دراسات وبحوث

فلسفة التخريج عند صوفية الإسلام (٢)

مجدي ابراهيمكُنّا في المقالة السابقة طرحنا نماذج لفلسفة التخريج عند صوفية الإسلام فضربنا عليها هنالك بمثالين؛ ووعدنا في نهاية المقالة أن لحديثنا بقيةً، وها نحن ننتقل إلى مثال ثالث، يُوَضِّح افتراق دلالة الظاهر عن دلالة الباطن في لغة الخطاب الصوفي، وقيام فلسفة التخريج لديهم قياماً غير مشكوك فيه عندنا، وذلك لكشف غَوْر المعنى الباطن من مُوحيات اللغة الظاهرة؛ لا بل أبعد غوراً ممَّا تعطيه دلالة الباطن : عبارةً وإشارةً:

كان الشيخ أبو الحسن الشاذلي (ت 656هجرية) يقول :"مراكز النفس أربعة : مركز للشهوة في المخالفات. ومركز للشهوة للطاعات. ومركز في الميل إلى الرَّاحَات. ومركز في العجز عن أداء المفروضات : (فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) (التوبة : آية ٥).

يبدو في الظاهر أن سياق الآية لا علاقة له قطعاً بما يقوله الإمام الشاذلي. وانفصال العلاقة معناه : "التباس الدلالة". غير أن وجه الإشارة يجيز مثل هذا التخريج ولا يمنعه. ولنذكر مساق الآية الكريمة أولاً ثم نحاول تخريجها بما تفرضه علينا لغة الإشارة، وتكشفه لنا لغة المجاز. ولنقرأ سياق الآية ثانية في قوله تعالى: (فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).

إنَّا لنفهم من سياق الآية، أنه إذا انقضتْ أشهر العهد الأربعة : فاحْبِسوا المشركين في المكان الذي يَتَحَصَّنون فيه، وأقعدوا لهم في كل طريق وممرِّ ومكان، كونوا لهم وعليهم وفيهم رُقباء، فإنهم العدو فاحذروهم وأقيموا لهم بالمرصاد، فإن تابوا وأقاموا الصلاة فلا تتعرّضوا لهم بقتال ولا بنزال، ولا تأسروهم ولا تقطعوا لهم طريقاً، خلّوا سبيلهم إذا التزموا التوبة. ويجيء التعقيب : "إنّ الله غفور رحيم".

هذا ظاهر ما يُسَاق من فهم الآية؛ فما علاقته أصلاً بمراكز النفس كما أورده شيخنا، وما علاقة مراكز النفس به؟

لا توجد علاقة من حيث الظاهر أو هكذا تبدو الرؤية لكل ذي نظر عجول، وعند التأمل يظهر لك الفارق بين دلالة العبارة الظاهرة، ودلالة الإشارة الباطنة؛ فالعلاقة هنا علاقة تشابه بين قتل المشركين كافة كمَا دَلَّت عليه الآية، وبين جهاد النفس في مراكزها الأربعة، والتشابه هو بالطبع :"الأساس الدائم للمجاز أو الاستعارة أو المماثلة".

هنالك يَبْرُز أساس المجاز كونه يأتي لنقل كلمة عن مدلولها الأصلي (الحقيقي) إلى مدلول آخر لعلاقة المُشَابَهة أو غير المُشَابَهَة فتجيءُ "المعاني الإضافية" مُرتبة في نفس صاحبها؛ لتخرج بدقائق الكلام من باطن النفس إلى ظاهرها اللفظي، مع ما يضاف إلى هذا كله من تخريج ذوقي هو أساس علم الإشارة.

وإنَّا لنميل إلى القول هنا "بالمجاز المُجمل"، وهو كما عرفَّه الجرجاني :"ما خَفِيَ المُراد منه بحيث لا يدرك بنفس اللفظ إلا ببيان من المجمل سواء كان ذلك لتزاحم المعاني المتساوية الأقدام، كالمشترك؛ أو لغرابة اللفظ، كالهلوع، أو لانتقاله من معناه الظاهر إلى ما هو غير معلوم. فترجع إلى الاستفسار ثم الطلب ثم التأمل ( را: الجرجاني : التعريفات، ص 180).

ومعنى "المشترك"؛ فيما يقول الشوكاني، هو اللفظة الموضوعة لحقيقتين مختلفتين أو أكثر، وضعاً أولاً من حيث هما كذلك، فخرج بالوضع ما يدل على الشيء بالحقيقة، وعلى غيره بالمجاز، وخرج بقيد الحيثية المتواطئ؛ فإنه يتناول الماهيات المختلفة لكن لا من حيث هى كذلك بل من حيث إنها مشتركة في معنى واحد. هذا عن اللفظ المتواطئ. واختلف أهل العلم باللغة في اللفظ المشترك، فقال قوم إنه واجب الوقوع في لغة العرب، ومنع وقوعه آخرين، وقالت طائفة بجواز وقوعه. وما يعنينا نحن إلاّ الذين أوجبوه؛ لأن الألفاظ متناهية والمعاني غير متناهية. والمتناهي إذا وزِّع على غير المتناهي لزم الاشتراك، ولا ريب في عدم تناهي المعاني (إرشاد الفحول بتحقيق الحق من علم الأصول، ص 19).

وبما أنّا نكتب فلسفة التخريج عند الصوفية، مستخلصين معالمها واقفين على أركانها؛ فيلزمنا قراءة لغة الخطاب الصوفي، إذْ قد تقرَّر عندنا ما كان الجرجاني قد قررَّه سلفاً من "مجاز مُجمل" مفاده : انتقال اللفظ من معناه الظاهر إلى ما هو غير ظاهر ولا معلوم، والأخذ بمعنى الاشتراك فيما جوَّزه علماء اللغة على ما قاله الشوكاني فيما تقدّم .

إنّ عبد القاهر الجرجاني الذي وضع في كتابه "دلائل الإعجاز" علماً مستقلاً من علوم البلاغة هو علم المعاني، فَبَيَّنَ أصوله وصور فصوله وحدودها وشُعَبها تصويراً دقيقاً؛ بمقدار ما وضع في "أسرار البلاغة" نظرية البيان؛ ليقول إنَّ "المجاز" عمل عقلي لا عمل لغوي، وإن حُسْنه من المؤكد يرجع إلى المعاني الإضافية التي يلاحظها الحاذق البصير في تراكيب العبارات وصياغاتها وخصائص نظمها وصور نسقها وسياقها؛ وإنه لا بد أن يُفْهَمَ في كل مجاز معنى الكلمة ومعنى ثانياً وراءه.

وأنك إذا قلت "كلَّمْتُ أسداً" لم تكن فقط بصدد عمل لغوي، وإنما أنت بصدد عمل عقلي داخلي؛ فقد تصرَّفت بالكلمة تصرفاً جديداً، وهو تصرُّف أسعفك به العقل، إذْ لم تُطلق المُشبّه به على المشبّه إلا بعد ادّعائك دخوله في جنسه.

وعليه، يكون الأساس في المجاز هو نقل كلمة عن مدلولها الأصلي (الحقيقي) إلى مدلول آخر (مجازي)؛ لعلاقة المُشابهة أو غير المشابهة.

فمرجوع الجمال من ثمَّ في الصّور البيانية من المجاز والكناية والاستعارة لا إلى مدلولاتها ومضامينها، وإنما إلى تلك المعاني الإضافية فيها؛ أي ترتيب معاني الكلام الإضافية في نفس صاحبها أولاً ثم الخروج بدقائق الكلام من باطن النفس إلى ظاهرها اللفظي.

ولمّا كان المجاز من أسرار العربية فقد وصفه ابن قتيبة في " تأويل مُشكل القرآن" حيث قال :" وللعرب المجازات في الكلام ومعناها طرُق القول ومآخذه، ففيها الاستعارة والتمثيل والقلب والتقديم والتأخير والحذف والتكرار والإخفاء والإظهار والتعريض والإفصاح والكناية والإيضاح ومخاطبة الواحد مخاطبة الجميع، والجميع خطاب الواحد، والواحد والجميع خطاب الإثنين، والقصد بلفظ الخصوص لمعنى العموم وبلفظ العموم لمعنى الخصوص ...".

وخليقٌ بالمطلع على هذه المباحث أن يتقرَّر عنده ما كان تقرَّر سلفاً لدى علماء العربية من أن أسرارها لتكمن في المجاز والكناية والاستعارة : المعاني الإضافية، وأن ألفاظ اللغة على حضورها وحلاوة تذوقها لترتد إلى باطن النفس شعوراً وتذوقاً وصدوراً، وأن جمال الكلام البليغ ونظمه وما يترتب فيه؛ ليتأتّى وفق ترتيب معانيه في النفس الشاعرة بانفتاح اللفظ من واقعه ومحسوسه إلى حيث فضاءاته الروحانية والذوقية.

وهذا هو المقصود عندنا "بفلسفة التخريج عند الصوفية". إنما الألفاظ في ذاتها من حيث هى ألفاظ مٌجَرَّد أحجار تتحوَّل إلى كريمة بمقدار ما تتحول في النفوس كرامة المعنى لتحَمِّلها المعاني، وبمقدار ما تستشعر القلوب كرامتها وعزتها؛ لينظمها اللسان من طريق الذوق والمعرفة والحَصَافة والإدراك في سياق هادف.

نعود بعد هذه الوقفة إلى إشارة الشيخ أبي الحسن الشاذلي في مراكز النفس الأربعة فنقول : على إشارة الباطن يلزم للمجاهد لنفسه أن يقعد لها كل مرصد، وأن يقاتلها حيثما وجدها، لا .. بل يقتّلها تقتيلاً أينما ذهبت له بالعداء مذاهبها كقتال المشركين حيثما وُجدوا، فهى كالعدو، بل هى "العدو" على التحقيق، ولمَّا كانت عدواً وَجَبَ حَصْرها بأسلحة الجهاد المعروفة عند القوم، وحَبْسها في مراكزها الأربعة وتضييق خناق هذه المراكز عليها بالمراقبة والتَّرَصُّد حتى تفيء مع القعود لها كل مرصد، لأمر الله. وبمثل هذا تجيئ الدلالة ظاهرة مع كونها خفية في لغة الخطاب الصوفي في خصوصيتها، وهذه هى فلسفة التخريج لديهم : طاقة عاملة من طاقات الروح.

ويُلاحظ أن الشيخ مع ذلك لم يكمل الآية : (فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ)؛ لأن العهد بالنفس هو النكوص والتردِّي وممانعة الاستقامة. ومن أجل ذلك أخذ من الآية جزءها الذي تحتمله الإشارة : أعني "القرينة المجازيّة"، وقد يكون الجزء الباقي له إشارة أخرى ليس المقام ممَّا يناسبها قرينة ومجازاً.

وحين يكون الحَذر واجباً، واتهام النفس في جميع الأحوال أمراً مفروضاً. وحين يكون الحكم عليها بالعلم الظاهر(الشَّرع) المؤيَّد بحقائق الباطن ممَّا يستوجبه قانون الطريق وترومُه قصداً إشارات العارفين، قال الشيخ أيضاً في موضع آخر :" موت النفس بالعلم والمعرفة، والاقتداء بالكتاب والسُّنة، وإنْ أردت جهاد النفس فأحكم عليها بالعلم في كل حركة، واضربها بالخوف عند كل فترة، واسجنها في قبضة الله أين ما كنت، وأشكُ عجزك إلى الله تعالى كلما غفلت وهى التي: (لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا).

مرة أخرى نقابل نفس المشكلة : "التباس الدلالة"، لا علاقة كذلك من حيث الظاهر بين كلام الشيخ وبين ما تعطيه الدلالة الظاهرة في الآية القرآنية؛ فالتي :"لم تقدروا عليها" هى مَغَانم غزوة حنين بعد الفتح كما جاء في التفسير. وأحاط الله بها، أي جعلها تحت قبضته وحَفظها لكم. وفي "معاني القرآن" للفرَّاء :" قد أحاط الله بها، أحاط لكم بها أن يَفْتَحها لَكم " (را: معاني القرآن ج ٣ ص 67).

وإذن؛ فما الذي استشفه مولانا الإمام إشارةً من هذا المعنى ليجريه علاجاً للنفس؟ هو بغير شك الأمر الباطن في معرفة النفس حين لا تنقاد إلى أمر الوسطية والاعتدال إلا بعد مشقة فادحة وجهاد كبير: فالعجز عن جهادها والخلود بها إلى أرض الشهوات وإتباع الهوى، وقلة مساعدة النفس بالتحلي بالفضائل، وركونها دوماً إلى هواها، وانتصارها على صاحبها، وغفلتها عن الله، ورقابة الله لها في كل لحظة؛ هى التي: (لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا)؛ فلزم اللجوء والافتقار في شأنها إلى الله على الدوام. ذلك هو ولاشك خطاب الصوفي في لغته الخاصّة : إشارة بعيدة ورمز لمَّاح.

*    *     *

ومثالٌ أخير : وقف أحدهم عند قوله تعالى : (فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا) (البقرة: آية 269)؛ فقال : إنمّا قال تعالى ذلك؛ لكثرة "الوجوه المَبْطونَة في الكلمات". ولكن قبل أن نستطرد مع هذه الوقفة علينا أن نتوقف عند صاحبها؛ فالذي وقف هذه الوقفة المُلهمة كان أميِّاً لا يكتب ولا يقرأ، وكان يتكلم، كما وصفه تلميذه، على معاني القرآن العظيم والسّنة المشرّفة كلاماً نفيساً تحيَّر فيه العلماء، وكان محل كشفه اللوح المحفوظ عن المحو والإثبات، فكان إذا قال قولاً لابد أن يقع على الصفحة التي قال … ذلكم هو الشيخ "علىُّ الخواص" شيخ الشعراني وأستاذه ومعلمه أسرار الطريق ودروب السير فيه (الطبقات الكبرى، ج 2 ص 135).

وإنما أثبتنا هذا عن "الخواص" لئلا يتوهم متوهم أن العرفان بمعاني القرآن متوقف على آلة النظر بالعقل، فهذا جهلٌ بالله، وتحجيرٌ على قدرة الله الذي يقول للشيء كن فيكون؛ فالعلماء الذين يتشدَّقون بالعقل ما لهم آلة لفهم كلام الله تعالى إلّا بالفكر والنظر.

أمّا العارفون، فطريقهم إلى فهمه : الكشف والتعريف الإلهي. وممَّا يزيدك قناعة بفتوح الله على عباده هو أن تنظر إلى "علىِّ الخواص" هذا الأمِّي الذي لا يعرف القراءة والكتابة، انظر إلى الثقة العلويّة بما لديه من عند الله، وانظر إلى "الإبداع" الخالص الذي لا يعرف للتقليد طريقاً، وانظر إلى الخصوصيِّة والتفرُّد .. ماذا تراه يقول؟

إنه ليقول: "لا يُسمى عالماً عندنا إلّا من كان علمه غير مستفادٍ من نقل أو صدر، بأن يكون خضريَّ المقام. وأمّا غير هذا، فإنما هو حاكٍ لعلم غيره فقط، فله أجر من حَمَلَ العلم حتى أدَّاه، لا أجر "العالم"، (والله لا يضيع أجرَ المحسنين)؛ فمن أرادَ أن يعرف مرتبته في العلم يقيناً لا شك، فليُردَّ كل قول حفظه إلى قائله، وينظر بعد ذلك إلى علمه، فما وجده معه، فهو علمه. وأظن أنْ لا يبقى معه إلّا شيء يسير لا يسمى به عالماً (را : طبقات الشعراني : جـ 2، ص 137).

وإنّه ليُفرّق بين العلم والكشف تفرقة فاصلة جديرة بالنظر والاعتبار، خالصة من الالتفات إلى الأغيار، مبدعة بمقدار صدورها من شمس الحقيقة. وعنده إنما يكون الكشف هو علمك بالحقائق على ما هى عليه في نفسها. والعلم هو علمك بالأمور على ظاهرها ( را: الشعراني : درر الغواص على فتاوي سيدي عليّ الخواص، مكتبة الغنيمي؛ القاهرة  1425هـ - 2014م ؛ ص 64).

في الواقع؛ إن ما عبَّر عنه الخواص إنما هى "علوم الحقائق" لا تستفاد من فكر ولا نظر ولا عقل، ولا آله من هذه الآلات، ولكنها علوم وهب وتوفيق، علوم أذكار لا علوم أفكار، وهى التي يعوَّل عليها في فهم "الوجوه المبطونة" في كلمات القرآن الكريم. وقد أجابَ لما سئل عن قولهم : القرآن بحر لا ساحل له. فقال : معناه أنه يقبل جميع ما فسّره به المفسرون؛ وذلك أن المتكلم به، وهو الله تعالى عالم بجميع تلك المعاني والوجوه التي تدل عليها هذه الألفاظ بالنظر إلى كل شارح، فما من شارح يقصد وجهاً في شرح تلك هذه الآية أو تلك إلّا وذلك الوجه المقصود للمتكلم به وهو الله تعالى، بخلاف ما إذا كان المتكلم من الخلق؛ فإنّ الشرح لكلامه لا يتعدّى مرتبة المتكلم من القصور، وإنْ كان اللفظ بعينه. (را : الشعراني : درر الغواص؛ ص 70).

اقتضاه هذا أن يفرِّق أيضاً بين "الفهم" و"العلم"؛ وذلك لإمكان القول إنّ الفهم في الكلام على قسمين : أحدهما مكتسب من مادة. والآخر: موهوب من غير مادة. فالذي وُهبَ من غير مادة، لا يُقال فيه فهم، وإنما يُقالُ فيه علم.

وأمّا المكتسب من المادة، فهو الذي يقال فيه "فهم"، وهو تعلُّق خاصُّ في العلم. فإذا علم السامع "اللفظة" من اللافظ بها أو رأى الكتابة ففهم منها أمراً؛ فمردَّه إلى حكمين : أحدهما : أن يعلم مراد المتكلم من تلك الكلمة مع تضمُّنها في الاصطلاح معاني كثيرة خلاف مُراد المتكلم بها. فهذا يُسمى فهماً؛ لأنه كان اكتسبه عن مادة. والثاني : لا يعلم مراد المتكلم من تلك الكلمة على التفصيل، ولكن يحتمل عنده فيها عدّة وجوه (مبطونة) يدل عليها الكلام، لا يعلم مراد المتكلم من تلك الوجوه، ولا يدري : هل أرادها كلها أو أراد بعضها، فمثل هذا لا يُقال في حقه أنه أُعطى الفهم في القرآن، وإنما يُقَال فيه أنه أعطى "العلم" بمدلولات تلك الكلمة أو الكلمات.

وقد أجمع العارفون على أن كلام الله واسع، حَمَّال أوْجُه كما وصفه الإمام عليّ، رضى الله عنه، يقبل جميع ما فسَّره به المفسرون، لأنه خاطبهم بجميع ما يقبله استعدادهم. فما من وجه مقبول فهمه عبادُه المؤمنون إلا وهو مقصود له تعالى من تلك الكلمة بالنظر إلى فَهْم مَنْ فَهمَ من كلامه تلك الوجوه المقصودة لله أو لذلك الشخص الذي فهم منها ما فهم حيث لم يخرج في فهمه عمَّا يؤديِّه الكلام من التَّجَوِّز؛ فإنْ كان خَرَجَ عَمَّا يؤدِّيه كلام العرب فلا علم ولا فهم. هذا من خصائص كلام الله. أمَّا كلام المخلوقين فقد يكون بعض الوجوه غير مقصود لصاحب الكلام (را: الشعراني : لطائف المنن، ص 85).

ولمَّا كانت الآيات قد وَرَدَتْ في القرآن على التنوِّع والتّفرُّق : آيات لقوم يعقلون، وآيات لقوم يؤمنون، وآيات لقوم يتفكرون، وآيات لقوم يسمعون، وآيات للعالمين، وآيات للمؤمنين، وآيات للموقنين، وآيات لأولي النّهي، ولأولي الألباب، ولأولي الأبصار؛ صار من أوجب واجبات العبد أن يلتزم أدب الفهم في كلام ربَّه عز وجل؛ لينال من توجهات الخطاب ما كان تحقق به وانطبق عليه. وأدب الفهم هو أن يعقل على الدوام أن فيه مجموع ما تفرَّق من آيات : نعته الله بالعقل، والإيمان، والتَّفكّر، والتقوى، والسمع، والقلب الذي هو اللبّ، والأبصار؛ حتى إذا ما نظر في كل صفة هو موصوف بها، وكل نعت هو منعوت به، بعد أن يكون قد مشى حيث مشى به الشرع، ووقف حيث وقف به الشرع، وعقل فيما قيل له فيه هاهنا أعقل، وآمن فيما قيل له فيه هاهنا آمن، ونظر وفكَّر فيما قيل له فيه هاهنا انظر وتفكر، وسلَّم فيما قيل له فيه هاهنا سَلِّم، حتى إذا ما كان هذا دَيْدَنَه في طريق العرفان، ظهر بأوصافه ونعوته في العالم، فكان ممَّن جُمِع له القرآن وأعطي الفرقان من طريق الوهب والتوفيق بعد مكابدة مفاوز الطريق (الشعراني : لطائف المنن؛ ص 86).

والعارفون ليس لهم آلة إلى فهم كلام ربهم أو غيره إلّا بالكشف والذوق لا الفهم والفكر. ومرادنا بهذا الكشف؛ هكذا يتكلم الشيخ الخواص؛ هو كشف العلوم والمعارف الحاصل بالنفث والرَّوْع لا الكشف المعهود في الحسّ بين أرباب الأحوال. فإن العلوم ليست محسوسة حتى يكشف عنها كما يكشف عن الأماكن البعيدة في الكشف الصوري، وقد جعل الحق تعالى لعلماء الشريعة نظير هذا الكشف بواسطة الاجتهاد والأدلة المعلومة بينهم. وأن الله تعالى قد أخبر في كتابه عن أقوام إنْ هم إلا كالأنعام بل هم أضل، أولئك هم الغافلون، وأخبر صلوات الله عليه أن أقواماً من أمته يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، فكيف تكون هذه الأقوام متقرّبين إليه؟ وكيف يتقرّبون بعدم العلم الذي هو الجهل، هذا عجيب! (را: الشعراني : دُرر الغواص : ص 8).

 

*    *     *

عندي أن الفهم عن الله لا يتسنى لأحد إلاّ بمقدار ما تتعلَّق به إرادة الله لتفهيم العبد على مقدار إخلاصه. وبهذا أو بمثله يكون فهم القرآن على نورانيّة الصلة الروحيّة، وهو ما يُسمى عندي بملكة "التعلَّق" عند العارف. فالعارف يحظى بملكة خاصّة ينفرد بها هى ولا شك أقوى وسائل التحصيل الذوقي للمعرفة التي هى في الأصل ذوقية صرفة.

وبملكة التعلُّق هذه، يتجاوز الصوفي (العارف) عالم الظاهر المحدود؛ ليتصل في لحظة كاشفة بما ليس ظاهراً ولا محدوداً، ممَّا لا يتناهى، وممَّا لا تقع معرفته في حدود التصوِّر المحدود. التجربة في هذه الحالة هى التي تقودك؛ تأخذك وتستوفيك وتملك عليك بالكلية جميع أقطارك. التجربة هى التي تفعل؛ فيوحي فعلها فيك لغة الإشارة.

في بطن التجربة الصوفية وحدها يكشف العارف في تجربته عن لغتها الرمزية الخاصَّة؛ لغة الحبّ، ولغة التسامح لا التَّمزق، ولغة الفناء في المحبوب تعطيها الإشارة لا العبارة، أي لغة المعنى تحصيلاً وتذوقاً وشعوراً بمعطيات الحَال، يحيط  الحال صاحبه معنىً خالصاً قد لا يتسع له اللفظ المعتاد، وإنْ أتسع له اللفظ المعتاد أفسده، وإنْ ساقته العبارة العادية خَرَجَتْ به عن المقصود. وهو حين يكشفها لا يكشفها في باطن التجربة وكفى بل بعد منازلة الحال وعياً غير عادي ولا معهود.

*    *     *

تلك كانت أمثلة طفيفة على عقيدة فكرية نعتقدها في فلسفة التخريج عند الصوفية، يُستفاد منها القيمة الكامنة من وراء ذلك التراث المهجور : تراث الروح، تتمثل فيه كل ما للشرق من يقظة نفس وقوة ضمير إذا نحن أردنا للشرق أن يستعيد قوته العصماء غير مغبون ولا محتقر ممّن لا يعرف له قيمة واحدة ولا فضيلة واحدة يعزونها إليه.

ولنا كذلك أن نعتقد؛ ونحن أحرار فيما نعتقد، أن الحياة في كل عصر من العصور، وحياتنا هذه التي نعيشها على وجه الخصوص، غير جديرة بأن نحياها ما لم نمل عليها شئنا أم أبينا مثل هاته القيم الروحيّة التي تعلمناها ولم نزل نتعلمها من أقطاب العارفين، ومن أهل الله الكمَّل الذين عرفوا الصلاح وذاقوه، وكرعوا من مناهل أذواق الصالحين؛ فإنهم جميعاً علمونا أن الوجود المادي في الإنسان إنْ لم يكن يتبع الوجود الروحي يخضع له وينقاد ويأتمر بما يفرضه من قيم علوية، فلا تجد أبداً معنى للحياة ولا تنتظر للآدمية كرامة ولا قيمة ولا أصلاً يرتكز عليه وجود الفرد في دنياه وأخراه. هذه حقيقة مصيريّة تامة المعالم لا شك فيها ولا نكران، تبقى ما يبقى للإنسان تطلع إلى مسائل المصير، وتختفي أو تكاد إذا عاش كالسائمة كما تعاش السوائم تنقاد لمطالب الغريزة، ولا تزيد.

لا جَرَمَ أن قيم الحياة الحيّة كلها مَرُّدها إلى ذلك الإحساس بالزمن وتقدير العمر البشري، كما علمتنا همم العارفين، ولا تزال تعلمنا، ضرورة التنبيه لا الغفلة، والمبادرة إلى العمل الدائب المتواصل لا الركون إلى طوارئ الاستكانة والخمول، والتمكين في كل حال لا التلوين مع الأحوال، واليقظة التي تصدر عن ثورة الروح الداخلية وحماسة الضمير لا التي تصدر عن إدعاءً ليست له من مصادر الروح همة ولا فاعلية ولا تكميل.

فما أكثر المظاهر والظواهر وذركشات الأحداث.

وما أخلد القيمة في ذاتها إذا هى صدرت عن ينبوع متدفق من عالم الروح.

 

بقلم: د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم