دراسات وبحوث

تحليل ونقد الفكرة الإصلاحية الإسلامية الحديثة (4)

ميثم الجنابيوعي الذات النقدي والعملي في الإصلاحية الإسلامية 

إن تحول الإسلام إلى قوة مستقلة قائمة بحد ذاتها على مسرح الوجود التاريخي كان يعني انه قد بدأ بامتلاك ذاته الجديدة وإدراك حدوده الخاصة. ولم يكن ذلك معزولا عن التأثير المباشر وغير المباشر للنهضة العربية ومساعيها الحثيثة لتهشيم الأسس التقليدية للذهنية السائدة في الوجود والفكر. وبالتالي الخروج من عالم الوحدة المغلقة وانعدام الكيان السياسي المستقل إلى آفاق البدائل الممكنة. أما الأخيرة فقد كانت من الناحية الواقعية الإطار الأوسع لتجارب النظر (العقلي) والعمل (السياسي) في تيارات الفكر واتجاهاته الكبرى، أي الصيغة المدركة لذاتها في مشاريع البدائل من الإصلاح حتى الثورة. من هنا كان تحول الإسلام إلى قوة مستقلة في الوجود الاجتماعي التاريخي للعالم العربي هو المساهمة الأكثر عمقا واتساعا في إدراك الذات ووعيها النقدي. إذ لم تضع هذه المساهمة آنذاك في تصوراتها وأحكامها أشياء أكثر مما ندعوه بحدود الرؤية التاريخية والروحية. وطافت بين هذه الحدود وبين كمية ونوعية القيم الكبرى والمبادئ المتسامية.

وقد تضمنت هذه الرؤية على وحدة جديدة في النظر إلى الحاضر والماضي والمستقبل يقوم مضمونها في البقاء ضمن مكونات الوجود التاريخي للعالم العربي والبحث فيها عما يمكنه أن يكون مدى لأفقها المنظور. ومن الممكن التعبير عن هذا التحول في هذه الرؤية بالعبارة التالية: إذا كانت الاتجاهات الفكرية والسياسية السابقة للحركة الإصلاحية الإسلامية تجمع كل ما يمكن جمعه من أجل قول فكرة واحدة، فإن الإصلاحية الإسلامية انطلقت من فكرة واحدة لقول كل شيء.

وتضمن هذا "الانقلاب" في ذاته تحول الإسلام إلى قوة مستقلة وبقاؤها في الوقت نفسه في الأعماق المغمورة لمشاريع البدائل الفكرية. وهذا بدوره كان الانعكاس غير المرئي لتمركز الثقافة الفكرية الروحية بعد قرن من المحاولات المرهقة في الدين والدنيا والروح والجسد، التي سبقت ظهور الملامح الدقيقة للفكرة الإصلاحية الإسلامية الكلاسيكية. وإذا كانت الحصيلة المادية لهذه العملية هو الهجوع الظاهري للجسد، فإن حصيلتها المعنوية تقوم في استثارتها كوامن الكلّ العربي. فالانطلاق من فكرة واحدة لقول كل شيء يفترض تمركزا في الغايات والأهداف، وتركزا في القيم والمفاهيم بحيث يجعل من الممكن التقاؤهما في الفعل، أي التقاء الغايات بالقيم والأهداف بالمفاهيم. ولم يكن هذا الالتقاء فعلا إراديا بقدر ما كان نتيجة ملازمة لتعمق وعي الذات النقدي.

فقد كان تمركز الثقافة وتركزها في فكرة واحدة لقول كل ما يمكن قوله من خلالها، هو الأسلوب المتطابق مع إدراك حقائق الأولويات الضرورية. فقد كانت هذه "الحقائق" النتائج المتراكمة في مسار الحرية الباحثة عن مبادئ كبرى أو مرجعيات للعمل، والتي أدت في الوهابية الأولى والحركات الصوفية آنذاك (أو ما ادعوه بالتصوف الفاعل) إلى خروج الذهنية العربية من عالم الوحدة المغلقة إلى الآفاق الأرحب في تأمل النفس. لكن الحدود الذاتية والمحدودية التاريخية للوهابية الأولى و"التصوف الفاعل" قد أدى بهما إلى الدوران في فلك معتقداتهم الأساسية. ومن ثم اقفل على "حقائقهما" إمكانية التثوير الدائم. وبالتالي لم يمكن بإمكانهما إبداع نماذج كبرى ودائمة لوعي الذات النقدي. فقد استدرجت الوهابية الأولى، على سبيل المثال، في فكرتها عن التوحيد كل ما يمكنه أن يكون موضوعا لنقدها، لكنها أبقت على "حقائقها الأولية"، باعتبارها مقدمة أزلية ونهاية أبدية لكل بديل محتمل. وينطبق هذا أيضا على "التصوف الفاعل". وذلك لأن حركته كانت تدور في فلك تصوراته التقليدية.

ومع ذلك استطاعت هذه العملية أن تبلور قيم المفاهيم ومفاهيم القيم، وسمو الغايات والغايات المتسامية، مما كان يعني أيضا فسحها الطريق أمام صيرورة العناصر النقدية في العلم والعمل، دون أن تدخل هذه العناصر في مسار النقد الذاتي. فهي لم تتأمل الإمكانيات الجديدة القائمة في حدودها الذاتية. وذلك لأن هذه الحدود كانت بالنسبة لها مجرد يقينيات جبرية. أما أفعالها فهي التجسيد الفردي لنداء الحقيقة (أو الحقائق). وحدد هذا بدوره مسارها الخاص في مناهج الإصلاح التقليدي، أي إلغاء إمكانية الرؤية النقدية تجاه تقاليد الإصلاح نفسها. لهذا توقفت العناصر العقلانية العملية الأولى عند مبادئها. وهي الأسباب القائمة وراء اضطرارها لتوظيف كل ما يمكن توظيفه من أجل قول فكرة واحدة. بينما كان التفكيك الفعلي لهذه الحلقة المفرغة هو نفيها، أي السير في الاتجاه المعاكس لتاريخ الإصلاح التقليدي من خلال إدراك الحدود الواقعية للواجب، وحدود المثال في العمل. بمعنى الانطلاق من البداية المعقولة للوجود التاريخي والنظر إلى الماضي والمستقبل بوصفهما كفتين معقولتين في ميزان الحاضر. وقد تطابقت هذه الحالة مع قيم ومفاهيم العقلانية العربية الصاعدة في اجتهادها، وقيم ومفاهيم الإصلاحية الإسلامية في جهادها. وترتب عليه لاحقا التقاء هذه القيم والغايات، والمفاهيم والأهداف في الفعل الإصلاحي العقلاني، الذي جعل الجهاد اجتهادا والاجتهاد جهادا. وقد أنهى هذا الالتقاء في مستواه النظري مرحلة كبرى في مسار العقلانية العربية الحديثة. إذ استطاع تجاوز تقليدية الماضي من خلال نفي انجازاتها الكبرى المتراكمة في مجرى زمن معقد ودموي رافق ظهور وتطور الوهابية والتصوف الفاعل.

فغياب الوهابية من هجوم الرؤية النقدية المباشرة للأفغاني كان بمعنى ما النفي الأوسع لها، ولكن من خلال التنشيط الفكري والعملي لقضاياها الأساسية ورؤيتها الدينية وحلولها العملية. واحتوى هذا الموقف بدوره على دفع لانجازاتها في ميدان العمل والسياسة والوحدة والأمة وغيرها من القضايا إلى غاياتها القصوى من خلال ربطها بقضايا التحديث والحداثة. ونعثر على هذا الموقف في تقييم الأفغاني المباشر لشخصية وانجازات محمد على باشا. فقد وجد فيه ليس مجرد رجلا كبير العقل والدراية، بل وهائل الهمة والإقدام. وبغض النظر عن أن محمد علي باشا، كما يقول الأفغاني، "لم يتوسع في دروس العلم، ولم يجبل في مصانع السياسة، إلا أن طبيعته الفطرية كانت فائضة بحب الحضارة وبث العلوم، وتأسيس قواعد العمران مع تدفق همته لبلوغ الغاية مما يميل إليه"[1]. لهذا نالت مصر زمنه ما كانت "تقف دونه أفكار الناظرين، إذ طرقت أبواب السعادة من كل وجه فتقدمت فيها الزراعة تقدما غريبا واتسعت دائرة التجارة، وعمرّت معاهد العلم فتقاربت أنحاؤها"[2]، أي وحدتها الوطنية. ووجد الأفغاني في هذه الانجازات نموذجا للاحتذاء والاقتداء.

إن تركيز الأفغاني على انجازات محمد علي في قضايا الفعل السياسي والدولة الموحدة جرى من خلال إظهار أولوية الأبعاد العصرية وبدائلها العملية. بمعنى تذليل الضيق الثقافي المميز للوهابية. والشيء نفسه ميز أيضا آراء ومواقف محمد عبده. فقد وجد في الوهابية "فئة زعمت أنها نقضت غبار التقليد، وأزالت الحجب التي كانت تحول بينها وبين النظر في آيات القرآن ومتون الأحاديث لتفهم أحكام الله عنها"[3]. لكنه في الوقت نفسه نراه يبرز فيها ضيقها الخاص، من خلال وصفها بالتقليدية الجلفاء (اليابسة أو الخشنة). من هنا توكيده على أن هذه الفئة (الوهابية) مع ادعائها نفض غبار التقليد، فهي "أضيق عطنا وأحرج صدرا من المقلدين، وإن أنكرت كثيرا من البدع"[4]. وبغض النظر عن مساهمتها في إزالة الكثير مما أضيف إلى الدين وليس منه، كما يقول محمد عبده، إلا أنها "ترى وجوب الأخذ بما يفهم باللفظ الوارد والتقييد به بدون التفات إلى ما تقتضيه الأصول التي قام عليها الدين، واليها كانت الدعوة، ولأجلها منحت النبوة. فلم يكونوا للعلم أولياء ولا للمدنية السليمة أحباء"[5]. أما الكواكبي، فانه تجاهل أراء الوهابية المباشرة، وتناول نتائجها في مجال تأسيسه للعقل والسياسة في مساعيهما للوحدة، بالصيغة التي عمقت آراء الأفغاني وعبده في مسارهما العقلاني الإصلاحي.

لقد سارت هذه العملية المعقدة لتوسع وتعمق الرؤية النقدية العقلية صوب الإصلاحية العقلانية عند الشخصيات الكبرى للإصلاحية الإسلامية في دهاليز الرؤية التأملية والفاحصة للتجربة الشخصية النظرية منها والعملية. بمعنى أن عناصر الفكرة الإصلاحية ومبادئ الإصلاحية الإسلامية الجديدة قد تراكمت في مجرى معاناة فردية حرة للعقل والضمير الفردي والاجتماعي والقومي الإسلامي. وليس مصادفة أن يكون اهتمام هذه التجارب النقدية والتأسيسية الأولية بالتصوف بشكل عام و"التصوف الفاعل" بشكل خاص.

فقد مرت جميع الشخصيات الكبرى للحركة الإصلاحية الإسلامية الحديثة بتجارب صوفية أولية مختلفة المستويات. إذ تأثروا جميعا بأقدار متباينة بالتصوف وتقاليده الروحية والفلسفية الكبرى. وعندهم جميعا يمكن رؤية طبيعة هذه التجربة وتحولها الظاهري والباطني، الذي وجد انعكاسه فيما يمكن دعوته باستبدال التجربة الصوفية الفردية بفردانية تمثل الكلّ الاجتماعي بمعايير القومية (العربية) والأمة (الإسلامية). مع ما ترتيب عليه من نفي فكري خاص وجد تعبيره النظري والعملي في توسيع وتعميق أولوية الرؤية الإصلاحية تجاه القضايا الاجتماعية والسياسية والثقافية الكبرى. وقد كانت هذه العملية شكلا من أشكال انحلال التقاليد القديمة "للخلق الدائم" و"تناسخ الأرواح"، أي تحلل ما يمكن دعوته بآلية "التشخصن التاريخي" لرموز الإسلام الكبرى في الجسد المعاصر.

لقد قدم رجال الإصلاحية الإسلامية صيغة جديدة لهذا الخلق والتناسخ عبر نقل تجسيدهما من الحالة الفردية إلى الكينونة الاجتماعية. ولم يكن هذا في الواقع سوى الأثر المباشر وغير المباشر لنوعية الأثر الذي تركه التصوف في الحركة الاجتماعية والسياسية الفاعلة للإصلاحية الإسلامية. وهو أمر جلي ويمكن العثور عليه في تجارب شخصياتها الكبرى بمختف الميادين بشكل عام، وفي إبداعها الفكري بشكل خاص. ووجد ذلك تعبيره الأكثر دلالة في توسع "مآثر" العقلانية الإصلاحية عندهم، بمعنى تمويت الميت وإحياء الحي في تجارب الثقافة الإسلامية وتقاليدها المتنوعة. فعندما حاول الأفغاني‎، على سبيل المثال، تقييم آفاق الوحدة الأفغانية الإيرانية، فإننا نراه أول الأمر يتطرق إليها بمعايير وذوق الفكرة الصوفية الخالصة. بمعنى "شخصنتها" على نموذج الشاه (الإيراني)، بحيث نراه يصوّره بعبارة "الرجل العظيم القدر، الرفيع الشأن، الواسع العرفان، الذي لا تحجبه شئون الكثرة عن ذات الوحدة، ولا تقف به أطوار التلوين دون منازل التمكين، ولا تشغله مظاهر الفرق عن مقامات الجمع. يتجلى له الواحد في مراتب الكثرة، وتتجلى حقيقة الأحدية في المنازل العددية. فالاتحاد مشربه والائتلاف مذهبه"[6]. وهي صيغة نموذجية تختزل العرفان الصوفي ولغته واصطلاحاته عبر تطبيقه على واقع سياسي وتاريخي صرف. ومن ثم تحتوي على صيغة نظرية ومجردة للنظر إلى الواقع من اجل إصلاحه ورفعه إلى مصاف المتسامي. وأبقى الأفغاني على هذه الصيغة والأسلوب في آرائه ومواقفه، باعتبارها مرجعية فكرية أخلاقية. أنها تعكس طبيعة وحجم الهموم الخفية التي كانت تعتمل في نفسية وذهنية وشخصية الأفغاني. وبالتالي تعّبر في رمزيتها المجردة وتشير إلى فكرة العمل وما ينبغي نفيه وتذليله. وقد كانت شخصيته وعوالمها الباطنية والظاهرية هي ميدان تطبيقها الأول، كما نراه بجلاء على مثال مساره الشخصي.

فقد أشار في إحدى خاطراته إلى انه حالما تأمل أوضاع أهل الأرض للبحث في أهم ما هم فيه مختلفون، فإنه وجده في الدين. آنذاك أخذ يبحث في الأديان الثلاثة، كما يقول، "بحثا دقيقا مجردا عن كل تقليد، منصرفا عن كل تقييد، مطلقا للعقل سراحه" فوجد بعد البحث والتنقيب أن الأديان الثلاث (الموسوية والعيسوية والمحمدية) على تمام الاتفاق في المبدأ والغاية. وإن ما ينقص في الواحد من أوامر الخير المطلق استكملته الثانية[7]. بعبارة أخرى، إن تأمله الأول للخلاف أوصله إلى مكامن الوحدة. ووجد في أصول الوحدة عملية تاريخية متكاملة، بوصفها جزء من مسار الخير المطلق، الذي تشكل الفكرة (الديانة) التوحيدية نموذجها التام. ووضعه ذلك أمام مهمة التنظير لفكرة وحدة الأديان، باعتبارها المقدمة المناسبة لوحدة أهاليها (أتباعها)، ما زالت الأديان متحدة في أصلها وغاياتها.

وسواء كان استنتاجه هذا مبنيا على أساس التأمل النقدي أو التوظيف العصري للفكرة الصوفية نفسها عن وحدة الأديان، أو استنتاج مبني على أساس التأمل العقلي "لمنطق الإيمان"، فان محاولة تجسيده اللاحقة في برنامج عملي للخروج من مضيق الخلاف إلى بحر الوحدة سرعان ما تعرض إلى هجمات الأمواج العاتية لملائكة الروح وشياطين الجسد البشري المتناسخة في مصالح الأفراد والجماعات والدول المتحاربة.

إن هذه الاستنتاجات التأملية المتسامية سرعان ما اصطدمت بواقع الخلافات العميقة وعوالمها الخفية الفاعلة في ما وراء الغايات والأصول في الأديان من اختلاف القوى وتعارض المصالح. وهو إدراك له مقدماته النظرية في الطابع النقدي والعقلاني في مواقفه من مثالية التصوف وأخلاقه الرفيعة ورؤيته الخاصة بصدد فكرة وحدة الأديان. لقد سار الأفغاني هنا في الاتجاه الواقعي والعقلاني لنقد الصوفية وليس في اتجاه تفنيد فلسفتها الأخلاقية وغاياتها النهائية. وحاول أن يحدد في الوقت نفسه ملامح الفكرة الصوفية نفسها في مكونات وروافد صيرورته الشخصية وكينونته الروحية وتحقيقها في مواقفه الجديدة. بحيث نسمعه يقول، بأنه حالما "جمع ما تفرّق من فكره" ونظر إلى الشرق وأهله، فاستوقفه الأفغان (أول أرض مس جسمه ترابها) ثم الهند (حيث تثقف فيها عقله) فإيران (بحكم الجوار) ثم جزيرة العرب (من حجاز مهبط الوحي ومشرق أنوار الحضارة) ومن يمن وتبايعتها (ملوكها) واقيال (قادة) حِمْيَر فيها ونجد (منطقة نجد) وعراق وبغداد (وهارونها ومأمونها) (الخلفاء) والشام (ودهاة الأمويين فيها) والأندلس (وحمراءها) (مدينة الحمراء)[8]. باختصار انه حاول الخروج من مضيق الانغلاق الصوفي إلى رحابه الواسعة. ومن ثم البحث في التاريخ الواقعي للماضي عن خلفية الانبعاث الجديد. وبالتالي وضع الحاضر في ميزان الماضي بالصيغة التي حولت الماضي إلى حاكم معنوي، تماما بالقدر الذي لا يعني تذليل العجز الواقعي للتصوف عن تقديم بدائل واقعية عصرية، سوى رفع شأن رموزه الأخلاقية.

وتوصل محمد عبده إلى نفس النتيجة وإن بطريقته الخاصة. فقد ابتدأت ثقافته الروحية والعقلية في أحضان الشاذلية، وبقدر غير مباشر بالسنوسية. ففي مساره الشخصي يبدو كما لو انه تجسيد للفكرة التي صاغها في يوم ما أبو الحسن الشاذلي (ت – 656 للهجرة) عندما قال: "سبحان من قطع كثيرا من أهل الصلاح عن مصلحتهم كما قطع المفسدين عن موجدهم". لكنه جسّد ذلك في تجارب العقلانية الإصلاحية. مما جعل من نزعته النقدية نموذجا أقرب إلى الحد الوسط ما بين روحية الشاذلي في تصوفه وعملية الأفغاني في اصلاحيته السياسية. فإذا كان الله قد خاطبه، كما يقول الشاذلي عن نفسه، بتحوير لقبه من الشاذلي إلى "الشاذّ لي"، فإن محمد عبده لم يشذّ عن شيوخه إلا في الميدان الذي جعل من طابعه العملي العقلاني أقرب إلى الروح الصوفي. فقد صاغ الشاذلي بريق الأمل بالنسبة لأولئك الذين يواجهون انغلاق المستقبل بعبارة "لا طريق إلا الطريق (الصوفي) والإصلاح"[9] بينما رفع مهمة التمسك بالكتاب (القرآن) والسنّة (النبوية) فوق الكشف (الصوفي) في حالة تعارضهما[10]. ولم يجد في طريقته رهبانية، كما أنها ليست في أكل الشعير والنخالة، بل في الصبر على الأوامر واليقين في الهداية. وطالب المريد على الدوام بأن يلزم جماعة المؤمنين وإن كانوا عصاة فاسقين. وأن يقيم عليهم الحدود ويهجرهم رحمة بهم لا تعززا عليهم وتقريعا لهم[11]. وقد أبقى محمد عبده في تجربته اللاحقة على كل ما بلوره الشاذلي من أفكار عن الصراط المستقيم والإصلاح والأخلاق المتسامية وجوهرية الكتاب والسّنة وقيم الجماعة واليقين في الهداية. وإذا كان محمد عبده لم يرتق في منازل الشاذلية إلى "ميدان الروح الرباني" أو "باب ميدان السر" ودرجة "الأبدال والنواب"، فلأنه سلك، إن أمكن القول، طريق المحبين فيها لا المحبوبين. فقد واجه الواقع كما هو وليس بمعايير التقاليد القديمة للطرق الصوفية، بما في ذلك "التصوف الفاعل" منها. بمعنى انه نقل مواجهة الواقع وأبداله ونوابه في طريق وميدان السياسة والفكر. مع ما ترتب عليه من ضرورة مواجهة الواقع بمعايير العقل والإرادة الفاعلة (القوة)، والتي وجد أسلوبها الأمثل في إصلاحية عقلانية. لهذا أشار في معرض انتقاده للمقلدين والتقليدية إلى أن مجرد محاولة الشيخ السنوسي وضع كتاب له في أصول الفقه زاد فيه بعض مسائل على أصول المالكية أثار ردود فعل قوية، رغم أن ما فيه يدل على انه يفهم الأحكام من الكتاب والسنة مباشرة[12].

ونعثر على موقف مشابهة عند الكواكبي. فهو لم ينصح أتباعه أو مؤيدي اصطلاحيته العقلانية السياسية باتخاذ أفعال المتصوفة مثالا عمليا للسلوك، بمن في ذلك أوائل المتصوفة وأواخرهم والمعاصرين منهم، مثل من اسماهم "بالسادات السنوسية في صحراء أفريقيا"[13]. وبالتالي، لم يكن نقده اللاذع للتصوف سوى جزءا من مشروعه العملي. بمعنى توظيفه الفكري في الاتجاه الذي يعطي للإصلاحية شرعيتها الايجابية باعتبارها نفيا حقيقيا للإرث الصوفي. ولهذا فرّق بين ما اسماه بحقيقة التصوف وتصوف الغلاة. وهو الفرق الذي يعبر عن موقفه من التصوف المعاصر له. فالمتصوفة الأوائل، كما يقول الكواكبي، لا شيء عندهم "إلا التوسل بالأسباب العادية الشاقة لتطهير النفوس من أمراض إفراط الشهوات، وتصفية القلوب من شوائب الشره"[14]. وبهذا المعنى كان التصوف صفة مميزة لأكثر الصحابة والتابعين[15]. وحاول من خلال هذه الفكرة اعتبار التصوف الغالي انحرافا عن مبادئ الإسلام الأساسية. فالتصوف الغالي بنظره، هو نتاج لعمل أولئك الذين "لم يرضوا بالشرع المبين فابتدعوا أحكاما سموها علم الباطن أو علم الحقيقة أو علم التصوف. علما لم يعرف شيئا عنه الصحابة والتابعون وأهل القرون الأولى المشهود لهم بالفضل في الدين"[16]. من هنا اعتباره الإفراط فيه وزياداته المنافية لبساطة الإسلام نتاجا لازم تأثر التصوف بتوسع الفقهاء في شروحهم والمتكلمين في العقائد. حيث أضافوا لكل ذلك اقتباسات من قواعد الإلهيات الفيثاغورية، وجمل من لاهوتيات الأديان والوثنية ألبسوها لباسا إسلاميا. وإذا كانت هذه العملية قد بلغت ذروتها في القرن الرابع الهجري، فإن القرن الذي تلاه استكمل غلو المتصوفة في مقاماتها عن النبوة والولاية والقطب. بحيث أصبح التصوف، كما يقول الكواكبي، فلسفة مشبعة بأحكام تشبه الحِكَم مبنية على زخرفة التأويلات والخيال والأحلام والأوهام[17]. لهذا لم يجد في الحقيقة الصوفية سوى رديفا للسرّ النصراني. أما وحدة الوجود الصوفية فليس إلا الحلول النصراني[18]. وبغض النظر عن سطحية هذه المقارنة وعدم دقتها إلا أنها تكشف في اتجاهها الفكري عن نزوع عملي موجه أساسا ضد غلو التصوف المعاصر له، أي التصوف الطرائقي "المسّيس" (من السياسة) في مساعيه لتكريس الخرافات والأوهام والأحلام وكل ما لا يعبر عن حقائق الإسلام الإصلاحي. من هنا حكمه على متصوفة زمانه باعتبارهم مدلسين في الدين. بل نراه يصفهم بعبارات مثل أولئك "الذين يدعون الكرامة على الله والتصرف بالمقادير واستمالتهم العامة بالزهد الكاذب والورع الباطل والتقشف الشيطاني وتزينهم لهم رسوما تميل إليها النفوس الضعيفة الخاملة سموها آداب السلوك"[19]. ومن هنا أيضا استشهاده بأثر هذا التصوف الكاذب والباطل والشيطاني والخامل في الوعي الجماهيري المعاصر له، والمستند إلى دعاوى باطلة في كرامات الأولياء وإهمال العمل ومسئولية الفرد الشخصية.

إننا نقف هنا أمام موقف واضح المعالم في غاياته يسعى لتفنيد أسس الغلو الصوفي عبر نقد كل ما ينافي العقل والمعقول فيه. ومن ثم هدم الأسس النفسية والفكرية لآثاره الاجتماعية من خلال إبراز الزيف القائم فيه وفي أوهامه العالقة وترهاته الظاهرية، بما في ذلك عبر إبراز حقيقة التصوف الأخلاقية الأصلية. وبهذا يكون الكواكبي قد سار من حيث الجوهر في نفس المسار العام للأفغاني ومحمد عبده، أي البحث عن المعقول والأخلاقي باعتبارهما مقدمات علمية وعملية ضرورية للعمل الاجتماعي الحر، ومصدرا من مصادر وعي الذات النقدي.

وبهذا تكون إصلاحية الجهاد والاجتهاد العقلانية (الإسلامية) قد سارت في طريق الاختزال العلمي والعملي لتجربة قرن من الزمن. وهي الحصيلة التي وجدت انعكاسها في رؤيتها النقدية للواقع. فهي لم تعد تحكم في آرائها على الحاضر بعيون الماضي، ولم تصنع من نماذجه المثالية نظاما لاهوتيا صرف، بل حاولت اختزال مثالية الماضي في نموذجيته، أي إعلاء شأنه باعتباره نموذجا لا يلزم العمل المعاصر بشيء غير إلزامية التأمل الحر. وبهذا تكون قد دفعت ثقافة "كسر الأصنام" و"هدم القبور" إلى نهايتها المنطقية من خلال تحويل سهامها إلى كيانها الخاص. وبالتالي بناء حريتها الجديدة في العمل باعتبارها بؤرة مشعة، وليس تصنيمها (من الصنم) في قطبية الوجود الحق. وقد أدت هذه العملية إلى تعميق نقد الذات العقلاني وقطع دورة الإنتاج التقليدية للعقائد. بمعنى أن الإصلاحية الإسلامية الحديثة لم تجعل من أفكارها النقدية عقائدا.

 

ا. د. ميثم الجنابي

.................

[1] الأفغاني: الأعمال الكاملة، ج2، ص466.

[2] الأفغاني: الأعمال الكاملة، ج2، ص466.

[3] محمد عبده: الإسلام والنصرانية بين العلم والمدنية، الجزائر، 1987، ص116.

[4] محمد عبده: الإسلام والنصرانية بين العلم والمدنية، ص116

[5] محمد عبده: الإسلام والنصرانية بين العلم والمدنية، ص116-117.

[6] الأفغاني: الأعمال الكاملة، ج2، ص32.

[7] الأفغاني: الأعمال الكاملة، ج1، ص294.

[8] الأفغاني: الأعمال الكاملة، ج1، ص295-296.

[9] الشعراني: الطبقات الكبرى، بيروت، دار الجبل، 1988، ج2، ص5.

[10] الشعراني: الطبقات الكبرى، ج2، ص5.

[11] الشعراني: الطبقات الكبرى، ج2، ص6.

[12] محمد عبده: الإسلام والنصرانية، ص114.

[13] الكواكبي: الأعمال الكاملة، ج1، ص231.

[14] الكواكبي: الأعمال الكاملة، ج1، ص230.

[15] الكواكبي: الأعمال الكاملة، ج1، ص231.

[16] الكواكبي: الأعمال الكاملة، ج1، ص198.

[17] الكواكبي: الأعمال الكاملة، ج1، ص232.

[18] الكواكبي: الأعمال الكاملة، ج1، ص162، 193.

[19] الكواكبي: الأعمال الكاملة، ج1، ص163.

 

في المثقف اليوم