دراسات وبحوث

استمرار الفكر وخصوصية التآلف الصوفي عند الغزالي (1-2)

ميثم الجنابيلقد توج الغزالي بإبداعه صرح المنظومة الفكرية الجديدة، مرحلة كبرى في تطور ثقافة الخلافة، حيث تضمّن في أساسه نفي تقاليد واستمرارية علومها النظرية والعملية الأساسية. مما فسح المجال لاحقا أمام تطور منظومات الفكر الإسلامي بصيغ غاية في التباين. بحيث صيّره التاريخ مستودعا عميق المحتوى وممداً لرجالات الفكر ومحترفيه من متكلمين وفقهاء وصوفية وفلاسفة. لهذا كان بإمكان السهروردي المقتول وابن رشد وابن عربي وغيرهم ان يستمدوا منه دون أن ينضب.

ولم يكن بإمكان هذا التآلف الفكري أن يستكمل عناصره ويفرز تأثيراته خارج اطار الاتجاهات العامة للثقافة القائمة آنذاك. والمهمة الآن لا تقوم في الكشف عما إذا كانت عملية التآلف الفكري التي انجزها في بوتقة الصوفيه وتقاليدها هي حصيلة الرغبة الذاتية الخالصة، أو الاضطرار الذي لا مفرّ منه، أو النتاج المنطقي للبحث عن حقائق الأشياء، أي كل ما نعثر عليه فيما يرويه لنا في بحثه عن منقذه من ضلال الخطأ والخطيئة. وهو استنتاج لا يمكن نفيه، على الأقل في الصيغة "التقليدية" لتوليف الوعي الصوفي وقدرته على إحالة التصورات الظاهرة إلى منشئها الأول من اجل إعادة اكتشافها من جديد في ضوء الموقف الأخلاقي. بمعنى النظر إليها من زاوية نفي التقاليد العادية وإعادة لحمها في تسوية الإرادة ووجد الانتظار.

فالمادة "الوثائقية" المبثوثة في مؤلفاته تكشف وتشير إلى بوادر أولية في وعي البحث عن الحقيقة وحقائق الأشياء كما هي، أو محاولة إبداع البديل الفكري الإيجابي، حالما اصطدم به في ميدان الصراع الفكري الجدلي لا الفقهي النظري العملي. آنذاك نكتشف للمرة الأولى التخطيط المسبق لعناصر الوعي اللاحق. ولعل مثال (تهافت الفلاسفة) الصيغة الأكثر جدية ووضوحاً في الكشف عن هذه الظاهرة العفوية الضرورية، أي التعبير المجرد عن استمرارية الفكر وضرورة البديل الفكري. ففي انتقاده لاتجاهات الفلسفة القائمة آنذاك، كان يدرك افتقاد منهجه للايجابية الحقة. وبهذا المعنى قد اكتشف لنفسه الخواء الجزئي للتقاليد الكلامية الاشعرية التي تربى بها. فالجدل العنيف في  أغلب الحالات، لا يقنع المفكر بضرورة البديل الفكري الشامل. انه يظهر بمظهر وآلية القوة العسكرية، التي تفقد فيها كلمة البناء معناها الحقيقي، لتتحول إلى وسيلة التدمير الأقوى للمعارضة. وعلى الرغم من سمو الفكر ونبله، إلا انه ليس أقل جرأة وتخريبا، خصوصاً عندما يتخذ صيغة "مقابلة الإشكالات بالإشكالات" دون حلها. وهو الأسلوب الذي اتبعه في صراعه ضد الفلسفة وجزئياً ضد الاتجاهات الباطنية. وقد وجد منذ البداية ضيق ومحدودية هذا "المنهج" والممارسة الفكرية، التي سيدعوها لاحقاً "بعلم الدفاع عن عقيدة العوام" لا البحث عن الحقائق كما هي. مما جعله منذ البداية يخطط  "لقواعد العقائد"، أي للرد الإيجابي الذي يتضمن الفكرة الشاملة والقادرة على الاقناع من حيث الشكل والمضمون. وبغض النظر عن التسمية اللاحقة التي سيعطيها  "لقواعد العقائد" والتي تتطابق مع (إحياء علوم الدين) لا (الرسالة القدسية)، فإن ما هو جوهري بالنسبة لنا الآن هنا هو بروز الاستمرارية الواعية لضرورة البديل الفكري، دون ان يعني ذلك تحدد ملامحه منذ الوهلة الأولى في وعي الغزالي. فالتطور اللاحق فقط، في فكره وشخصيته، الذي حللناه سابقاً، إضافة إلى أزمته هما اللذان سيؤديان به إلى الاصطدام بعالم الصوفية، وفيما بعد النظر اليها بوصفها ممثلة الحق والحقيقة. والتجربة الغزالية، أو استمرارية الفكر الغزالي في استيعاب التجربة الصوفية، لم تكن إلا حصيلة تشذيب وتطوير آرائه السابقة في ميدان البحث عن "البديل الإيجابي"، أو ما سيدعوه هو "باليقين العلمي والعملي"، أي وحدة الحقيقة والأخلاق. فهي الوحدة، التي حاول البحث عنها في قضايا اللاهوت والفلسفة والتصوف والوجود الاجتماعي السياسي والحقوقي، أي في قضايا العقل والشرع، والإيمان والمعرفة، والإسلام والإيمان، والحقيقة والشريعة، والتأويل والتفسير، والوحي والإلهام، والنبوة والولاية، والصبر والشكر، والفقر والزهد، والتوحيد والتوكل، والمحبة والشوق، والأنس والرضا، والنية والإخلاص، والظاهر والباطن، والدين والدنيا، والله والإنسان، والخير والشر، والحياة والموت، والجميل والقبيح، والعوام والخواص وغيرها.

وقد ضمّن وأدخل في كافة القضايا الفكرية الكبرى لثقافة العصر آنذاك، حصيلة المعرفة المتباينة للاتجاهات اللاهوتية والفلسفية التي وضعها في صيغ الصوفية ومفاهيمها الأخلاقية والنظرية العملية. وسوف نرى في وقت لاحق تلك الاستمرارية الفعلية في آرائه المتحورة والمتغيرة والمنفية، التي كانت تبحث عن وحدة حقيقية فيما أدعوه بالتآلف الفكري الصوفي. وهذا بدوره ليس  إلا حصيلة تجربته النظرية والأخلاقية التي أدت به إلى إدراك "البصيرة الحولاء" في الفكر القائم آنذاك و"الأخلاق العرجاء" في الممارسة. مما دفعه إلى صياغة فكرة ضرورة اليقين والأخلاق المطلقة. وبهذا المعنى ليس التآلف الصوفي سوى طريق بلوغ وحدة الحقيقة والأخلاق المطلقتين. والتعرج المميز لحياة الغزالي الذهنية والفكرية، الذي أثار وما يزال جدلا وافتراضات عديدة، ما هو في الواقع سوى طريق البحث عن وحدة الحقيقة والأخلاق.

غير أن الغزالي لم يدرك ضرورة هذه الوحدة بين ليلة وضحاها. لقد انتجها تطوره الدائم. ففي أولى مراحل اقترابه الفكري من الصوفية، كما نراه في (ميزان العمل)، اشار إلى أن ما يورده من آراء (بصدد الفقهيات) ليس "الا حكاية عن هذا المذهب الذي مدار أكثر هذا الكتاب على وضعه، وهو مذهب التصوف"[1]، والذي دفعه إليه البحث عن وحدة معيار للعلم والعمل. ولم يسلك هو هنا إلا الصيغة النظرية الظاهرية، التي أخذت تدخل وتتضمن في أعماقها أفكار الصوفية، أو المزج الفكري النظري الاخلاقي للفلسفة بمختلف اتجاهاتها مقالات اللاهوت العقلاني وممارسة التصوف. فهو يؤكد على أن تصورات أهل الدين والفلاسفة والمتصوفة صحيحة في مواقفها العامة من قضية وحدة العلم والعمل باعتباره طريق بلوغ السعادة[2].

وعندما يضرب مثال كيفية بلوغ الحقيقة (العلم) في طريق (عمل) الصوفية واختلافها عن الاتجاهات الأخرى، أى اختلاف الطريقة الباطنية عن الظاهرية، أو ما يدعوه "بتحصيل عين النقش وأسلوب الاستعداد لقبول النقش من خارج"[3]، فإنه رغم قناعته آنذاك بأفضلية الأسلوب الثاني اعتبر الحكم بأفضلية أو أولوية أي منهما، أو الحكم بالنفي أو الاثبات في هذا على الاطلاق هو خطأ انطلاقاً من انه "يختلف بالإضافة إلى الاشخاص والأحوال"[4]. وقد ظل يؤكد على هذه الأفكار حتى في آخر مراحل تطوره الفكري، رغم تعرض بعض جوانبها إلى تغيرات ملموسة. إلا أنها ظلت تحوي في اعماقها استمرار أشكال وصيغ أساليب المعرفة المتباينة، التي ظلت تشكل في منظومته الفكرية مجموعة اللبنات الضرورية التي صاغها تطور ثقافة الخلافة وتعدد اتجاهاتها ومدارسها.

إن الصيغة الأكثر وضوحاً لإدراك ووعي استمرارية الفكر في التآلف الجديد تبرز في ظاهرة الإحالات الدائمة لمؤلفاته القديمة بما فيها تلك التي كتبها في أوائل مراحل تطوره وإبداعه. ويعكس ذلك إمكانية رؤية استمرارية الحجج والبراهين الجدلية ولحد ما أسلوب تفكير الماضي. إذ انه عادة ما يحيل إلى مؤلفاته للاستعاضة عن الاستفاضة بصدد هذه القضية أو تلك. كما نعثر في هذا النمط على مواقفه بصدد ما دعاه "بجانب الدفاع عن عقيدة العوام". فهو يشير إلى هذه المؤلفات باعتبارها كتابات ضرورية في مجال الدفاع عن عقيدة العوام، ولكنها غير ضرورية في مجال البحث عن الحقائق كما هي. غير ان في هذين الجانبين المتعارضين نسبيا، تتعايش وحدة الوعي الغزالي في استمرارية تطوره وارتباطه "بإرثه" السابق. وهذا ما يبرز بوضوح في كل من (جواهر القرآن) و(المنقذ من الضلال). إذ أدرج في (جواهر القرآن) أغلب مؤلفاته الكلامية والفلسفية والفقهية مثل (الرسالة القدسية)، و(الاقتصاد في الاعتقاد)، و(تهافت الفلاسفة)، و(المستظهري أو فائح الباطنية)، و(محك النظر)، و(معيار العلم)، و(البسيط)، و(الوسيط)، و(الوجيز) في الفقه وغيرها في اطار ما دعاه "بالطبقة السفلى من علوم اللباب"[5]. وإذا كان قد وجد في "الطبقة السفلى" من مؤلفاته الكلامية مثل (الرسالة القدسية في قواعد العقائد) ما مهمته "رد الضلالات والبدع وإزالة الشبهات"[6]. فإن مهمة الطبقة الأرفع منها (كالاقتصاد في الاعتقاد) تقوم في "حراسة عقيدة العوام من تشويش المبتدعة، ولا يكون هذا العلم ملياً بكشف الحقائق"[7]. بينما علّق على "انهماكه الفقهي" السالف بعبارة "وقد ضيعنا شطراً صالحاً من العمر في تصنيف الخلاف فيه"[8]. في حين وضع (إحياء علوم الدين) في صنف "الطبقة العليا من علوم اللباب"، وليس بعده اإلا "التصانيف التي لم يظهرها" وذلك لأن "أكثر الافهام يكّل عنه ويستضر به الضعفاء وهم أكثر المترسمين بالعلم"[9]، إي ما سيحصل لاحقاً على تسمية الكتب "المضنون بها". وسوف يردد فكرته التقيمية هذه في مواضيع عديدة بما في ذلك في (المنقذ من الضلال). إلا انه يتناولها هنا على أساس إعادة تقيم التجربة الفكرية لتطوره، التي تتطابق في الواقع مع ما دعاه في (جواهر القرآن) "بدرجات العلوم الدينية وقربها من الحقيقة"[10]. وحتى في تلك اللحظات التي يردد فيها ما سبق وإن أورده في مواقفه ومنهجيته النقدية الأيديولوجية من الفلاسفة في (تهافت الفلاسفة) من إن "الجهل أدنى إلى الخلاص من فطانة بتراء"، فإن هذه الانتقادات اخذت تنصّب في انتقاد  النفس وترتفع إلى مصاف "اتهام النفس". وهو ما أشار له في (جواهر القرآن) بعبارة "إن كثيراً من مدعي العلم والمعرفة"أاو ما اسماه بالمتكاتبين الذين "لم يدركوا الموازنة بين عالم الشهادة وعالم الملكوت. فلما لم يدركوا ذلك وتناقضت عندهم ظواهر الاسئلة ضلوا وأضلوا. فلا هم أدركوا شيئاً من عالم الأرواح بالذوق إدراك الخواص، ولا هم آمنوا بالغيب إيمان العوام فأهلكتهم كياستهم، والجهل أدنى إلى الخلاص من فطانة بتراء وكياسة ناقصة ولسنا نستبعد ذلك. فقد تعثرنا في اذيال هذه الضلالات مدة لشؤم أقران السوء حتى أبعدنا الله عن هفواتها ووقانا من ورطتها"[11].  غير أن ما يقوله هنا لا يخص على العموم إلا الجانب العملي الأخلاقي. وبالتالي انعكاساته الممكنه على أساليب البحث والمعرفة وطبيعة القناعة. وما يشير إليه بتعثره وضلالاته السابقة يمكن إدراجها في اطار موقفه النقدي من تجربته الفكرية والعملية السابقة، الذي يشكل بحد ذاته النموذج الأرقى لاستمرار الفكر. إنها تقاليد الاستمرار النقدي الباحثة عن طمأنينتها القلقة التي ماثلها في إحدى عباراته الرمزية القائلة، بأن "احتراق الاشرار يثير رائحة الفردوس"، بينما العارفون:المطلق. لكنه لم يسع من وراء ذلك وضع الفرد بالضد من المجتمع ولا وضع أحدهما فوق الآخر، ولا مساواتهما بقدر ما انه أراد الكشف والتعبير عن انه دون مثال شخصي متسام وصارم على الدوام لا وجود لمثال اجتماعي وبديل فعلي أمثل. ولم تكن هذه القضية بالنسبة له قضية فردية او  شخصية بقدر ما أنها كانت قضية اجتماعية تاريخية. وفي هذه العملية الواعية من تمازج الفردية والتاريخية نشأ تآلفه الصوفي، باعتباره أحد نتائج وإحدى الإكانات النموذجية، وأحد الافتراضات الواقعية للعملية التاريخية الهائلة من تطور أساليب الوعي والممارسة المحتّدة في سعيها لبلوغ الأمثل والأعلى والأفضل والأجمل في كل ما هو موجود وما ينبغي.

فقد وضعت الصوفية في مجرى تطورها وصاغت بأساليب معراجها الخاصة هيكلية نموذجية صارمة، كان بإمكانها قبول الأراء الغزالية. وبهذا المعنى تكف التقييمات الظاهرية السطحية كالتلفيقية والانتقائية وما شابه ذلك عن أن تمتلك قيمة دقيقة وعلمية تجاهها. وينطبق هذا  أيضا على ما يسمى بسعيه للربط فيما بين السنةّ والتصوف. انه سعى إلى تأسيس تآلف فكري شامل. وإثناء هذه العملية ظهرت بالضرورة أمامه وحدة النتاج الفكري للثقافة الإسلامية في تاريخيتها ومهمة إعادة صهرها من جديد. وقد اتخذ التآلف في الكثير من آرائه مظهر الصياغات السنّية. وبغض النظر عن عضوية هذه المظهرية في منظومته الفكرية فإنها مع ذلك كانت الأسلوب الأكثر "طبيعية" للآراء الجديدة. وبهذا المعنى فإنه يكون قد تتبع أسلوب المتصوفة، الذي بلور شيوخه الكبار تقاليده الأولية. إلا انه طوره بفعل أسلوبه العقلاني ليشمل جميع القضايا الكبرى للوجود الاجتماعي التاريخي. إلا أن الغزالي يبقى مع ذلك خارج إطار ما يمكن دعوته بالصوفية التقليدية. بمعنى أنه اقترب أكثر فأكثر مقارنة "بالصوفية الخالصة". وبهذا يكون قد تعدى وتجاوز "استقلالية" و"انعزالية" الصوفية من احتياجات الناس ووجودهم الاجتما عي التاريخي. فهو يضع المثال الصوفي كهدف للمتصوفة ومريديها، وفي الوقت نفسه يستخلص من مثالهم القيم الأخلاقية وأهميتها الملموسة بالنسبة للأمة. فهو يدرك استحالة تقبلّها من قبل الجميع. وهو هنا يكون قد عمّق مبدأ وممارسة الخاص والعوام. وفي هذا تنعكس إحدى الخصائص المميزة لصوفيته. فهو يرفض، على سبيل المثال، الدعوة للعزلة الشاملة التي قال بها الكثير من الزهاد والمتصوفة. ودحض الأسس الفكرية للبرهنة على إمكانية هذا النوع من العزلة، متوصلا إلى استحالتها العملية ولا جدواها الفكري والأخلاقي. لهذا السبب وقف بالضد من محاولة الاستناد إلى القرآن والسنةّ في اظهار افضلية العزلة المطلقة، تماما كما وقف بالضد من التهور المقابل. انه حاول ان يعطي للتصوف الطابع العملي الواقعي وإمكانية التأثير والفعالية في وسط الخاصة والعامة (النخبة والجمهور). وقد حدد ذلك طبيعة الكثير من المبادئ الجديدة التي ادخلها في صرح التصوف النظري والعملي. مما أعطى للكثير من  آرائه مظهر التعارض مع ما يمكن دعوته بالتعميم الصوفي الفردي، أي معارضة رفع معطيات التجربة الفردية إلى مصاف المطلق، أو ما يمكن دعوته بالمبدأ غير الملزم.

فالفكر الصوفي لا يعترف بحقيقة مطلقة ثابتة، باستثناء الحق. واليقين في اعلى درجاته (حق اليقين) أو ما كان "بنعت العيان" كما دعاه القشيري[12]، أو ما بلغ بالذوق والمشاهدة في الشريعة (الحقيقة) كما دعاه الجرجاني[13]، ما هو في الواقع سوى الحركة المستمرة للحقيقة الذاتية المطلقة والنسبية الملموسة. فالحصيلة المعرفية تبدو كما لو أنها تجمع هائل للحقائق لا ترتبط فيما بينها إلا بإخلاص التجربة الفردية في سعيها نحو السمو الصوفي. وقد ادرك الغزالي هذا الطابع المميز للأحكام الصوفية، على الأقل في ميدان الأخلاق. فقيمة الأخلاق الجوهرية تتخذ صوراً غاية في التباين ترتبط فيما بينها بمراحل تطور الصوفي لا بنظرية الحقيقة المجردة. فقد حدد الواسطي (ت-320 للهجرة) الأخلاق في أن "لا يخاصم ولا يخاصم من شدة معرفته بالله"، بينما حددها القشيري بكلمات "أدناه الاحتمال وترك المكافأة والرحمة للظالم والاستغفار له" أو "لا يتهم الحق في الرزق ويثق به ويسكن إلى الوفاء بما ضمن فيطيعه ولا يعصيه في جميع الأمور فيما بينه وفيما بينه وبين الناس". في حين عبّر الحسين بن منصور الحلاج  عنها بعبارة "أن لا يؤثر فيك جفاء الخلق بعد مطالعتك للحق". أما ابو سعيد الخراز (ت -277 للهجرة) فصاغها بكلمات "أن لا يكون لك همّ غير الله". في حين تعبّر كلمات "أن يكون من الناس قريبا وفيما بينهم غريباً"  ن مثال آخر للفكرة. وجميع هذه الأفكار والأحكام التجريبية المنزع والذاتية المصدر تتفاعل مع ما دعاه الغزالي "بثمرات حسن الخلق"، أي إنها تعبّر عن الفكرة المجردة وتحولها في الوقت نفسه إلى مثال. فالتصوف الغزالي يبحث إذن عن مثال مطلق في كل ميدان يبحثه، ولكن ليس عن مطلق التجربة الفردية، بل عن مطلق الفكرة المجردة. آنذاك ستنفتح أمام الفكر والممارسة طريق اللانهاية الحقيقية.

لقد بحث عن صيغة موّحدة للتصوف على أساس نفي التطرف الفردي فيه ومن خلال صياغة الفكرة المجردة بهيئة منظومة. إنه بحث عن تعميمات الفكر الصوفي تجاه قضاياه ومعضلاته من جهة، وتجاه تطبيقها على معضلات وقضايا الوجود الاجتماعي والروحي من جهة أخرى. وبهذا المعنى، فهو لم ينساق في تقاليد الصوفية السابقة في أسلوبها الخاص الفردي الذاتي، بل سار في اتجاه البحث عن أسلوب وحدة الصوفية في البديل الفكري الشامل. وهذا ما يظهر بوضوح في تلك الانتقادات الدائمة، التي وجهها إلى محدودية التعبيرات الصوفية. فقد أشار إلى أن "كلام المتصوفة أبدا يكون قاصراً. فإن عادة كل واحد منهم أن يخبرنا عن حال نفسه فقط ولا يهمه حال غيره. فتختلف الأجوبة لاختلاف الأحوال. وهذا نقصان بالإضافة إلى الهمة والإرادة والجد حيث يكون صاحبه مقصور النظر على حال نفسه لا يهمه حال غيره، إذ طريقه إلى الله نفسه ومنازله وأحواله. وقد يكون طريق العبد إلى الله العلم. فالطرق إلى الله كثيرة وإن كانت مختلفة في القرب والبعد"[14]. لهذا حاول جمع هذه الطرق على أسس فكرية موحدة باستلهام تراث الصوفية وعقلانية الفكر الكلامي الفلسفي وثقافة العصر الروحية.إاذ سعى على الدوام لإبراز أهمية وجوهرية الفكرة كما هي، خارج اطار الممارسة التقليدية "لوسطها الطبيعي" أيا كانت هذه الممارسة. فالتوكل الصوفي، على سبيل المثال، ينبغي أن يرتبط بنظره لا بالموقف من تقليدية الممارسة وبالأخص من أسلوب نصائح السلوك تجاه الادخار أو عدم الادخار والمدة الزمنية وما شابه ذلك، بقدر ما  ينبغي أن ترتبط بالموقف من الأسباب ومسبب الأسباب. فالزمن ليس إلا غير المتناهي في المتناهي. وفي ما بينهما كما يقول الغزالي، درجات غير متناهية. من هنا فالمقصود ليس إلا إصلاح القلب لا الممارسة التقليدية (الزمنية) بحد ذاتها.

لقد استند  الغزالي بهذا المعنى إلى تراث الصوفية مدخلا إياه في عمق منظومته الفكرية. لكنه ظل على الدوام  منهمكا في البحث عن الصيغة الأكثر شمولية لكافة عناصرها الجوهرية في الفكر والممارسة. الأمر الذي جعلها نوعا من العقلنة الرمزية الصوفية، التي تؤدي بالضرورة إلى نوع جديد من التحديث والتطبيق لمبادئها. فالصيغة التعميمية الجديدة، على سبيل المثال، لمفهوم الشكر الصوفيكانت تهدف الى الكشف عن محدوديتها في الممارسة الفردية. وسعى إلى تحقيق ذلك عبر صياغة خاصة لوحدة العلم والحال والعمل، بنظريته إلى حقيقة الشكر باعتباره وحدة التقديس والتوحيد. وهذه بدورها ليست إلا الصياغة الجديدة لفكرة القشيري القائلة بأن الشكر هو "الاعتكاف على بساط الشهود بإدامة حفظ الحرمة". وبغض النظر عن التمايز اللاحق بين  آراءهما، فإن  أفكار الغزالي ظلت يشكل الاستمرار الفعلي للتراث الصوفي استناداً إلى تجربته الفكرية (النظرية) والعملية (الأخلاقية). وبهذا المعنى لا تمتلك اساسا متيناً الفكرة الشائعة الانتشار حول ما يسمى بربطه للسنة بالتصوف بالطريقة التي تجعل من التصوف مقبولا للعالم السني والسنة مقبولة للتصوف[15]، أي محاولة وضع حد لحروب المائتي سنة (من مصرع الحلاج حتى نهاية القرن الخامس الهجري). فهي فكرة ليس لها أساساً لها في مفاهيم الغزالي ولا في موقع وتاريخية منظومته الفكرية ولا في تطورها اللاحق. وليست المأثرة المنسوبة له حول ما يسمى بربطه التصوف بالسنّة، سوى من اختراعات "الوعي التوفيقي" اللاحقة والحديثة. وهي محاولات تصنع إشكالات عدية اكثر من إمكانية حلها "بالصيغة المثلى" حتى  من جانب اشد الممثلين "سنيّة" للتصوف الإسلامي. والسبب يقوم في طبيعة المعضلات الخاصة المميزة لتقاليد الوعي والممارسة الصوفية، التي تجعل من مطابقتها مع نموذج ما معين من "الوعي السنّي" قضية يصعب استساغتها. بل وحتى فيما لو حاولنا ان نطبق ذلك على شخصيتين بارزتين في هذا الاطار وهما عبد القادر الجيلاني (ت-561 للهجرة) وشهاب الدين السهروردي (ت-632 للهجرة) فإننا سوف نقف أمام تباين واختلاف كبير بين آراء الجيلاني في (كتاب الغنية) و(الطوالع)، وكذلك بينها وبين (عوارف المعارف) للسهروردي. ففي كل منهما يوجد ما يمكنه ان يكون معارضا مع ما هو معترف به في هذا الميدان او ذاك من ميادين "الوعي السني". لاسيما وأن ما يسمى "بالوعي السني" لا يخضع لتحديد "حديدي". كما أنه غاية في التشعب والاختلاف والتباين. وفيما لو تركنا هذه القضية جانباً وتناولنا في الاطار العام، طابع العلاقة التاريخي بين التصوف والمدارس السنيّة، فإنها لم تكن على الدوام ذات نسق أو طبيعة واحدة. فالمدارس "السنيّة" متباينة ومختلفة ومتعارضة ومتضادة في مواقفها من العداء السافر في المظاهر حتى الاشمئزاز الخفي، ومن التساهل والتسامح حتى التعاون والتأييد القوي للتصوف وشيوخها. وفي الوقت نفسه تعرضت هذه المواقف إلى تغير وتبدل ارتبطا  بكل من المواقف الفكرية العقائدية والصراعات السياسية للقوى الاجتماعية. فالحسن البصري الذي لا علاقة جوهرية له بالتصوف نراه يتحول إلى رمز وعنصر جوهري في الوعي والممارسة الصوفية اللاحقة. واحمد بن حنبل الذي قاطع المحاسبي وواجهه بالعداء النسبي لم يعق لاحقاً من ان يتحول المحاسبي نفسه إلى أحد ممثلي الورع الإسلامي وأحد ممثلي "التصوف السنّي" عند الحنابلة انفسهم كما هو الحال عند الجيلاني وأتباعه. بل أن المحاسبي نفسه الذي لا نعثر عنده على ذكر كبير للمتصوفة نراه يتحول الى الكتب الصوفية اللاحقة الى شيخ القلوب والأحوال. أما في الواقع،فإن الجدل المرهف والحساس بين الاتجاهات السنية والمدارس الصوفية بدأ مع "محنة الحلاج" التي أدت بدورها الى بلورة نموذج جديد في  تطور الوعي الصوفي وممارساته. وقد استفّز هذا الصراع عالم الصوفية دون أن يغيّره جوهرياً. فالمتصوفة ظلت على الدوام تعي موقعها ومواقفها  باعتبارها ممثلة الحقيقة والشريعة، التي لم تشمّ منها المدارس والاتجاهات السنيّة  بشكل عام والمتشددة منها بشكل خاص، سوى روائح الكفر والزندقة. غير أن الصوفية كانت بحاجة إلى شيوخ كبار من اجل وقف "سوء الفهم السنيّ" الذي سيتصدى له "شيخ الطائفة" الجنيد في بداية الأمر، من خلال شق الطريق في وعي وتقاليد المدارس الصوفية التي تبلورت حتى زمن الغزالي. فالصوفية لم تبحث عما سيدعى فيما بعد بوحدة السنّة والتصوف، بقدر ما انها عمقّت وحدة مفاهيم الحقيقة والشريعة وأمثالها  في بداية الأمر كما نعثر عليها عند كل من ابي طالب المكي والقشيري، باعتبارهما أحد المصادر الصوفية المهمة في فكر الغزالي. اذ نجد نموذجها عند المكي في كشفه لمنظومة التصوف العامة، وعند القشيري على مثال وممارسة شخصياتها وعناصرها الفكرية المتنوعة. لقد حاولا كلاهما، من خلال الرجوع الى المصادر الأولية، البرهنة على أن المتصوفة هم "الصفوة النبوية"، وأنهم المخصصون "بطوالع أنوار الله" و"الدائرون في عموم أحوالهم مع الحق بالحق"، كما أنهم النتاج الحقيقي للإسلام، باعتبارهم ممثلو وحدة الحقيقة والشريعة و"الخالون من البدع والدائنون في افكارهم لما وجدوا عليه السلف أهل السنّة في التوحيد"، كما يقول القشيري[16]. وبهذا المعنى لا تختلف الصوفية اختلافاً كبيراً عما هو مميز للوعي الثقافي الروحي السائد آنذاك بضرورة استمداد الوحدة من المصدر الإسلامي الأول والتطابق معه. لكنه استمداد استند من حيث تطوره التاريخي إلى التجربة الصوفية العلمية والعملية، والذي وج تعبيره في فكرة ومنظومة الحقيقة والطريقة. وقد وقف الغزالي ي مجرى تطوره وانتقاله الفكري أمام شكل رفيع من درجات تطورها. وبالتالي، فإن ما قام به وما انجزه لم يكن وحدة أو توحيدا للسنّة والتصوف، بل تقييما جديدا وشاملا للفكر الاجتماعي السياسي واللاهوتي والفلسفي والصوفي....(يتبع)

 

ا. د. ميثم الجنابي

........................

[1] الغزالي: ميزان العمل، ص118-119.

[2] الغزالي: ميزان العمل، ص21.

[3] الغزالي: ميزان العمل، ص40-41. وقدم الغزالي المثال التالي:"حكي أن أهل الصين والروم تباهوا بحسن صناعة النقش والتصوير بين يدي بعض الملوك. فأستقر رأي الملك ان يسلم إليهم صفة ينقش أهل الصين منها جانبا وأهل الروم جانبا، ويرخي بينهم حجاب بحيث لا يطلع كل فريق على صاحبه. فإذا فرغوا رفعوا الحجاب ونظر إلى الجانبين وعرف رجحان من رحج من الفريقين. ففعل ذلك. فجمع أهل الروم من الاصباغ الغريبة ما لا ينحصر. ودخل أهل الصين وراء الحجاب من غير صبغ وهم يجلون جانبهم. والناس يتعجبون من توانيهم في طلب الصبغ. فلما فرغ أهل الروم أدعى أهل الصين أننا أيضا قد فرغنا. فقيل لهم :"كيف فرغتم ولم يكن معكم صبغ ولا اشتغلتم بنقش؟". فقالوا:"ما عليكم! ارفعوا الحجاب وعلينا تصحيح الدعوى". فرفعوا الحجاب وإذا جانبهم وقد تلألأ فيه جميع الاصباغ الروية الغريبة. إذ كان قد صار كالمرآة لكثرة التصفية والجلاء، فازداد جانبهم بمزيد من الصفاء وظهر فيه ما سعى من تحصيله غيرهم".   

[4] الغزالي: ميزان العمل، ص41.

[5] الغزالي: جواهر القرآن ودرره، ص21-22.

[6] الغزالي: جواهر القرآن ودرره، ص21.

[7] الغزالي: جواهر القرآن ودرره، ص21.

[8] الغزالي: جواهر القرآن ودرره، ص22.

[9] الغزالي: جواهر القرآن ودرره، ص25..

[10] الغزالي: جواهر القرآن ودرره، ص18-25.

[11] الغزالي: جواهر القرآن ودرره، ص36-37.

[12] القشيري: الرسالة القشيرية، ص44.

[13] الجرجاني: كتاب التعريفات، ص40.

[14] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج4، ص42.

[15] تتردد هذه الفكرة عند اغلب إن لم يكن عند جميع من بحث في فكر الغزالي أو تطرق إلى هذا الجانب. وهي فكرة ليست دقيقة بل وخاطئة. وعدم دقتها وخطئها يقوم في انعدام رؤية التطور والتغير الهائل في شخصية الغزالي وفكره. بمعنى أنها لم تر طبيعة ونوعية التغير الذي حدث في مجرى تطوره وإبداعه الفكري النظري. اضافة الى ضعف واحيانا انعدام رؤية خصوصية التآلفات الفكرية الكبرى بمعايير ظهورها التاريخي وتأسيسها الخاص. من هنا أثر الغزالي اللاحق على مختلف مدارس التصوف. وهي حالة طبيعية بالنسبة لهذا النمط من المنظومات الفكرية. ولا معنى للحديث عما يسمى بتوفيق الفكرة السنية والصوفية. فهو خلاف لم يكن الغزالي بصدده ولم يكن بالإمكان حله، وذلك لأنهما تياران يختلفان اختلافا جوهريا من حيث التأسيس والمنهج والغاية وأساليبها العملية. 

[16] القشيري: الرسالة القشيرية، ص3.

 

في المثقف اليوم