دراسات وبحوث

عبد الحميد الزهراوي.. منّظر الفكرة القومية السياسية (2)

ميثم الجنابيإن تأسيس فكرة العام والعمومية، كما بلورها عبد الحميد الزهراوي ليست إلا الصيغة الواقعية والعقلانية التي تتيح للتنوع والاختلاف العمل بمعايير العقلانية والمدنية الحديثة. بمعنى انه سعى بقدر واحد إلى تأسيس الفكرة النظرية وتوظيفها العملي بالشكل الذي يجعل منها أداة سياسية فعالة في توسيع مدى الرؤية القومية العقلانية.

فقد كان الزهراوي من بين أوائل المفكرين العرب في العصر الحديث الذين أسسوا لفكرة التعدد والتنوع والاختلاف وضرورتها بالنسبة للعلم والعمل. فقد وقف إلى جانب التباين في الآراء والمواقف. واعتبر أن "من المستحيل إزالة التباين"، وانه "ينبغي أن نتمرن في سبيل الحياة الاجتماعية والسياسية مع وجوده" (التباين). كما نراه يعتبر تعدد الأحزاب علاجا "لأمة طال هبوب العوادي عليها"، كما أنه مفيد بما في ذلك في حالة استثارته لصراعات شديدة. ورفع هذا الموقف إلى مصاف المبدأ النظري والعملي تجاه كافة القضايا التي تناولها من القومية والثقافة والسياسة والفكر في الدولة العثمانية. ونعثر على ذلك بوضوح في تحديده لماهية العثمانية كنموذج ضروري لوحدة الشعوب وقوة الدولة. ولكنه في الوقت نفسه ينظر إلى ذلك بمعايير البديل العقلاني والمدني الحديث. فعندما يتناول ما اسماه بتفرق المفكرين بحسب الجماعات، فإننا نراه يشدد على أن محاولات صنع جماعة واحدة (على حساب الآخرين) في دولة متعددة القوميات والأديان والألسن يؤدي إلى نتائج عكسية. من هنا فكرته عن أن عدم إدراك قيمة التعددية هو نقص في العقل. وأن التعدد هو مصدر قوة في حالة بناءه على العدل والقوة (التقدم). وإن الجماعات (التنوع) مفيدة إذا صلحت التربية، وضارة إذا فسدت التربية. وذلك لأن الاختلاف أمر طبيعي. وبالتالي لا ينبغي النفور منه، بل على العكس ينبغي السير فيه قدما و"السلوك فيه أحسن السبل" عبر العمل بمبدأ "الفكر بالوفاق والتدبير بالسياسة". وهذا بدوره مبني على أساس الفكرة الأوسع والأعمق والاشمل والقائلة، بأن الائتلاف مأمول والاختلاف لا يزول، بحيث نراه يجعل ذلك عنوانا لإحدى مقالاته. ومن بين أهم أفكاره بهذا الصدد تجدر الإشارة إلى ما يلي: إن صنع أمة إنسانية واحدة غير ممكن، وأن التباين ضروري وجميل، وأن الممكن من الناحية النظرية لاتحادات متنوعة مثل اتحاد إنساني (أممي عالمي) أو جنسي (قومي) أو ديني أو إقليمي أو بلدي أو صنفي (مهني) وغيره، هو جميعها باستثناء الإنساني (الاممي العالمي العام). أما "الجنسي – الديني" (أي القومي المبني على أسس دينية) فهو ممكن في حال، نادر في حال آخر. إلا أن الممكن والغالب هو الاتحاد الإقليمي والبلدي (القطري) والصنفي(المهني مثل اتحاد الدول على أسس تجارية أو صناعية أو غيرها). واعتبر الزهراوي المثال الناجح لحد الآن هو البلدي (أي القطري أو الوطني).

لقد حددت الرؤية الواقعية والعقلانية نزعة الاعتدال الفكري النظري والعملي في مواقف الزهراوي. وبالتالي لم يكن موقفه من الفكرة القطرية أو الوطنية هنا سوى الصيغة النظرية الملازمة لفكرة الاعتدال. بمعنى أن مواقفه هذه ينبغي النظر إليها باعتبارها جزء أو حلقة في مشروع الفكرة السياسية القومية. وليس مصادفة أن نعثر في اغلب مواقفه الفكرية العملية على موقف عقلاني معارض للتطرف والغلوّ.

فقد عارض الزهراوي مختلف مظاهر الراديكالية سواء في الموقف من الدولة أو السياسة أو القومية أو الدين. من هنا مواقفه الداعية إلى استخدام تجربة الكبار (الساسة القدماء) بما في ذلك تجاه أولئك الذين خدموا استبداد عبد الحميد. ومن هنا أيضا معارضته لما اسماه بالأقوال المتكررة "للصحافة الجديدة ومأجورين اليهود من التبجح بالأيدي الشابة والأفكار الشابة، والإرادة الشابة، والسياسة الشابة". واعتبر أن الشيب ليس بضاعة كاسدة، وإن الشَعر الأسود ليس فضيلة في الظروف الصعبة. كما نعثر على دعواته المتكررة للاعتدال أيضا في الموقف من مختلف المسائل. فقد دعا على سبيل المثال إلى موازنة الصلاحيات بين الرئيس والنواب، بما يخدم وحدة وقوة الدولة مع سيادة الحق. كما نراه يطالب بدور كامل وتام للأمة في الحكومة، وحكومة مقبولة ومعقولة، أي ألا يعارض أحدهما للآخر (أو ما يمكن دعوته بالعقد الاجتماعي بين الدولة والمجتمع المدني). وعندما ناقش وجهات نظر الاتجاهات المتعارضة التي يقول بعضها بضرورة التغيير السريع وقمع المعارضة، بينما يقول البعض الآخر بضرورة الوقوف أولا إلى سلامة الوطن وإعلاء شأنه بالاعتدال، فانه وقف إلى جانب التيار الثاني، معتبرا "الفسق عن سبيل الاعتدال" يؤدي إلى الهلاك. ونفس الشيء نعثر عنده في موقفه من الحرية. إذ نراه يتكلم عن "الحرية المعتدلة". واعتبرها الصيغة الأفضل والأمثل للدولة والمجتمع. فعندما تكلم عن التيارات السياسية الكبرى في لبنان (العالم العربي) فانه أشار إلى أن اتجاهاتها العامة أربعة وهي عنصرية (قومية محلية وضيقة) ومحافظة متطرفة، وحرية متطرفة، وحرية معتدلة. إذ نعثر حتى في هذا التصنيف الذي يقدمه على إفراز وإبراز فكرة "الحرية المعتدلة".

إلا أن الصيغة الأوسع والأدق في تعبيرها عن نزعة الاعتدال ونبذ الغلو تظهر في مواقفه من القضايا الكبرى للدولة (العثمانية) والقومية (العربية) وإشكالاتها المتعلقة بفكرة المركزية واللامركزية وتوابعها في مختلف الميادين والمستويات. ففي موقفه من الحالة الخربة وما يمكن أن تؤدي إليه في المرحلة العثمانية نراه يشدد على فكرة "إننا أمة (معشر العثمانيين) بين مسائلنا الداخلية والخارجية ارتباط عميق". وإن هذا ارتباط يستلزم التروي في كل شيء. وكتب بهذا الصدد يقول، بأننا "في اشد الحاجة إلى الاعتدال والتعقل". بل ونراه يعتبر "الاعتدال مشرب الحضارة وإلى الاعتدال ندعو". من هنا تقديمه نصيحة الاعتدال للجميع أحزابا وساسة وأفراد وجمعيات. بل نراه يدعو إلى وضع كلمة الاعتدال في اسم الحزب الذي يدعو إليه. وانطلق في موقفه هذا من الفكرة القائلة، بأن "الاعتدال ممدوح العواقب في كل وقت". وهذا بدوره لم يكن معزولا عن موقفه العام مما للاعتدال من دور جوهري في ترتيب وتأسيس وتطوير الإصلاح الحقيقي. فالاعتدال في المواقف والرؤية والعمل بالنسبة للزهراوي كان أحد الشروط الضرورية للإصلاح. ووضع موقفه هذا على أساس انه كلما كانت المفاسد كثيرة والاختلاف شديد، كلما صعب الإصلاح السريع. وبالتالي، فإن الاعتدال هو الصيغة المثلى التي تستجيب لحالة الدولة العثمانية وكثرة مفاسدها. وهو السبب الذي جعله يقول أيضا، بأن "أشد الناس احتياجا إلى الاعتدال هو من كانت حاله كحالنا".

مما سبق تتضح معالم الموقف الاجتماعي السياسي الذي ميز كل هواجس التفكير وغاياته العملية عند الزهراوي. فعندما تناول، على سبيل المثال، مفهوم الثروة، فإننا نراه يحصره في كل من الأرض والعمل وأعمال السلف. واعتبر الأمة بلا أرض تملكها وتستثمرها مع انتشار البطالة وتلاشي السلف الصالح عرضة للضياع. وليس مصادفة أن نراه يعتبر الحكمة رأس المال القومي. ويضع في مضمونها فكرة إتقان المحاسبة للماضي والحاضر من اجل تربية العقول والاحتفاظ بالأرض والروح الوطنية الصحيحة. ووجد السبيل إلى ذلك عبر بناء النظام السياسي المعقول والسليم. فقد وجد الزهراوي أمراض العالم العربي في نظمه السياسية. لهذا اعتقد بأن دواء هذه الأمراض يقوم في نهوض الأمة واستعدادها للعمل. وذلك لأن التجربة التاريخية للماضي والحاضر تبرهن على أن حكومة الأفراد هي تجن على العدل ومعنى السلطة وتؤدي إلى فساد كل شيء. الأمر الذي جعله ينادي بفكرة الحرية. ومن ثم اعتبار الحرية الحقيقية هي معيار لكل سلوك وقول. وإن تطابق الأقوال والأفعال مرتبط بالحرية. ووضع هذا في استنتاج سياسي كبير يقول، بأن الأفراد عرضة للزوال، والبقاء للأمم. مما حدد بدوره فكرته عن قيمة الروح العمومي، بوصفه فكرة النهوض القومي.

حددت النتيجة المذكورة أعلاه أهمية الفكرة السياسية. فالروح العمومي والفكرة القومية لا يلعبان ويؤديان دورها على أكمل وجه إلا في ميدان السياسة. ولم تكن هذه الكرة والنتيجة معزولة عن واقع العالم العربي آنذاك، وعن الهواجس الهموم العميقة الكبرى التي كانت تحرك مغزل الفكر النظري للزهراوي. من هنا إدراكه وتوكيده وتأسيسه لأهمية السياسة. فقد أكد الزهراوي في اغلب مواقفه على أهمية السياسة. واعتبرها ضرورية بمعايير الحرية والحاجة على السواء. لهذا نراه يرد على أولئك الذين اعتبروا التفرق بحسب الأحزاب السياسية مخربا للدولة والمجتمع، قائلا: "إن تعدد الأحزاب علاج في أمة طال هبوب العوادي عليها حتى جعلها حرضا" (أي مريضة فاسدة). بينما نراه يشدد في خطابه في المؤتمر العربي الأول في باريس (في حزيران عام 1913)، بوصفه رئيسا للجلسة المنعقدة تحت عنوان (تربيتنا السياسية) على ثلاثة مظاهر تفترض بدورها ثلاثة ردود تناسبها، وهي أن كل شيء عرضة للتغير والتبدل، وأن عادة الحكومات في الشرق لا يسمحون للشعب بالتدخل في السياسة مع ما يترتب عليه من حكم الاستبداد، وأخيرا عدم دخول السياسة لا يعني القبول بالعبودية. أما الردود فهي أن الاهتمام بالسياسة يعني اتخاذ الوسائل لمساعدة الحكومة الصالحة بتحسين حال البلاد، وأن حقيقة الحكومة تقوم في خدمة الشعب وليس بالعكس، وأخيرا أن ذلك يستلزم مراقبتها.

وقد حدد ذلك بدوره أهمية وقيمة فكرة الجماعة الاجتماعية والقومية. بحيث يمكننا العثور عنده على ما يمكن دعوته بفكرة الجماعة السياسية، أي الجماعة المحكومة في رؤيتها وسلوكها وغايتها بفكرة سياسية على خلاف مفهوم الجماعة التقليدي (الديني). الأمر الذي جعل من الجماعة السياسية مقدمة الجماعة القومية، وذلك لما فيها من مقدمات تتماهى من حيث وظيفتها العملية وغايتها النهائية مع فكرة الروح القومي الواعي والنشط بمعايير المشاريع المستقبلية الواعدة بالرقي الشامل. من هنا نراه يؤسس لذلك من خلال حديثه عن الجماعات، باعتبارها كيانات طبيعية. وأرجع مكوناتها إلى عناصر أربع هي كل من التكوّن، والعدد، والتناظر، والتسابق. ووجد في ذلك سنّة الحياة والوجود.

واعتقد الزهراوي، بأن تكوين الجماعة بوصفها قوة يوجد بالاجتماع والتعاون. وأن الجماعة الحية هي تلك التي تمتلك "الروح العمومية". وهذه بدورها تعادل مفهوم "الروح القومي"، باعتبارها الطاقة الفعالة في وعيها الذاتي التاريخي والواقعي. من هنا قوله، بأن "الجماعات التي لها وجود ولكن لا روح عمومية فيها تكون لا حية فترجى، ولا ميتة فتنسى. أنها كالأعضاء المشوهة في الجسم". بينما هذا الصنف من الجماعة التي لن تتطهر "من أوضار الجاهلية، أو غير المؤيدة بقوة الحق والإنصاف، أو غير المفعمة شوقا إلى المعالي والمباراة، أو غير المرزوقة بمصابيح من عقل النوابغ وعزائم المخلصين يكون لها تيه طويل في أودية الفوضى وتخبط كثير على صخور المصائب". وهو تصوير مباشر وغير مباشر للحالة العربية آنذاك في ظل السيطرة العثمانية. بمعنى إننا نعثر في فكرته عن الجامعة ومكوناتها ومسارها تأسيسا لفكرة الجماعة الحديثة، أي الجماعة السياسية بوصفها جماعة قومية. وليس مصادفة أن نراه يعير اهتماما كبيرا لفكرة الزعماء باعتبارهم "نبات الأسباب والسنن الكونية"، أي ضرورة "القيادة التاريخية" التي تأخذ على عاتقها مهمة الإصلاح والصعود التاريخي بالأمة. غير أن ما يميز فكرة الزهراوي بهذا الصدد، هو تجاوزها للاهوت الزعامة والزعماء التقليدي إلى مصاف المطابقة الفعلية بينها وبين القيادة التاريخية للأمة لنفسها عبر إثارة "الروح العمومية". وكتب بهذا الصدد يقول، بأن الأمم تبقى وببقائها تبقى الأفراد وليس بالعكس. من هنا دعوته لإشراك الأنا في صنع الجماعة والأمة والكل. ذلك يعني انه سعى إلى تأسيس قيمة الزعامة الجماعية عبر الاستجابة لروح العموم ومتطلبات التقدم.

لقد كان الروح العمومي في فكر الزهراوي من حيث الجوهر روحا سياسيا. وذلك لأنه كان وثيق الارتباط بالدعوة لصنع أمة موحدة ذات كيان متكامل في الاقتصاد والاجتماع والعمران والقوة العسكرية وغيرها. ولا يمكن بلوغ ذلك، حسب تصورات الزهراوي، إلا بزيادة التربية السياسية للأمة. الأمر الذي أعطى لفكرة التربية السياسية عنده وظيفة متميزة وخاصة. فقد كانت هذه التربية بالنسبة له تعني، كما وضعها في مقالاته التي كتبها تحت عنوان (تربيتنا السياسية) كل من التربية السياسية المناهضة للاستبداد، التي تقوي العلاقات الاجتماعية، وكونها أسلوب تذليل غياب التاريخ السياسي العربي، كما أنها أسلوب وعي الذات القومي. إضافة لذلك أنها عمل دائم وذلك بسبب انتشار وامتداد تقاليد الاستعباد القديمة. ومهمتها الأساسية تقوم في بناء ذات اجتماعية وسياسية وقومية (عثمانية) جديدة تتصف بالقوة والاتحاد. وأخيرا ضرورتها للعرب انطلاقا من كونهم الأغلبية في الدولة العثمانية. بحيث نراه يجعل منها مقدمة لفكرة الاستقلال. فهو ينطلق من أن الكثرة ليست من الأدلة في المنطق لإثبات رأي، ولا في الديانات لإثبات عقيدة، ولكنها "في السياسة والاجتماع قوة يلتفت إليها ويحسب حسابها".

مما سبق يتضح بأن الزهراوي يجعل من فكرة التربية السياسية وروح العمومية كلا واحدا. ويظهر ذلك بجلاء في تأسيسه النظري لهذه الفكرة وتطبيقها العملي أيضا. لها نراه ينطلق من مهمة تأسيس ضرورة التربية السياسية. بعبارة أخرى، إننا نقف أمام إدراك لأهميتها، بوصفها المقدمة الجوهرية لتصنيع الروح العمومية، تماما بالقدر الذي لا يمكن بلوغ حقيقة الروح العمومية بدون هذه التربية السياسية. من هنا تأكيده على انه لا يمكن خطو خطوة جدية إلى الأمام في مضمار التحرر والإنسانية والمدنية بدون هذه التربية السياسية. إذ لا يمكن بدونها تثبيت المصالح العامة. وحالما طبق ذلك على الواقع العربي فإنه كتب يقول، بأن التربية السياسية للعرب تستلزم إدراك استقلالهم الخاص في الدولة العثمانية، باعتبارها حصيلة الوحدة التركية – العربية. وذلك لأن زمن السيطرة التركية العثمانية أدى إلى إضعاف العرب إضعافا شديدا. أما إعادة القوة للدولة، فانه يستلزم الإشراك الفعال للعرب فيها، باعتبارهم قسمها الأكبر. لهذا نراه يعتبر "بث الفكرة والتعصب لها" أساس هذه التربية السياسية. فهو الأسلوب الوحيد القادر على صنع روح العمومية. لاسيما وانه الشرط الضروري لإحياء وتقوية كل جماعة (قومية). وبدونه لا يمكن انجاز شيء عظيم. واعتبر الإخلاص لروح العمومية يعادل ما يسمى "بالتعصب وحب النفس". وهما ليسا مذمومان على الإطلاق، بل منهما ما يصح أن نسميه "قوام الإنسانية" حسب عبارة الزهراوي.

لهذا نراه يرفع التعصب وحب النفس. إلى مصاف العنصر الجوهري في التربية السياسية للروح العمومية. كما يجعل منه فكرة كبرى تقترب من حيث قيمتها بالنسبة للروح القومي من مرجعية عملية متسامية. وانطلق في فكرته هذه من أن حب النفس ضروري وطبيعي وحق (فعكسها هو كرهها). وأن حب النفس ضروري كالغذاء للجسم. كما أن حب النفس واسطة إلى الخير لكونها وسيلة ضرورية. ثم أن حب النفس كالأغذية متنوعة في الصور والأشكال والطعوم والأثر. وبالتالي لا تعارض بين حب النفس وحب الغير، بل أن أحدهما يستلزم وجود الآخر. فحب الجميع يعني هو أن يحب ارتقاءهم وصلاحهم جميعا. كما أن حب النفس يفترض التمسك بقاعدة لا إفراط ولا تفريط. فالتفريط رذيلة لأنه لا يدعو للعمل. وأخيرا، إن حب النفس أصل منه فروع، فمنه ما هو جيد مثل حب العدل والحق والعلوم والبديع والسلام، ومنه ما هو كريه مثل حب البطالة والسيطرة بلا حد.... أما اللغط الذي تثيره كلمة التعصب فلا أساس من الصحة لها بمعايير اللغة والحقيقة (المنطق). فالتعصب سيئ بمعايير قاموس اللغة، وليس بمعايير اللغة الحقيقية. وذلك لأن معنى التعصب في العربية هو التجمع للتعاون. وبالتالي فإن حقيقته متوقفة على مضمونه وغاياته. إذ لا يتطابق مضمون التعصب مع الأنانية المفرطة. ولولا التعصب لازدادت المذابح، كما يقول الزهراوي. وذلك لأن التعصب يدفع الناس للدفاع عن أنفسهم. وبدون تعصب لا أمم حية ولا إنسان حي. فانعدام العصبية يؤدي إلى إذلال الأمم والناس. لهذا نرى الزهراوي يعتبر التعصب مجاراة لحقيقة التنوع. إذ لو جرى تصور الدين واحدا، والجنس واحد لأدى ذلك إلى نتائج كريهة، كما يقول الزهراوي. من هنا استنتاجه عن ضرورة التعدد في كل شيء (الدين والقومية والفكر والثقافة).

غير أن هذا التعصب وحب النفس ليس إلا النتيجة المترتبة على مقدمات ضرورية لما يمكنه أن يكون عناصر التربية السياسية للروح العمومية (القومية)، والتي أدرج فيها الزهراوي كل من الاستعداد، والاتحاد، وحب النفس. ووضع عنصر الاستعداد في أساس تصوراته عما اسماه بصعود الأمم وهبوطها. لهذا نراه يصفه بعبارة "ملاك الأمر"، أي القوة المحددة للصعود والهبوط، والتعمير والتدمير، والعز والذل. وبما أن الاستعداد في الإنسان (والأمة) قابل للامتزاج وتجري عليه أحكام التربية السياسية، من هنا قيمة المصلحين والأنبياء، كما يقول الزهراوي. أما عنصر الاتحاد، فهو مهم وضروري للقوة والمدنية. وبما أن الاتحادات متنوعة، لهذا لا فائدة لإطلاق القول فيه، كما يقول الزهراوي. والسبب يقوم في أن هذا الإطلاق يجعله غير مفهوما. فالاتحاد في الأصل صيرورة الأشياء المتعددة شيئا واحدا. وهو على ثلاثة أنواع أساسية وهي ما يغيب فيه التعدد، وما يبقى فيه التعدد، وما يتساوى فيه التعدد. وحالما طبق ذلك على ما اسماه بالاتحادات السياسية، فانه وجد فيها كيانات متنوعة أيضا، لكنه أبرز فيها مع ذلك ثلاثة أسباب هي بحد ذاتها مقدمات وشروط الاتحاد. وأعتبر الدين أول هذه الأسباب، بينما أعتبر القسر والاضطرار سببا ثانيا، أما الثالث فهو الاحتياجات المدنية. وفي معرض تدقيقه لهذه المفاهيم انطلق الزهراوي من أن الدين يدعو إلى الوحدة، إلا أن التاريخ يكشف عن خلل دائم بلازم هذه الوحدة. أما الاضطرار، فإنه لا معنى له بالنسبة للفكر لأنه حالة استثنائية. أما الاحتياجات المدنية أو العمران فهو محور الاهتمام، بالنسبة للزهراوي، لأنه حاجة مدنية. من هنا استنتاجه الفكري السياسي والمستقبلي القائل، بأن المقصود من الدعوة للوحدة هنا ليس الوحدة العثمانية، ولا الوحدة التركية، بل الوحدة المدنية. من هنا رفعه لشعار: "نحن مدنيون".

وضمن سياق المرحلة وشروط وجود العالم العربي وخصوصية الدولة العثمانية، أسس الزهراوي للفكرة القائلة، بأن المقصود بالاتحاد المدني هنا هو اتحاد جميع الشعوب في الدولة العثمانية عبر تطوير قومياتهم فيه. وكل فيها يحافظ على أجزائه الحرة. أما أسلوب الاتحاد فإنه يفترض السير به نحو الأسهل أو الأقرب حصولا من أنواعه وترك ما يصعب الحصول عليه. ويستلزم ذلك التمسك بقواعد أو مبادئ حصرها الزهراوي في كل من زيادة المحبة والمودة بين الشعوب، وأولوية المواطنة والوطن، واحترام القوميات كلها، ومساواة الجميع بما في ذلك في الحكم، والتعددية السياسية.

كما رفع الزهراوي من شأن ما اسماه بمواجهة الواقع المر بالاستعداد والصبر والثبات والعدل، أي بالعناصر الضرورية التي يمكنها مواجهة الخلل الشامل في كل مكونات ومظاهر الوجود الفعلي للدولة العثمانية ومكوناتها على كافة المستويات وفي كافة الميادين. بمعنى انه أدخل كل ما يمكن إدخاله من قيم ومبادئ وقواعد عملية يمكنها أن تنّشط وتفعّل التربية السياسية للروح العمومية. من هنا نقده لأولئك الذين عارضوا الاشتراك في الحياة السياسية أو الفكرة المعارضة لفكرة السياسة بحد ذاتها. إذ اعتبر من الخطأ القول بأنها رذيلة بذاتها. وذلك لأن السياسة رغم عيوبها، من جملة المقربات إلى الكمال الإنساني. كما انه لا يمكن للمجتمع الإنساني الكمال إلا بالسياسة. من هنا استنتاجه القائل، بأن السياسة هي القدرة على توليف المتناقضات. وبدونها لا يمكن النجاح. وذلك لأن السياسة الحقيقية والسليمة هي التي تعي متناقضات الحياة وتفعل ضمنها بالشكل الذي يحقق الغاية. وكتب بهذا الصدد يقول، بأن الحياة كلها تضاد من تقارب وتباعد، وتصالح وتعاند، وتراحم وتزاحم، وتشابه وتباين، وتصاغر وتعاظم... وانه لا وسيلة لحل هذه المتضادات إلا بالسياسة. وسابقا كان الدين بينما الآن الجنس (القومية) هو دين السياسي. وليس مصادفة أن نراه يدعوه إلى توسيع مضمون ومدى وأساليب التربية السياسية للروح العمومية من خلال توحيد جهود النخب بمعايير الرؤية القومية. لهذا نراه يشدد على ضرورة فكر عمومي يصنع روح عمومية وزعماء وأدباء يتمسكون بها علما وعملا. واعتبر أن القادر على ذلك فقط هو الذي يعرف ناسها وتاريخها ودرجة علاقته بحاضرها. وانه في حالة وجود كتّاب وأدباء وصحفيين لا روح عمومية فيهم، وزعماء منتخبون ولكن ليس لهم روحا عمومية، فإن أدباءهم وزعمائهم مجرد صور تمثل المدنية والعظمة الزائفة وما شابه ذلك. لهذا نراه يطالب في البداية بجعل اللغة العربية لغة التدريس في المدارس الموجودة في المناطق العربية من اجل مساهمتها في صنع "روحا عمومية بين الأمة وبين الزعامات والجماعة العربية"1 .

***

ا. د. ميثم الجنابي

...................

1- إننا نقف هنا أمام حالة مزرية ونوعية في الاستهتار الثقافي والروحي والأخلاقي للتركية العثمانية، كما أنها تعكس في الوقت نفسه حالة الانحطاط الغريب للعالم العربي في ظل السيطرة التركية العثمانية، التي جعلت من تدريس اللغة العربية بين العرب مطلبا ضروريا وأوليا!!

 

في المثقف اليوم