دراسات وبحوث

إشكالية العقل والأخلاق في المصير الروحي للغزالي (2-4)

ميثم الجنابي "الجنون فنون" 

إن تقييد وتقييم الغزالي للحركة الباطنية بكل اتجاهاتها في مفهوم التعليمية، جعلها في الوقت نفسه سهلة أمام انتقاده العقلاني اللاذع. فهو لا يتحدث عن اتجاه ما محدد في الباطنية، لكنه يقصد في أغلب آرائه ومواقفه النقدية الحركة الإسماعيلية بصيغتها الشعبية العملية. ونعثر على كل ذلك في العبارات التي يوردها عنهم مثل أن "النقل عنهم مختلف"، و"أن أكثر ما حكي عنهم إذا عرض عليهم أنكروه" وما شابه ذلك، أي أننا نقف من حيث الجوهر ليس أمام ظاهرة انتقاد المؤلفات الفكرية والمصادر النظرية الأساسية للإسماعيلية، بل أمام ما نقل عنهم وما حكي عنهم. ويفسر الغزالي هذه الظاهرة بكونهم "لا يخاطبون الخلق بمسلك واحد"[1]. مما جعله حذراً إلى الدرجة التي اعترف بها قائلاً "إن جملة مذهبهم يقتضي لا محالة أن يكون النقل عنهم مضطرباً"[2]. وهو يقدم أكثر من مثال للبرهنة على ذلك. فهو يؤكد على سبيل المثال، أنهم جميعا ينكرون القول بالإباحة المطلقة ورفع الحجاب واستباحة المحظورات وإنكار الشرائع إذا نسب إليهم. ثم يضيف إلى ذلك معلقاً، بأن "الذي يصح من معتقدهم فيه، أنهم يقولون لابد من الانقياد للشرع في تكاليفه على التفصيل الذي فصله الإمام من غير متابعة للشافعي وأبي حنيفة وغيرهما"[3]. والغزالي لا يقف ضد ذلك في الفقه، في حالة كونه جزءاً من الاجتهاد. بل على العكس، إنه وقف ضد محاربة الاجتهاد بأية صيغة ظهر وبأي شكل تشكل. إذ لم يجد في تقليد الإمام عوضاً عن تقليد الآخرين أصالة ما تستحق الاحترام والإجلال. لهذا وقف بالضد من تعصب ومحدودية ربط الحقيقة والتكليف بشخص ما دون آخر، أو ربط الحقيقة بالإمام المعصوم أو أي إمام آخر. إلا أننا نعثر في أماكن أخرى من (فضائح الباطنية) على ما يشير إلى قراءته بعض كتبهم وما كتب عنهم، وتصنيف آرائهم إلى الدرجة التي لم يستطيعوا هم أنفسهم أن يصنّفوه. وهو يقصد بذلك أساساً القضايا التي عالجها. وإلا فالمؤلفات الإسماعيلية تتصف بالدقيق والتصنيف المفرط، الذي لا يدانيه من حيث الترتيب الفكري أي من الاتجاهات والمدارس الإسلامية آنذاك. ذلك يعني، أن الغزالي لم يقصد بعبارته تلك سوى تعميم المفاهيم الجوهرية المشتركة للحركات الباطنية. فهو يتكلم عن "المشترك" بينهم، وبالأخص حول أفكارهم عن إبطال الرأي والدعوة إلى التعلم من الإمام المعصوم.كما يشير بوضوح إلى أن ما يهمه في كتابه هذا هو مناقشة آرائهم عن "إبطال الرأي وإثبات التعلم"[4].

فهو يدرك الجوانب العديدة المميزة للفكر الباطني ونظراته إلى الوجود والله والصفات والأفعال ونظرية العقول والأفلاك وغيرها من الأفكار. وهو يؤكد على أن الباطنية غيّرت وحوّرت آراء الفلاسفة وأدلتهم[5]. ولهذا السبب وضع مهمة وخطة مهاجمتهم على ثلاثة مستويات وهي الأمور التي يمكن قبولها، وإلى ما يتعين من الشرع إنكاره، وإلى ما هو منكر ينبغي مهاجمته. ولا يضع الغزالي في المستوى الأخير من آراء الباطنية سوى ما يخص مذهبهم من "إبطال الرأي وإثبات التعليم من الإمام المعصوم"[6]. بصيغة أخرى، إنه يشدد على خصوصية مهمته وغاياتها في الجدل مع الباطنية. لهذا سعى في استعراضه النقدي لآرائها بصدد قضايا الإلهيات ومسألة المعاد والقيامة والنبوة والإمامة وغيرها للكشف عن طابعها الفلسفي، من أجل إحالة القارئ إلى (تهافت الفلاسفة)، ومن أجل إبقاء ما هو مميز للباطنية أمام مبضع الجدل العقلي.

فهو يردد نفس آراء "النقلة" من أن الباطنية تقر بإلهين قديمين، ولكنها أطلقت عليهما تسميات السابق والتالي. وينطبق هذا بدوره على تسميات العقل والنفس (فلسفياً) والقلم واللوح (شرعاً). بينما تؤدي آراؤهم بصدد الصفات والذات الإلهية إلى نفيهما. إذ ليس في الوجود مبدع بنظر الباطنية، حسب عبارة الغزالي، سوى الوجود ذاته، بما في ذلك المعادن والنبات والحيوان والإنسان. وإن هذه الأفكار بنظره هي حصيلة آراء الفلسفة الدهرية والثنوية والمجوسية المصاغة بالعبارات الإسلامية. أما في مجال القضايا اللاهوتية فإن الباطنية حسبما يقول الغزالي، تبدو أكثر تجانساً في"زندقتها". بمعنى اتفاق الاتجاهات الباطنية على إنكار القيامة استناداً إلى آرائها القائلة بأن نظام الطبيعة يدل على الحركة والخلق الدائم والوجود الدائم. وأن القيامة بالتالي ما هي إلا رمزاً لخروج الإمام وقيام قائم الزمان الناسخ المغير للأمر، أي إبطال مفهوم القيامة الديني وتحويله إلى رمز سياسي. وينطبق هذا بدوره على آرائها بصدد قضايا المعاد. فالأفكار الباطنية "المادية" تظهر هنا كتجل متجانس للفكرة الفلسفية الأخلاقية التي توّحد في كل واحد النزعة الطبيعية والروحية الأخلاقية في مفهوم الحياة والموت. بمعنى إقرارها بأنه ليس هناك من حشر ونشر ولا جنة ولا نار بالمعنى المتعارف عليه. إذ ليس المعاد سوى رجوع الكلّ إلى الكلّ، والكلّ إلى أصله. فالإنسان هو وحدة العالم الروحاني والجسماني. فالجسماني يرجع بفعل مكوناته إلى عناصر الوجود الأربع (النار والتراب والهواء والماء)، والروحاني يرجع إلى أصله باعتباره رجوع النفس المدركة العاقلة(الروح) في حالة تزكيتها الحياتية وتغذيتها بغذاء المعارف والعلوم المتلقاة من الأئمة إلى العالم الروحاني. من هنا فكرة الباطنية القائلة بأن كمال النفس في موتها. إذ هو ميدان تحررها من قيود الجسد. لهذا السبب قيل "إن الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا". فالنوم هو الموت وفيه يظهر علم ما لا يحصل في اليقظة. وكذلك الحال بالنسبة للموت. فهو يكشف أموراً لم تخطر على قلب البشر. إلا أن هذه الحالة لا تخص غير أولئك الذين تقدّست نفوسهم بالرياضة العملية والعلمية. فكلما تبتعد النفس من الحسيات تقترب وتكون أكثر استعداداً وقوة للعلوم الروحانية، على عكس القوى المغمورة في عالم الطبيعة. واعتبر الغزالي هذه الأفكار مجرد ترديد لآراء الثنوية والفلاسفة الدهرية. بينما وجه انتقاده لها بالطريقة التي حاول فيها البرهنة على افتقادها للعقلانية أو منافاتها للعقل. وذلك لأن بعث الأجسام، كما يقول الغزالي، ليس أكثر صعوبة من خلقها الأول. وهو لا يناقش معضلة الخلق الأول، بقدر ما أنه ينظر إليه كبديهة أولية. فهو لا يهمل فكرة الابتداء لأجل دحض فكرة معقولية الابتداء ولا معقولية الإعادة. ففي استعراضه آراء المتكلمين والفلاسفة ينطلق من المقدمة اللاهوتية القائلة إنه ليس من المستحيل توقع إعادة العلاقة التي خلقها الله بين النفس والجسد. إذ أن لها مثالها في الواقع وهو حال اليقظة بعد النوم. ومن هنا فإن إنكار البعض للمعاد مبني لا على أساس عقلي، بقدر ما أنه مبني على أساس محدودية التجربة. فإنكار البعث مبني على أساس عدم المشاهدة. إذ لو فرضنا أن الإنسان لم يشاهد خلق الإنسان من النطفة، كما يقول الغزالي، وقيل له ذلك لرفض التصديق به. فالإنكار هنا، كما هو الحال في أمور أخرى مشابهة هو مجرد إقرار في القول كل على قدر مشاهدته، لا على طريق معقول في إثبات الاستحالة. إذ أن البعث وإعادة الأجساد ليس مستحيلاً في العقل وجوده وتصوره. فالإنسان يؤمن بخلقه وحياته وموته لأنه رأى ذلك وشاهده. ولا عذر له في رفض البعث سوى عدم المشاهدة.  في حين أن البعث مع ما قبله في ميزان العقل على وتيرة واحدة[7].

لكن إذا كان انتقاده للآراء الباطنية بصدد القضايا المشار إليها أعلاه مبنياً على أساس كشف محدوديتها العقلية، فإن موقفه من  آرائها بصدد قضايا النبوة والإمامة تتخذ منحى آخر. فهو يتناولها أيضاً باعتبارها قضايا معرفية مستقلة، دون أن يعني ذلك كفه عن رؤية حوافزها "الثنوية". فقد نظرت الباطنية للنبي نظرتها إلى شخص فاضت عليه من السابق بواسطة التالي "قوة قدسية صافية"، أي تلك الظاهرة الممكنة من حيث مناسبتها لما يتمتع به أولئك الذين يرون بالمنام ما سيحصل لهم مستقبلاً أو أولئك الذين زكت نفوسهم. إذ ليس النبي سوى ذلك الذي يرى ما يحدث في اليقظة، أي القادر على إدراك الكليات العقلية "عند شروق ذلك النور وصفاء القوة النبوية، كما تطبع مثال المحسوسات في القوة الباصرة من العين عند شروق نور الشمس على سطوح الأجسام الصقيلة"[8]. إذ لا يعني جبرائيل سوى العقل الفائض على النبي ورمزاً إليه، في حين أن القرآن هو التعبير عن المعارف التي فاضت عليه من العقل (جبرائيل). وبهذا المعنى هو كلام الله بإعجاز باعتباره كلاماً مركباً (من حروف وكلمات وصوت)، في حين أن ما يفيض على النبي من العقل (جبرائيل) هو بسيط لا تركيب فيه. لهذا فهو "باطن لا ظهور له". أما كلام النبي وعبارته عنه فهو ظاهرة لا بطون لها[9].

وعلى الرغم من انتقاده الجزئي لهذه المفاهيم واختلافه معها في بعض الجوانب الجوهرية، إلا أنه يؤكد على أن في آراء الباطنية بصدد النبوة مما لا ينكر[10]. ومن هنا فإن الخلاف الذي يتعمق لاحقاً بينه وبين الباطنية بصدد القضايا المتعلقة بالنبوة مرتبط أساساً بموقفه المعارض "لباطنية" الباطنية وهرمية تصوراتها عن النبوة ودعواها عن العصمة الإمامية والنص الإلهي (على الخلافة). إذ جعلت الباطنية من "النص" المعيار الأعلى والوسيلة الشاملة لأحكامها، بينما لا تستند فكرة النص الباطنية إلى أساس متين وحقيقي.  إذ لو كان التواتر حقيقياً، لعرفه الجميع مثلما نعرف عن أخبار الماضي من المعارك والحروب والرجال والبلدان وغيرها. إضافة لذلك أن القائلين بالعصمة اختلفوا أنفسهم في الإمامة والأئمة. بمعنى افتراقهم إلى شيع عديدة ومتصارعة. أما النصوص التي عادة ما تستشهد بها الفرق الباطنية مثل "من كنت مولاه فعلي مولاه" و"أنت مني بمنزلة هارون من موسى ولكن لا نبي بعدي" وغيرها، فإنها لو كانت نصوصاً صريحة لما استجهلها الناس. في حين أننا نعرف جميعاً، كما يقول الغزالي، وبالتواتر عن وجود علي وخلافته. إذ لو كان هذا النص صريحاً دالاً على الخلافة لما كان بالإمكان مخالفته، كما هو الحال بالنسبة للصلاة والصوم والحج. بصيغة أخرى، إنه يحاول البرهنة على أن النص الشيعي الباطني هو مجرد ظن وتأويل لا يتطابق مع الحقيقة. لاسيما وأن فكرة ونفسية النص والإقرار به لم تتفرد به الفرق الشيعية فقط، بل وحتى الأموية والبكرية (التي أقرت بخلافة أبي بكر) ووالراوندية (التي أقرت بخلافة العباس) وغيرهم. فالنصوص هي "ألفاظ محتملة وليس تصريح"[11]. وفيما لو فتح باب التأويل والظن هنا لاشترك الجميع كل حسب قدرته ومشيئته ورغبته بفعل امتلاك الجميع القدرة على ذلك مما أدى إلى استحالة معرفة الحق من غيره.  وذلك لأن الجميع تمتلك القدرة على الخيال.  إضافة لذلك إن الرجوع إلى فكرة النص هو دليل العجز النظري الفكري. فالنفوس "تضطرب بأقصى الإمكان ولا تتعلق بالشبهة إلا عند العجز عن البرهان"[12]. وقد حدد ذلك رفضه لفكرة العصمة باعتبارها فكرة منافية للمنطق والعقل. إذ بأي طريقة يمكن الكشف عن حقيقة العصمة؟ عن طريق العقل والنظر أم عن طريق السماع والخبر؟ فالطريق الأخير ليس له أساس ضروري. أما عن طريق العقل والنظر فإنه يؤدي في منظومة التصورات الباطنية إلى مأزق وتناقض لا يمكن تذليله. فالعقل يرفض فكرة العصمة بحد ذاتها. من هنا تتبعه فكرة العصمة والإمام المعصوم في كافة مستوياتها مثل قضايا العوام والمعجزة والعقل والنظر والتاريخ والتواتر السمعي. وعندما يؤكد على أن من غير الممكن التصديق بالإمام المعصوم ومعجزته فذلك لأن المعجزة الممكنة هنا هي معجزة القرآن فقط. وهو لا يتناول هذه الفكرة هنا إلا من زاوية أهميتها العقائدية. وإلا فهو يدرك شأن الكثيرين من مفكري تلك المرحلة إمكانية إنكار المعجزات. لهذا السبب لم يقر بالتواتر الذي يوجبه العلم الضروري إلا في القرآن[13]. وبهذا يكون قد رفض أي إقرار بأهمية النص والتواتر، باستثناء القرآن. ففي ظاهره هنا يبدو كما لو أنه يسير في إطار الظاهرية المباشرة، بينما تتضمن حقيقة أفكاره حوافز الدفاع عن العقل في التعامل مع قضاياه.  وبالتالي رفض أية معرفة خارج أطرها الواقعية وأسسها العقلية. من هنا هجومه ضد فكرة علم الباطن للإمام المعصوم. فهو لا يقف هنا ضد "العلم الباطني" بقدر ما يقف ضد ما يمكن دعوته "بالأدلجة الباطنية" واحتكار الحقيقة التي يمكن أن تؤدي في قناعتها الذاتية إلى السفسطة المطلقة. وفي محاولته إظهار هذا الجانب لم يسعَ إلا للكشف عن الإمكانية القائمة فيما يمكن دعوته باللامنطقية المغرورة بنفسها. فالفكرة الباطنية القائلة بقدرة الإمام المعصوم على حل كل رموز الباطن لا يمكن فهمها بالنسبة للتابع والمؤيد إلا بالسماع والرؤية. وكلاهما مستحيل بفعل وجودهما داخل قلب الإمام. وإذا كان الأمر كذلك، فما هو يا ترى العائق من أن تكون اللفظة السماعية التي يطلقها الإمام هي مجرد باطن آخر. وتحت كل باطن باطن آخر، وهلمجرا. بل وحتى في حال إنكار الإمام أن يكون تحت هذا "الباطن الأخير" باطن جديد، فلربما يقصد بذلك الرفض والإنكار رمزاً آخر لباطن آخر[14]. وإذا كان الأمر كذلك فمن الممكن توقع إمكانية كذب "الإمام المعصوم" في تأويلاته للقرآن. إذ من المحتمل أن تكون كل تأويلاته لأجل حاجة أو مصلحة محددة أو سر ّمجهول جاز للإمام أن يظهر خلاف ما يضمره أو ضد ما يفهم منه[15]. من هنا يبدو واضحاً بأن الغزالي يسعى أساساً لكشف نقاط الضعف التي سبق وأن أعتبرها صنف من أصناف الجنون.(يتبع....)

 

ا. د. ميثم الجنابي

...........................

[1] الغزالي: فضائح الباطنية، ص23.

[2] الغزالي: فضائح الباطنية، ص30.

[3] الغزالي: فضائح الباطنية، ص26.

[4] الغزالي: فضائح الباطنية، ص27.

[5] الغزالي: فضائح الباطنية، ص27.

[6] الغزالي: فضائح الباطنية، ص31.

[7] الغزالي: فضائح الباطنية، ص34.

[8] الغزالي: فضائح الباطنية، ص26.

[9] الغزالي: فضائح الباطنية، ص27.

[10] الغزالي: فضائح الباطنية، ص27.

[11] الغزالي: فضائح الباطنية، ص92.

[12] الغزالي: فضائح الباطنية، ص92.

[13] الغزالي: فضائح الباطنية، ص94.

[14] الغزالي: فضائح الباطنية، ص34.

[15] الغزالي: فضائح الباطنية، ص34.

 

في المثقف اليوم