دراسات وبحوث

تحليل ونقد الإصلاحية الإسلامية الحديثة (9)

ميثم الجنابي الكينونة الإسلامية والأصالة الثقافية (1)

حدد إدراك قيمة الكيان الثقافي لعالم الإسلام مضمون الأصالة الإسلامية في عقلانية محمد عبده ومساعيها الإصلاحية. بمعنى تحديد الاتجاه العام في إدراك ضرورتها، وبالتالي وضع إمكانية تعدديتها في الفكر والممارسة العملية. فإذا كان تأسيسها الأولي عند الأفغاني مرتبط بصراعه الفكري الأول مع الدهرية (الهندية)، ونهايتها في الدعوة الشاملة للنهوض الإسلامي، فأنها اتخذت عند محمد عبده صيغة الارتباط الكامل للعقلانية الهادئة في نزوعها الأخلاقي. مما ألبسها في آن واحد لباس التنوير والنزعة الإنسانية. في حين جرى بلورتها في آراء الكواكبي، بوصفها أجزاء متوحدة في مشروعه السياسي الديمقراطي والقومي التحرري. مما كان يعنى في حصيلته استثارة القوى الروحية الكامنة للثقافة الإسلامية في أفعال القوى الاجتماعية الناشطة. مع ما ترتب عليه من تمهيد لرؤية البدائل ومشاريع النهوض المستقبلية، دون أن يجري فرض تصوراتها وأحكامها على أنها قيما مطلقة. وبهذا المعنى كانت الدعوات الخاصة في الفكرة الإصلاحية الإسلامية عن الأصالة الأكثر أصالة آنذاك. والقضية هنا ليست فقط في أنها كانت أكثر تجانسا في تأسيسها، بل ولأنها استوعبت الأعماق الحية للأصالة باعتبارها عملية ثقافية ـ سياسية في مشروع النهضة.

فعندما تناول الأفغاني أساليب النهضة والصراع حول أساليبها المثلى، فانه حاول توجيه الأنظار صوب ضرورة صياغة مبادئها الإسلامية لا صوب وسائلها المفترضة. لهذا أكد على أن من يبحث عن إمكانية النهضة من خلال نشر الجرائد لا يعلم كيف يمكن ذلك والجهل سائد. ومن يظن أن بالإمكان تذليل الجهل وما شابه ذلك من خلال فتح المدارس وتكثيرها بالطريقة الأوربية، فانه لا يدرك صعوبة تنفيذها بفعل غياب السلطة الحقة والمال. ولو وجدنا السلطة والمال لما كان هناك تخلفا. إضافة لذلك أن تقليد مدارس أوربا لا يمكنه أن يصنع أساسا متينا، لأنها عملية لا تستند إلى ذاتها. وذلك لان أمة تأخذ علومها كاملة من الآخرين لا يمكنها أن تعرف كيفية بذر بذور العلوم ونباتها وقوتها، وبأية تربة غذيت، وبالتالي لا يمكنها أن تعي غاية هذه العلوم وإمكاناتها. بصيغة أخرى، أن الأفغاني لم يقف ضد الجرائد وتوسيعها ولا ضد المدارس وانتشارها، والعلوم وبذرها. لقد أراد القول، بان هذه الوسائل ينبغي أن تكون أجزاء في "ماكينة" الأصالة والإبداع الخاص. وليس ذلك لان التقليد لا يصنع إلا تقليدا، بل ولان التطور الحقيقي يستلزم بالضرورة تلقائيته المتأصلة في مبادئ وجوده الأولى. وإلا فانه يؤدي إلى فساد المعرفة، والى تعاليها المفتعل وانهماكها المتحذلق في نسج ثياب العبودية المزركشة. لهذا وجد في تقليد المعرفة الأوربية عملا لا يؤدي في نهاية المطاف إلا إلى إفساد الخلق وتعميق الأوهام. إذ أن جيلا متعلم بهذه الطريقة، حتى في حالة افتراض استفادتهم العلمية وإخلاصهم، عادة ما تؤدي إلى عدم مراعاتهم "فيه النسبة بينه وبين مشارب الأمة وطباعها"، مما يؤدي إلى نتائج سلبية "لأنهم ليسوا أرباب تلك العلوم، وإنما هم حملة نقلة"[1]. فقد أرسل العثمانيون والمصريون أولادهم، كما يقول الأفغاني، إلى الغرب، وحصلوا على ما يسمى بالتمدن. ولكن هل أدى ذلك إلى إنقاذهم من أنياب الفقر والفاقة؟ وهل احكموا الحصون؟ وهل بلغوا من البصر بالعواقب؟ والروح الوطنية؟ والقومية؟ إنهم يتشدقون بألفاظ الحرية والوطنية والجنسية (القومية) وما على شاكلتها من عبارات بتراء لا يعرفون حقيقة غاياتها. لقد أغرتهم المظاهر، أو بصورة أدق إنهم اتخذوا من مظاهر التمدن اللباس والمأكل ونمط الحياة، بينما لم يكن ذلك في واقعه سوى زينة ساهمت أيضا في تدمير"أرباب الصنائع من قومهم". دع عنك كيان الأمة الروحي. وليس مصادفة أن يلاحظ الأفغاني خطورة ما اسماه بخبث الغرب في تمييع وقتل روح الشرقيين من خلال محاولاته الدائبة لإقناعهم بأنه "لا توجد في لغاتهم آدابا مؤثرة وليس في تاريخهم مجدا يذكر"[2]. ووجد في كل ذلك نتيجة لازمة للتقليد الثقافي أيا كان نوعه مستواه. ولهذا السبب وجد في "علمانية" الدهريين الهنود ودعوتهم "للمساواة" بالغرب و"الحرية" وما شابه ذلك، مجرد شعارات تؤدي في نهاية المطاف إلى نتائج معاكسة لما في هذه المفاهيم المتسامية من قيم رفيعة. ذلك يعني انه حاول أن يكشف عن النسبة المهدورة بين القيم المتسامية وواقعيتها في ظل تقليدها الظاهري. فالأخير هو النتاج الطبيعي لفقدان تلقائية الإبداع الحر. لهذا وقف بالضد من الدهرية الغربية من خلال التأكيد على خطورتها بالنسبة للعالم الإسلامي. لقد أدرك الآثار المدمرة لدنيوية (علمانية) لا تستند إلى ذاتها. فقد وجد في إعلانها التخلي عن الفضائل الذاتية باسم "التمدن" و"المساواة" مع الغرب في المظاهر والمشارب مجرد خضوع جاهل للفكر المتسامي. بل نراه يجد فيها عبودية مطرزة بثياب الحرية. فقد كان العالم الإسلامي بنظره بحاجة لا إلى المساواة مع الغرب بل إلى إدراك ذاته وواقعه من اجل تحفيزه على العمل. لهذا شدد على أن من يتبع هذه الأفكار عن المساواة وما شبه ذلك لا يدرك ضررها الكبير على ما اسماه "بفتور الهمم وركود الحركات الإرادية عن قصد المعالي"[3]. وهي الفكرة التي حاول التأسيس لها استنادا إلى ما اسماه بمبدأ حب الاختصاص والرغبة في الامتياز المميز للإنسان باعتباره المبدأ الواعي للمنافسة. وليست هذه الدعوة للمنافسة سوى رفض "التقليدية المتمدنة" ونتائجها المؤدية إلى "ركود الحركات الإرادية"، أي فقدان الإرادة وحريتها، باعتبارها المقدمة الضرورية للإبداع والمكون الملازم لتلقائية الإبداع الحر.

فقد كانت هذه التلقائية عند الأفغاني تتطابق مع إدراكه لقيمة الكينونة الثقافية أو قيم التلقائية المتأصلة في مبادئ الوجود الأول للأمة. وبما أن هذه الأخيرة قد ارتبطت بالإسلام، من هنا إسلاميتها. لكنها إسلامية الروح الثقافي وليس العقائدي الديني. لهذا انتقد سياسة الغرب في استغلاله نصارى الشرق، كما انتقد نصارى الشرق في موالاتهم للغرب، مؤكدا على أن الذلة والمهانة ستقنعهم في نهاية المطاف بان انتماءهم الحق هو انتمائهم لقومهم. واحتوت هذه الفكرة بذاتها على إدراك قيمة الإسلام الثقافي. وبالتالي وحدة الجميع في صيرورته التاريخية وكينونته الثقافية بغض النظر عن اختلاف الدين والقومية. فالأفغاني لم يبحث في التاريخ عن قدسية جديدة للطاعة العمياء بل عن ميدان الرؤية الثقافية. كما انه لم يبحث في تاريخ الإسلام عن ميدان المعارف والمعارك، بل عن مشهدها الحي وعبرتها الدائمة. أما رؤية الإسلام الثقافية وعبرتها الدائمة فقد وضعت الأفغاني في نهاية المطاف أمام مهمة ربط الأصالة بالأصول، باعتبارها المقدمة التي تجبر الفكر على تتبع ماهية الأشياء من اجل تنظيمها في وحدة البناء التاريخي. بمعنى إلزامها ربط الماضي بالمستقبل في المشاريع النظرية والعملية. ومن ثم العمل من اجل تأسيس الأصالة في الأصول، والأصول في الأصالة باعتبارها الدورة الدائمة للروح النقدي الإصلاحي والعقلاني. من هنا مطالبته بتتبع الأسباب الجوهرية لتخلف العالم الإسلامي وضعفه التاريخي. فإذا كان ظهور قوة الأمة الإسلامية وعظمتها مرتبط، كما يقول الأفغاني، بأصول دينها القويمة وقواعده المحكمة وشموله لأنواع الحكم، فإن سبب سقوطها هو ابتعادها عن أصوله وقواعده وأنوع حكمه. وبالتالي فإن علاجها الناجع إنما يكون برجوعها إلى قواعد دينها والأخذ بأحكامه على ما كان في بدايته. وإذا كانت هذه الصيغة توحي بمظهرها إلى سيادة التعصب الذاتي، فإن حقيقتها تقوم في رؤيتها الثقافية لعبرة التاريخ الإسلامي. من هنا استغرابه من استغراب أولئك الذين يتعجبون من ربط الأصالة بالدين. بحيث نراه يجد في مقارنة حالة العرب قبل الإسلام وبعده ما يكفي للرد على هذه الاعتراضات.

إن الجوهري في أصالة الكينونة الإسلامية بالنسبة للأفغاني، هو كيانه الثقافي وإدراكه الفاعل لإعادة بناء أسس النهضة استنادا إلى قواعدها الخاصة. لهذا السبب اعتبر الأخذ بعلوم الغرب خطوة إلى الوراء في التعليم والتمدن، في حالة عدم استنادها إلى وحدتها (العلوم) في الكل الإسلامي (الاجتماعي والاقتصادي والسياسي). حيث اعتبر هذه الممارسة "جدع لأنف الأمة". وذلك لأن القائمين بها "تعلموا علوم قبل أن ينضجوا هم أنفسهم، ولأنها وضعت فيهم على غير أساسها". انه أدرك ضرورة الوحدة المتجانسة في النهضة باعتبارها عملية ثقافية سياسية متكاملة. وذلك لأن أخذ العلوم الناضجة من قبل ناس غير ناضجين لها يعني وضعها على غير أساسها. ولم تعن هذه الفكرة في آراء الأفغاني سوى التأسيس العقلاني لوحدة الأصالة والأصول، باعتبارها الرابطة الضرورية لتلقائية الإبداع الحر.

إن تلقائية الإبداع الحر هي تلقائية الأصالة في بحثها الدائم، أي استمرارها الحقيقي استنادا إلى أسسها الخاصة. لاسيما وإنها الأسس التي تصنع في آن واحد معنى المناعة ومناعة المعنى، أصالة الأصول وأصول الأصالة. وبهذا المعنى ينبغي فهم "الغلو" الفكري في آرائه الأولى ومواقفه من الدهريين، عندما وجد في نظرياتهم أساليب لخدمة العبودية الجديدة، وذلك لما فيها من مساهمة في تفكيك الوحدة الأخلاقية للمجتمع وروابطه الثقافية. بحيث نراه يبرهن عليها من خلال جمع الشواهد والدلائل المناسبة في تاريخ الأمم والحضارات من يونان وفارس وروما. فقد وجد في صعود الحضارة اليونانية نتاجا لاستنادها إلى قوى الفضائل ومنعتها، بينما ربط سقوطها بسقوط فضائلها بفعل انتشار "أخلاقها الكلبية". وينطبق هذا بالقدر ذاته على فارس. بمعنى مناعتها وقوتها بفعل سيادة فضائلها وسقوطها بفعل انتشار "أخلاقها الإباحية". وإذا كانت الكلبية والإباحية، باعتبارهما رديفا تاريخيا للدهرية تتطابقان في تصورات الأفغاني مع الأبيقورية والمزدكية، فإن نموذجها في عالم الإسلام تطابق مع الباطنية ومن اسماهم بخزنة الأسرار الإلهية للحكم الفاطمي[4]. وبغض النظر عما في هذه الشواهد من إجحاف تجاه المدارس والفرق المذكورة، إلا أنها تكشف في إدراكها العقلي والأخلاقي عن توجه نقدي ومستقل في رسم لوحة الأصالة الإسلامية المعاصرة، باعتبارها الإمكانية الجديدة للنهوض الفعلي. ومن ثم أثرها بالنسبة لتعميق فكرة أولويات المناعة الضرورية في وحدة الأخلاق الفاضلة وبنائها المرتكز إلى أصولها الكبرى. وتطابقت هذه الفكرة في آرائه مع الفضيلة المتسامية ونزوعها العملي في وحدة الأمة وغاياتها الكبرى. لهذا نراه يضع عظمة اليونان وفارس والإسلام في كل واحد مع فضائلها، وسقوطها مع رذائلها. مما كان يعني أيضا تطابق معنى المناعة مع الأصول الفاضلة، ومناعة المعنى مع أصول الأصالة الثقافية. لقد أراد الأفغاني إثارة الهموم الواقعية في الوعي الثقافي، أو تنشيط روح المعاناة الضرورة للإبداع، بوصفه الأسلوب الوحيد القادر على إعادة بناء كيان الأمة الحي. وذلك لان المهمة الكبرى، كما وجدها الأفغاني، تقوم لا في رفع شعار التمدن والدنيوية (العلمانية)، بل في بنائهما الذاتي. لهذا نراه يقيم عاليا، على سبيل المثال، ما اسماه بالجرأة الأدبية لشبلي شميل في نشر قيم العلم والدنيوية، وفي الوقت نفسه انتقاده لما اسماه بتقليده (شبلي شميل) الأعمى للغرب[5].

وجد الأفغاني في نشر شبلي شميل لآراء دارون عن أصل الأنواع مأثرة من وجهة نظر العلم والبحث عن الحقيقة (رغم عدم اتفاقه مع فكرة دارون عن أصل الإنسان ودفاعه عنه في الوقت نفسه بوصفه عالما فذا) وجرأة من جهة تحمله لأعباء المكفرين له. وفي الوقت الذي وجد في تكفير المكفرين له نتاجا لانعدام المعرفة والعلم، فإنه مع ذلك وجد في شبلي شميل رجلا "لم يتخل رغم جرأته الأدبية ورسوخه في الفلسفة من وصمة التقليد الأعمى لعلماء الغرب". ومن هنا تناغم دعوته لوحدة الإصلاح والأصالة انطلاقا من أن الإصلاح هو المقدمة الملازمة للأصالة، بينما الأصالة هي الشرط الضروري للإصلاح المتمدن. بمعنى الوحدة الخفية لهما بمعايير الفكر والسياسة. وكتب بهذا الصدد قائلا،"إننا معشر إذا لم يؤسس نهوضنا وتمدننا على قواعد ديننا وقرآننا فلا خير لنا فيه. ولا يمكن التخلص من وصمة انحطاطنا وتأخرنا إلا عن هذا الطريق. وإن ما تراه اليوم من حالة ظاهرة حسنة فينا (ما يسمى بالتمدن) هو عين التقهقر والانحطاط لأننا في تمدننا هنا مقلدون للأمم الأوربية"[6]. ذلك يعني، أن الأفغاني لم يعارض الدنيوية والتمدن (الحداثة)، بما في ذلك ما يمكنه أن يكون شبيها بنمطه الأوربي، بقدر ما انه عارض صيغتها التقليدية. فقد وجد في التقليد الأسلوب الأكثر "رقة ولطفا" لترويج العبودية. وذلك لأن التقليد لا يؤدي إلا إلى الخضوع، وبالتالي الابتعاد عن مصادر القوة الذاتية. من هنا، فإن دعوته للرجوع إلى قواعد الدين الإسلامي وقرآنه لم تكن دعوة للرجوع إلى السلف، بقدر ما كانت دعوة لتأسيس النهضة الجديدة. فهو يدعو إلى تأسيس النهوض والتمدن والتخلص من دورة التقهقر والانحطاط في التقليد. (يتبع...).

 

ميثم الجنابي

...................

[1]الافغاني: الاعمال الكاملة، ج1، ص194-195.

[2] المصدر السابق، ج1، ص

[3] المصدرالسابق، ج1، ص149.

[4] المصدر السابق، ج1، ص152-158.

[5] المصدر السابق، ج1، ص151

[6] المصدر السابق، ج2، ص328.

 

في المثقف اليوم