دراسات وبحوث

تجربة الكلام اللاهوتي وصيرورة الروح النقدي عند الغزالي (2-2)

ميثم الجنابي"العمى أقرب إلى السلامة من بصيرة حولاء"

لقد توصلت في الجزء السابق من هذا البحث إلى ما اسميته بالمفارقة الداخلية لازدواجية المعرفة والأخلاق التي ستضعه وجهاً لوجه أمام ممارسته الشخصية، أي التناقض الذي مزق وحدة النسيج الداخلي لفكره وقناعته العقائدية، والذي شكل أحد عناصر انتقاله اللاحق إلى التصوف

فقد كان الغزالي مضطراً تحت ثقل هذه الازدواجية المعرفية والأخلاقية إلى أن يبرر جزئياً ما لا قناعة له به، بل إنه يضطر في إحدى مراحل تطوره إلى أن يؤدلج متطلبات السياسة وأن يؤدي بالتالي مهمة "مدّاح" الدولة الأيديولوجي و"نائحتها المستأجرة"، أي كل ما سيضعه وجهاً لوجه أمام "محاسبة النفس" وتقريعها الذاتي على كل مقترفاتها السابقة بما في ذلك "العلمية" منها. فالحقيقة التي دافع عنها أنقذت سقوطه الأخلاقي. وهذا ما يفسر سبب ذلك "الهجوم الأخلاقي" الذي جعله يخلِّق حتى أدق الحقائق وجودية ونظرية (معرفية). لكنه قبل أن يصل إلى هذه النتيجة كان لابد لسؤال الإشكالية الفكرية أن يبرز في مجرى الازدواجية المذكورة أعلاه. بمعنى كيف يمكن للعلم الذي لا يبحث عن الحقيقة كما هي والمتميز بعناصر التبرير والتقليد أن يكون أسلوباً للدفاع عن عقيدة العوام الإيمانية؟ وكيف يمكن للعقيدة أن تؤيد بأسلوب لا يمتلك بحد ذاته مقدمات قناعته الخاصة دون أن تعرِّض أسسها للهدم والزوال.

وقد كانت هذه الاشكالية الجوهرية إحدى العقبات الفعلية أمام الوعي النقدي لعلم الكلام. وإذا كانت مدارسه السابقة عادة ما تحل هذه الإشكالية من خلال تذليل حدة النزعة النقدية "بالانكسار" داخل المنظومة العقائدية الكبرى ومذاهبها، فإن مأثرة الغزالي هنا تقوم في سعيه لتحطيم بنيتها العامة من خلال سحب البساط من تحت أقدام علم فن الدفاع عن عقيدة العوام نفسه. وقد كانت هذه العملية النتاج الطبيعي للنفي الداخلي المتمرس ضمن تقاليد علم الكلام. الأمر الذي يفسر أيضا تجمع عناصر الفكر النقدي في تجربته الكلامية. وما ترتب عليه من بحث عن نموذج أرقى للمعرفة، والذي وجده في الذوق والمكاشفة. مما أدى إلى الابقاء النسبي على وجود علم الكلام ضمن المفاهيم والأساليب المتعلقة بضرورته للعوام، بوصفه الأسلوب المناسب لاستيعاب عقائد الايمان. وبهذا يكون الغزالي قد كشف بحذقه الفكري عن مقدمات وغايات علم الكلام، وكذلك بداياته ونهاياته وموقعه المناسب في الثقافة الإسلامية ووظيفته العملية. لكن المهمة التي اتناولها هنا تعلق أساسا بقضية الكشف عن الصيغة التي تراكمت بها عناصر الرؤية النقدية لعلم الكلام وتداخلها مع عناصر تجاربه النظرية العقلية ودورها في دفعه صوب الانتقال إلى التصوف.   

إذ من الصعب فهم حقيقة آراء الغزالي وأجوبته بهذا الصدد دون إدراك حوافزها الاجتماعية والسياسية بالدرجة الأولى والعقائدية بالدرجة الثانية. رغم أن ذلك لم يعقه أحياناً بفعل واقعيته الفكرية ومبدئية مقالاته من أن يستبدل هذه المعادلة بأحكام أخرى. إلا أن جوهر القضية يبقى بالنسبة له في الطابع الاجتماعي والسياسي لظاهرة الكلام وتأثيره اللاحق.

فإذا كان قد نظر في بداية أمره إلى الكلام نظرة المتكلمين المحترفين، فإنه أخذ يدرك على خلفية صراعاته المدرسية والمذهبية والعقائدية، جموده وتحجره، الذي اتخذ في الكثير من قسماته الصفات المرادفة والمشابهة لسمات الفقه والفقهاء. إلا أنه لم يرفضهما من حيث كونها علوما أو فنونا، بل رفض تأثيرهما السلبي في صيغته المتعصبة والتقليدية. الأمر الذي يفسر سرّ دعوته إلى ما أسماه "بفقه النفس" لا "فقه الدنيا"، وموقفه المعارض من فكرة قدرة الكلام على شحذ خواطر الإدراك والمعرفة. وإذا كان قد أقر ّالحقيقة الجزئية لهذه الفكرة، فإنه وجد فيها هوساً كهوس تصور شحذ الشطرنج للخواطر بالنسبة لتعميق الإيمان الديني. من هنا يبدو واضحاً بأن ما يثير اهتمامه في هذه القضية هو الوظيفة الاجتماعية والسياسية لعلم الكلام. مما جعله يعترف بضرورته في ذلك الوقت الذي "ثارت فيه البدع وعمت البلوى وأرهقت الحاجة"[1]. ولكن لا بوصفه أداة للمعرفة بل بوصفه أداة أيديولوجية جزئية. لهذا السبب وقف بالضد من تدريسه بالمدارس والجامعات رغم اعترافه بإمكانية ضمه إلى علم من علوم فرض الكفايات، أي الاعتراف بموقعه الذي شغله بفعل التطور التاريخي للعلوم الإسلامية. وقد تضمن ذلك بذاته الاعتراف النسبي بوظيفته الضرورية الجزئية والدائمة ولكن بوصفه أداة خارجية وثانوية وطارئة. وبهذا يكون قد أزال إمكانية الاحتراف الأيديولوجي الرسمي (السياسي) لعلم الكلام. إذ طالب باستقلاله عن الدولة ومؤسساتها. وبهذا المعنى فإن أيديولوجية الكلام هي أيديولوجية الدفاع الحر عن المعتقد لا غير.

فإذا كان الكلام يتقاسم الكثير مما هو مميز للفقه، فإن الأخير يتميز عنه بكونه أداة داخلية ضرورية ودائمة. وإذا كان الكلام يتشابه في مهمته مع الدواء فإن الفقه يتشابه مع الغذاء[2]. إلا أن الغزالي في دفاعه عن وحدة علم الكلام والفقه لم يقصد الفقه السائد في زمنه، ولم يعن بالمتكلم ما هو شائع في عصره، بل أولئك المستقلين في آرائهم عن السلطة المدافعين عن العقيدة المتجردين للعلم المتميزين بالفطنة والذكاء والصلاح والتقوى[3].

وقد أدرك التعقيد الملازم لتكوين هذا النوع من المتكلمين. ومع ذلك وضع هذه المهمة أمام كل من علم الكلام والمتكلمين والسلطة والمتسلطين. أنه اقترح مشروعاً ايديولوجياً سياسياً أخلاقياً ممكناً وضرورياً إلى جانب علم المعرفة الحقة المبني على أساس التجربة الفردية العميقة واليقين المعرفي الأخلاقي. أما "التناقض" الذي يبدو للوهلة الأولى في آرائه بصدد هذه القضية فهو نتاج تناقض توجهاته في المراحل المختلفة لتطوره الفكري الروحي. ومن الصعب أحياناً فصل هذه المراحل بصورة قاطعة مازالت هي في حصيلتها غير المباشرة الخلفية الفاعلة في بلورة تصوراته وأحكامه الكلية. فالغزالي المتكلم الذي دافع عن الكلام لم يعد هو ذاته في مرحلة التصوف. لقد بقيت في ذهنيته حصيلة التقاليد الكلامية. لهذا كان إدراكه وتصويبه لخفاياها وقوتها وضعفها أشد وأقوى. ولهذا أيضاً كان انتقاده للكلام عميقاً. بينما اتصفت رؤيته لفحواه ووظيفته بواقعية حصينة. وهذا ما يبرز بوضوح في موقفه من الكلام كأيديولوجية. فعلى الرغم من أنه نظر إلى الكلام والفقه مثل "حارسان" لإيمان العوام، فإنه أقر بضرورتهما. بمعنى التركيز على طابعهما الوظيفي الاجتماعي السياسي الايديولوجي. وتضمن ذلك في آرائه استيعاباً عميقاً لخلو هذا علم الكلام من حافز البحث عن الحقيقة، بفعل كونه العلم الذي يشقّ لنفسه قنوات في صحراء الوجود، دون البحث عن المياه العذبة في آبار القلب[4].

 إن علم الكلام لا يمكنه، حسب آراء الغزالي، أن يكشف حقائق الأشياء كما هي، بسبب كونه أسيراً للتقليد. بل حتى دليل الاعتقاد في الكلام هو تقليد كالاعتقاد ذاته[5]. بحيث جعله ذلك ينفي كل البهرجة الزائفة لهيبة المتكلمين التقليدية أيا كان ممثلها. وكتب بهذا الصدد قائلاً "ما ينال به الفضل عند الله شيء وما ينال به عند الناس شيء آخر"[6]. وهو لم يقصد بذلك وضع أحدهما بالضد من الآخر بقدر ما أنه أراد أن يكشف عما يمكن دعوته "بالحقيقة التقليدية" و"الحقيقة الإلهية".

فمعاناة علم الكلام هي معاناة التقليد المرهقة للجسد لا للروح. إنها تصدّئ عالم الفكر الحقيقي بفعل إسداء حجاب التقليد، الذي يعيق المتكلم عن رؤية حقائق الأشياء كما هي. فالمتكلم ينطلق من تجميع "الحقائق والمسلمات" وحسن الظن إلى الدرجة التي لا يمكنه رؤية ما هو مخالف لها. إنها الممارسة التي دعاها "بالحجاب العظيم الذي به حجب أكثر المتكلمين والمتعصبين للمذاهب"[7]. وأدى كل ذلك إلى أن "يضيقوا رحمة الله الواسعة على عباده"[8]. إذ أنهم كفّروا الناس الآخرين لا لشيء إلا لعدم معرفة أو موافقة آرائهم. وقد اعتبر هذا الصنف من المتكلمين من "أشد الناس غلواً وإسرافاً"[9].

وعلى الرغم من إدراك الغزالي في مجرى تجربته الشخصية لأهمية علم الكلام إلا أنه أدرك أيضاً بأنه العلم الذي أوصله إلى مأزق الفنون اللاهوتية. فهو في الوقت الذي ظل فيه أميناً لفكرة ضرورة علم الكلام في الدفاع عن عقيدة العوام، إلا أنه أخضع هذه الفكرة إلى تحويرات حسب مراحل تطوره ومواقفه الملموسة، دون أن يمسّ ذلك مضمونها النهائي. فقد أشار في (الإحياء) إلى أنه زاول علم الكلام وذكر في كتابه (الاقتصاد في الاعتقاد) القدر المهم منه[10]. وأن هذه الصيغة لا تعكس فقط وعي ارتباطه (في مرحلته الصوفية) بتراثه الكلامي، بل وبإدراكه أهميته العقائدية والمعرفية الجزئية.

فقد ظل علم الكلام في ممارسة الغزالي اللاحقة ضرورياً للعوام باعتباره المستوى المعبّر عن الصيغة الدينية المبسطة التي يمكنها أن تثبت وتعمق الإيمان وأصول الاعتقادات في الوجدان والعمل. لكن علم الكلام لا يمكنه تجاوز هذه الوظيفة العملية رغم أن الغزالي لا ينفي أحياناً الإمكانية الجزئية لعلم الكلام في تثوير "الحقيقة الإلهية". وبهذا المعنى يمكن لعلم الكلام أن يكون ضرورياً، بما في ذلك في مجال دراسته  المتخصصة من أجل حراسة عقيدة العوام لا بلوغ حقيقة اليقين[11]. وقد اضطر نفسه إلى استعمال "لغة الكلام" في تلك الحالات التي كان من الصعب، فيما يبدو، أن يتكلم بلغة "الزندقة" الصوفية. وتمتلك هذه الظاهرة الفعلية أسسها الثقافية ومقدماتها الفكرية وقناعتها العقائدية في مؤلفات الغزالي. من هنا صعوبة حصرها بمواقفه الشخصية فقط أو باعتبارات خارجية طارئة. إن استعماله "لغة" الكلام هو الاستمرار الطبيعي لثقافته الخاصة وتكوّنه فيها. بينما استمدت هذه اللغة نماذجها البيانية ومقوماتها الفكرية مما هو مميز للفكر الصوفي وجوهرية فكرة الخواص فيه بمقابل لغة العوام. بمعنى إن موقفه هذا يستمد مقوماته من قناعته العقائدية وإدراكه الخاص لضرورة التأثير الفعال على العوام باعتبارهم "مادة الإسلام" وأساس الخواص.

فعندما تعرّض لقضية الجبر والاختيار ضمن فكرة التوكل الصوفي فإنه كتب قائلاً "فلنشرح الاختيار بلسان المتكلمين شرحاً وجيزاً"[12]. والقضية هنا ليست فقط في صعوبة فهم اللغة الصوفية ورمزيتها الضرورية، التي يمكن أن تؤدي إلى سوء الفهم ومتعلقاته من إثارة الغوغاء وضلال الاتهام والتكفير وما شابه ذلك، بل وفي تجنّب المتصوفة مناقشة قضية القضاء والقدر باعتبارها سراً من أسرار الله لا يلزم الإفشاء به. وذلك لأن الإفشاء به يؤدي، حسب منطق بعضهم، إلى إبطال الربوبية والنبوة. إضافة لذلك أنها تبلورت كقضية ومعضلة لاهوتية فلسفية أساساً في لغة الكلام وتقاليده. وبشكل عام لا يمكن فهم حقيقة آرائه بهذا الصدد دون الأخذ بنظر الاعتبار ثقافة علم الكلام اللغوية والفكرية التي تطور ضمنها. وقد أشار هو في (المنقذ) إلى أنه استفاد من علم الكلام[13]. غير أن هذه الاستفادة لم تكن أسيرة جانب ما معين دون آخر في تجربته النظرية العقلية الأولى. إذ أن مضمون هذه الاستفادة في جوهرها وتأثيرها اللاحق قام أساساً في تجاوز محدودية الكلام.

فقد أكد في (المنقذ) على أن علم الكلام "وافٍ بمقصوده"، بمعنى أن مهمته هي "حفظ عقيدة أهل السنّة وحراستها عن تشويش أهل البدعة"[14]. إلا "أنه غير وافٍ بمقصوده"[15]. فقد استند علم الكلام، وبفعل وظيفته الاجتماعية السياسية والعقائدية، على نفس المقدمات التي يطرحها الخصوم أو يضطر إلى التسليم بها إما تقليداً أو لإجماع الأمة عليها أو بمجرد القبول عن القرآن والأخبار[16].  في حين أن الهيبة التقليدية وإجماع الأمة وآيات القرآن والآثار والأخبار لا تكفي بحد ذاتها لإثبات حقيقة البرهان، ولا يمكن الاستعاضة بها عنه في إدراك حقائق الأشياء كما هي. فهي تمتلك قيمتها (بالحالة المعنية) للإيمان العقائدي (التقليدي) لا للدفاع عن الحقيقة. فالآيات القرآنية لا تمتلك، بنظر الغزالي، قيمتها المقدسة من حيث كونها مصدراً للقناعة إلا بالمعنى التقليدي الإيماني.

ان لهذا الموقف أسسه النظرية التي أبدعتها الثقافة الإسلامية ككل بما في ذلك تقاليد علم الكلام والمعتزلي شكل خاص. أما مضمونه الملموس عند الغزالي فقد أرتبط بخصائص ومجرى تطور الكلامي والفلسفي وصراعه ضد الباطنية. فقد أوصلته التقاليد العقلانية الكلامية إلى حقيقة بسيطة مفادها أن القرآن للجميع وقدسيته للمسلمين فقط. وإذا كانت هذه التقاليد قد أفرزت قضية "الكلام" و" العلم" الالهيين كمعضلات لاهوتية – فلسفية، فإنها مع ذلك لم يكن بإمكانها التذليل الثقافي للشق القائم بين "كلام الله" المطلق و"كلام الله" الملموس(القرآن). وإذا كانت تقاليد الإسلام الورعة قد اقرت واعترفت "بالكتب المقدسة" لليهودية والنصرانية كجزء من "الكلام" الإلهي، فإنها حلّت هذا الخلاف "المنطقي" بين المطلق المجرد والتاريخي الملموس ضمن تقاليد العقلانية الإسلامية نفسها، أي ربطها إياه بمستوى التطور الإنساني مع إبقاء "السر الإلهي" وراء الحكمة. وقد شارك الغزالي هذه التقاليد غير أن انتقاله إلى التصوف قد وضع هذه القضية وأظهرها بمستوى ومضمون آخر. فعقلانية الكلامية أصبحت جزأ من جدل العوام المتعلمة (المتكلمين). واختفت مهاترات هذا الجدل العقيم حول هذه القضية أمام معضلات "الوجود الحق". وبالتالي لم تعد قضية "الكلام الإلهي" وقدسيته من مواد الجدل اللاهوتي، بل من معضلات السمو الروحي والمعرفي الأخلاقي. واحتوت هذه الحالة على تعبير عميق عن الروحية الصوفية من جهة، ومحاربة التقليد والدعوة للإصلاح من جهة أخرى.

وقد سار علم الكلام في هذا الدهليز الضيق وبضوء قناعته التقليدية ومنطقها السطحي. فالمتكلم أكثر خوضه "في استخراج متناقضات الخصوم ومؤاخذتهم بلوازم مسلماتهم"[17]. أنه يمارس ولع تحصيل الحاصل المقنّع بعبارات النقد المعارض، دون تقديم أي بديل إيجابي. فعلم الكلام الذي نشأ بادئ الأمر لاعتبارات اجتماعية سياسية وعقائدية، أخذ يهتم أيضاً بالبحث عن حقائق الأمور متأثراً بالفلسفة من خلال خوضه في البحث عن الأعراض والجواهر وأحكامها. وقد طابق الغزالي في (الاحياء) بين علم الكلام والفلسفة في مواقفهما من قضايا المنطق والإلهيات[18]، أي نفس الفكرة التي يمكن العثور عليها في (المنقذ)، بمعنى تشديده على الدفاع عن حقائق الفلسفة وسعيها للبحث عن حقيقة الأشياء. ومن الممكن رؤية هذه التقييمات وجلائها حالما يجري نزع الغلاف الأيديولوجي وطابعه الهجومي المميز "لإشكالات" (تهافت الفلاسفة). الأمر الذي يشير إلى إدراكه العميق للصلة الخاصة بين علم الكلام والفلسفة. وفيما يخض القضية المعنية (العرض والجوهر) فيمكننا رؤية امثلتها العديدة في كتابه (معيار العلم في فن المنطق)، حين يشير إلى التشابه والتباين بين المتكلمين والفلاسفة تجاهها. فالمتكلمون، كما يقول الغزالي، يطلقون لفظ الجوهر على الجوهر الفرد المتحيز الذي لا ينقسم ويسمون المنقسم جسما. لهذا السبب يرفضون اطلاق كلمة الجوهر على المبدأ الاول[19]. فالجواهر المتحيزة عند المتكلمين هي "كلها ذات جسد واحد، وإنما تختلف اعراضها. إذ للجسم ماهية واحدة وهو كونه مجتزأ مؤتلفا. فكونه حيا معناه قيام العلم والحياة به... أما الفلاسفة فيقولون إن "الجواهر مختلفة بأنفسها باختلاف حدودها. وإن الصفات المقومات لها هيئات الأشياء، التي بتبدل ماهيتها يتبدل جواب ما هو"[20]. كما كشف عن التشابه التباين بين عدد كبير من اصطلاحات وآراء المتكلمين والفلاسفة[21] . ومع ذلك فإن أولئك الذين خاضوا في علم الكلام لم يبلغوا مقصدهم النهائي. وبهذا المعنى فإن علم الكلام لم يصنع، كما يستنتج الغزالي، إلا حيرة جديدة.

ولم يقصد بذلك حيرة المتصوفة، بل حيرة المعرفة العقلية، التي كشفت في ميدان بحثها الكلامي عن أفقها المسدود. وبالتالي، فإن انتقال علم الكلام من مستواه العقائدي الأول إلى ميدان البحث عن حائق الاشياء قد وضعته أمام إشكاليات جدبة. وإذا كان لهذه الظاهرة الفكرية مقدماتها التاريخية ومؤشراتها الدينية الثقافية التي لازمت ظهور وتطور أدلة الكلام وحججه، فإن انتقاله إلى التفلسف مع الابقاء على حوافزه الداخلية الاولية (الدفاع عن عقائد الإيمان والعوام) قد وضعه أمام إحراج الفكر والعقيدة. إلا أن لهذه الحالة الحرجة مخارجها الخاصة وأساليب بدائلها المناسبة. أما في مثال الغزالي فقد اتخذت صيغة "الحيرة" الجديدة. اذ طبق على نفسه نموذج الكلام في هيئته الفلسفية، كما هو جلي في (تهافت الفلاسفة). وليس مصادفة ان يصنّفه لاحقا باعتباره من بين كتبه الكلامية، أي أن أسلوب البحث عن حقائق الاشياء يطرق الكلام الفلسفي قد أدت إلى حيرة وجدت انعكاسها المباشر في أزمته الفكرية الأخيرة، وغير المباشر في انتقاله إلى التصوف

وأشار إلى ذلك بجلاء عندما كتب معبراً عن تجربته المعرفية الشخصية قائلاً بأن المرء "قد يظن أن فائدة الكلام كشف الحقائق ومعرفتها على ما هي عليه. هيهات! فليس في الكلام وفاء بهذا المطلب الشريف.  لعل التخبط والتضليل فيه أكثر من الكشف والتعريف. وهذا إذا سمعته من محدّث أو حشوى ربما خطر ببالك أن الناس أعداء ما جهلوا. فاسمع هذا ممن خبر الكلام ثم قلاه بعد حقيقة الخبرة وبعد التغلغل فيه إلى منتهى درجة المتكلمين وجاوز ذلك إلى التعمق في علوم أخر تناسب نوع الكلام. وتحقق أن الطريق إلى حقائق المعرفة من هذا الوجه مسدود"[22].

إن تجربة الغزالي في تجاوز محدودية علم الكلام هي ليست تجربة شخصية بحتة، بقدر ما أنها ظاهرة تاريخية فكرية. فقد انتقد الغزالي الكلام وتجاوزه باعتباره أحد ممثليه الكبار. بينما كفّ الكلام في وقت لاحق عن أن يشكل قيمة متجددة قادرة على تثوير نفسها. ولم يكن ذلك معزولا عن مأثرته ذاتها في الكشف عن محدودية الكلام وانغلاق آفاق تطوره. مما فسح المجال بدوره أمام تطوير الفلسفة والتصوف الفلسفي. غير أن هذه العملية لم تجر في أثره إلا بمعنى مثالها الفردي ومثاليتها التاريخية ونموذجيتها الفكرية. فالغزالي نفسه لم ينظر إلى تجربته بهذا الصدد على أنها البديل الشامل الوحيد والعلاج المفوض للجميع. لقد أكد على أن الكلام "في حقه لم يكن كافياً، ولدائه لم يكن شافياً"[23]. وبالتالي فإن تجربته التي صاغها في (المنقذ) لم تهدف إلى "الإنكار على من استشفى به. فإن أدوية الشفاء مختلفة باختلاف الداء. وكم من دواء ينتفع به مريض ويستضر به آخر"[24]. فهو يقف هنا بالضد من تحويل التجربة الفكرية الفردية ونتائجها أياً كانت إلى مثال مطلق وملزم وضروري للجميع. أنه يبدو هنا أكثر تجانساً في مواقفه من عقلانية الكلام، التي ظلت حتى في أشد حالاتها جرأة أسيرة مأزقها التقليدي. في حين أن التجربة الفكرية والعملية قد أقنعته بأنه لا ضرورة للتقليد خارج الأوليات (البديهيات).

لقد دفعت الحصيلة العامة للتطور الفكري العقلاني ووضعت أمام الغزالي مهمة تثوير الكلام من الداخل ونزع قيوده الداخلية. إلا أن هذه الحصيلة أوصلته في الوقت نفسه إلى عدم جدوى هذه المهمة. فالوصول إلى هذه الغاية من وجه الكلام مسدود كما سيقول في (الإحياء). ذلك يعني بأن انسداد علم الكلام افترض أيضاً إمكانية البحث عن حل له في طريق آخر، وعن مخرج له في أسلوب آخر، اتخذا عنده طريق وأسلوب التصوف.

فبالتصوف فقط، كما سيشدد مراراً، يمكن رؤية حقائق الأشياء كما هي عليه، بفعل فاعلية التجربة الفردية وقيمتها، وبفعل ضرورة المعاناة الشخصية وجوهريتها، وبفعل ربطه في كل واحد وحدة الحقائق كما هي عليه، بحيث لا يصبح المفكر فيها أجير الكلمة، بل أسير البحث عن روح المعاني. آنذاك لا حدّ محدود ولا أفق مسدود. آنذاك تصبح حرية المعرفة وحقيقة المطلق القيمة العليا، أي كل ما لم يكن بإمكان المتكلمين رؤيته. وهذا ما يفسر عجز المتكلمين كما يقول، عن استيعاب حقائق الصوفية. وذلك لأن علم الكلام توقف عند حدود قناعته التأملية والجدلية دون أن يرى أو يحاول رؤية ما هو أبعد منها وأعمق وأشمل. وقد حدا ذلك بهم، على سبيل المثال، إلى إنكار الأنس والشوق والمحبة الصوفية لأنهم وجدوا فيها دلائل التشبيه. أما في الواقع فليس التشبيه سوى الصيغة المحوّرة والمنعكسة في دلائل علم الكلام من التثبيت أو التعطيل. فالإنسان يقيس على ما هو مميز له، بينما دلائل الكلام ما هي إلا خيالات فاسدة أو مريضة[25]. فالمتكلمون يجهلون بأن "جمال المدركات بالبصائر أكمل من جمال المبصرات، ولذة معرفتها أغلب على ذوي القلوب"[26]. وقد قدم هنا مثال غلام الخليل (أحمد بن غالب) الذي أنكر على الجنيد (ت-297 للهجرة) وأصحابه حديث الحب والشوق، بينما أقر بالصبر فقط. وعلّق الغزالي على ذلك قائلاً:"وهذا كله كلام ناقص قاصر لم يطلع من مقامات الدين إلا على القشور فظن أنه لا وجود إلا للقشر. فإن المحسوسات وكل ما يدخل في الخيال من طريق الدين قشر مجرد ووراءه اللب المطلوب"[27]. فالحقائق أياً كانت لا يرتبط مضمونها بالجدل الوهمي والتصورات والمسلمات السائدة.

وإذا كان علم الكلام قد بنى صرحه على هذا الأساس، فإن قناعة اليقين فيه (في حالة افتراض وجودها) عرضة للتثلم الدائم. لكن ذلك لا يعني دعوة الغزالي إلى يقين جامد ثابت لا معرفي. على العكس! فهو يجد في كل الأشكال السابقة للمعرفة، بما في ذلك الكلامية، مستويات متباينة ومقبولة لحد ما في بعض أجزائها دون افتراض طابعها اليقيني التام. فالمعرفة بنظره لا يمكنها أن تتناهى بفعل عدم تناهي الله وأفعاله. والكون هو تجلي فعله الدائم. وإمكانات وأساليب إدراكه متفاوتة. من هنا إمكانية بقاء واستمرار الكلام. إلا أن الكلام يقابل في ضرورة بقائه موقع السيف للأنبياء. ولكن من هو الذي يقول بأن السيف أبلغ حجج النبي؟ إن قولاً كهذا ينمّ، كما يستنتج الغزالي، عن عدم فصاحة وضعف إدراك.

لقد أراد القول، بأن الشاعر يمكنه أن يقول بأن السيف أصدق إنباءً من الكتب، إلا أن الشعراء لا تستقيم إلا بتعبيراتهم العوجاء! فالنار الطبيعية لا تستقيم. والشاعر الحق أشد ابتعاداً عن الحق المنطقي. بينما لا يمكن لمظاهر القوة أن تكون بالنسبة لأنبياء المعرفة سوى أمثلة طارئة وعابرة وملموسة للإحساس والخيال لا للبصيرة. وبهذا المعنى ليس "علم الكلام والجدال أبلغ مقام من ظهر منه من العلماء" كما يستنتج الغزالي[28].

إن إدراك الغزالي لمحدودية علم الكلام باعتباره التعبير الأيديولوجي والنموذج الفكري للقوة الخشنة في تعبيرها عن عقائد الإيمان لا يمكنه أن يكون أسلوب السمو والوحدة الحقيقية للكينونة الإنسانية. وبهذا تكون تجربته الكلامية أحد المصادر العقلية النظرية لبلورة نزوعه اللاحق صوب التصوف.

***

 

 ا. د. ميثم الجنابي

...................

[1] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص98.

[2] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص99.

[3] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص99

[4] لهذه الفكرة التي يرددها الغزالي كثيرا في كتابه (الإحياء) وغيرها من المؤلفات أسسها العميقة في نظراته المتعلقة بطرق بلوغ الحقيقة واليقين، التي سوف اتناولها في مجرى تحليل نظريته عن المعرفة. إلا أن الشيء الذي ينبغي الإشارة إليه هنا هو ربطه إشكالية الأيديولوجيا والحقيقة ومحاولة تأسيسها النظري.

[5] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص94.

[6] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص23.

[7] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج3، ص14.

[8] الغزالي: فيصل التفرقة بين الاسلام والزندقة، ص97.

[9] الغزالي: فيصل التفرقة بين الاسلام والزندقة، ص97.

[10] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج4، ص247.

[11] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج4، ص253.

[12] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج4، ص254.

[13] الغزالي: المنقذ من الضلال، ص77.

[14] الغزالي: المنقذ من الضلال، ص91.

[15] الغزالي: المنقذ من الضلال، ص91؟

[16] الغزالي: المنقذ من الضلال، ص92.

[17] الغزالي: المنقذ من الضلال، ص92.

[18]  الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص22.

[19] الغزالي: معيار العلم في فن المنطق، ص231.

[20] الغزالي: معيار العلم في فن المنطق، ص 231).

[21] الغزالي: معيار العلم في فن المنطق، ص222-231).

[22] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص97,

[23] الغزالي: المنقذ من الضلال، ص92.

[24] الغزالي: المنقذ من الضلال، ص93.

[25] الغزالي: مشكاة الأنوار، ص127.

[26] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج4، ص340.

[27] الغزالي: اإحياء علوم الدين، ج4، ص340.

[28] الغزالي: الإملاء على مشكل الإحياء، ص30.

 

في المثقف اليوم