دراسات وبحوث

الموقف من الفلسفة والفلاسفة عند الغزالي (1-2)

ميثم الجنابي"عند الشدائد تذهب الأحقاد"

من الصعب استيعاب حقيقة مواقف الغزالي من الفلسفة والفلاسفة وتأثيرهما اللاحق في تطوره الفكري ككل دون إدراك مقدماتها التاريخية الثقافية، وبالأخص تلك التي تبلورت في تقاليد المعارضة الإسلامية للفلسفة. رغم أن هذه المواقف لا تتطابق من حيث قيمتها النظرية وفاعليتها مع مناهضة التفكير الفلسفي وأساليبه بحد ذاته[1].فقد تضمنت آراء الغزالي المعارضة ومواقفه الأولية المتشددة من تيارات الفكر الفلسفي المعاصر له التشكيك بمنطقية البراهين الفلسفية وبدعاوى تمثلها للمعرفة الحقة. بينما استهلكت بأسلوبها الجدلي حوافز الروح الفلسفي من نزوات السفسطة حتى تدقيقات البرهان.

بصيغة أخرى، إن آراءه المناهضة للفلسفات السائدة في عصره (الأرسطية والإفلاطونية والإفلاطونية المحدثة والفيثاغورية وغيرها) ونماذجها الإسلامية لا يعني انقطاعه عن تياراتها أو عدم تأثره بها. وكمن في ذلك أحد الأسباب القائمة وراء الترديد الواسع لكلمات أبي بكر ابن العربي من أن "الغزالي دخل بطن الفلاسفة فأراد أن يخرج فما قدر". غير أن هذه الصيغة لا تعبّر إلا عن مظهر الظاهرة لا حقيقتها.

فالغزالي لم يدخل "بطن الفلاسفة" بقدر ما أن ثقافة الوعي الفلسفي للخلافة قد بلورت آراءه. وبالتالي فإن موقفه المعارض منها وتأثره بأسلوبها كان في الوقت نفسه نتاجاً للتطور الفكري التاريخي ذاته. إلا أن خصوصية مواقفه تقوم في كونه الأول من بين مفكري تلك المرحلة من تجرأ على منازلة تيار فكري متكامل له جذوره القوية في ذهنية الثقافة، وأوراقه المظلة في سمائها الروحي، وأن يعطي لهجومه طابعاً عقلياً منظماً. وفي هذه الظاهرة ينعكس مضمون المفارقة العميقة التي سيصوغها الوعي النقدي الإسلامي اللاحق بعبارته القائلة "إن الغزالي أمرضه الشفاء"[2]. وسواء جرى وعي هذه الكلمة في إطارها الثقافي أم لا، فإن مما لاشك فيه تضمنها حدس الإشارة الخفية في قدرتها على إماطة اللثام عن "مرض" الغزالي الفكري اللاحق ومقدمات "شفائه". وفيما لو تجاوزنا مجازية العبارة، فإن الأزمة التي أبدعها الغزالي في صراعه مع الفلسفة قد صاغت بطريقتها الخاصة قيوده الذاتية، أي أن مهاجمته الفلسفة قد جعلت منه منظومة مفتوحة وأطرقت بذهنه إلى عالم "الإلهيات" الشائك، دافعة إياه نحو تحقيق "منطق الحقيقة" كما هي. وهذا بدوره لم يكن معزلا عما تعرضت له الفلسفة من انتهاك عقائدي ونقدي من قبل المتكلمين، تماما بالقدر الذي جرى تأثرهم بها. أما الصيغة الفعلية لهذه الظاهرة فتقوم في أن ما يسمى بالعداء والخلاف لا يعكس بصورة دقيقة حقيقة المجرى الموضوعي لتطور الفكر الفلسفي والكلامي في عالم الإسلام آنذاك. بمعنى إنها كانت تعكس واقع الصدام والخلاف وليس حقيقة التعامل الفكري. فأغلب الخلافات التي كانت تحدث هي جزء من آلية وتقاليد الخلاف المرافقة لصراع العقل والإيمان. إذ لخلاف المدارس الكلامية والفلسفية أسسه المعرفية والعقائدية أيضا. غير أن ذلك لا يعني تطابق العقل مع الفلسفة، والإيمان مع الكلام. فالكلام هو أيضا فلسفة عقلية، إلا انها إسلامية المعتقد، مما حدد بدوره أوجه ومسار الخلاف الأيديولوجي بينهما، أي كل التقاليد السائدة ما قبل الغزالي. أما الطابع العلني في نقد الغزالي لآراء وأحكام الفلاسفة والفلسفة بشكل عام بصدد قضايا الإلهيات، فإنه يعكس حالة التمثل العميق لتقاليد الصراع بين الكلام والفلسفة. أما حصرها في مجال الإلهيات فقد كان النتاج المرافق لمساعيه الخاص في الكشف عما أسماه بخلل البراهين الفلسفية وضعف تمسكها الدائم بالمنطق الذي تدعيه. الأمر الذي يكشف بدوره عن أهمية المنطق وجوهريته بالنسبة للغزالي، ومن ثم دوره الأساسي في البرهان. أما حصر الجدل في قضايا الإلهيات، فإنه كان يحتوي أيضا على نزوع أيديولوجي، ولكنه مرفوع إلى مستوى الجدل العقلي الرفيع. وقد حددت هذه العملية الشائكة من تداخل العقل والإيمان، والجدل والبرهان، والحقيقة والمعتقد إلى خلخلة العقائدية الصارمة وأسلوبها الأيديولوجي كما كان الحال في شعاره "عند الشدائد تذهب الاحقاد"، ليحل محله لاحقا تأمل الحقيقة خارج احتراب الفرق والمدارس.

استند الغزالي في تجربته النقدية للفلسفة إلى تراث الكلام. لكن ذلك لا يعني أن لعلم الكلام عداء جوهري مع الفلسفة، أو أنه يحمل صفة التناقض الجوهري مع الفلسفة. فالكلام هو الآخر فلسفة. أما الفِرق الكلامية فإنها غاية في التباين والتنوع والاختلاف. ويلتقي بعضها مع الفلسفة ويفترق في كل من المفاهيم والآراء والمواقف والبراهين والحلول. وفي هذا كان يكمن الإحساس المشبوب بالعداء الخشن لما هو مقترن بالتفلسف "المغترب". ومن الصعب الآن القول بأن لهذا الإحساس أطره الثابتة. إلا أنه كان يلتف في أغشية الهذيانات العقائدية، التي أثارت كجزء من أسلوب إعادة إنتاجها، ولع التشفي بكل ما لا يستند إلى معطيات العقائد المتعارف عليها. وإذا كان لهذا التسويف الفكري صلابته في قواعد البنية التقليدية للكلام وموضوعاته الجدلية، فإن ذلك لا يعني غياب مثيلها في التقاليد الفلسفية. من هنا تصادمهما أيضا، بوصفهما أساليب متعارضة في دفاعهما عن "الحقائق". وبما أن الأخيرة كانت في أغلبها "ثقافية" المنزع، فإن منزع الثقافة ألزمهما منطقه السهل ألا وهي المواجهة عندما تقتضي الضرورة، والضرورة في المواجهة من أجل "شرعية" الاستمرار في الوجود. ومع ذلك تجدر الاشارة هنا إلى أنه ليس في تاريخ الفكر والحضارة ما يحتمل الحتمية المطلقة. ففي حصيلته هو نتاج تصادمات لا تحصى. وليس "منطق" المواجهة سوى أحد مظاهر الصدام. ومن السذاجة رفع هذا "المنطق" إلى مصاف الإرادة المدركة لقواه. وفي الوقت نفسه لا يعني ذلك غياب عقلانيته التاريخية. فصيرورة الكلام النظرية لم تكن معزولة عن الفكر الفلسفي أيضا. وبالتالي، فإن لصراعه معها أسسه ومقدماته الثقافية والعقائدية والمعرفية. بمعنى انه يتجاوز قواعد الإدراك السلبي المسبق. وباستثناء تلك الحالات التي تحول فيها الجدل إلى جزء من المهاترات العقائدية الضيقة، بعد أن بلغ تباين وإختلاف الفلسفة والكلام درجة "الاجماع" العام، فإن صراعهما عادة ما كان ينبثق من تلقائية التنافس المميزة لوجود وصراع القوى والمدارس النظرية. الأمر الذي حدد واقع عدم استناد "منطق" المواجهة على إرادة مدركة، مع انه في ذاته إدراك كامل لإرادة الأنا الثقافية - العقائدية. مما حدد لدرجة كبيرة قيمة العقلانية التاريخية في هذا الصراع. وذلك لأنه ألزم الجميع بضرورة التمسك بقواعد "الحقيقة" من أجل إثبات حق الشرعية الوجودية، أي انه اعطى لحوافز البحث عن الحقيقة ومنطقها أداة وقيمة ومعنى لا يمكن تجاهلها. وهو ما نعثر عليه بوضوح في انتقاد الغزالي للفلاسفة وسعيه إلى ما اسماه بكشف تهافتهم المنطقي.

إلا أن ذلك يبقى، إن أمكن القول، من عوارض الغليان الذي تفتعله أحياناً الذهنية العقائدية ونفسية الانتماء المذهبي. وهي في الوقت نفسه عناصر تتخلل بأقدار متباينة جميع المدارس. ولا تفلت منها الشخصيات المفكرة في مجرى تطورها كعناصر ضرورية في تعميق إدراك التجربة الفردية كبحث عن الحقيقة. ولكنها قبل أن تصل إلى هذه الذروة، ينبغي لها أن "تتمتع" بجملة من رذائل الطريق، مازال من المستحيل فرض قواعد الأدب عليها في مسارها الجدلي. وقد تمتع كل من الفلسفة والكلام في مسارهما في عالم الإسلام إلى ما لا يحصى برذائل الجدل، ولكنهما بقيا الكيانين الأرقى في مساعيهما النظرية إلى "الذب عن الحقيقة". وبهذا المعنى فإن صراعهما وخلافهما كان أيضاً يلتقي ويفترق بمدى ملامسته للحقيقة. وبما أن الحقائق الكبرى كانت تدور حول الله أو المطلق، وعقائد الدين كقضايا جوهرية، من هنا اضفاءها على الخلاف تداخلاً من الصعب فرز مكوناته. بمعنى تداخل العقائد والحقيقة، الإيمان والعقل، البرهان والجدل. وفي الوقت الذي كمن في هذا مصدر الخلاف الدائم، فإنه أدى أيضاً إلى إبداع تقاليد مشتركة. وقد انطلق الغزالي من هذه التقاليد المشتركة وخلافاتها. حيث اتخذت الفلسفة في إدراكه) هيئة العلم القائم بحد ذاته إلى جانب علم الكلام، أي كل ما يصوره بعبارة انتقاله في المعارف من الكلام إلى الفلسفة ودراسة علومها.

ولكن ماذا تعني هذه العبارة في تطوره الفكري إن لم تعنِ استمرارية تقاليد علم الكلام في موقفه من الفلسفة وبالتالي هضم العناصر الجديدة في تقاليد وأسلوب الوعي الفلسفي؟ فقد انطلق الغزالي في دراسته العلوم الفلسفية منذ وصوله بغداد للتدريس في نظاميتها، أي أنه اصطدم بها للمرة الأولى كعلم مؤثر في الأوساط الثقافية والعلمية. وساهم في توجهه "المتحزب" وسعيه المتفاني نحو الفلسفة كل من حب البحث عن الحقيقة وضغط عالم الكلام، الذي بلور ثقافته النظرية. والغزالي نفسه يشير إلى أنه "لم ير أحداً من علماء الإسلام صرف عنايته وهمته إلى ذلك"[3]، أي مهمة دراسة الفلسفة والرد عليها من جانب الفقهاء والمتكلمين وأمثالهم من "علماء الإسلام". أما المتكلمون الذين صرفوا عنايتهم للرد على الفلاسفة، فإن كتاباتهم لم تكن بنظره سوى مجموعة لكلمات مبددة ظاهرة التناقض والفساد وقليلة الجدوى بفعل عدم معرفتهم الدقيقة بالعلوم الفلسفية[4]. آنذاك وضع أمام نفسه مهمة دراسة الفلسفة بالشكل الذي يستلزم، في حالة الرد عليها، إتقانها على التمام. وصاغ على هذا الأساس أحد المبادئ المنهجية العميقة والعلمية في النظرة النقدية لدراسة الأفكار ومدارسها. فمن أجل انتقاد هذا العلم أو ذاك يستلزم من الناقد "معرفة منتهى ذلك العلم، حتى يساوي أعلمهم في أصل ذلك، ثم يزيد عليه في معرفته ويتجاوزه بحيث يطلع على ما لم يطلع عليه صاحب العلم ذاته"[5].

وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذا المبدأ الذي بلوره الغزالي في مرحلة متأخرة نسبيا من حياته الفكرية يعكس تضمنه الفعلي على العناصر الأولية المتجمعة في مجرى تطوره الذهني الفقهي والكلامي. ومن الممكن العثور على هذه العناصر في أعماله الفقهية الأولى. أما جانبها الجدلي الشديد فقد ظهر بقوته الكبرى في (تهافت الفلاسفة). فقد انطلق الغزالي هنا من أن السعي لامتلاك ناصية المعرفة هو المقدمة الضرورية لكل نظرة نقدية جدية. ومن ثم نعثر هنا على ازدواجية المساعي للمعرفة الموضوعية والنزوع الأيديولوجي للمواجهة. ولا يوجد في هذه الحالة "فضيحة" فكرية في حال النظر اليها ضمن سياق المرحلة التاريخية وثقافتها ومزاجها العقائدي. بل يمكن تأكيد العكس! بمعنى إن ذلك يتضمن في ذاته على عناصر التثليم الخفية للتشدد العقائدي من خلال تمتين وحدة المعرفة المتكاملة واستقلال الفكر النقدي، والذي نعثر عليه عند الغزالي في العبارة التي بلورها عما اسماه "ببلوغ منهى ذلك العلم من خلال معرفة الأصل الزيادة عليه بالتفوق على صاحب العلم نفسه". ولا يقصد هو هنا كمية المعارف بل أسسها الضرورية في مصادرها الأساسية. ولكن ماذا تعني الزيادة في المعرفة على ممثل العلم نفسه إن لم يعن في الوقت نفسه تمثل حقائق العلم المعنى "من الداخل"؟ وفي الحالة المعنية استلزم ذلك منه أن يكون "فيلسوفا أكثر من الفلاسفة". وبالتالي لم يكن من الصعب رؤية التأثير الكبير للفلسفة في "مصيره" الروحي.

فالغزالي، كما هو جلي، لم يتناول في بادئ الأمر الفلسفة من زاوية صوابها أو خطئها بقدر ما أنه تعامل معها كتيار فاعل في الثقافة السائدة. وإن تناوله للفلسفة جرى في الوقت نفسه تحت ضغط الخلفية النفسية والفكرية التي بلورها علم الكلام في مواقفه المتشعبة منها. فعلم الكلام، حسبما يقول الغزالي، لم يبنِ أحكامه على أسس برهانية. ولم يعرف الفلسفة للدرجة التي يمكن أن ينازلها كندّ لها. وفيما لو طرحنا جانباً ما إذا كان هو مصيباً في معرفته الفلسفة للدرجة التي فاق بها الفلاسفة أنفسهم بحيث استطاع الإطلاع على ما لم يطلعوا عليه منها، فإن أطروحته ذاتها تكشف عن توجه مسبق للرد على الفلاسفة. فهو لم ير من علماء المسلمين من رد عليهم. أما علم الكلام فإنه عجز عن ذلك بفعل ضعف اهتمامه بالعلوم الفلسفية. ولم يقصد هو بذلك سوى ضعف الاستقلال الفكري في تمثل حقائق الفلسفة، أو التقليد السطحي "لقوتها البرهانية".

إلا أن ذلك لا يعطي أي مبرر للفكرة السائدة في أوساط الباحثين والدارسين القدماء والمعاصرين، عن تناقض الكلام والفلسفة أو عن الطابع الدخيل للفلسفة في الثقافة العربية الإسلامية، أو عن أن العرب المسلمين لم يكن بإمكانهم تقبل أي شيء ما خارجي ما لم يخضع خضوعاً كلياً للعقائد الإسلامية ويذاب فيها. إن لهذه الأحكام حقيقتها الجزئية، ولكنها لا تستطيع أن تفسر ظاهرة الثقافة الإسلامية وصراعاتها الداخلية. وذلك لأن ما يميز الثقافة الإسلامية في مراحل نموها الأولى ونضوجها الكبير حتى زمن الغزالي تقوم في اعترافها العام "بعلوم الأوائل". ولا يعني ذلك في مضمونه المعرفي سوى الإقرار باستمرار المعرفة. وبهذا المعنى جرى تقبل الفلسفة من قبل الجميع كجزء من "علوم الأوائل". لاسيما وأن لحب المعرفة تأييده "الشرعي" في الحديث المستحسن عن "طلب العلم ولو في الصين".  بصيغة أخرى، إن تطور الثقافة الإسلامية ذاتها جرى من خلال البحث الصادق "في الآفاق وفي الأنفس". وكان لابد لهذا البحث وحوافزه الصادقة من أن يثير شعور التقبل والنفور، وتقييم الجليل والدخيل، وأحكام التمنطق والتزندق وأمثالها.

وفي هذه العملية المتناقضة لازدواجية وثنائيات الصراع الفكري جرى تصلّب النصل الثقافي لعالم الإسلام. وقد أضفى هذا العالم لمحاته البارقة على كل ما هو "دخيل" دون أن يستفز ذلك مشاعر التحفّز المسبق لإسباغ ألوانه عليه. لقد جرى صهر المعارف في عالم الإسلام، كما لو أنه قدرها المسمى، وتقبل الجميع هذا المصير بين تشنج النقل وابتهاج العقل، وأنين الحشرجة المذهبية وسكرة اللذة المعرفية. وذلك لأن تعمق الحكمة (والفلسفة)، بدا كما لو أنه تعبير عن الحكمة التي يستحكمها كل حسب "ما هو ميسر له". وبهذا تكون الفلسفة (الحكمة) قد تغلغلت في نسيج الثقافة الإسلامية. وإذا كان نتوؤها البارز في صرح المعرفة النظرية قد استثار حفيظة الوعي اللاهوتي، فلأنها عادة ما كانت تمثل النموذج العقلاني الأرقى في صراع العقل والنقل،و الفكر الحر والعقائد الإيمانية. وقد كمن هنا دون شك أحد الأسباب المعرفية الأساسية لصراع الكلام والفلسفة وشكله الثقافي في محورية الصراع حول العقائد الدينية الكبرى.

ولم يشذ انتقاد للغزالي للفلاسفة ولم يخرج عن هذا الاطار العام. على العكس! انه يؤكده بصورة أشد وضوحا وتجانسا. فهو يشاطر الفلاسفة قناعة الدور الجوهري للمنطق في بلوغ العلم اليقيني. كما يدرك أهمية وقيمة العلوم الفلسفية ككل. إلا أن خلافه "المنطقي" معها يبرز في هيئة الدفاع عن عقائد الإيمان الكبرى. اذ لم يكن الجدل الذي خاضه صراعا في ميدان الميتافيزيقيا بالمعنى الدقيق للكلمة، بل في مجال العقائد الإيمانية. الا أن مجال هذه العقائد كان، بمعنى ما، ميدان الميتافيزيقيا الإسلامية، أو بصورة أدق ميتافيزيقيا الوجود التاريخي الثقافي لإسلام المرحلة. مما اسبغ بدوره غشاء مزدوجا من وحدة المنطق والسفسطة، العقل والشك، الجدل والنقد لأجل الدفاع عن عقائد الاسلام. وقد أدى ذلك في نهاية المطاف إلى إثارة البلبلة الفكرية والصراعات الداخلية الحادة في ذهنية الغزالي وأزماتها التالية.

فعلم الكلام الذي حارب الفلسفة لم يكف هو ذاته عن أن يكون فنا فلسفياً. إضافة لذلك إن الصراع الذي خاضه علم الكلام لم يتمحور ضد العلوم الفلسفية بحد ذاتها، بقدر ما أنه جرى حول بعض الآراء والنظريات الفلسفية. ولم يحصل هذا الصراع على "إجماع" من حيث مشاطرة الآراء أو مخالفتها. بمعنى أن اتجاهات علم الكلام ظلت مختلفة ومتباينة في مواقفها من النظريات المختلفة للفلاسفة بين معارض ومؤيد، تماماً بالقدر الذي يمكن رؤية هذا الخلاف والتعارض بين المدارس الفلسفية نفسها. وسوف يشير الغزالي لاحقاً إلى التشابه الكبير أحياناً بين آراء الفلاسفة والمعتزلة بصدد الكثير من القضايا. في حين سيؤكد في مؤلفاته ما بعد (تهافت الفلاسفة) أن الكثير من آراء الفلاسفة في السياسة والأخلاق والمنطق والطبيعيات تتطابق أو تتفق مع آراء الأنبياء والحكماء والصوفية. ذلك يعني أن مناهضة الغزالي لم تكن موجهة ضد الفلسفة بحد ذاتها بقدر ما أنه واجه وناقش وجادل ودحض آراء واستنتاجات بعض المذاهب الفلسفية، أي كل ما يمكن العثور عليه في حالة تتبع حوافز انتقاده للفلاسفة.

فهو يشير في مقدمة مواقفه العامة من الفلسفة إلى ما أسماه بالتفاوت العظيم في البعد من الحق والقرب منه عند الفلاسفة[6]. وشكل انتقاده للنزعة التقليدية في آراء ونظريات الفلاسفة المسلمين للفكر الأرسطي والأفلاطوني وغيرهما أحد البواعث الجوهرية لسخطه الكبير. لهذا وجد في آرائهم مجرد استبدال لهيبة التقليد العادية للعوام بتقليدية الوعي الفلسفي. وليس من الصعب رؤية التناقض الخاص في هذه العبارة. فالغزالي، كما هو جلي من آرائه، لم يقف ضد "الحق" الفلسفي، بقدر ما أنه حارب نزعة التقليد السائدة وسط "فلاسفة الإسلام"، التي حاولت أن تقدم أغلب إنجازات العلوم الفلسفية للأوائل (الإغريق والرومان) على أنها حقائق مطلقة. وبهذا المعنى كان انتقاده خطوة كبرى إلى الأمام في ميدان تثوير الوعي الفلسفي ذاته. إلا أن محاربته لتقليدية الفلاسفة لم تكن هي ذاتها حرة (مستقلة) من تقليد العقائدية الدينية. وفي هذا كمن أحد التناقضات الحادة في صيرورة آرائه الأولى، أي في تلك المرحلة التي واجه بها الفلاسفة وجهاً لوجه، والتي جعلته يقترب في آن واحد من إدراك محدودية آراءه ومواقفه الكلامية وآراء الفلاسفة ومواقفهم. ومن الممكن القول إنه توصل إلى رؤية الملمس الحاد لحدّيْ محدودية الكلام والفلسفة فيما حوله منذ زمن مبكر نسبياً، أي منذ المحاولات الأولى التي هاجم بها فلاسفة العالم القديم والمعاصرين له.

فالعرض الموضوعي المنسق، الذي يقدمه في (مقاصد الفلاسفة) كان لحد ما تجربة التمرين الفلسفي المستقلة في استيعاب وتنظيم الآراء والنظم الفلسفية، التي سيتأملها بصورة نقدية في (تهافت الفلاسفة). فهو يشير مرات عديدة في (مقاصد الفلاسفة) إلى أن ما يعرضه هو مجرد "بيان مقاصد الفلاسفة"[7].  وفي الوقت الذي يهمل مجادلة آرائهم في الرياضيات، فإنه يؤكد على صحة أغلب آرائهم في المنطق. غير أنه يفرز في آرائهم كل من الإلهيات والطبيعيات على أنها مثيرة للجدل. وفي هذين الجانبين تظهر ذهنية الغزالي النقدية في مواقفها من "تناقضات" الفكر الفلسفي، دون أن يعني ذلك خروجه على العقلانية الفكرية. فهو يدرك صعوبة بل واستحالة حل هذه القضايا سلباً أو إيجاباً استناداً إلى العقل البرهاني وأحكام المنطق، أي كل ما سيولد عنده لاحقاً فجوة الشك المعرفية.

إن هذا الشك العقلي الفلسفي كان بمعنى ما نتيجة لتأزم صراع الكلام والفلسفة،أي في تلك الحالة التي أخذت تتضح  عنده فيها معالم محدودية الكلام وضعف يقينية الأحكام الفلسفية. وبالتالي وضعته أمام ضرورة البحث عن مخرج آخر سيجده لاحقاً في عالم الصوفية، ولكن دون أن يؤدي ذلك إلى قطع الصلة نهائياً بالتيارات الفكرية (الكلامية والفلسفية) السابقة باعتبارها درجات منفية في تجربته الصوفية الجديدة. وهو ما يمكننا العثور عليه في تقييمه تجربته الفكرية عندما يتناول بالتصنيف مؤلفاته المعارضة للفلسفة وبالأخص (تهافت الفلاسفة). فهو يشير في (جواهر القرآن) إلى أن من العلوم ما يعنى بمحاججة الكفار ومجادلتهم. ومنها يتشعب "علم الكلام المقصود لرد الضلالات والبدع وإزالة الشبهات" والذي "يتكفل به المتكلمون". وهذا العلم شرحه على طبقتين هما الطبقة القريبة، منها (الرسالة القدسية) والطبقة التي فوقها (الاقتصاد في الاعتقاد). ومقصود هذا العلم حراسة عقيدة العوام من تشويش المبتدعة. ولا يكون هذا العلم ملياً بكشف الحقائق. وبجنسه يتعلق الكتاب الذي صنفه في (تهافت الفلاسفة)[8].

إن هذه العبارة تثير معضلات فكرية عديدة حول انتقاده للفلاسفة. وما يثير اهتمامنا الآن هو حوافز هذا النقد ونتائجه المؤثرة على تطوره الفكري. فهو يحدد بوضوح دقيق أن ما وضعه في (تهافت الفلاسفة) هو من "جنس" مؤلفات الدفاع عن عقيدة العوام، أي من صنف العلوم التي لا تعتني بالبحث عن الحقائق كما هي. ومن ثم لا يمتلك في ذاته قيمة علمية  معرفية إيجابية. والغزالي نفسه لم ينكر هذا الاستنتاج بما في ذلك في (تهافت الفلاسفة) نفسه ولا في أي من مؤلفاته الأخرى. رغم أنه ظل يكنّ إعجاباً خفياً له يردده بين الحين والآخر، بما في ذلك في مؤلفاته المتأخرة مثل (جواهر القرآن) و(المقصد الأسنى) و(المنقذ من الضلال) وغيرها من الاعمال. ومن الصعب فهم قيمة ولا قيمة (تهافت الفلاسفة) وأهميته الفكرية ولا علميته في الوقت نفسه دون استيعاب ثنائية وازدواجية العوام والخواص في التعامل مع قضايا الفكر والوجود الاجتماعي والعقائدي المميزة لعصره.

إن انتقاده الأولي للفلاسفة، كان يمثل بالنسبة له المواجهة الفكرية ومستواها الأرقى. وإن إدراكه الجزئي لضعف أسلوبه النقدي في (تهافت الفلاسفة) يقوم أساساً في محاولات كشف تقليدية المذاهب الفلسفية وزرع بذور الشك في يقينها الجازم وإبراز ضعفها المنطقي في "قضايا الإلهيات". وفي هذا الميدان الأخير ومنه تظهر الحاجة الملحة للدفاع عن عقيدة العوام، أو بصورة أدق حراستها من "البدع والضلالات"، أي أن هذه الممارسة النقدية ولّدت في أعماقه عناصر الإدراك الأولي عن أن نقده للفلاسفة هو أيضاً جزء من مهمات حراسة عقيدة العوام. ولكن هل يعني ذلك بأن الانتقادات الكلامية ذاتها لا تمتلك صفة الحقيقة و"شرعيتها" مازالت هي من ميدان الدفاع لا الكشف، ومازالت هي في مستوى عقيدة العوام لا الخواص؟ إن الغزالي لا يجيب على هذه الأسئلة بصورة مباشرة. غير أن آراءه  اللاحقة تؤيد هذه الفرضية. بمعنى خلوها المباشر من عناصر البحث عن الحقيقة كما هي، أو عن الحقيقة الإيجابية. فكتاب (تهافت الفلاسفة) لا يبحث عن حقيقة، بل عن تهافت "الحقائق". وفي هذا تكمن أهميته النقدية بالنسبة لتجربته الفكرية واستمرارها في شحذ ذهنه المعرفي.

فقد ظل (تهافت الفلاسفة) يشكل عنصراً ضرورياً في وعي الغزالي، وبالأخص ما يتعلق منه بالجانب العقائدي. إلا أن هذا الأخير لا يتطابق مع معتى الخلو التام من الحقيقة واللاعقلانية. إذ لم يسعَ الغزالي لتحويل عقائديته الإسلامية إلى ميدان "اللاهوت السلبي"، رغم أن اللاهوت اتخذ لحد ما مظهر الوسيلة المباشرة لنقد الفلسفة. وبهذا المعنى يكون قد فسح المجال لانتقادهما كليهما. رغم أن ملامح هذه الظاهرة ظلت جنينية الطابع في (تهافت الفلاسفة). فالغزالي ينتقد ضمنياً هنا علماء الكلام على فطانتهم البتراء وبصيرتهم الحولاء، أي أنه يسعى لإعطاء علم الكلام تجانسه الأوسع والأدق والأعمق في الكيفية التي ينبغي أن يدافع بها عن عقيدة العوام. وفي مجرى هذه العملية  النقدية، أو على الأقل في نهايتها الأولية أخذت تبرز أمام ناظريه البصيرة الحولاء لعلم الكلام نفسه.

لقد كان جهده الأولي منصباً أيضاً من أجل تهذيب الفطانة البتراء للمتكلمين في مواقفهم من الفلاسفة. وحاول ترميم أحجارها من خلال إثبات ضعف يقينية الأحكام الفلسفية. وبهذا يكون قد تغلغل في وعيه الطابع السلبي لكليهما إلى الدرجة التي أصبح هو  نفسه أسير صراعهما غير المجدي. غير أن ذلك لا يعني التقليل من أهمية هذا الصراع. إذ يستحيل توقع الصيرورة الفعلية لكينونة الغزالي خارج هذه "اللاجدوى"، التي انتجها مسار قرون من شحذ همم العداء المتبادل. فقد كان الصراع في أغلبه يحتكم من حيث حوافزه إلى عناصر الثقافة ورموزها المعرفية. الأمر الذي أدى إلى أن يبدع في دهاليزه المظلمة قيم المعرفة الحقة وضغائن الجهل المذهبي والفرقي. وقد أبدع هذا "المأزق" الحي للثقافة الروحية على مثاله دينامكية الوعي الحاد تجاه رؤيته للنفس والأغيار. أما بالنسبة للغزالي فقد كان ذلك أسلوب تطوره الشخصي، أي انكساراته وأزماته و"انقاذه من الضلال". في حين يشكل ذلك بالنسبة للمعرفة أسلوب احتكامها إلى فيصل الحقيقة وأحكام الوهم. وذلك لأن علم الكلام، كما سيقول  الغزالي لاحقاً، هو جدل ملفّق بفعل استناده إلى التقليد وانطلاقه من مسلمات تفتقد هي ذاتها إلى برهان ودليل. أما الفلاسفة فإنهم أيضاً لم يأتوا بجديد. وذلك لأنهم أيضا مقلدون جدد. وبهذا المعنى فإن التقليد الفلسفي لا يختلف في جوهره عن تقليد العوام في الإيمان[9].

إن انتقاد الغزالي للفلاسفة ذو حدين. فهو يسعى من جهة للبرهنة على أنه لا جديد في الفلسفة العربية الإسلامية، ومن جهة أخرى صاغ مهمة تحطيم الهيبة التقليدية لأي كان. فهو ينطلق من أن مصدر "كفر" أغلب فلاسفة الإسلام يقوم في اتباعهم أسماء شهيرة مثل سقراط وبقراط وأفلاطون وأرسطو. بمعنى التأثير النفسي للغريب والشاذ. في حين أن هذه النزعة المميزة لمتفلسفي الإسلام وفلاسفته، أي أولئك الذين يقتفون الأسماء دون الحقائق ويدعون الترفع عن مسايرة العوام والدهماء، ما هو في الواقع إلا ظن الارتفاع عن التقليد، أو كل ما اعتبره مجرد انتقال "من تقليد الحق إلى تقليد الباطل". فهو من بين أوائل مفكري الإسلام الكبار، الذين حاولوا الكشف عما يمكن دعوته بضعف المناعة الثقافية المميزة لظاهرة التفلسف الإسلامية. وبغض النظر عن التجني النسبي في مواقفه الجدلية هذه من فلاسفة الإسلام، إلا أنه أشار دون شك إلى جانب مهم للغاية فيما يتعلق بالاستقلال الفكري ودوره في تمتين اليقين المعرفي. إنه حاول انتزاع نفسية التقليد المغتربة. فهو لم يقف ضد التفلسف أو التفاعل الثقافي. على العكس! إنه أراد أن يعطي لهذا التفاعل طابع التعامل المعرفي الصادق المبني على أساس إدراك الحقائق ورفض التقليد. وبهذا المعنى فقط ينبغي فهم تشديده على تقليدية الفلاسفة باعتباره انتقال من تقليد الحق إلى تقليد الباطل. وإلا فإن التقليد واحد من حيث انعدام قيمته المعرفية، أو ما صاغه بعبارة أن الانتقال من تقليد إلى تقليد ما هو إلا خرق وخبال[10].

فهو لا يتجاهل حقائق الفكر الفلسفي وإنجازاته ولا يرمي جانباً قيمه الكبرى. فهو يؤكد على ما يسميه "بحسن أصول الفلاسفة ودقة علومهم"[11]. وحدد ذلك أسلوبه النقدي تجاه الفلسفة والفلاسفة. فهو يدرك منذ بداية الأمر طبيعة العناصر السلبية في أسلوب انتقاده للفلاسفة، أي كل ما وضعه في مضمون ومنهجية "مقابلة الإشكالات بالإشكالات". وليست هذه الإشكالية السلبية سوى التعبير الجدلي المناسب لأحد نماذج الشك العقلي، الذي يدفع إلى المقدمة مهمة إظهار "فساد كلام" الخصم. وقد جعل من هذا الأسلوب مقدمة وغاية (تهافت الفلاسفة)، أو ما دعاه "بتكدير مذهبهم" و"إبطال دعواهم بمعرفة القدم"[12]. وقدم على صفحات (تهافت الفلاسفة) أمثلة كثيرة تكشف عن طبيعة أسلوبه النقدي هذا. فالفلاسفة تجيب، على سبيل المثال، عن السؤال المتعلق بسبب حركة الأفلاك التي يجري بعضها من الشرق إلى الغرب وبالعكس مع تساوي الجهات (لاسيما وأن تساوي الجهات يساوي تساوي الأوقات) استناداً إلى فكرتها القائلة بأنه فيما لو دارت الكواكب في اتجاه واحد، فإنه سيكون من غير الممكن تباينها في الأوضاع والمناسبات، في حين أن هذه المناسبات هي مبدأ كل الحدوث في العالم. وعلى الرغم من أن الغزالي لا ينفي اختلاف جهة الحركة وأشكالها، إلا أنه يثير إشكالية التمايز في الجهات والحركات. فإذا كان رأي الفلاسفة يستند إلى الفكرة القائلة بعدم إمكانية تساوي المتقابلة، فإن ذلك، حسب نظره، ليس بأكثر من الاعتراض القائل بأن التقدم والتأخر في وجود العالم متضادان فكيف يمكن تساويهما. وإذا كان الفلاسفة يتمسكون بآرائهم فلم لا يحق لمعارضيهم أن يعتبروا آراءهم هي الأصح[13].

بصيغة أخرى، إن الغزالي يسعى كما هو جلي من مواقفه هذه إلى دحض دعوى الفلاسفة امتلاك ناصية الحقائق أو سلوكها سلوك الحاكم على كل ما هو موجود، لا معارضة الحقائق كما هي. وبهذا المعنى يكون (تهافت الفلاسفة) أحد نماذج الانتقاد العقلي للتراث الفلسفي. وهو في الوقت نفسه تمثل كلامي فلسفي بليغ للعقلانية المؤدلجة، التي حاولت أن تربط في كل واحد إبراز أهمية العقل ومحدوديته أيضاً في قضايا الميتافيزيقيا الإلهية. وبالتالي، فإن انتقاده للفلاسفة هنا هو مجرد اتجاه معارض ضمن الإطار العام للعقلانيات الفكرية، أي محاولة الكشف عن عدم تجانس أو تهافت العقلانية المنطقية للفلاسفة في قضايا الإلهيات. فهو يظهر هنا كفيلسوف ضد الفلاسفة، ومن ثم التجسيد الخاص لما يمكن دعوته بالنقد الفلسفي للفلسفة.(يتبع....).

 

ا. د. ميثم الجنابي

........................

[1] ما يثير اهتمامي هنا ليس مقدمات وتقاليد الصراع بين علم الكلام والفلسفة، بقدر ما يقوم في الكشف عن خصوصية هذه العلاقة عند الغزالي، بوصفها مقدمة معرفية وثقافية ساهمت في انتقاله إلى التصوف. فقد سعى الغزالي اساسا لدحض آراء الفلاسفة وأحكامهم عن الطابع المنطقي للفلسفة بصدد الإلهيات معتبرا إياها مجرد أحكام نفسية. واستند في مواقفه هذه إلى حصيلة الجدل بين الفلسفة والكلام وبراهينهم وحججهم. وإذا كانت هذه التقاليد "العدائية" الصفة المميزة لثقافة المرحلة ككل، رغم مساعيها الموازية في تأسيس فكرة وأصول الإجماع، فإننا نستطيع استشفاف فاعلية الجدل وراء كل ذلك، أي حول كل ما سيهاجمه الغزالي في وقت لاحق.

[2] والمقصود بذلك تأثره بكتاب (الشفاء) لابن سينا.

[3] الغزالي: المنقذ من الضلال، ص94.

[4] الغزالي: المنقذ من الضلال، ص94.

[5] الغزالي: المنقذ من الضلال، ص94.     

[6] الغزالي: المنقذ من الضلال، ص65.

[7] الغزالي: مقاصد الفلاسفة، ص3-4.

[8] الغزالي: جواهر القرآن، ص21. تعكس هذه الصيغة إدراك الغزالي لضرورة التمييز الجزئي والنسبي بين كتبه الكلامية (التقليدية) أو ما اسماه بالطبقة القريبة والتي ما فوقها وفي جنسها مثل (تهافت الفلاسفة). وسوف اتناول هذا التمايز من حث خصوصيته وطبيعة تأثيره في قضايا الكلام والفلسفة عند الغزالي.

[9] الغزالي: تهافت الفلاسفة، ص73.

[10] الغزالي: تهافت الفلاسفة، ص74.

[11] الغزالي: تهافت الفلاسفة، ص74.

[12] الغزالي: تهافت الفلاسفة، ص123.

[13] الغزالي: تهافت الفلاسفة، ص106-107.

 

في المثقف اليوم