دراسات وبحوث

تحليل ونقد الفكرة الإصلاحية الإسلامية الحديثة (8)

ميثم الجنابيفكرة الأنا الثقافية الحرة (2)

لقد كان انتقاد الأفغاني لعناصر المُدافَعة الشخصية وشرف النفس والحكومة في آراء الدهريين، هو انتقاد اجتزائها التقليدي من بنية المدنية الأوربية، بوصفه فعلا يفتقد للعقلانية والنزعة الأخلاقية والإنسانية. وذلك لأنه لا يؤدي إلى صنع الوحدة والوفاق الضروريين لعالم الإسلام المجزأ والمتخلف آنذاك. كما أن عقائد المدافعة الشخصية وشرف النفس ما هي في الواقع سوى قيم الفردية البرجوازية المعقولة في منظومة المدنية الأوربية للقرن التاسع عشر. بينما لم تعن بالنسبة لعالم الإسلام وواقعه آنذاك سوى انحلال "هيئة الاجتماع الإنساني" و"المدنية" و"نظام المعاملات" و"صلات البشر"[1].

لقد أدرك الأفغاني قيم الوجود الاجتماعي (هيئة الاجتماع) والمدني (لبس المدنية سربال الحياة) والاقتصادي الحقوقي (استقامة نظام المعاملات) والأخلاقي (صفو صلات البشر من الكدورات). وبهذا كان انتقاده لعقائد الدهريين انتقادا لقيم اللاعقلانية في القومية الأوربية والنزعة الفردية وأخلاقياتها الأنانية، أي أن انتقاده لهذه العقائد جرى من خلال تحجيمها ضمن أطرها الواقعية باعتبارها قيما أكثر مما هي عقائد. وبالتالي فإن الترويج لها هو ترويج تقليدي لا علاقة له بإدراك حقيقة وواقع الوجود التاريخي الذاتي. من هنا فكرته عما اسماه "باعتقاد الإلوهية" و"فكرة الثواب والعقاب" نموذجا مثاليا أوليا للروح الأخلاقي وليس للروح اللاهوتي في موقفه المعارض لقيم التقليد. لقد كان انتقاده هنا يجري من خلال إبراز الطابع غير العقلاني وغير الأخلاقي وغير المدني في محاولات تحويل القيم المجتزئة والمقلدة إلى مبادئ مطلقة (متسامية)، وليس رفض إمكانية دمجها في التآلف العقلاني الإصلاحي. من هنا فإن آراءه ومواقفه بهذا الصدد كانت تحتوي على محاولة إعادة دمجها في نسيج الرؤية الجديدة لوحدة الاجتماعي والمدني، باعتبارها الصيغة المناسبة لفكرة الهوية الخاصة للمدنية الإسلامية ومدنية الإسلام. ومن ثم صياغة الوحدة المعقولة بين التاريخ والثقافة وتنشيطها في الفعل الواعي لأهدافه وغاياته. لهذا رد في إحدى خاطراته على أولئك الذين وجدوا في ارتقاء اليابانيين وتطورهم دليلا على ضرورة عزل الدين عن المدنية، بأن لليابانيين ديانتهم الوثنية. وهي شأن الديانات الوثنية لا تخلو من الآداب والأخلاق. رغم أن في أصولها ما لا ينفع في أحكام الدنيا. بينما الدين في أصوله يدعو إلى السعادة. ولكن "إذا بقي عقيدة مجردة عن الأعمال فلا يحدث منه أثر ولا ينتفع المتسمون به"[2].

تعكس هذه الآراء والمواقف عن أن الأفغاني لم يتجاوز هنا أفكاره الأولية في انتقاده للدهريين، ولا ما وضعه من آراء جديدة في فهم حقيقة الدين. لكنه أضاف إليها إمكانية وضرورة وضع فكرة الأصول في الدين باعتبارها ميدانا للعمل وليس محلا للعقائد الجامدة. فقد وجد في تجرّدها عن العمل ما يعادل الإبقاء عليها بهيئة أصنام عقائدية. ولا يعني ذلك في آرائه ومواقفه سوى أسلوب التأسيس الجديد لفكرة الرجوع إلى المبادئ الأولى، أي صياغة الفكرة القائلة بوحدة التاريخ ومساعيه الدائبة صوب الأمثل. من هنا محاولته جعل وحدة الحق والحقيقة معيارا أساسيا للتدليل على الدين، عندما رد على أولئك الذين وجدوا في الإسلام سبب تأخر العالم الإسلامي. وكتب بهذا الصدد قائلا، بأن "الأديان بمجموعها هي الكلّ، وأجزاؤها هي الموسوية والعيسوية والمحمدية. فمن كان من هذه الأديان كلها على الحق فهو الدين الذي يتم له "الظهور والغلبة". لأن الظهور الموعود به، إنما هو "دين الحق". وليس دين اليهود ولا النصارى ولا الإسلام، إذا بقوا أسماء مجردة. ولكن من عمل من هؤلاء بالحق فهناك "الدين الخالص"[3]. لقد احتوت هذه الفكرة في ذاتها على جوهرية وأولوية الحق، بحيث نراه يطابقها مع حقيقة الدين. أما الدين فإنه لم يعد بالنسبة للأفغاني رديفا للأديان التقليدية. لقد أراد القول، بأن كل ما هو موجود هو حق، وكل ما هو حق هو موجود. وهي فكرة لها رصيدها الكبير وتقاليدها العريقة في الكلام الإسلامي (المعتزلي). أما الحقيقة فهي لسان الموازنة فيما بين الأديان. لكن الحقيقة هنا ليست كيانا معطى مرة واحدة وإلى الأبد بقدر ما هي الكينونة المتجلية في تنوع المبادئ المتسامية ووحدتها في العمل. أما هذه المبادئ بالنسبة له فهي التي ترتبط بمفاهيم الإصلاحية والعقلانية والإنسانية في الإسلام باعتبارها مكونات جوهرية في الوقت نفسه للأصالة الثقافية. ذلك يعني، أن هذه المفاهيم أخذت تجمع في ذاتها وحدة الأصول والمبادئ المتسامية، مما جعلها تحتوي في آن واحد على الفكرة وفاعليتها. ومن ثم فهي تعادل ما وضعه عن وحدة الحق والحقيقة في "الدين الخالص". فعندما تطرق الأفغاني إلى الإسلام في دعوته البديلة، فإنه وجد في أصوله أسس السعادة الممكنة، أي أسس الوحدة الممكنة للروح والجسد، والعقل والوجدان. وليس هذا بدوره سوى الصيغة المعبرة عن وحدة الديني والدنيوي، والدنيا والآخرة. فالإسلام مبني، بنظر الأفغاني، على أساس من الحكمة متين، وبه تجري نيل السعادة في الدارين. أما بلوغها فمحال دون "صفاء العقول من كدر الخرافات" و"الاعتماد على فكرة التوحيد" لا على إنسان أو جماد. وأن تكون نفوس الأمم مستقبلة وجهة الشرف، وإلا تكون "ناقصة في فطرتها عن الكمال"، وأن "تكون عقائد الأمة مبنية على البراهين القويمة والأدلة الصحيحة"[4]. ذلك يعني، أن الفكرة الإصلاحية كما تحتاج إلى قيم الصفاء العقلي والفكرة المتسامية للتوحيد ومساعي النفوس نحو الشرف واليقين بإمكانية الكمال وبناء هذه القيم والأفعال واليقين على أساس البرهان العقلي، فإنها تحتاج أيضا إلى من يجّسدها بالشكل الذي يجعل من عقائدها عن الحق والحقيقة سلطانا أعلى. لهذا شدد على إننا "نحتاج إلى عمل جديد، نربي به جيلا جديدا، بعلم صحيح وفهم جديد لحقيقة معنى السلطان الأول على الأجساد والأرواح"[5]. وإن هذا العمل الجديد والجيل الجديد والفهم الجديد، الذي ينبغي أن يصنع السلطة الجديدة في الروح والجسد الثقافي للأمة، هو الإسلام العقلاني. من هنا تشديده على أن ما يميز الدين الإسلامي عن غيره من الأديان، انفراده في "دفاعه عن العقل واعتباره إياه شرطا في الإيمان"[6]. ولم يضع الأفغاني هذه الفكرة بتقاليد العبارة الخطابية، بل حاول أن يؤسس لها بمعايير وتقاليد العقلانية الفلسفية والأخلاقية ونماذجها النظرية الكبرى عن "المدن الفاضلة". فقد خطط، كما يقول هو عن نفسه، لأن يبرهن على أن "المدينة الفاضلة، التي مات الحكماء على حسرة من فقدها لا تختط في العالم الإنساني إلا بالدين الإسلامي"[7].

إن محاولة الأفغاني استعادة قيم المدينة الفاضلة على أسس إسلامية، باعتبارها الضمانة الوحيدة لتحقيق فضائلها الداخلية، كانت تحتوي على محاولة تأسيس عقلاني لوحدة الحلقة الوسطى المفقودة في المواقف من الإبداع الممكن للفكرة الإنسانية الإسلامية نحو السعادة. فقد احتوت هذه الفكرة في ذاتها على غاية الأحلام المثلى، أو على نموذج التجسيد الممكن للواجب في دراما الحياة وتاريخ الأمم. ومن ثم كانت تحتوي أيضا على توسيع الأبعاد الإنسانية وتعميقها بالصيغة التي تجعلها قادرة على إعادة لحمة الكلّ الإنساني وتناسق فضائله العليا. فهي الرابطة أو الحلقة الوسطى التي كانت تتطابق في آراء الأفغاني مع فكرة الإسلام الجديد في العلم والعمل والأجيال الجديدة، أي في إعادة بناء سلطانه المادي والمعنوي بالصيغة التي تجعله قادرا على صنع وتحقيق مشروعه الثقافي الجديد. إذ أن المدنية الغربية، كما يقول الأفغاني، لا هم لها سوى الاستعباد لا المساواة[8]. أنها لا تعرف حقيقة الاندماج المتناسق، لأنها تفتقد إلى وحدة الفضائل العقلانية الأخلاقية باعتبارها قيما واجبة، على عكس إمكانية الوجوب الإسلامي. ومن هنا رده على أولئك الذين وجدوا في انتشار الإسلام ودعوته للجهاد رديفا لقوة السيف والقتال، بأن ذلك لم يكن إلا بالقدر الذي يستجيب للقوة الغضبية المندمجة في فضائل النفس العقلية وأخذها بالعدل المطلق والمثال الحسن[9]. ومن هنا كان دخول الأمم إليه هو صيرورة أجزاء متكافئة في وحدة الأمة والدولة. وذلك لأن عالم الإسلام هو عالم السلام. بل نراه يضع هذه الفكرة في صلب دعوته لمدنية الإصلاح وأصالته الثقافية. ففي برنامجه الذي أعده لمجلة (العروة الوثقى) نراه يجعل من مهمة الدفاع عن الإسلام والمسلمين إحدى المهمات الأساسية. وكان يقصد بذلك معارضة الأفكار التي تزعم بأن المسلمين لا يمكنهم بلوغ المدنية المعاصرة في حالة بقائهم على أصولهم القديمة[10].

أما محمد عبده، فقد حاول أن يؤسس لوحدة الفكرة الإصلاحية الإسلامية العقلانية من خلال إرساء منظومة التنوير الثقافية. من هنا تتبعه لفكرة الأفغاني عن الإسلام في مبادئه وغاياته، أي إزالة ما اسماه بالشوائب العالقة فيما لا علاقة جوهرية له بمبادئ الإسلام. فالتخلف والنزعة الحربية وما شابه ذلك مما ينسب إلى الإسلام ما هو إلا نتاج الاستئثار بالسلطة، والجهل بالإسلام. ولم يقصد بالجهل والجهلة هنا سوى أولئك الذين لم يشذب الإسلام ويهذب أرواحهم وعقولهم[11]. إذ ليس القتل والقتال، كما يكتب محمد عبده، من طبيعة الإسلام، بل في طبيعته العفو والمسالمة… والقتال فيه لرد اعتداء المعتدين على الحق وأهله[12].

إن هذه الصيغة العامة للدفاع عن الإسلام ضد معارضيه آنذاك، هي محاولة اكتشاف وتأسيس الإسلام الثقافي، أو الإسلام الإنساني والإصلاحي والعقلاني. ولهذا أكد على أن الإسلام خلافا للأديان كلها، والتي عادة ما تبنى عقائدها الإيمانية على المعجزات والخرافات هو دين العقل[13]. ومن هنا تأكيده الخاص على طبيعة العلاقة بين العلم والإسلام، التي أسس لها بالطريقة التي يمكن اعتبارها مبادئ عامة للإسلامية الدنيوية، أي تلك التي وجدت في العلم وضرورته إحدى الخصائص المميزة لحقيقة السلام وحضارته. ومن هنا استفاضته النسبية في كشف واقع ارتباط تطور العلم في حضارة الخلافة بقوة الإسلام، تماما كما أن ضعف الإسلام أدى إلى انهيار العلوم (الطبيعية والإنسانية). ليس ذلك فحسب، بل وأن تطور الإسلام وقوته تكشف عن انه الضمانة الكبرى لحرية الفكر والإبداع. وان العكس هو الصحيح. بمعنى أن انحطاط الإسلام والجهل به أدى إلى انحطاط قيم المعارف العلمية وحرية الإبداع والفكر. فالإسلام هو الذي وضع فكرة العقل والإدراك وتأمل الوجود في صلب تصوراته، كما يقول محمد عبده. وأن رفضه الأولي والمبدئي لفكرة المعجزة، هو الذي مهّد لاهتمامه المبكر بالعلوم، بحيث جعل بعض الخلفاء (كالمأمون) "يضطهد" من يعارض العلوم والفلسفة[14].

إن الإسلامية الدنيوية عند محمد عبده، هي إسلامية الروح الثقافي. وهي الفكرة التي لم يجد محمد عبده حرجا حتى في رفع "امتحان" المأمون واضطهاده لمعارضي الفلسفة والعلوم إلى مصاف النموذج الرفيع، دون أن يعني ذلك قبول أساليبه العملية المباشرة. إذ لم يسع محمد عبده من وراء انتقاده التنويري للتجربة التاريخية إلى رفع شأن الماضي، ولا إلى التقليل من قيمة الأنا الثقافية، بقدر ما انه أراد توحيدهما فيما يمكنه أن يكون أسلوبا جديدا لإدراك حقيقة العلاقة المفترضة بين الديني والدنيوي في الإسلام المعاصر، أي التأصيل للأصولية الثقافية. فقد احتوت هذه الأصولية الثقافية في موقفها من وحدة الديني والدنيوي، أو ما اسماه محمد عبده بالجمع بين مصالح الدنيا والآخرة، على أصل معقول من وجهة نظر الواقع والآفاق. فالحياة في الإسلام، كما يقول محمد عبده، مقدمة على الدين[15]. إذ كيف يتسنى للمسلم "أن يشكر الله حق شكره إذا لم يضع العالم بأسره تحت نظر فكره، لينفذ من مظاهره إلى سرّه، ويقف على قوانينه وشرائعه، ويستخدم كل ما يصلح لخدمته في توفير منافعه؟"[16]. ونعثر في هذا الترتيب للأولويات على استيعاب عقلاني جديد لوحدة الديني والدنيوي. ومن ثم إدراج هذا الترتيب في إطار ينبغي أن يخدم تأصيل الأصالة الثقافية للعقلانية الإسلامية، عبر تأسيس الوحدة المرنة بين الماضي والحاضر، والحقوق والأخلاق، والروح والجسد، والمعرفة والمنفعة. فهي الثنائيات غير التقليدية للفكر الإسلامي، وفي الوقت نفسه هي ثنائيات إسلامية في وحدتها النموذجية. من هنا إمكانية فاعليتها المؤصلة للأصالة بالنسبة لمشروع الإسلام الثقافي وتقاليد الاعتدال المميزة لفكر محمد عبده. وهذه بدورها ليست إلا إحدى الصيغ العقلانية، التي كانت تبحث عن طريق مناسب لتأسيس وحدة الفضائل في الوجود الاجتماعي والسياسي والأخلاقي للأمم. أما صيغتها في إصلاحية محمد عبده العقلانية، فقد جرت من خلال تنشيط روح الاعتدال المتنور بذاته، باعتباره البديل الضروري للعالم الإسلامي بشكل عام والعربي بشكل خاص، بما في ذلك من وجهة نظر تحديه التاريخي للغرب الأوربي آنذاك. لهذا شدد على أن السلطة المدركة والعاملة بأحكام الإسلام والمتمسكة بما قرره الأولون وما اكتشفه الآخرون، وبأن القرآن لآخرتهم والعلم لدنياهم، قادرون على مزاحمة الأوربيين والفوز عليهم[17].

إن هذا التأصيل غير المباشر لفصل الدين عن الدولة، أو وحدتهما الجديدة في العلاقة المرنة لأولوية العلم والحياة في الوجود الاجتماعي السياسي لعالم الإسلام، ما هو في الواقع سوى التوليف النقدي البارع للفكرة المنطقية في تاريخ الإسلام الثقافي. وليس مصادفة أن يضع محمد عبده أصل "قلب (تغيير) السلطة الدينية" في صلب أصول الإسلام. ومن خلال هذا الأصل حاول البرهنة على أن الإسلام لا يقر بأي سلطة دينية لأي كان[18]. ولا يعني عدم الإقرار بالسلطة الدينية لأي كان سوى افتراض بدائلها في أصل العقل والعمل الحر. وأسس لهذه الفكرة فيما وضعه عن أصول العقل والحاكم العقلي. وبما انه لم يضع للعقل حدودا في الحياة، ولم يقيد أي من أفعاله العلمية بالقرآن، فإن اندفاع صيغة العقل الإسلامية يعادل اندفاع صيغته الثقافية المتجددة. وهي ذات الفكرة التي استحوذت على ذهنية الإصلاحية الإسلامية ككل. وإذا كانت هذه الفكرة توحي في مظهرها الخارجي كما لو أنها استعادة لفكرة التكرار والدوران التاريخية، فإن مضمونها الفعلي قد تباين عند ممثلي الإصلاحية الإسلامية. فقد اتخذت عند الأفغاني صيغة "إسلام الحق والحقيقة"، وعند الكواكبي صيغة "إسلام القومية والعقلانية"، أما عند محمد عبده فقد اتخذت صيغة ما يمكن دعوته بإسلام الزمن الثقافي. وهو إسلام لا معنى للتكرار فيه. إذ لا تعقل حقيقته خارج ارتباطه الصميمي بتراثه الخاص، باعتبارها ألفة الأنا المعتبرة بتاريخها. فعندما ناقش محمد عبده قضية الإسلام والمدنية، فإنه أشار إلى أن "الإسلام لم يقف عثرة في سبيل المدنية أبدا. ولكنه سيهذّبها وينقّيها من أوضارها. وستكون المدنية من أقوى أنصاره"[19]. وأن "القرآن الذي كان يتبعه العالم حيثما سار شرقا وغربا لا بد وأن يعود نوره إلى الظهور ويحرق حجب هذه الضلالات"[20].

إننا نعثر في الصيغة المذكورة أعلاه على موقف يذلل تقليدية الفكرة القائلة، بأن "الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ". بل نعثر فيها على نفي عقلاني لوحدة التاريخ الثقافي في سعيه لتذليل عثراته الخاصة وملء فجواته من خلال استناده إلى وحدة وجوده الحق. وهذا بدوره ليس إلا الاستيعاب الجديد للإصلاحية في تاريخها الخاص. مما حدد بدوره قيمة الزمن الثقافي لا التاريخي. وذلك لأن محمد عبده أراد ربط مراحل التاريخ الذاتي بما في ذلك في فجواته، باعتبارها عِبَراً. ومن ثم ضغط "تاريخ الحق" في روح التفاؤل، باعتبارها المقدمة الذاتية للأصالة والأصالة باعتبارها تفاؤلا. وكتب بهذا الصدد يقول، بأن "الذي مضى بيننا وبين مبدأ الإسلام ألف وثلاثمائة وعشرون عاما، وإنما هي يوم أو بعض يوم فقط من أيام الله… وإن آيات الله في الكون تشهد بأن ما بقي لهذا النظام العظيم يقصر عن تقديره كل تقدير"[21]. وإذا كان محمد عبده يدرك قيمة الحقائق المتباينة بين الزمن "الآلهي" والإنساني، فإن إقراره ببقاء النظام العظيم للكون والفساد أو الصيرورة الدائمة في الوجود، يستلزم بالضرورة الهبوط إلى تاريخ الثقافة، لا إلى روحها الإنساني المجرد، أي إلى حركة التاريخ المدركة لا إلى نهايته اللاهوتية. من هنا مقارنته القائلة بأن المسيحية (والغرب الأوربي) ظلت ما يزيد على ألف سنة قبل أن يظهر فيها العلم، أو تنشأ الحرية الشخصية أو تسري فيها الحركة العلمية وإلى ما فيه صلاح الجمعية الإنسانية، في حين انه لم يمض على المسلمين من يوم استحكمت فيهم البدع إلا اقل من ثمانمائة سنة[22]. وهي إشارة تتضمن في زمنها التاريخي تلميح غير مباشر إلى مرحلة سقوط الخلافة العباسية، وفي زمنها الثقافي إلى انهيار الكيان الثقافي الإسلامي الحق.

***

ا. د. ميثم الجنابي

.....................

[1] إن هذه الفكرة النقدية العميقة التي بلوها الأفغاني قبل أكثر من قرن من الزمن لم تفقد قيمتها المنهجية والسياسية والاجتماعية لحد الآن، بل أنها تبدو أكثر حيوية وجوهرية بالنسبة للوعي النقدي الذاتي المعاصر. فالنزعة التقليدية في الوعي العربي الحديث والمعاصر ما زالت تتسم بطابع المراهقة بهذا الصدد. واكتفي هنا برديف معاصر للنقد الأفغاني القديم بنقد الاتجاه التفكيكي ومنهجه بشكل خاص. وبغض النظر عن أن التفكيكية بالنسبة لي ليست فلسفة عميقة بل أقرب ما تكون إلى أحد المناهج النقدية اللغوية وفلسفة الألسنيات، لكنها تتخذ في الذهنية العربية المستلبة هيئة الاهتمام المفرط والمغرم بولع "تفكيك" النصوص أو الثقافة العربية الإسلامية القديمة والحديثة في وقت لم يبلغ العالم العربي حالة التكامل في بنية الدولة والوطنية والقومية والأمة والثقافة. الأمر الذي يجعل من التفكيك تخريبا للعقل النقدي الفعلي والرؤية الواقعية والاحتمال المستقبلي. وهو أسلوب وذهنية يمكن أن نطلق عليهما صفة الذهنية القردية الفرحة بألعابها البهلوانبة الفارغة.

[2] الأفغاني: الأعمال الكاملة، ج1، ص199.

[3] المصدر السابق، ج1، ص293.

[4] المصدر السابق، ج1، ص173-176.

[5] المصدر السابق، ج2، ص456.

[6]المصدر السابق، ج1، ص177.

[7] المصدر السابق، ج1، ص178.

[8] المصدر السابق، ج2، ص439.

[9] المصدر السابق، ج2، ص439.

[10] المصدر السابق، ج2، ص524.

[11] محمد عبده: الإسلام والنصرانية، ص31.

[12] المصدر السابق، ص82.

[13] المصدر السابق، ص72.

[14] المصدر السابق، ص97-111.

[15] المصدر السابق، ص87.

[16] المصدر السابق، ص92.

[17] المصدر السابق، ص31.

[18] وهي الفكرة التي حاول فما بعد علي عبد الرازق تدقيقها وتحقيقها الفكري السياسي في كتابه (الإسلام وأصول الحكم)

[19] محمد عبده: الإسلام والنصرانية، ص144.

[20] المصدر السابق، ص144.

[21] المصدر السابق، ص145.

[22] المصدر السابق، ص167.

 

في المثقف اليوم