دراسات وبحوث

المثال الشخصي للحقيقة عند الغزالي

ميثم الجنابي"اختلاف الخلق حكم ضروري أزلي"

(الغزالي) 

لم يعنَ الغزالي بالمثال الشخصي كياناً ما قائماً بحد ذاته وإلا لكان ذلك استبداداً مبطناً ومؤنسناً للنزعة التقليدية ذاتها ولكن في أشد حالاتها وأشكالها ضرراً وتدميرا. فمساره الفكري هو مسار الشخصية الباحثة عن الحقيقة. وبالتالي لا يختلف بهذا الصدد عما هو مميز لرجال الأصالة والإبداع. غير أنه لم يجعل من شخصه مثالاً ولم يحوّله إلى جزء من معترك التقليد الأعمى. لقد بحث عما يمكنه أن يكون تآلفاً بين أصالة الثقافة الإسلامية في مبادئها الكبرى وإبداعها الحر في البحث عن الحقيقة، بوصفه التجسيد الممكن للحقيقة في شخصه. لهذا لم تعن الاستقلالية الشخصية ورفض التقليد في آرائه سوى ضرورة تحكيم العقل من أجل بلوغ الحقيقة. ولا يعني ذلك في الوقت نفسه تجذير مفهوم وسلوك العندية المعرفية الصرف. فهو يدرك حقيقة كون "لا خاصة إلا بعامة"[1]، أي إدراكه للترابط الوثيق بين المثال ومصدره من حيث قيمته الاجتماعية والتاريخية، على الأقل في مجال علاقتهما المتبادلة. رغم أنه نظر إلى هذه العلاقة بمستويات مختلفة ومن زوايا متباينة. ففي الوقت الذي يرفض فيه تقليدية الوعي وبالأخص صيغته عند العوام، فإنه أقرّ به كواقع من الصعب تجاوزه. لهذا رأى ضرورة التعامل مع العوام بالقدر الذي تحتمله عقولهم. وضمن هذا السياق يظهر ما يمكن دعوته بالتأييد الخفي للتقليد. إلا أن هذا التأييد الخفي للتقليد ينبغي فهمه ضم اطار ما ندعوه الآن بالصيغة الأيديولوجية. فقد أدرك الغزالي الطابع الأيديولوجي لموقفه في هذا المجال، كما سنوضحه لاحقاً على مثال موقفه من علم الكلام.

إذ نراه يؤكد، بما في ذلك حالما يتكلم عن ضرورة التقليد، على أهميته بوصفه وسيلة الترابط الضرورية في الوعي والممارسة، إلا أنه ينقلها إلى مستوى المثال. وبالتالي ليس التقليد هنا سوى الاحتذاء بالقدوة. وبهذا المعنى يكف التقليد عن أن يكون محجّراً للوعي والممارسة. فالنبي محمد والصحابة هم مثال لا يفقد أهميته في نظر الغزالي. وبالقدر الذي يصبح من الضروري تتبع هذه القدوة في الممارسة، فإنه يدعو في آن واحد لتأمل ما أسماه بسرّ الكلمات والأفعال القديمة ورفض التقليد الأعمى، استناداً إلى ضرورة إدراك الفارق بين الشخصية والمضمون. فعندما يشير على سبيل المثال، إلى أهمية فضيلة العفة حال تكلمه عن الجماع وضرورته ومعقوليته من أجل ألاّ يتحول إلى سلوك بهيمي صرف، فإنه يرفض تحويل ممارسة النبي محمد إلى مثال يقتدى به من كل ما هبّ ودب! فهو يؤكد على الطابع السلبي الاجتماعي والأخلاقي للتتبع التقليدي لمثال النبي محمد، بسبب التباين الكبير فيما بينه وبين مقلديه. فمن ظنّ "أن ما لا يضرّ صاحب الشرع لا يضرّه، كان كمن ظن أن من لا يغيّر البحر الخضم ماء النجاسات لا يغيّر كوزاً مغترفاً من ماء البحر"[2]. فرفض هذا التقليدي العملي هو رفض يستند إلى استيعاب عميق وضروري لأهمية المضمون العملي الأخلاقي للظاهرة. ولهذا يمكن أن نفهم لماذا اعتبر التقليد دنساً، وطالب المرء بأن يكون "نظيفاً من دنس التقليد"[3].

إن هذا التناقض الجزئي القائم في آرائه هو نتاج ثقافة المرحلة ونمط حياتها العام. وفي الوقت نفسه هو النتاج العرضي الملازم لكل تآلف فكري كبير. إذ لا يمكن فهم طبيعة هذا التناقض في آرائه إلا بالارتباط مع ظاهرة تقاليد العوام والخواص في الفكر الإسلامي، التي هي بدورها حصيلة تداخل معقد للعلاقات الاجتماعية الاقتصادية، والفئوية المهنية، والتعليمية التخصصية، والنفسية المعرفية، وتجزئة التكامل الثقافي، وتناقض التطور المعرفي الاخلاقي والحضاري ككل. وفيما لو توخينا حقائق الأمور، فإن هذا النمط من التفكير والممارسة مازال من حيث الجوهر سائداً في الثقافة المعاصرة. أما إلى أية مرحلة ستستمر وإلى أية كيفية ستؤول فتلك قضية يمكن تركها للمستقبل. إلا أن بعض عناصرها ستظل قائمة بالضرورة. وقد مارس الغزالي ودعا إلى تقاليد ثنائية النخبة والعوام ولكن لا من منطلق الادانة والاستهانة بالعوام، بل من منطلق الرأفة والنظر "بعين الرحمة". ولا معنى هنا للبحث عما إذا كانت هذه الرأفة والرحمة ضروريتين أم لا، مازالا هما لا يعنيان في آرائه الاستهانة بالعوام أو عدم القناعة بمساواة الجميع. فالتاريخ يصنع في مجرى تطوره قيماً وممارسات ليست متشابه من حيث الشكل والمضمون. وإلا فإنه لا جديد ولا قديم ولا حركة ولا جمود. فالتطور الاجتماعي والتاريخي والفكري يرفض في بعض مظاهره ضرورة الوحدة، بينما التناقض هو شكل تجليها الضروري. وليست ضرورة الرأفة والنظر بعين الرحمة سوى التجلي الأكثر عمقاً لتطوير وعي الذات الإنساني في وحدته الأخلاقية من خلال رؤية التناقض الفعلي بين المثال والواقع. وعندما يتخذ هذا التناقض صيغة القناعة الذاتية والعقائدية عند العوام،  فليس أمام المفكر آنذاك سوى صياغة المثال بأسهل أسلوب من أجل جعله مقبولاً، دون أن يعني ذلك مطابقة هذا المثال مع مثال الحقيقة المجردة. فقد كان الغزالي من بين الشخصيات التي سلكت هذا الطريق، أي أنه كان يدرك القيمة الاجتماعية والسياسية والأخلاقية لأكثر فكاره تجريدا. من هنا يمكن فهم سبب محاربته للتقليد في مستواه الفكري العقلي المجرد، وتأييده إياه في مجال الموقف من العوام. فالعامة لا تستطيع إدراك كافة الحقائق أو أعماق الحقائق. ولم يقصد الغزالي بذلك زرع أو إثارة شعور الاحباط تجاه العامة أو عندها، بقدر ما انه يشير إلى ظاهرة تاريخية واقعية. لهذا السبب يحذر من "إبداء التصريح بتأويل لم تصرّح به الصحابة"[4]. وهي ذات الأفكار التي سيكررها في آخر مؤلفاته المكتوبة للعوام. فهو يبرز هنا من الناحية الظاهرية كمتمسك شديد بتراث التقليد. إذ نراه يردد في كتاب (إلجام العوام عن علم الكلام) من أن أفكار السلف هي الحق بصدد  القضايا "الكلامية" المتعلقة بالتقديس، أي تنزيه الله من الجسمية، والتصديق أو الإيمان بما قاله النبي وعلى الوجه الذي قاله وأراده، والاعتراف بالعجز، اي الإقرار بأن معرفة مراده ليست على قدر طاقته، والسكوت، أي أن لا يسأل في معناه والسؤال بدعة، والامساك، أي لا تصرّف في تلك الألفاظ بالتصريف والتبديل بلغة أخرى، والكفّ، أي يكف باطنه عن البحث والتفكر فيه، وأخيراً التسليم لأهل المعرفة، أي أن لا يعتقد أن ذلك خفي عليه لعجزه فقد خفي على رسول الله[5]. ولا يمكن فهم حقيقة هذه الصرامة عنده، والتي تقمع كل تصرف حر للتعامل مع النصوص وبالتالي إعادة صنع آلية الهيبة التقليدية، إلا ضمن سياق فكرته عما أسماه بالنظر بعين الرحمة للعوام، إضافة إلى طابعها المشروط بالوظيفة الاجتماعية والسياسية العملية. فما وضعه في (الجام العوام) لم يكن موجهاً ضد تصورات العوام الحشوية والمشبهة بل لرفع هذه التصورات الى درجة أكثر عقلانية. فالتفسير اللاحق الذي يقدمه لمفاهيم "أفكار السلف" هي تفسيرات مقبولة من جانب عقل العوام. فقضية الاعتراف بالعجز لا تعني رفض أية إمكانية للمعرفة بالنسبة للعوام، بل لإقناعها بأن مفهومها عن فكرة "الكيفية المجهولة" لله لا يعني سوى "أن تفصيل المراد به غير معلوم"[6]. وأن السكوت لا يعني كمّ الأفواه بقدر ما يعني ضرورته المرتبطة بمستوى الناس المعرفي. إذ أن عجز الصبي كما يقول الغزالي، عن الاغتذاء بالخبز واللحم لقصور في فطرته لا أن الخبز واللحم مضران[7]. وترتبط بهذه القضية مسألة أخرى سبق وإن بلورتها تقاليد الصراع العقائدي والأيديولوجي بين الفرق، والتي اعتصرت ذاتها بالشكل الذي أصبح معه ممكناً الحديث عن افتراق وتباين الأمة الإسلامية وإمكانية تمثيلها الحقيقي. ولم يكن بإمكان الغزالي أن يخرج كلياً أو يتجاهل هذه التقاليد. لكنه بالاختلاف عنها يعطي لهذه الفكرة طابعاً عقلانياً بحيث يصبح معه افتراق الأمة الإسلامية إلى فرق متباينة ضرورة مرتبطة بتباين مستوى الوعي والإدراك، بينما يعطي للممثل الحق (الفرقة الناجية) طابعاً اجتماعيا وأخلاقياً ومعرفياً وميتافيزيقياً. إذ لا يمكن فهم حقيقة أجوبة الغزالي على الفكرة القائلة بانقسام الأمة الإسلامية إلى ثلاث وسبعين فرقة الناجية منها واحدة خارج الأثر الفعلي للحديث ووظيفته في الفرق الإسلامية بعد تحوله إلى "بديهة نظرية". فالحديث الذي شاطرته مختلف مناهج علم الملل والنحل الإسلامي، حال انتقاله إلى ميدان الصراع الكلامي العقائدي، كفّ عن أن يكون "منطلقاً نظريا". لقد تحول إلى وسيلة الاتهام والأدلجة، أي أنه لم يمتلك هذه القيمة إلا بالدرجة التي أصبح فيها وسيلة للضغط العقائدي بيد الاتجاهات السنية المتشددة. وهذا ما يفسر غياب هذا الحديث، أو بصورة أدق شحة وروده وقيمته عند المعتزلة والفلاسفة والمتصوفة والشيعة. وإذا كان الحديث قد حصل على صيغة الأمر الواقع في الكتابات الإسلامية، فإن المهمة تقوم في معرفة المضمون الواقعي له في الاتجاهات والمدارس الإسلامية.

فالاتجاهات الإسلامية القائمة آنذاك كل منها على حدة وبأجمعها، اعتبر نفسه الممثل الوحيد للحق والفرقة الناجية. وهي الصيغة التي يصعب توقع خلافها في عالم مشحون بالصراع والسعي نحو السكينة والاطمئنان. وقد سار الغزالي ظاهرياً في هذا الاتجاه بقدر مخاطبته العوام، أي أنه لا يتعدى بما في ذلك في آخر كتاباته للعوام (إلجام العوام) عن أن يكرر فكرة "خير الناس قرني ثم الذين يتلونهم ثم الذين يتلونهم"، أي الفكرة المنسوبة للنبي محمد، تماماً كما هو الحال بالنسبة للحديث المتعلق بافتراق الأمة الإسلامية إلى فرق عديدة. لكنه وضع هذه الفكرة في إطار استثارة الوعي الاجتماعي والأخلاقي، والنظر إلى حقيقة الماضي من أجل تطوير وعي الذات. لقد أدرك الغزالي البون الشاسع بين الجوانب الاجتماعية الأخلاقية والجوانب المعرفية. وإذا كان بإمكان الأول أن يحتوي على بعض تجليات المطلق، فإن جوانب المعرفة لا يمكن أن تكون تقليداً صرفاً، لأن التقليد كما يقول الغزالي جهل بحقيقة "الأفعال الإلهية" غير المتناهية.

ومن هذا المنطلق، تعامل مع حديث افتراق الأمة. ففي (فيصل التفرقة) يورده على سبيل المثال بثلاث صيغ متباينة فيما يتعلق بحكم الحديث "العقائدي". الأول بصيغة "الناجية منها واحدة"، والثانية "الهالكة منها واحدة"، والثالثة "كلها في الجنة إلا الزنادقة"[8]، أي نفس الآراء التي وضعها في كتاب (الإملاء)[9]. فاذا كان الغزالي في (فيصل التفرقة) يحاول تفسير مضمون الفرقة الناجية، ففي (الإملاء) يقف بالضد من تكفير الفرق، أي أنه في كلتا الحالتين يبرز كممثل عنيد لمعارضة التقليد، بغض النظر عن مستوياته. فمعنى الناجية هي التي "لا تعرض على النار ولا تحتاج إلى الشفاعة"، أي تلك التي يمثلها هو. وليست هذه الصياغة في الواقع سوى التعبير الأخلاقي اللاهوتي عن المستوى المعرفي الصوفي. أما الصيغة الأخرى (الاجتماعية والأخلاقية) فهي التي تظهر  بهيئة السلب، أي الفرقة الهالكة، التي لا يمكنها إلا أن تكون واحدة، وهي الخالدة في النار. وإن معنى الهالكة هنا هي عبارة "عمن وقع في اليأس عن صلاحه"[10]. وحالما يطبق الغزالي هذه الفكرة على أمته الإسلامية، تصبح هذه الفرقة الهالكة تلك التي "جوّزت الكذب على رسول الله بالمصلحة"[11].

إننا نقف أمام صيغة راديكالية في موقفها من التكفير والتقليد وحرية الفكر والادلجة العقائدية المذهبية، التي أصبحت الحقيقة رهن مصالحها السياسية والاقتصادية. فليست الهالكة هي التي يمكن أن تخطئ في بحثها عن الحقيقة، بل تلك التي توظّف "الحقيقة" لمصالحها. وسوف يضع الغزالي ويحل هذه القضية في الاطار الأوسع والميدان الأعمق لها، أي في إطار علاقة العلم بالاعتقادات، والحقيقة بالمصلحة. ومن المهم الآن الاشارة إلى فكرته واستنتاجه القائل بضرورة اسقلالية الحقيقة عن الخضوع للمصلحة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية العابرة والضيقة، التي تصنع وتعمّق أساليب التبرير وتجعل من التزييف والادلجة معيار الحقيقة. ولا يمكن لهذه الوحدة أن تتم دون التتبع التقليدي الصرف لقدسية الكلمة المذهبية في أشخاص أئمتها. وقد تناول هذه الظاهرة وكشف عن حيثياتها في (المنقذ)، أي الحالة التي وجد نفسه فيها منذ بداية الأمر، عندما وقف أمام ظاهرة التباين الشاسع عند البشر في الأديان، ثم اختلاف الأئمة في المذاهب على كثرة الفرق وتباين الطرق[12]. وكذلك في الحالة التي دعاها بالبحر العميق الذي غرق في لججه الكثيرون، بفعل تلك الحالة التي جعلت كل منهم يخضع لقناعة النفس التقليدية، بحيث يصبح كل بما لديهم فرحون. وهي الحالة التي وعد بها النبي كما يقول الغزالي "بحيث كاد ما وعد أن يكون"[13].

وفيما لو طرحنا جانبا "كاد ما وعد أن يكون"، فإن الغزالي يكشف من خلال تتبع اختلاف الفرق الإسلامية، وحدة التطور الفكري في تباينه، بوصفها الخلاصة التي أصبح البحث فيها عن الحقيقة، هو حقيقة التطور ذاته وحقيقة الفرقة الناجية. فليست الأخيرة سوى تلك التي تجسّد في ذاتها وحدة العلم والعمل. وإذا كان هو لا يشير إلى المتصوفة بعينها، فإنه كان يقصدها، باعتبارها التجلي الجديد لما مضى. وذلك لأن الحديث النبوي يؤكد على ما هو عليه الآن. وليس الآن سوى الوجود الدائم. وهي القيمة الفعلية "الخالدة" بالنسبة للصوفي. إنها الحالة التي سيشدد عليها لاحقاً بوصفها مصدر المعرفة والسلوك المتلازمين في سعيهما نحو الكمال الأخلاقي، أي كل ما سيطوره في آرائه عن ضرورة الكمال الأخلاقي المعرفي للانسان والتخلّق بأخلاق الله، أو علاقة الإنسان بالمطلق، والتي تتضمن بحد ذاتها على أغلب عناصر رفض التقليد. وقد قدّم في (المقصد الأسنى) على نموذج "الأسماء الإلهية" الأمثلة المطلقة، التي يمكن وينبغي للإنسان أن يستمد منها ما هو مناسب له من أجل بلوغ المطلق (الأخلاقي). فهي العملية المعرفية الأخلاقية والفلسفية الصوفية، التي تجعل من فكرة التقرّب الصوفية المضمون الاجتماعي الأخلاقي والفلسفي للتقرب من الحق (الله) بالصفة لا بالمكان. فهي الممارسة التي ينبغي أن تحوله إلى أن يكون ربانياً باكتشافه الصيغة الإنسانية للصفات الإلهية، أو وحدة المطلق والنسبي، غير المتناهي والمتناهي في الوجود والوعي الإنساني. وقد صاغ الغزالي هذه الفكرة بعبارة "اتقاد الباطن واشتعال القلب وإنفساح الصدر بنور اليقين والمعرفة والعقل[14]. وهي العملية غير المتناهية للمعرفة التي لا يمكن أن يكون مصدرها ومحركها وغايتها سوى المطلق، وبالتالي فأية حركة إلى الأمام هي نقض مباشر للتقليد. إذ ليس التقليد سوى مثال الماضي بصورة المستقبل. لهذا حالما تكلم عن الاسم الإلهي (الجبار) الذي ينفذ مشيئته على سبيل الاجبار في كل واحد ولا تنفذ فيه مشيئة أحد، فإن مثاله وصيغته الانسانيين يقوم في تأسيس وتطوير الشخصية التي "ترتفع عن الاتباع وتنال درجة الاستتباع… بحيث يجرّ الخلق بهيئته وصورته على الاقتداء به ومتابعته في سمته وسيرته"[15]. وليس هنا من دعوة للتقليد "المتسامي"، وذلك لأنه يوجه الدعوة للجميع وفي الوقت نفسه يقدم المثال العملي للإتباع والتقليد وليس الصورة الفكرية، أي مثال القدوة في سعيه الدائم لتجسيد المطلق المجرد بإحدى صيغه العملية الملموسة. ولم ينظر إلى ضرورة اتباع المثال الملموس للمطلق في الممارسة الاجتماعية والأخلاقية نظرته إلى علاقة الحي بالجماد، بل إلى علاقة الحي بالحي. ونعثر على ذلك، على سبيل المثال، في موقفه من الاسم الآلهي (المتكبر). فالمتكبر الإنساني هو الزاهد العارف. وإن معنى زهد هذا العارف هو أن يتنزه عما يشغله عن الحق ويتكبر على كل شيء سوى الحق[16]. وقد تبلورت هذه الأفكار عند الغزالي اساسا على توليف تطور الفكرة العقلانية وأثر التجربة الصوفية وصراعه الفكري السابق، وبالأخص ذاك الذي خاضه ضد الاتجاهات الشيعية الشعبية والتقليدية، كما هو جلي في موقفه من الباطنية وفكرتها عن العصمة.

فالغزالي لا يرفض الامكانيات الكبيرة التي يمكن أن يتمتع بها الإنسان المفكر حالما يبلغ مرتبة النظر إلى الأشياء بالله ولله وفي الله. وحتى في هذه المرتبة فإن الإنسان يعبّر عن مستوى محدد من إدراك الحقائق دون حمل صفة العصمة. إذ لا عصمة لأي إنسان. ومن هنا ليست فكرة الإمام المعصوم سوى تقليد الابوين. وبهذا المعنى لا خلاف بينها وبين فكرة التقليد في إيمان العوام من اليهود بيهوديتهم، والمجوس بمجوسيتهم والنصارى بنصرانيتهم والمسلمين بإسلامهم[17]. بصيغة أخرى إن الغزالي بمحاربته مفهوم العصمة أراد فسح المجال أمام حرية العقل المستند بحد ذاته إلى عدم تناهي المادة المعرفية ومحدودية الذات الإنسانية المعرفية والتاريخية. من هنا رفضه واستهزاؤه بمفهوم الرجوع إلى الإمام المعصوم بصدد القضايا المعروضة للجدل أو الحل، أي ينبغي للمرء أن "يحكّم عقله" في حل هذه القضية أو تلك[18]. فالمعرفة لا  تتحدد بالرجال أياً كانوا، مازال موضوعها هو "الفعل الإلهي" غير المتناهي. إذ لا يمكن للكلمة أن تكون المعيار الحقيقي أو النهائي للمعرفة. وقد حاول الغزالي التعبير عن ذلك بصيغ مبسّطة في (القسطاس المستقيم)، والذي أراد أن يجعل من "ميزانه" وسيلة عقلنة ومنطقة التعامل مع النصوص في تأويلها. فالمنطق بفعل استقلالية أحكامه وتجريديته العامة يصبح رفيقاً للقرآن بالصيغة التي عبّر بها الكتاب في إحدى آياته "لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط"، أي تلك المعرفة التي لا يمكن أن تكتفي بهيبة المرء وإلا فإنها لا تساوي المعرفة بشيء. إنها يمكن أن تعادل من حيث طريقة تأثيرها تأثير السحر والشعوذة، في حين أن معيار المعرفة الحقيقي هو "التجربة والإمتحان"[19].

إن هذه العقلانية الصارمة التي نعثر عليها عنده بما في ذلك في آخر مؤلفاته تعطي لمحاربة التقليد في منظومته أساساً جوهرياً، ولتصوراته عن ضرورة التباين الفكري قيمة الفضيلة. فهو لا يقف عند حدود الإشارة للـظاهرة كما هي رغم أهميتها من حيث ملاحظة المصدر الواقعي لأحكامه. فالملاحظة التاريخية للصراعات الاجتماعية والسياسية والفكرية تبرهن على أنه لم يستطع سد الخلافات لا الأنبياء ولا الأئمة ولا حتى الميزان (القسطاس المستقيم) أو المنطق. ولعل الغزالي أدرك الأسباب الاجتماعية والسياسية والمصالح المادية للخلافات الفكرية، التي يصبح المنطق وسيلتها أيضاً. فهو يشير في معرض ردّه على الباطنية من أن أئمة الشيعة أنفسهم كانوا مصدراً لخلافات ابتداءً من علي بن أبي طالب. وهي "اختلافات لا تنقطع أبد  الدهر"[20]. وبغض النظر عما إذا أدرك الغزالي الوحدة الداخلية للعوامل الاجتماعية والسياسية والعقائدية في استعادة وإعادة إنتاج الفكر التقليدي، فإنه أشار في الاطار العام إلى المصدر الذي لم يحسم ولم يكن بإمكانه أن يحسم الخلافات الفكرية. من هنا يمكن فهم خصوصية التناقض النسبي بين إدانته للتقليد وضرورته النسبية، أي أنه يرفض التقليد من حيث الجوهر، ويمجّد الإبداع الحقيقي فيه. من هنا الصياغة الفلسفية للحكم الدقيق الذي وضعه في (القسطاس) والقائل بأن "اختلاف الخلق حكم ضروري أزلي"[21].

 بصيغة أخرى إنه يفرّق بين التقليد والمعرفة الحقيقية. فعندما يتكلم عن حقيقة الفكر، فإنه ينظر إلى التقليد بوصفه لا معرفة لأن "معرفة" كهذه تبنى على أساس تقبّل "الحقيقة" المعطاة لها بينما المعرفة الحقيقية غير ممكنة دون التجريد والاستنتاج المبني على أساس الاستنباط والتحليل الذي يأخذ بنظر الاعتبار معطيات الواقع الجديد، أو كما يقول الغزالي إحضار معارف قديمة لاستثمار معارف جديدة[22]. غير أن ذلك لا يعني بأنه يقف على الدوام بالضد من أية فكرة تقليدية. فهو يدرك الأهمية النسبية للتقليد وضرورته من حيث كونه مقدمة ووسيلة نقل المعلومات واستمرارية المعرفة. إذ ليس كل تقليد بحد ذاته خاطئ. فالخطأ بنظره، يقوم عندما يصبح التقليد وسيلة المعرفة الأساسية وأسلوب بلوغها الرئيسي.

لقد وقف الغزالي بالضد من لجم لانهائية المعرفة، التي تعيق استقلال البحث باسم التقليد الأعمى للأفكار أياً كان ممثلها ومحتواها. وبنى فكرته هذه على أساس أطروحته القائله بعدم تناهي "الأفعال الالهية". فتتبع المعرفة لظواهر الوجود لا يمكن أن يؤدي بها إلى التناهي. وعندما يطبق هذه الفكرة على إحدى القضايا الجوهرية لعصره وهي قضية الموقف من الشرع والسنّة، فإنه يربط في كل واحد نسبية القدوة والتجديد، اللاتقليد والتأييد، من خلال إبراز أولوية اللاتقليد والتجديد. فعندما يناقش، على سبيل المثال، مسألة الموقف من تراث الإسلام الأول المتمثل بنشاط النبي محمد والصحابة وضرورة الاقتداء بهم وإتباع السنّة، فإن من الصعب فهم حقيقة آرائه دون نزع الصيغة الظاهرية المباشرة والمتبلورة والمصاغة في تقاليد الظاهر والباطن، والعوام والخواص. رغم كونه لا يضع تعارضاً قاطعاً بين هذه الجوانب. فعندما يؤكد على أن "الإتباع ضروري" من الناحية التاريخية العملية، فإنه في الواقع يتبع تقاليد الصياغة الإسلامية في مستواها الظاهر والمباشر، أي ما نعثر عليه في العبارة القائلة، بأن "السلامة في الإتباع والخطر في البحث عن الأشياء والاستقلال"[23]. فالغزالي لا يطابق هنا بين مفهومي السلامة والحقيقة أو الخطر والخطأ. بمعنى أن ما يضعه هنا هو مجرد صيغة ارشادية للعوام في إحدى وظائفها الاجتماعية والأخلاقية والعقائدية (العادات والعبادات)، دون أن يعني ذلك تحولها إلى شعار عملي للشخصية المفكرة. لقد حاول تقديم صيغة مبسطة لتقييم الماضي من خلال إدراك أهمية وجوهرية ما فيه.

فالغزالي في تصويره لإسلام الدعوة والرسالة وعقود الخلافة الراشدية لم يسع في الواقع إلا لإظهاره كمثال يحتذى. انه سعى لتحويل الطابع الملموس والمشّذب للماضي إلى معيار ومحك للمقارنة المعاصرة. إنه سعى لانتقاد العالم المعاصر له مقارنة بمثال "واقعي" في الوعي الاجتماعي الأخلاقي والسياسي والروحي، باستعادة رسم صورته وصنع نموذجه الجذاب. إلا أنه لم يفتأ مع ذلك عن تكرار تأكيده الدائم بضرورة الفهم الجديد والاستيعاب المعاصر للماضي. ففي إجابته على السؤال المتعلق فيما إذا كان الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، يربط في كلّ واحد تاريخية الفكرة السلفية ومضمونها وضرورة استيعابها المجدد. انه يؤكد على أن فكرة السلف الصالح هي الحق، ولكنه يضيف في الوقت نفسه قائلاً "أما الشأن ففي فهمه"[24]. ولا ينبغي فهم هذه الصياغة على أنها هروب أو محاولة للتلفيق المصطنع. فهي تمتلك دون شك، أساسها وقناعاتها الخاصة. إنها تستند إلى ما يمكن دعوته بالتقليدية العقلانية كعنصر من عناصر موقفه من تراث الماضي.

وعموما يمكننا القول، بأن التعارض النسبي بين النزعة التقليدية والعقلانية هو نتاج الصيغة الشكلية في التفكير والتقييم. اما في الوقع، فان التقاليد العقلانية ترتبط على الدوام بخيوط لا تحصى فيما بينها وبين التقليدية الصارمة. أما الغزالي فقد سعى لحل إحدى القضايا الجوهرية في الفكر والثقافة الإسلامية آنذاك. ونعثر على ذلك في رؤيته وفكرته عن الإصلاح والتجديد بوصفها إحدى صيغ "التقليد" الضرورية للماضي، والتي تعادل معنى الابقاء على شعلة الحقيقة في مجرى التطور والتبدل والتغير. فإذا كان الإنسان لا يستطيع التخلص من أثر التقليد بوصفه الأسلوب المستتر لصيرورة كيانه الوجودي وكينونته الروحية، فإن مظاهره في الوعي وانعكاسه في السياسة والحياة الاجتماعية كان يشكل عصب الحوافز المقلقة والمثيرة للروح الإصلاحي. ومساهمة الغزالي بهذا الصدد تقوم في إبداعه أحد النماذج الكبرى والعميقة المؤسسة لوحدة الماضي والحاضر والمستقبل، والأخلاق والحقيقة، للقيم والعقل فيما يتعلق بتأمل الماضي وما فيه.

لقد  أدرك الغزالي مهمة الرجوع الدائم للماضي. لهذا ما كان بإمكان هذه الصيغة الواعية لإدراك جوهرية الصلة بالماضي ألاّ تتضمن الكثير من عناصر العقلانية المجردة. أما في منظومة الغزالي الفكرية، فإنها شكلت أيضاً ميزان ربط الماضي بالمستقبل. إنها لم تفسح المجال أمام الانغماس الكلي في الماضي، ولم تترك المجال سائباً أمام ثورة الروح الوجداني. بمعنى أنه حاول تمثيل المسار الموضوعي الوسطي، أو التوليفة التي اتخذت في تصوراته وأحكامه صيغة المثال المطلق للواقع والمستقبل.

كل ذلك يساعدنا على إزالة الالتباس في "تناقضات" الغزالي، التي تبدو للوهلة الأولى بين دعوته الحارة للرجوع إلى الماضي وبين رفضه نتاج "علماء السوء".  فوحدة الرجوع إلى الماضي ورفض النتاج العصري ما هو في الواقع سوى المقدمة الضرورية للفكرة الجريئة التي يصوغها عن حتمية الإصلاح الدائم ووجوبه. فالاتفاق العام بين وجهات النظر المتضادة بين من أيد الغزالي وعارضه تقوم في تجاهل أو عدم معرفة الطريق الخاص لتطوره الفكري والروحي. فإذا كان من يعارضه يشدد على ناقضاته وتهافت مواقفه وآرائه، فإن من أيده حاول إزالة كل أثر ممكن لتناقضه الفعلية في مجرى مساره الشخصي والفكري، كما لو أن بالإمكان تصور الإبداع الكبير والهائل دون تناقضات لا تحص. إن هذا الموقف الأيديولوجي نتاج الانطباعات النفسية من حالة التناقض وتوظيفها المسطح تجاه تناقضات المفكر الكبير في مجرى تطوره الذاتي. فالانطباع العام السائد عن تناقضات الغزالي واقع لا يمكن تجاهله أو نفيه، بمعنى ان له حيثياته وأسسه التاريخية الثقافية، بل ومنطقه الذاتي الخاص أيضا. فإذا كانت محاولات ابرازها هي الصفة المميزة لصراعات العصر واختلاف الفنون والتخصص، فإن مظاهرها العديدة كما نراها في كتب الفلاسفة فقد كانت مهتمة بكشف محاولاته في ابراز تهافتهم من جهة، وتأثره بهم من جهة أخرى. أما عند الفقهاء فقد اتخذت صيغة ابراز مهاجمته إياهم وبقاءه فقيها. بينما اتخذت عند الباطنية (الإسماعيلية) صيغة نقده إياهم والتأثر بأساليبهم. وبغض النظر عما في هذه الجوانب من أهمية لفهم حقيقة المفكر الكبير، إلا أن أهميتها تكمن أولا وقبل كل شيء في اندماجها العضوي فيما اصطلح عليه بتناقضاته الخاصة. أما في الواقع فان لكل مفكر أصيل تناقضاته الخاصة باعتبارها الحالة الطبيعية الملازمة لحقيقة الإبداع. لكنها تتخذ صيغتها المشوهة حالما تنكر أو لا تعي طابعها الجزئي في منظومة الفكر المتراكمة في الإبداع الذاتي للمفكر الأصيل. فالتشابك الفعلي والمتنوع بين الأبعاد المنطقية والثقافية في مجرى تطور الغزالي هو الذي أدى إلى سوء فهم "تناقضاته". إذ نعثر فيها على حالة تناقضات العصر المنفية والمتشابكة من جهة، وطابعها الملازم لحيوية الإبداع الحر في دهاليز الفرق من جهة أخرى. اذ ليست تناقضات الغزالي في الواقع سوى التعبير الثقافي الإسلامي في أحد نماذجه الرفيعة "للتناقضات الحية"، أي أن كل تعرجات الغزالي هي أسلوبه المعرفي والإصلاحي من اجل ايقاف تيار السقوط الجارف آنذاك. لقد حاول الوقوف في بداية الأمر بكل قواه أمام تدحرج أحجار السيول الجارفة، لكنه أدرك لاحقا بأن الحل الأمثل يقوم في بناء سد المناعة الإخلافية والمعرفية التي نجد بدايتها الكبرى الأولى في (الإحياء).     

ذلك يعني، إن دعوة الغزالي للرجوع إلى المصادر الإسلامية الأولى، بما في ذلك في قضايا الفكر، لم تعن سوى إدراك الحقائق في تاريخيتها، أما رفض نتائج "علماء السوء" فمبني على أساس ضرورة الاستقلال في البحث عن الحقيقة. إذ لم يدع مجالاً للشك في هذا الميدان عندما يؤكد على أن اعتماد "علماء السوء" على الأسماء المشهورة لهم من غير التفات إلى ما عرف في الصدر الأول (الإسلامي) هو "كمن طلب الشرف بالحكمة بإتباع من يسمى حكيماً"[25]. وهو لا يتلاعب هنا بالألفاظ، بمعنى إمكانية إطلاق تسمية الحكيم على الطبيب والشاعر والمنجّم، بل يؤكد ضرورة اتباع وحدة الحقيقة الملموسة والمجردة في العمل الاجتماعي والسياسي والحقوقي التاريخي، أي أن ما هو جوهري بالنسبة له هو إدراك حقيقة ما يجري تقليده. فإذا أراد المرء أن يقلد صاحب الشرع والصحابة، وإذا قلد صاحب الشرع في "تلقي أقواله وأفعاله بالقبول، فينبغي أن يكون حريصاً على فهم أسراره، بأن المقلد إنما يفعل الفعل لأن صاحب الشرع فعله، وفعله لابد وأن كان لسرّ فيه. فينبغي أن يكون شديد البحث عن أسرار الأقوال والأفعال فإنه إن اكتفى بحفظ ما يقال كان وعاء للعلم ولا يكون عالماً"[26]. فالشرط الضروري "للتقليد" إن كان لابد منه يستلزم بنظر الغزالي إدراك روح (سرّ) الممارسة والفكر (الأفعال والأقوال)، دون الخضوع الأعمى لها (أن لا يكون وعاء للعلم، بل عالماً). وذلك لأن ترديد الكلمات (الآيات والأحاديث والآثار وغيرها) اياً كانت لا معنى له بحد ذاته دون تأمل مضمونها المجرد (الحقيقي).  إذ أن وجودها بين أغلفة الكتب أكثر حفظاً لها. والمهمة كما هو جلي من آراء الغزالي، لا تقوم في تحويل المرء إلى وعاء فارغ للمعرفة، بل إلى عالم لها، أي تلك المعرفة الضرورية التي تجعل من الإصلاح الدائم إمكانية حية من خلال الاحتفاظ والحفاظ على ما هو جوهري في الثقافة والتعاليم الإسلامية الكبرى وممارساتها في رموزها وشخصياتها السالفة.

من هنا تشديده على استعادة الإصلاحية الحقيقية لمظهرها الغريب، باعتبارها النموذج الصادق والحق في اغتراب الأمة عن مبادئ وحدتها الأولية (الحقيقية). واستند هنا إلى نفس التقاليد الإسلامية الإصلاحية وتقاليد الورع العميقة التي أبدعت إحدى صيغ تعاملها مع واقع "الإنحراف" و"الاغتراب" القائم في الأمة الإسلامية، بالحديث الموضوع القائل "بدأ الاسلام غريباً وسيعود غريباً، فطوبى للغرباء". ولم يعن هذا الحديث في آرائه سوى الاطروحة التي تثير في الوعي والروح مقدمات وغاية المفارقة الورعة بين الماضي والحاضر، وجوهرية الاستعادة الجديدة للتجربة المحمدية في الظروف المعاصرة له. إذ يعكس هذا الحديث، شأن الكثير من أمثاله، من حيث نزوعه الوجداني نزوع النفس الورعة لإدراك ذاتها بوصفها جزء من كيان غريب بين الغرباء. فهو يحمل من حيث نوازعه عنفوان الوجدان الأخلاقي في مجرى معاناته من رؤية "الإنحراف" عن المثال الأسمى. وليس من الدقيق اعطاء هذا النوع أو النموذج من تحسس العالم المحيط ومختلف مظاهره الاجتماعية والسياسية والأخلاقية طابعا نفسيا فرديا خالصا. وذلك لأنه يحتوي على رؤية عميقة في مساعيها لتمثل "السراط المستقبم" بمعايير الانتماء الثقافي والعقائدي. وبهذا المعنى يصبح جزء من التقاليد الفكرية والسياسية التي تطبع بأناملها الخفية كافة الاتجاهات الفكرية والاجتماعية الكبرى والصغرى، المعتدلة والغالية، والثورية والسلفية. لهذا ليس مصادفة ان يتحول هذا الحديث في التراث الإسلامي إلى أحد مصادر الطريق الصوفي وأساليبه التربوية للمريد كما هو الحال بالنسبة لنموذج الخلوة والاعتزال، وكذلك الى حافز روحي للقناعة الفردية عن المجددين والإصلاحيين من فقهاء ومتكلمين، ساسة وفلاسفة، أي كل ما يمكن رؤيته لحد الآن في موشور الحركات الاجتماعية والسياسية في العالم العربي والإسلامي المعاصر. ولعل مأثرة الغزالي هنا تقوم بنوعية استيعابه وتأويله إياه بالشكل الذي جعل منه أحد البواعث والحوافز الفكرية والأخلاقية القائمة في الربط الوثيق بين معارضة التقليد ورفع أولوية الإصلاح.      

فإذا كان الإسلام الأول غريباً في الوسط الوثني (الجاهلي)، فإن الإسلام المعاصر له هو غريب أيضاً ولكن في الوسط الإسلامي. وليس في آرائه الفقهية أو الكلامية أو الصوفية ما يمكن معه القول "بإسلامية" الأمة المعاصرة له. لقد كانت "الغربة" في مفهومها الإسلامي بالنسبة له، هي غربة الأمة عن التمسك بمبادئ الإسلام الحق. وإذا كان الغزالي لم يناقش الطابع "الجبري" لرجوع الإسلام غريباً من جديد، فلأنه وجد في هذه الحالة الإمكانية الدائمة "لإرادة" التغيير المميزة للغرباء!

***

 ا. د. ميثم الجنابي

....................

[1] الغزالي: الإملاء على مشكل الإحياء، ص30.

[2] الغزالي: ميزان العمل، ص68.

[3] الغزالي: الاملاء، ص28.

[4] الغزالي: فيصل التفرقة، ص71.

[5] الغزالي: إلجام العوام عن علم الكلام، القاهرة، المطبعة المنيرية، ط1، 1351 للهجرة، ص5-6.

[6] الغزالي: إلجام العوام عن علم الكلام ص11.

[7] الغزالي: إلجام العوام عن علم الكلام ص12.

[8] الغزالي: فيصل التفرقة، ص106-108.

[9] الغزالي: الإملاء على مشكل الإحياء، ص21، ص27..

[10] الغزالي: فيصل التفرقة، ص107.

[11] الغزالي: فيصل التفرقة، ص108.

[12] الغزالي: المنقذ من الضلال، ص78.

[13] الغزالي: المنقذ من الضلال، ص79.

[14] الغزالي: الإملاء على مشكل الإحياء، ص29.

[15] الغزالي: المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى، الجفان والجابي للطباعة والنشر، ط1، ص1987، ص74.

[16] الغزالي: المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى، ص75.

[17] الغزالي: القسطاس المستقيم، القاهرة، مطبعة التقدم، ط2، ص79.

[18] الغزالي: القسطاس المستقيم،ص80.

[19] الغزالي: القسطاس المستقيم،ص85.

[20] الغزالي: القسطاس المستقيم،ص85-86.

[21] الغزالي: القسطاس المستقيم،ص85.

[22] الغزالي: الاحياء، ج4، ص452.

[23] الغزالي: الاحياء، ج1، ص31.

[24] الغزالي: الاحياء، ج1، ص120.

[25]  الغزالي: الإحياء، ج1، ص38.

[26] الغزالي: الاحياء، ج1، ص78.

 

في المثقف اليوم