دراسات وبحوث

عبد الحميد الزهراوي.. منّظر الفكرة القومية السياسية (3-3)

ميثم الجنابيأسست أفكار الزهراوي المتنوعة المستويات والمواقف مضمون الفكرة القومية الجديدة. كما أنها كانت مظاهرا أو أشكالا لتأسيس الفكرة القومية الجديدة بوصفها فكرة سياسية. فقد كانت هذه الفكرة تدور من حيث مظاهرها ومحتواها حول فكرة العثمانية وموقع العرب فيها، بوصفها شكل الجنسية (القومية بالمعنى الحديث) ومظهرها، وحول فكرة النظام السياسي البديل، بوصفه شكل القومية السياسية الحديثة ومظهرها.

فقد احتوت فكرة العثمانية والموقف منها على ثنائية العلاقة العربية - التركية. بمعنى أن طرح السؤال حول ماهية العثمانية كان يحتوي بحد ذاته على جعلها مادة للتأمل الفكري والسياسي. ومن ثم تحولها إلى قضية سرعان ما تحولت إلى معضلة مع تحللها السريع عند تخوم القرن التاسع عشر – بداية القرن العشرين. مع ما رافقه من صعود للفكرة القومية على النطاق العالمي. وليس مصادفة أن تتخذ إشكالية العثمانية طابع العلاقة الكمية والنوعية للأقوام، أي العدد النسبي والمطلق ضمن الدولة العثمانية ووزن كل منها في إدارة شئونها. فقد احتوى هذا الطرح على ملامح الإدراك القومي الحديث. ومن ثم لم يعن صعود هذه الثنائية إلى مستوى الإشكالية القومية سوى الوجه الآخر لتبلور الفكرة القومية بوصفها فكرة سياسية.

كان الزهراوي من بين أوائل المفكرين العرب الذين أسسوا لها بمعايير الفكرة الفلسفية الواقعية والعقلانية. ففي معرض حديثه عن التضامن باعتباره احد العناصر القائمة في وحدة الدول والأمم، نراه ينطلق من أن لهذا التضامن مظاهر في كل من الأخلاق والسياسة والشريعة. ففي الأخلاق يظهر عبر حب الغير إلى جانب حب النفس. وفي السياسة عبر اشترك الأمة في قوة عامة. وفي الشريعة عبر إقرار الأمة على الشريعة المؤيدة بالقوة العامة. كما أن تلازم التضامن الضروري لوحدة الدولة والأمة بالأخلاق والسياسة والشريعة محدد بحقائق كبرى تلازمها وهي: بدون الأخلاق لا تعاون (على عكس الإثم والعدوان)، وفي السياسة على قدر قوة أو ضعف الدولة والأمة، وفي الشريعة يجري بسط العدل والقضاء على الفساد. وليس مصادفة أن يتعاضد حكماء الأخلاق والشريعة دوما، كما يقول الزهراوي.

أما أشكال وأساليب هذا التضامن، فأنها متنوعة. إذ يكشف التاريخ والواقع عن أن حصوله عادة ما يجري إما بقرابة القومية، وإما بقرابة الأفكار (الدينية وغير الدينية) وإما بالمنافع (وحدة الوطن). فقرابة القومية طبيعية، والأفكار في حال تقاربها فإنها قوية جدا، والوطنية مصدر إضافي قوي في حال تعاون القومية والأفكار. لكن أقوى التضامن من يجمع في ذاته قرابة القومية والأفكار والمنفعة. ذلك يعني إننا نقف أمام رؤية جديدة تماما للتضامن تتجاوز نماذجها القديمة والتقليدية التي عادة ما تتميز بالزيف وتقلب الأهواء. وبهذا يكون الزهراوي قد سعى هنا لتوظيف فكرة التضامن من اجل القضاء على الفرقة بين الدولة والأمة (من جنس واحد ودين واحد)، أي إرساء أسس الفكرة القومية السياسية على أساس تناسبها في العصر الحديث. والأهم من ذلك انه وجد في هذا النموذج من التضامن والوحدة أسلوبا لإضعاف الاستبداد، "إذ لا تعاون مع الاستبداد". ودفع بهذه النتيجة النظرية والعملية إلى أقصى مداها الفكري في تأسيس ماهية القومية السياسية، عندما وقف إلى جانب الفكرة القائلة، بأن ذاتية الأمم اصطناعية على خلاف ذاتية الأفراد. وذلك لأن للأمم ذاتية وشعور خاص. كما أن لها أسلوب أو طريق خاص في تكونها. وفي الإطار العام هناك أمة جنسية (قومية) ودينية وسياسية. الأمر الذي يشير إلى طابعها الاصطناعي. والمقصود بذلك أنها جزء من التجارب التاريخية والسياسية للأمم. مما يفسح المجال أمام إمكانية وضرورة البحث عن بدائل واقعية تستجيب للصيغة المثلى للوحدة القومية الجديدة. وضمن هذا السياق يمكن فهم آراءه النظرية في تحليل ماهية العثمانية والعروبة والموقف منهما.

فقد كان الزهراوي يستعمل في كتاباته الأولية مصطلح العثمانية و"العثمانيون"، و"نحن معشر العثمانيون"، على معنى الجماعة، أي التعاون والاجتماع. أما في مجال الدين واللغة والإقليم والسلوك الاجتماعي والسياسي فجماعات متنوعة. وضمن هذا السياق يمكن فهم دعوته بين الحين والآخر إلى ضرورة تقوية الجامعة العثمانية من خلال "تنظيف العقول والتربية السياسية". وكذلك دعواته إلى عثمانية مدنية، ليست قومية ولا دينية، بل بوصفها اتحادا طوعيا للأمم على مبادئ مدنية. واعتقد انه الأسلوب الأمثل للحفاظ على قوة هذا النوع من العثمانية، بمعنى استنادها على العدل باعتباره قوة في التعصب وحب النفس. وذلك لأن العثمانية متنوعة في اللسان والدين لا يجمعها إلا العدل وتساوي الجميع. مما يفسح المجال في الوقت نفسه للعمل بمعايير الحقيقة القائلة، بأن الجامعة العثمانية لا تمنع أن يحب كل جماعة منهم جامعتهم الخاصة (القومية أو الدينية).

مما سبق يتضح، بأن العثمانية بالنسبة للزهراوي هي أولا وقبل كل شيء جامعة ثقافية. من هنا معارضته التغلب فيها للترك رغم "أقليتهم" مقارنة بالعرب. ومن هنا أيضا وجهة نظره الداعية إلى إعادة ترتيب الأولويات في الجماعة العثمانية. فقد أدرك الزهراوي قيمة العثمانية بوصفها دولة موحدة للمسلمين في مواجهة الغرب. واعتبر أن قوة العثمانية، باعتبارها توحيدا واشتراكا لشعوبها (وبالأخص العرب والأتراك) يؤدي إلى إزالة "المسألة الشرقية"1

. ذلك يعني انه نظر إلى ما يمكن تسميته بالعثمانية الحقيقية (النموذج المفترض) باعتبارها "عثمانية المجتمع المدني، أو الوطنية المتعالية عن العرق والجنس والدين واللون". وبالتالي، فإنها، بوصفها اتفاقا أو تضامنا سياسيا مفترضا ينبغي أن تبنى على أساس الانطلاق من إدراكها لوجود اتحادات متنوعة. وإذا كان الزهراوي قد قرر وجود أربع نماذج كبرى وهي الإنساني (الاممي) والديني والجنسي (القومي) والمهني (المصالح)، فانه اعتقد بأن أفضلها بالنسبة للعثمانية هو "الاتحاد السياسي الواعي (الائتلاف) لا الوحدة التامة، أي كل ما يقترب من حيث أسلوبه وغايته من النظام الكونفدرالي. وذلك لأن العثمانية القائمة آنذاك تفتقد، حسب نظر الزهراوي، لفكرة عمومية، أي أيديولوجية كبرى تناسب بنيتها المتنوعة. لهذا نراه يشدد على ما اسماه بنقص العثمانية الروحي. فالعثمانية تفتقد حسب رؤية الزهراوي إلى "روح عمومية". ومن ثم هي عاجزة عن الاستجابة لمتطلبات القومية الحديثة والدولة الحديثة والنظام السياسي الحديث. وفي هذا يكمن سر تخلفها وانحطاطها وإثارتها لصراعات عديدة.

وعلى خلاف ذلك نقف أمام ظاهرة العروبة التي أخذت تعي نفسها بمعايير القومية السياسية الحديثة. وقد تراكمت آراء الزهراوي بهذا الصدد في مجرى تدقيق وتحقيق مختلف الأفكار والمفاهيم المتعلقة بالقومية والتاريخ والسياسة والثقافة والمستقبل. ففي بادئ الأمر كان الزهراوي يتناول مسالة العروبة ضمن مفهوم العثمانية المدنية. وكتب بهذا الصدد يقول، بأن الاتحاد العثماني الذي يريده هو ذاك الذي يحافظ على الأجزاء، أي "الاتحاد النافع هو الذي يبقي فيه العربي عربيا والرومي روميا.". ففي معرض حديثه عن قيمة العثمانية، باعتبارها جامعة وحب النفس والتعصب للأنا فيها نسمعه يقول "هناك من يسمح لنفسه أن يبارك الجميع في طلبهم العلى إلا للعرب، بل يشمئزون من ذلك". وبالضد من ذلك نراه يشدد على انه "حتى لو أطبق العالم اجمع على ذلك، فانه لا ينبغي خفض الصوت. من هنا نراه يتكلم حول ضرورة "إعادة مجد الماضي وذكراه وخصال العرب العظمى"، لكي يتوصل في النهاية إلى استنتاج فكري وسياسي مستقبلي كبير يقول انه "لا مجد للعرب بلا تعاون، ولا تعاون بلا رابطة، ولا مجد بلا سياسة". وحالما توصل إلى هذه الفكرة، فإن مداها اللاحق أصبح مجرد تهذيب وتشذيب لمضمونها الداعي إلى توحيد التاريخ والفكرة السياسية والقومية بالنسبة للعرب بوصفه مستقبلا واحدا وموحدا. ففي معرض حديثه عن تناسب القوميات في السلطنة العثمانية، على سبيل المثال، نراه يشدد على ما اسماه بحجم الإجحاف فيها بفعل سيادة الأتراك مع أن الأغلبية فيها للعرب. وأخذ هذا الإجحاف الجلي للعيان في مجرى تجارب التاريخ الحديث يكشف عن ضيق حدود وخواء العثمانية القديمة بكافة الميادين والأشكال والمستويات. وفي الوقت نفسه أدى ذلك إلى نمو وتراكم ما اسماه الزهراوي بروح العمومية والفكرة العمومية. فإذا كانت العثمانية تفتقدها، فإن العرب آخذين بالتجمع حول قضايا معينة كبرى حصرها الزهراوي في خمس هي كل من التنبه بعد الهجوع الطويل، واستحسان التعارف والتعاطف بعد التقاطع، والحرص على تأييد اللسان ومقاومة كل فكرة تقضي بإضاعته وإقامة غيره بالتدرج، والحرص على أن يكون كيانهم من حيث المجموع محترما، والاهتمام بالعلوم والأعمال الصالحة (للتقدم). لهذا نراه يعلق على كتاب جرجي زيدان (تاريخ آداب اللغة العربية) قائلا، بأن هدفه الأساسي هو تعريف العرب أنفسهم بأنفسهم، وأن ماضي العرب عظيم بما في ذلك قبل الإسلام، وأن تاريخهم هو تاريخ الإبداع الدائم من حضارات قديمة في الجزيرة والعراق وسوريا وإفريقيا، وأن ظهور الإسلام جعلهم أمة عظيمة جديدة صنعوا على مثالها أمة الإخاء الإنساني، وأن لغتهم محفوظة، بوصفها لغة القرآن.، وأخيرا أنهم يتمتعون بتراث تاريخي هائل في كافة الميادين بحيث نراه يجعل حتى من دولة حمورابي دولة عربية.

ذلك يعني انه وجد في كتاب جرجي زيدان دليلا وبرهانا تاريخيا موثقا على جوهرية العرب بالنسبة للتاريخ العالمي. إضافة إلى ما في كل ذلك من مقدمات عضوية وحيوية وجوهرية بالنسبة للوعي الذاتي ورؤيته العملية والمستقبلية. فعندما ناقش، على سبيل المثال، مسألة الاحتلال الإيطالي لليبيا، فإنه توصل إلى أن الدولة العثمانية غير قادرة على المواجهة. وبالتالي، فلإن القوة الوحيدة المؤهلة لتحرير ليبيا وغيرها تقوم "في الاعتماد على حماسة العرب المقيمين في ذلك الإقليم. ونرجو أن تظهر هذه الحادثة أن السرّ الذي سار به العرب الأولون لا يزال ساريا". وبالتالي ضرورة أن يتحول مبدأ الاعتماد على النفس إلى مبدأ أولي كما مثلته تجربة دفاع العرب الليبيين ضد الغزو الايطالي". في حين نسمعه يدعو العرب قبل الحرب العالمية الأولى (ما بين أعوام 1909-1911) بكلمات:"أيها الإخوة العرب! لنتأمل الماضي ولننظر إلى الحاضر والمستقبل من اجل النهوض والاستقلال بالاعتماد على النفس".

إننا نعثر في هذه النماذج المشددة على مبدأ الاعتماد على النفس الصيغة الخطابية للفكرة القومية السياسية وضرورة تجسيدها في دولة حديثة لها تاريخها السياسي المستقل، أي استعادة التاريخ المنقطع للعرب، لاسيما وأنهم يتمتعون بأحد أعمق وارسخ وأقوى التواريخ الثقافية العالمية. من هنا تشديده على وحدة التاريخ العربي وتقاليده الثقافية. وهذا بدوره ليس إلا الصيغة الفكرية الثقافية للعروبة بوصفها وعيا ذاتيا قوميا سياسيا. ووجد ذلك تعبيره في ثلاثة أفكار مرجعية جديدة تمثلت حصيلة الاستنتاجات النظرية لفكر النهضة والإصلاح وهي إن عظمة العرب ليست في الإسلام والخلافة والانجازات الخالدة، بل وفيما قبل ذلك أيضا، وأن الإسلام لم يخلق العرب خلقة جديدة، بل استكمل ما فيهم، وأن جاهلية العرب هي جاهلية ما وراء الطبيعة . أما الصيغة الدقيقة والجلية والعملية في الوقت نفسه لكل ذلك فقد وجدت انعكاسها في النشاط السياسي والتأسيس الفكري الذي قام به الزهراوي قبل انعقاد المؤتمر العربي الأول في باريس عام 1913، وفي مجراه ونتائجه وما أدى إليه أيضا على مستوى المصير الشخصي. فقد بلور الزهراوي آنذاك للمرة الأولى بوضوح تام فكرة العروبة عندما شدد على أن العنصر العربي أهم عنصر في الدولة العثمانية، وانه ذو صفات مشتركة (اللغة والعادات والمصالح والميول)، ون من الضروري الاشتراك بإدارة شئون الدولة العثمانية بصفتنا عربا، وأخيرا إن العرب لا يريدون الانفصال عن الدولة العثمانية، بل يسعون إلى وحدة جديدة ودولة عثمانية جديدة على أساس متكافئ.

حددت هذه النتيجة، أي الموقف من الماهية الواقعية والمفترضة للعثمانية، والموقف من فكرة العروبة، البعد الثالث لفكرة القومية السياسية، أي فكرة النظام السياسي البديل. حيث جرى تناوله من خلال الموقف من الخلافة (كنموذج أو مرجعية) والاستبداد (كواقع) والنظام النيابي (كبديل).

فقد أجاب الزهراوي على أسئلة بصدد الخلافة جرى توجيهها إليه عام 1901، أي قبل القضاء عليها بحوالي عقدين من الزمن بطريقة تتسم بقدر كبير من الواقعية والعقلانية. ومن الممكن حصر أهم آراءه ومواقفه بهذا الصدد بما يلي: إن اسم الخلافة كان يطلق على حكم الخلفاء الراشدين الأوائل. وما بعد ذلك ملك. وبالتالي، فإن الاسم المتداول عنها ينافي مضمونها الحقيقي الأول. ذلك يعني، إن إطلاق اسم الخلافة على العاصرين (بما في ذلك الحكم التركي) هو إما اسم لا معنى له أو مضاد لحقيقته. إذ ليس للخليفة بيت مال إلا في حال إذا كان المال والحكم بيد الأمة. كما أن للخليفة حق العمل في التجارة والزراعة أما قبل الحكم أو بعد الحكم. ومن ثم يجوز له ما يجوز للأفراد والأمة. ولا يجوز له الخدم الكثير والقوات الخاصة. كما لا يجوز له التصرف بمال الأمة كما يريد، والتلاعب بالقوانين. ولا يباح له باختيار من يريد إلى الحكم والتقرب من السلطة، وبالأخص من هو مشهور منهم بالرذيلة. كما لا يحق للخليفة سجن أو قتل وإخراج أيا كان بدون قانون، وأخيرا ليس الخليفة مقدسا، وليس مجردا عن السؤال. بصيغة أخرى، إننا نعثر في هذه الإجابة المكثفة على مضمون الفكرة المناهضة لما يمكن دعوته بزمن الخلافة المزيفة التي سادت وما تزال في تاريخ العالم الإسلامي. وفيها نعثر على الصيغة الملطفة أيضا لنقد نظام الاستبداد التركي العثماني، وبالأخص في مراحله الأخيرة.

لقد اعتبر عبد الحميد الزهراوي الاستبداد رديفا للاستعباد. ومن ثم اعتبره رذيلة كبرى. وأشار إلى أن هيمنة وانتشار الاستبداد أدت إلى أن تقول الناس عن نفسها "نحن عبيد السلطان" و"ولي النعمة" و"مالك رقاب الأمم" وما شابه ذلك من عبارات تعكس طبيعة العبودية في السلطة والنظام السياسي. ولا يعني ذلك سوى أن هذا النمط من العلاقة بين السلطان والمجتمع سوى كونه علاقة الاستعباد والإذلال للأمم والدولة.

وحددت هذه النتيجة موقفه من بدائل الاستبداد. فقد وضع آراءه بهذا الصدد انطلاقا من إدراكه لأهمية وقيمة الدولة الشرعية والقانون والمجتمع المدني. لهذا نراه يتكلم عن "علم الواجبات" باعتباره علم الحقوق. من هنا جوهرية فكرة الواجب الضرورية من اجل تكامل الشخصية الفردية والاجتماعية مع ما يترتب عليها من مواقف مناسبة تجاه قضايا ومشاكل ومستقبل الأمة والدولة على السواء. ووجد في الدستور والحكم النيابي الأسلوب الأمثل لبلوغ هذه الغاية. ونعثر على ذلك في مواقفه المشيدة والداعية لأهمية الانتخاب. إذ اعتبر "أمر الانتخاب من أعظم حقوق الأمة". فقد جرى من اجله كفاح طويل مرير. من هنا مطالبته بوجوب الدفاع عن حق الانتخاب، والدعوة إلى عدم انتخاب من فيه ميل إلى النفرة من الانتخاب، وكذلك ضرورة تربية الجميع للميل إلى حاكمية الأمة وتعظيم حقوقها السياسية. ولا يمكن بلوغ ذلك بوصفه نظاما دائما وعاما دون سيادة الدستور. فالدستور قيمة عظيمة بنظر الزهراوي. وكتب بهذا الصدد يقول، بأنه في حال النظر إلى تجارب الأمم الأخرى، فإننا نرى "مظاهر العزة والرفعة والإخاء الوطني والمساواة في الحقوق والطموح في المساواة إلى ما هو أبهى من الحاضر". وبالتالي، فإنه في حالة رؤية نواقص أو أمور شبيهة بالماضي فلا ينبغي رميها على الدستور والحكم النيابي"، كما يستنتج الزهراوي. لهذا نراه يدعو في حديثه عن رجال الدولة والنظام السياسي، إلى ضرورة أن يكون في (المبعوثان) أو مجالس النيابة، ممثلون لكل الفئات والاختصاصات والأديان والأفكار. واعتبر هذا التنوع قوة للمجالس. على عكس من يتصور أن من فيها ينبغي أن يكون عالما بكل شيء.

مما سبق يتضح، بأن القيمة النظرية والعملية والمنهجية لفكر الزهراوي تقوم في انه كان محكوما بتحديد المواقف. وهذه بدورها كانت مبنية على أساس تأمل الواقع كما هو والحكم عليه بمعايير الواقعية والرؤية المستقبلية. بمعنى أن كل ما فيه هو نتاج تأمل واقعي وعقلي ونقدي ومستقبلي محكوم بقيم اجتماعية متطورة مثل فكرة الدولة الحديثة والشرعية والمجتمع المدني وقيم الحق والعدل والتقدم والحرية، أي كل ما كان يتمثل ويمثل مضمون الفكرة الليبرالية من حيث كونها منظومة عقلانية وإنسانية، أي مرحلة في مراحل التجربة التاريخية للأمم والعقل النظري والعملي. وقد يكون موقفه من قضايا الإسلام والمدنية المعاصرة، وقضية الشرق والغرب (الإسلام والنصرانية)، وقضية الموقف من أوربا من بين أكثرها وضوحا وأهمية ضمن سياق المرحلة التاريخية آنذاك وإشكالاتها السياسية والثقافية الكبرى.

ففي موقفه من قضية الإسلام والمدنية المعاصرة، نراه ينطلق من مقدمة تاريخية ثقافية وليست دينية. إذ يشدد على أن مجيء الإسلام للعرب هو توسيع لعقولهم صوب ما وراء الطبيعة. إذ لم يكن العرب أمة همجية قبل الإسلام. على العكس. إن فضائل الإسلام هي فضائلهم. وبالتالي ليس للإسلام سبب في تأخر الوطن، على العكس من ذلك. فتاريخ الإسلام هو تاريخ التمدن. أما الإيمان بالغيب، كما هو الحال في كافة الأديان، فانه يكشف عن انه ليس سببا للتأخر، ولا يعيق التقدم. من هنا دفاعه عن "حقيقة الإسلام" عبر إبراز وتأسيس أبعاده الجديدة من خلال مطابقتها مع محتواه التاريخي الأول، ومع غاياته المتعلقة بقضايا الاجتماع والملكية والإرث والسلوك. بعبارة أخرى، انه حاول إبراز المضمون الاجتماعي والسياسي للإسلام من خلال التركيز على جوانب ومبادئ الدعوة للعدل في الحكم، ونظام الشورى في الحكم، والحرية من منطلق لا إكراه في الدين، والدعوة للوحدة الجديدة حسب إمكانية مختلف نماذج ومستويات الاتحاد التي جرى الحديث عنها سابقا، والدعوة لفكرة وجوب الاستعداد وتنمية القوة المادية والروحية للأمة والدولة، والعمل بمبدأ حسن المعاملة، وأخيرا وجوب الرجوع إلى أهل الاختصاص في كل ما له علاقة بمصالح المجتمع والدولة.

لقد كانت مواقف الزهراوي من الإسلام محكومة بالفكرة السياسية بشكل عام والقومية بشكل خاص. بمعنى أنها كانت تسير ضمن سياق التأسيس النظري المواجه لإشكاليات المرحلة الكبرى والقائمة في كمية ونوعية الهجوم الأوربي الكولونيالي آنذاك. لهذا كانت آراءه ومواقفه تتسم بقدر كبير من الرؤية النقدية للنفس من جهة، والتأسيس الايجابي للتراث الذاتي من جهة أخرى. وطبق هذا الأسلوب في موقفه من قضية الشرق الإسلامي والغرب النصراني.

انطلق الزهراوي في موقفه من هذه القضية من مقدمة فكرية فلسفية، مبنية على أساس وحدة المنطق والرؤية التاريخية. وأوصلته إلى نتيجة تقول، بوجوب التضاد والاختلاف في كل شيء. إلا أن لهذه المقدمة مظاهر كبرى منطقية وواقعية، مثل أن الاختلاف لا يزول ولكن له آداب. كما أن التنازع لا يبطل ولكن له سنن. والحق أيضا تختلف فيه الأفكار ولكن التفاهم فيه ممكن. وذلك لأن الأفكار قابلة للتحول وقبول النصح. إضافة لذلك، أن تاريخ البشرية هو تاريخ صراع. أمم تصعد وأخرى تسفل. وأن سبب النزاع فطرة البشر في حب التميز والاستئثار. وبالتالي، فإن كل الأسباب القديمة للنزاع موجودة الآن أيضا. فقد كانت فيما مضى تنحر في مجال المراعي والأراضي والتجارة والمال والرجال والنساء والدين والأفكار وما إلى ذلك. وهي ذاتها الآن رغم تغير بعض مظاهرها، بمعنى أنها محصورة بمساعي الاستحواذ والسيطرة على الغنائم والثروات. إلا أن ليس كل أشكال الصراع طعنا وقتلا، كما يقول الزهراوي. لهذا نراه يتحدث عن بديل لهذه الحالة عبر تهذيب الإنسان والمجتمع بالتربية وتحسين أحوالهم الاجتماعية والاقتصادية. ووجد في ذلك مقدمات تخفف من حدة الخلاف والاختلاف. لاسيما وأن التاريخ يحفل بنماذج كبرى بهذا الصدد كما نراها في شخصية المسيح ومحمد. فقد ناضل عيسى ضد الاستئثار والتمييز الذي أراده أحبار اليهود. وانتصر بالصبر على الحق. ذلك يعني، أن مسالمة المسيح هي مسالمة الحق. لهذا نراه يدعو إلى القوة أيضا، ولم يستعملها بسبب الظروف فقط. من هنا قيمة النصرانية في تهذيب الشخصية الأوربية. إذ هذبت النصرانية أوربا من همجيتها، وقدمت لها نموذج لحرمة الإنسان. إلا أن أوربا ظلت مع ذلك ذات سيف، ولم تكتف بالكتاب المقدس.

وعندما تناول تجربة الإسلام، فانه حاول الكشف عن أن قوتها في قدرتها على الإقناع والفعل، لا بالقوة والسيف. لأن محمد واحد والمجتمع واحد. وإذا كان انتصار الأول بسرعة، فانه دليل على قوة الشخص والدين. ذلك يعني أن انتصار الإسلام الأول كان مبنيا على مبدأ العدل. من هنا شدة زهد الخلفاء الأوائل. إضافة لذلك أن الإسلام ينكر أكراه الآخرين على الإسلام بالسيف. ولكنه لا ينكر إقامة الدولة الإسلامية. فسيف الإسلام، خلافا لما سبقه ولحقه، هو سيف العدالة وإدخال الجميع في دولة واحدة وليس للاستعباد. وليس مصادفة أن يكون الخلاف التاريخي بين الإسلام وأوربا المسيحية، وليس بين الإسلام والنصارى (الشرقيين). والسبب يكمن في أن ما يميز أوربا هو تقاليد الغلبة والاستيلاء . وإن النظر إلى تاريخ الإسلام، بما في ذلك أشد حكوماته بعدا عن الإسلام أو ظلما، يكشف عن ان النصارى لم يتعرضوا فيه إلى أذية. من هنا خطأ من يدعي الدفاع عنهم وهو مجرد عن الدين (أي لا دين له).

إن حقيقة الغرب (الأوربي) تكمن بالنسبة للزهراوي في عدم تحرره وتخلصه من إرث وتقاليد الغلبة والاستيلاء. وليس مصادفة أن يتميز الغرب (الأوربي) بحصره فكرة الاعتراف بالحقوق بنفسه فقط، سواء على مستوى الدولة أو الأفراد. وأن يكون همه الغالب هو السيطرة والاستيلاء. إلا أن ذلك لا يضعف ولا يقلل ولا يزيل من فضائله الكبرى. ومن بين فضائله الكبرى حسبما يقول الزهراوي هو فكرة الارتقاء. ووجد سرها في إدراك النفس وفي تطوير العلوم، إضافة إلى العزة والقوة والماديات.

إننا نعثر في إبراز صفات الفضيلة التاريخية المعاصرة الكبرى لأوربا الوجه الآخر لما يفتقده الشرق (الإسلامي). فمن الناحية التاريخية والفعلية، كان الشرق منبت التاريخ، ومظهر الإبداع، ومتجلي البدائع والمدنيات والمعارف، كما يقول الزهراوي. لكنه نائم الآن ساكن. ومن ثم فإن المهمة تقوم في تذليل هذا السكون عبر الرجوع إلى النفس وتطوير العلوم. وضمن هذا السياق يمكن فهم المقارنة بين الشرق والغرب التي يمكن تكثيفها من حصيلة كل ما كتبه بهذا الصدد. فقد صور الزهراوي هذه المقارنة بمتضادات كبرى مثل أن الغرب يعربد ويقهر الأمم، والشرق هاجع تناديه فلا يسمع، وأن الغرب تغذيه نار الحمية، بينما يغذي الشرق أنين الإنسانية. وأن عواقب نوم الروح الشرقي تسبب أكثر ضررا من عواقب سكرة الروح الغربي. فتطور الغرب وارتقاءه لم يغرّب ما فيه من شره وهمجية كما هو الحال عند اشد القبائل تخلفا وهمجية. بل ويعتقد الزهراوي أن الغرب يفتقد إلى روح الشجاعة والمواجهة، وانه لا رادع أخلاقي عميق عنده أمام شعور الغلبة، من هنا كان تاريخه على الدوام هو تاريخ اعتداء وانتقام. ومع أن روح الشرقي كروح الغربي، لكن الاستعداد الشرقي، كما يقول لنا التاريخ أقوى وأحسن، وانه متى سنحت الفرصة كان أثره باهرا. وإذا كان الغرب الحديث أحد أسباب استيقاظ الشرق وسعيه للحرية، فإنه يضعنا أمام مفارقة التاريخ المعاصر ألا وهي التمسك بقاعدة "عدو لابد من صداقته".

إننا نقف هنا أمام رؤية نقدية تحليلية وتاريخية مهمتها ليست مهاجمة الغرب الأوربي آنذاك، بقدر ما كانت تهدف إلى مهاجمة النفس والكشف عن عيوبها، مع البقاء في الوقت نفسه ضمن حيز الرجاء التاريخي وفضائل المستقبل المحتملة، كما هو جلي في تخصيص علاقة الشرق والغرب (الإسلام والنصرانية) بالموقف من أوربا. فقد كان الزهراوي من بين الشخصيات الفكرية التي لم تصب آنذاك بعطب التدين المزيف ولا الإسلامية المبتذلة. لهذا نراه يقف بالضد من تأجيج الصراع المفتعل بين الإسلام والنصرانية. وبين أوربا والعالم الإسلامي. إذ نراه يصور أوربا بوصفها مبدعا إنسانيا، وبالمقابل نراه يجد الرذيلة في الشرق الإسلامي آنذاك. ولم تعن الرذيلة بالنسبة له آنذاك شيئا غير التخلف والاستبداد والنقص عن التمام. لهذا نراه يقف بالضد من مواجهة أوربا كلها. وفي الوقت نفسه يؤكد على تفرقة الجيد والسيئ فيها، والصديق من العدو. واعتبر أن من الخطأ إعلان أوربا كلها مجرمة. وأشار بهذا الصدد إلى دورها أيضا في البناء والنهضة ونشر العلوم وما إلى ذلك. بعبارة أخرى، انه طالب بالرؤية الحصيفة تجاه أوربا. وكتب بهذا الصدد يقول، بأنه يمكن لوم أوربا وانتقادها، ولكن بالعقل والحجج لا اللوم الحاقد الناقص. وإن الموقف الحقيقي من أوربا ينبغي أن يكون بالاستقلال الاقتصادي عنها.

لكنه مع تقييمه الايجابي الكبير لأوربا وانجازاتها في مختلف الميادين، فإنه أظهر ما اسماه بعدم خلوها من العيوب، وأن أوربا ليست بريئة من إرادة الكيد للآخرين. من هنا تخطئته لمن يقلد أوربا كليا أو يرفضها كليا. واعتبر المهمة الكبرى والأساسية تقوم في معرفة النفس. وفيما لو جرى تكثيف حصيلة موقفه بهذا الصدد، أي حصيلة الموقف من أوربا، فمن الممكن حصرها في ثلاثة أشياء وهي أن لا نجعل منها خصومة لنا دفعة واحدة، وأن نشغل كل شعب إسلامي بتقوية نفسه دون الأمل على آخر، واليقظة الذاتية وتذّكر خير أوربا وشرها. فقد أوصلته تجربة الرؤية التاريخية والنقدية العلمية للسياسة الأوربية، بعد تحليل مختلف القضايا والمشاكل في علاقتها بالعالم الإسلامي، إلى "انه لا معنى بالثقة بها، ولا ضرورة بتعليق الأمل عليها في شيء، لأنها لا تفكر إلا بمصالحها الاقتصادية".

إلا أن الفكرة الفلسفية المستقبلية العميقة التي توصل إليها من خلال توليف الرؤية النقدية تجاه النفي بالسعي لإدراكها على حقيقتها، ونقد التجربة الأوربية من خلال رؤية محدداتها وغاياتها، تقوم فيما يمكن دعوته بضرورة الرجوع إلى النفس وتأسيس مرجعياتها الحديثة. فقد قيم الزهراوي الإبداع الأوربي في ميادين العلوم الطبيعية والنزعات الإنسانية، لكنه توصل في الوقت نفسه إلى أن فلسفاتهم ليست منطقية بل هي نتاج تجاربهم الذاتية، وبالتالي لا معنى لتقليدها كما هي. وعلى هذا الاستنتاج أسس موقفه الداعي إلى التعلم من أوربا كل ما هو ضروري للمدنية والإنسانية والتحرر دون تقليد ما تقوم به. ووضع هذه الفكرة على أساس تقريره بان أوربا ليست هي الغول، إنما الغول هو سوء الإدارة وفساد السياسة، وأن أوربا هي مطلع نور العالم الحديث. كما أنها تساعد العقول والهمم برؤية أثار العقول والهمم فيها. إضافة إلى ما فيها من مصادر لزيادة المعرفة بحضارتها وأساليب اجتماعها.

لقد شكلت هذه الحصيلة ذروة الرؤية الباطنية للفكرة القومية، بمعنى رؤية الذات القومي العربي بمرآة الواقع الأوربي ومصادر تطوره وأساليب رقيه في مختلف الميادين، أي كل ما يفتقده العالم العربي وما آل إليه من انحطاط شامل وضمور شبه كلي في كيانه وكينونته في ظل السيطرة التركية العثمانية. الأمر الذي جعل من تأسيس الفكرة القومية عند الزهراوي نظرية متراكمة في مجرى توسع وتعمق وتنظيم الرؤية الواقعية والعقلانية والتاريخية والاجتماعية والسياسية.

إن الفكرة القومية عند الزهراوي لم تكن قومية بمعايير الأيديولوجية والسياسية المباشرة، على العكس أنها أخضعت السياسة والأيديولوجية عبر تذويبهما في مشروع تأسيس الرؤية القومية بوصفها بديلا ضروريا للانحطاط والتخلف العربي وانعدام تاريخه السياسي المستقل لقرون عديدة. مما جعل من رؤية الزهراوي ومواقفه مشروعا قوميا واقعيا وعقلانيا يمكن العثور فيه على صدى ومدى التراكم الفعلي لفكرة النهضة العربية والإصلاحية الإسلامية ومضمونها التاريخي بشكل عام وتيار الكواكبي بشكل خاص.

***

وقد شاطر هذه الفكرة في البداية، بل وحتى بداية الحرب العالمية الأولى اغلب إن لم يكن جميع مفكري العرب بما في ذلك أصحاب النزعة القومية، ولم يشذ عن هذا الموقف نجيب عازوري أيضا.

قد يكون جرجي زيدان هو أكثر من مثل هذه الفكرة وأسس لها في مؤلفاته التاريخية والثقافية، وبالأخص في (تاريخ التمدن) و(تاريخ آداب اللغة العربية) التي أثرت فيما يبدو تأثيرا كبيرا على آراء ومواقف الزهراوي بهذا الصدد.

 

ا. د. ميثم الجنابي

.........................

1- يطابق الزهراوي أحيانا الشرق والغرب مع الأمة الإسلامية وأوربا النصرانية وبالأخص حالما تناول تاريخ الصراع في أشكاله "الصليبية"، باعتبارها ظاهرة سياسية وليس نصرانية، أي أوربية – رومانية.

 

في المثقف اليوم