الغزالي يدافع عن حرية التفكير ورفض التقليد حتى آخر حياته. ومن الممكن الاستشهاد بتلك الحوادث التي تشير إلى محاولات استفزازه وجرّه للجدل. فعندما اضطر إليه مرة بفعل تذكير المناهضين له بتراثه الفقهي السابق عندما حارب وهاجم النعمان أبو حنيفة ودافع عن الشافعي، بإحراجه المباشر بطريقة الفقهاء الماكرة بالسؤال على مذهب من هو؟ أجاب "أما في المعقولات فعلى مذهب البرهان وما يقتضيه دليل العقل، وأما في الشرعيات فعلى مذهب القرآن. ولا أقلد أحداً من الأئمة. فلا للشافعي عليّ خط ولا لأبي حنيفة عليّ سند"[23]. لقد أراد الكشف عن إتبّاعه الدائم للشعار القائل "معرفة الرجال بالحق لا الحق بالرجال".  وهو ما يمكننا العثور عليه أيضاً في نظريته التربوية عن التعليم، عندما أشار إلى أهمية التدريس ضمن إطار حديثه عن وظائف المعلم. فهو يجعل من مهمة محاربة التقليد والمساهمة في صنع الذهنية المستقلة، من بين أهم وظائفه. ويؤكد في الوقت نفسه على ضرورة عدم ترك أي فن من فنون العلوم، أو نوع من أنواعه إلا ونظر فيه نظراً يطلع به على غايته ومقصده وطريقه. بمعنى ضرورة الاطلاع المتفحص المبني على أساس الممارسة الشخصية المستقلة[24]، والمتميزة باحترام المعلم والعلم كل في اختصاصه، مع التكامل في ميدان العلم المعني. لهذا حذّر قائلاً: "نعوذ بالله من نصف متكلم ونصف طبيب. فذاك يفسد الدين وهذا يفسد الحياة الدنيا"[25]. لقد أدرك الغزالي قيمة المثال الحق ونبذ أنصاف المتعلمين أيا كانت الصورة الشائعة عنهم. بمعنى أنه لا يمكن للقيم الاجتماعية ومثالها الشخصي أن تتبلور وتبرز بصورتها المستقلة، إلا في ميدان التجربة الشخصية والبحث عن الحقيقة كما هي.

***

ا. د. ميثم الجنابي

...........................

[1] الغزالي: المنقذ من الضلال، ص100-101.

[2] الغزالي: المنقذ من الضلال، ص92.

[3] الغزالي: تهاف الفلاسفة، ص73.   

[4] الغزالي: تهافت الفلاسفة، ص74.

[5] المصدر السابق، ص74.

[6] الغزالي: ميزان العمل، ص21.

[7] الغزالي: المنقذ من الضلال، ص112-113.

[8] الغزالي: ميزان العمل، ص42.

[9] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص40.

[10] المصر السابق، ص41.

[11] المصدر السابق، ص284.

[12] المصدر السابق، ص52.

[13] المصدر السابق، ج3، ص14.

[14] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج3، ص75.

[15] المصدر السابق، ج1، ص78.

[16] المصدر السابق.

[17] الغزالي: فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة، ص32.

[18] المصدر السابق، ص39.

[19] المصدر السابق، ص40-41.

[20] المصدر السابق، ص44.

[21] الغزالي: الإملاء في إشكالات الإحياء، ص13.

[22] المصدر السابق.

[23] الغزالي: فضائل الانام من رسائل حجة الإسلام، ص46.

[24] الغزالي: ميزان العمل، ص113-117.

[25] المصدر السابق، ص127.

 

في المثقف اليوم