دراسات وبحوث

الكينونة الإسلامية والأصالة الثقافية (2)

ميثم الجنابيتحليل ونقد الإصلاحية الإسلامية الحديثة (10)

ليس مصادفة أن يشترك رجال الإصلاحية الإسلامية في دفاعهم الموحد عن قيم الوحدة المتينة بين الإسلام والعلم. فالأفغاني يشدد في كل لحظة مناسبة على قيمة العلم، وانه لا يمكن الحديث عن تطور وازدهار حقيقي للأمم دون العلم والعلماء. وإن عظمة الحضارة الإسلامية تقوم أساسا في علومها وتشجيعها للعلماء، وإن أغلب الاكتشافات الأوربية المعاصرة سبق وأن جرى اكتشافها من قبل العلماء المسلمين كالجاذبية والمغناطيس، وجملة من انجازات الكيمياء، وكذلك نظرية الارتقاء التي يمكن العثور على بعض عناصرها عند أبي العلاء المعري، وكذلك عند العالم الإسلامي أبي بكر بن بشرون في رسالته إلى أبي السمح. وإن القرآن مليء بالإشارات والرموز، التي يكشف العلم المعاصر عن قيمتها مثل كروية الأرض (والأرض بعد ذلك دحاها)، وثبات الشمس (والشمس تجري لمستقر لها) وإمكانية البرق والتنويم المغناطيسي وما شابه ذلك. وبالتالي، فإننا نستطيع العثور، كما يقول الأفغاني، على إشارات إلى العلوم وقواعدها، أو إشارات صريحة إلى بعضها. ومن الخطأ مطابقة آراء الأفغاني وغيره من رجال الإصلاح الإسلامي عن تضمن القرآن إشارات وتلميحات للانجازات العلمية مع ما هو سائد في الكتابات الإسلامية المتحذلقة المعاصرة. وذلك لأن رجال الإصلاحية الإسلامية لم يتحدثوا عن اكتشافات، بقدر ما أنهم أرادوا التأسيس لجوهرية العلم وضرورته في اصطلاحياتهم العقلانية. أنهم أشاروا إلى ما في القرآن من تلميحات ورموز إلى كليات العلوم. مما يعني طابعها الملزم في "منطق" القرآن. ولم يحصر أي منهم هذه الإلزامية بآيات القرآن، بل بإبداع الحضارة الإسلامية. بعبارة أخرى، إن تأسيسهم للتفسير العلمي في القرآن هو جزء من إصلاحية الروح العلمي وليس اكتشافاته الخاصة. لأنهم كانوا يدركون استقلالية العلم في اكتشافاته واستقلالية القرآن في رموزه، مشددين على ملازمة كل منهما للآخر وعدم تعارضهما.

أما محمد عبده فقد سعى للبرهنة على الوحدة المتلازمة بين الإسلام والعلم، منطلقا من المادة التاريخية الكبرى ومقدمتها القائلة، بأن تطور العلم عند العرب مرتبط بالإسلام. وانه لولا الإسلام لما كان عندنا علم. وشأن الأفغاني والكواكبي لاحقا، لم ينطلق محمد عبده من مقدمات المنطق، بل من يقين التاريخ الواقعي. ومن خلاله حاول تفنيد مزاعم  الاستشراق القائل بمعاداة الدين (الإسلامي) للعلم. حيث سعى للبرهنة على أن استنتاجات الاستشراق في موقفه من الإسلام هي مجرد تعميم ما هو خاص بأوربا والنصرانية. وبالتالي فإن مدنية أوربا الدنيوية (العلمانية) لا يمكنها أن تشكل نموذجا لعالم الإسلام، بسبب تباين مقدماتها وآلية الصيرورة الداخلية لعناصرها. فإذا كانت مدنية أوربا الدنيوية مبنية على أساس تهديمها للنصرانية، بسبب معاداة الأخيرة للعلم، فإن انحطاط العالم الإسلامي هو أساسا نتاج ابتعاده عن حقائق الإسلام الداعية للعلم. ويعكس هذا الخلاف الجوهري تباين الكينونة الثقافية لعالم الغرب الأوربي والشرق الإسلامي. إذ أن الحضارة الإسلامية وتاريخها يكشفان، بأنه بالقدر الذي ابتعد فيه المسلمون عن علم الدين، جرى ابتعادهم عن علوم الدنيا وحرمان ثمار العقل. وأنهم كلما توسعوا في العلوم الدينية، توسعوا في العلوم الكونية. من هنا استنتاجه القائل بأن "الدواء الذي ينجع في شفائهم من هذا الداء لا يكون إلا ردهم إلى العلم بدينهم، للوقوف على أسراره والوصول إلى حقيقة ما يدعو إليه. كان الدين واسطة التعارف بينهم وبين العلم، فلما ذهبت الواسطة تنكرت النفوس وتبدل الأنس وحشة"[1].

ولم يشذ الكواكبي عن هذا الاتجاه العام. فقد وجد في "الإسلامية السمحاء" باعتبارها أحكام القرآن وما ثبت من السنّة وما اجتمعت عليه الأمة في الصدر الأول، مما لا يأباه عقل أو يناقضه تحقيق علمي. وانه كلما "اكتشف العلم حقيقة وجدها الباحثون مسبوقة بالتلميح أو التصريح في القرآن. وودع الله ذلك فيه ليتجدد إعجازه ويتقوى الإيمان به، وانه من عند الله، لأنه ليس من شأن مخلوق أن يقطع برأي لا يبطله الزمان"[2]. بل أن في السنّة المحمدية، كما يقول الكواكبي، من الحكم والحقائق الأخلاقية والتشريعية والسياسية والعلمية ألوفا من المقررات المبتكرة، ويتجلى "عظم قدرها مع تجدد الزمان وترقي العلم والعرفان".

ذلك يعني بأن الإصلاحية الإسلامية لم تسع إلى تأسيس دنيوية الإسلام بالطريقة الأوربية، لأنها لم تر في ذلك ضرورة، ولم تأسلم العلم وانجازاته لأنها لم تجد في ذلك معنى. أنها كشفت من جديد عما هو مميز لوجودها الثقافي الحق، أي ما ينبغي أن تكون عليه علاقة الإسلام بالعلم وموقعهما في وحدة الكل الثقافي. ذلك يعني أن دعوتهم في جوهرها هي دعوة للدنيوية الثقافية، باعتبارها أصالة، ومن ثم أسلوب في بناء الوحدة الجديدة للكلّ الثقافي، أو الرؤية الجديدة للمشروع الإصلاحي في أصالة مقوماته وقواه الخاصة. إذ ليست الأصالة هنا سوى الكلّ الثقافي. وهذا بدوره ليس إلا الإبداع الذاتي. لهذا كان قبول الأفغاني، على سبيل المثال، للاشتراكية الأوربية مرهونا بانتقادها الثقافي. ففي الوقت الذي أبقى على ما فيها من قيم العدالة والمساواة والحرية، فإنه حاول أن يؤسس لهذه القيم بمعايير التاريخ الإسلامي. بمعنى إعادة وعيها وتجسيدها في قيم الذات الإسلامية، أو وعي الذات التاريخي الثقافي السياسي. وذلك لأن منازعة الاشتراكية الأوربية للدين، في حالة تطبيقه على عالم الإسلام، يعني انتزاع تاريخه الأخلاقي والروحي. ولا يعني هذا الفقدان الجوهري للوجود التاريخي سوى تعليق الأمم الإسلامية في فراغ الانقطاع، بينما المهمة تقوم في إعادة ملئه من خلال إعادة لحمة الوجود التاريخي نفسه. إضافة لذلك، إن سيادة روح الانتقام والثأر هو مصدر من مصادر الغلو وافتقاد حدود الوسط المعقولة. وبالتالي، فإن الاشتراكية الحقة للعالم الإسلامي هي اشتراكية إسلامية. ولا تعني هذه الرؤية النقدية المعقولة من حيث مقدماتها وغاياتها سوى محاولة المطابقة بين حدود الأصالة وحدود الاعتدال العقلاني. ومن ثم البرهنة على أن تأصيل الأصالة هو أيضا تأطير المناعة العقلانية ضد الغلو السياسي بمختلف أصنافه، لأنها تدحض في آن واحد نفسية التقليد الأعمى وولع المشاركة الغبية في تجارب المجهول الثقافي. وقد أدرك الأفغاني بصورة عميقة هذه المهمة عندما وضعها في مشروع (العروة الوثقى)، قائلا: لا ضرورة في إيجاد المنعة إلى اجتماع الوسائط وسلوك المسالك التي جمعها وسلكها بعض الدول الغربية الأخرى. ولا ملجأ للشرقي في بدايته أن يقف موقف الأوربيين في نهايته. بل ليس له أن يطلب ذلك. وفيما مضى اصدق شاهد على أن من طلب فقد أوقر نفسه وأمته وقرا وأعجزها. لقد وضع الأفغاني مشروع الأصالة بمعايير الرؤية الذاتية الحرة، بوصفها مشروع وعيها الذاتي.

بينما نرى محمد عبده يحصر هذا المشروع ضمن سياق التنوير الإسلامي. فهو يقترب في الإطار العام من آراء الأفغاني، في انطلاقه من فكرة فساد التقليد الثقافي استنادا إلى ما في تباين المقلِد والمقلَد من فروق جوهرية تجعل من حالة الأول أحط حالا وأخس منزلة. وذلك لأن المقلِد كما يقول محمد عبده، إنما ينظر من عمل المقلَد إلى ظاهره. ولا يدري سرّه وما بني عليه. فهو يعمل على غير نظام، ويأخذ الأمر على غير قاعدة. ذاك يعني، إن محمد عبده ينظر إلى النظام والقاعدة في العمل نظرته إلى مقدمات جوهرية في النهضة. بحيث نراه يطابقها من حيث فاعليتها مع مقومات الأصالة. وذلك لأن التقليد لا يؤدي في نهاية المطاف، حتى في حالة افتراض أخذه جوانب ايجابية، إلا إلى خلط ما لا يمكن خلطه.

غير أن ذلك لا يعني، بأن محمد عبده يسعى أو يؤسس للانغلاق الثقافي، أو الانعزال الإسلامي. على العكس. انه كان يسعى إلى وضع أسس النهضة في إطارها المعقول. انه بحث عن التجانس في رؤية المشروع الثقافي للأصالة. وقد الزمه ذلك الدفاع عن تاريخ الإسلام الثقافي من خلال تحديد حقائقه الأساسية والكبرى، والانطلاق منها باعتبارها حصيلة التجربة الثقافية للأمة. فهي الوحيدة التي تحوي في ذاتها على مذاق الخطأ والصواب. وبالتالي إثارتها مشاعر الارتباط الحميم بالنزوع صوب المستقبل. لهذا السبب وقف بالضد من تطبيق استنتاجات الفكر الأوربي على العالم الإسلامي، وذلك لأنها حصيلة تجارب أممه الخاصة في مواقفها من النصرانية. وقدّم مثال الموقف من السلطة الدينية والسلطة الزمنية، والموقف من العلم كنماذج مشهورة، معتبرا أن وحدة الأولى (السلطة الدينية والسلطة الزمنية) في الكنسية وتاريخ عدائهما في الثانية (والموقف من العلم) لا يتطابق مع ما في عالم الإسلام وتاريخه. وبالتالي فإن من الخطأ السير في "نظام" و"قواعد عمل" الثقافة الأوربية واستنتاجاتها الفكرية، لأنه يؤدي بالضرورة إلى قطع تقاليد الاستمرار الثقافي الخاص. وذلك لأن النتيجة هي مجرد صنع أمما مقلدة عالقة في فضاء فارغ. لهذا أجاز قبول تولد رادع من الأدب والحكمة عند أولئك الشباب المسلمين الدارسين في المدارس الأوربية، عوضا عن رادع الدين (الأخلاقي). إلا انه أكد على أن ذلك في نهاية المطاف هو مجرد غرور أولئك الذين "لا يعلمون طبائع هذه الأمم"[3]. أما طبائع هذه الأمم فقد كانت تتطابق في آراء محمد عبده مع طبائع تاريخها الثقافي. من هنا استنتاجه القائل، بأن حالة الجمود الحالية هي النتيجة الملازمة للتخلي عن التاريخ الذاتي. ومن هنا توكيده على ضرورة الرجوع الواعي إلى التراث الخاص. إذ لولا هذا الجمود الحالي، كما يقول محمد عبده، لوجد المسلمون في "كتب دينهم وفي أقوال حملته ما تبتهج به قلوبهم وتطمئن إليه نفوسهم، ولذاقوا طعم العلم مأدوما بالدين، وتمكنوا من نفع أنفسهم وقومهم. ولوجدت منهم طبقة معروفة يرجع إليها في سير الأمة وسياسة أفكارها وأعمالها الاجتماعية"[4].

فهو ينطلق من أن حالة الجمود والتخلف السائدة في زمنه ليست مبررا لرفض الماضي. على العكس أنها تستلزم التشبث به! بمعنى الرجوع إليه. فهو الأسلوب الذي يقطع على نفسية المقلد انغماسها في أساليب وحالة الخداع الذاتي. فالتقليد الذي يلازم "الانقطاع" من تأمل الماضي الخاص وتجاربه، يؤدي إلى سحق الروح النقدي. بينما تستلزم حالة الجمود إعادة النظر في مقدماته، لا البحث عنها في حلول الآخرين. وذلك لأن حلول الآخرين هي حلول تستند إلى "نظام وقواعد" تاريخها الخاص. ولهذا السبب وضع محمد عبده مهمة الرجوع إلى الكتب الخاصة وإلى أقوال المفكرين المسلمين القدماء، باعتباره الأسلوب المناسب لإعادة اللحمة الثقافية بالنفس. لقد كان يدرك، بأن أوربا في نهضتها رجعت إلى كتبها القديمة وأقوال مفكريها القدماء. وفيها وجدوا أسلوب إعادة بناء الوحدة في تجارب أوربا الثقافية الخاصة. بل ونراه يعتبر ذلك الأسلوب الوحيد الحق في مضمار المشروع الثقافي الحق. وذلك لأنه الأسلوب الذي يصنع مقدمات النهضة المتكاملة. وفي هذه المقدمات وجد إمكانيات إنتاج النخبة المفكرة والسياسية، أو ما اسماه بالطبقة المعروفة التي يرجع إليها في سير الأمة وسياسة أفكارها وأعمالها الاجتماعية. وهو ذات المشروع المتعلق بتأسيس الرؤية الثقافية الحرة للوحدة الاجتماعية والقومية، الذي سيدفعه الكواكبي إلى أقصى إمكاناته ضمن إطار الإصلاحية الإسلامية وتوجهها العقلاني.

وليس مصادفة ألا تشغل فكرة الأصالة بصيغتها المباشرة ذهن الكواكبي وتفكيره النقدي. وعوضا عنها وجه اهتمامه الجدي صوب قضايا العمل السياسي، أي صوب قضايا السلطة والاستبداد. مما كان يعني تمحور مشروعه الثقافي للأصالة في دروب الرؤية النقدية الاجتماعية السياسية والقانونية. لكن ذلك لم يعن غياب القضايا الأخرى. على العكس. انه أدرجها ضمن مختلف الصيغ النقدية تجاه الواقع، وبالأخص ما يتعلق منه بمحاولاته تذليل حالة "الفتور العام"، بما في ذلك من خلال الرجوع إلى تاريخ الإسلام الأول (أو الإسلام الحق). وبالتالي، سعيه لتأسيس الأصالة المفترضة بمعايير السياسة والحق. لهذا وجد في تقليد ممثلي "الإسلام الفاتر" للأوربيين في المأكل والملبس وما شابه ذلك "أقبح آثار الخور"[5]. ولم يعن ذلك في آرائه دعوة للانعزال والتقوقع، أو الاكتفاء الذاتي بما في الماضي وأشكاله المتكلسة، بقدر ما وجد في هذا التقليد استمرار الوهن. في حين نراه يشترط في رؤيته البديلة مهمة تجاوز التقليد في الفكر من خلال التوجه صوب العلم والدنيوية الثقافية، وفي الأخلاق صوب القيم المتسامية ووحدتها في الكلّ الثقافي، وفي السياسة صوب الحرية والنشاط الديمقراطي والقانوني، وفي الدولة صوب النظام الديمقراطي والفيدرالي.

إن ضعف الانهماك الفكري عند الكواكبي بصدد القضايا المتعلقة بجدل الأصالة الثقافية لم يكن نتيجة لجهله بقيمتها، أو إهمالا لفاعليتها. على العكس. لقد وجد في أولوياتها الاجتماعية السياسية والقومية أسلوب تحقيقها الأمثل. وبهذا يكون قد قطع سلسلة الانتماء الثقافي التقليدي للعالم العربي. وعوضا عنها سعى لصنع سلسلة الهوية الثقافية وأصالتها من خلال ربط حلقاتها الجديدة التي كانت تعادل عنده مهمة إرساء أسس وجوده السياسي والقومي المستقل. من هنا غياب تركيزه على قضايا الإسلام والحضارة، والإسلام والعلم وما شابه ذلك، بسبب تبدل رؤيته لأولويات الانتماء الثقافي. فقد كف الإسلام العثماني عن أن يشكل بالنسبة له مرجعية ما. على العكس‎، انه اخذ يبحث فيه عن مصدر الشرور والتخلف القائم. فعندما ناقش، على سبيل المثال، حالة الفتور في زمنه، فانه أشار إلى أن أحد الأسباب القائمة وراء ذلك هو "الدين الحاضر ذاته" والذي يفتقد إلى كل ما هو مميز لحقائقه الأولى وأحكامه من إعداد القوة بالعلم والمال، والأمر بالمعروف وإزالة المنكر، وإقامة الحدود وإيتاء الزكاة[6].

إن الانقطاع عن "الدين الحاضر ذاته" هو النفي الأمثل له في مقولات الواجب الواقعية. فالكواكبي لم يتعامل مع الأمر بالمعروف وإزالة المنكر وإيتاء الزكاة بمفاهيم الفقه التقليدي أو أخلاق الوعاظ المزيفة، بل أدرجها في منظومة الحقوق والقانون والدولة. لهذا لم يعن الانقطاع عن تقليد الماضي والدين الحاضر، سوى نفيهما في بدائل الأمثل. وذلك لأن الإنسان والمجتمع، كما يقول الكواكبي، في حاجة دائمة إلى نواميس (قوانين) كبرى تحكم وجودهم الاجتماعي والسياسي والأخلاقي. وأن هذه النواميس لا يمكنها أن تتماشى وتتفاعل مع العالم المحيط دون أن تمتلك قواسم إنسانية مشتركة. من هنا استنتاجه القائل، بأن "الإنسان مطالب بأن يكون صاحب ناموس، أي متبعا على وجه الاطراد في أخلاقه وأعماله قانونا ما، ولو في الأصول فقط، لكي لا يكون منفورا. كذلك كل قوم مكلفون بأن يكون لهم ناموس عام وملائم نوعا ما لقوانين الأمم التي لها معهم علاقات جوارية أو تجارية أو مناسبات سياسية"[7]. ولا يعني ذلك في الواقع سوى التمسك بما هو جوهري في ناموس الإنسان وتعديله بالشكل الذي يمكنه من الاستجابة لعلاقات التجارة والجوار والسياسة. لقد أراد الكواكبي القول، بأن أولئك الذين اقترحوا على العالم الإسلامي مهمة التخلي عن تقاليدهم ككل، والإسلامية منها بالأخص، استنادا إلى تجربة أوربا في التمدن، لم يدركوا بأن الأوربيين لهم نواميسهم. وهي نواميس لها مقدماتها في تجاربهم الخاصة. وبهذا يكون الكواكبي قد سار في الاتجاه العام للأفغاني ومحمد عبده. لكنه وضع هذا الاتجاه في مساره الاجتماعي السياسي والقانوني والدولتي (الحكومي)، باعتبارها المقدمة الضرورية لإصلاح الإسلام الحاضر. ولا يعني ذلك بدوره سوى نفيه العقلاني الحر. وليس مصادفة أن يدرج الكواكبي في جدل المسلمين عن هوية الإسلام الحق ومشاريعه الحضارية البديلة شخصية من أطلق عليه وصف "السعيد الانجليزي المسلم". فقد كان هذا "المسلم الانجليزي" أو "المسلم الأوربي" نموذج النافذة الإضافية للإسلام العقلاني في حداثته الممكنة. فالسعيد الانجليزي هو المسلم المتحمس في دعوته النقدية للانفتاح والعقلانية تجاه الثقافة الأوربية، أي تقبل قيمها العقلانية الإنسانية، ولكن من خلال صهرها في كينونة إسلامية جديدة، والتي يمكنها جذب البروتستانت (بفعل تمسكهم بالكتاب ورفض البدع) والزنادقة (بفعل مروقهم عن النصرانية بالكلية لعدم ملائمتها للعقل). وقد اشترط الكواكبي، على لسان السعيد الانجليزي، دخول هؤلاء الجدد في الإسلام المعاصر، باستعدادهم "لقبول ديانة تكون معقولة حرة سمحاء".

فالإسلام المفترض في المشروع الثقافي للكواكبي هو الإسلام العقلاني الحر المتسامح، الذي يمكنه أن يكون مقنعا للعقلاء والأحرار في كل مكان. وبالتالي لا يعني رفد الإسلام المعاصر "بالزنادقة" الأوربيين، سوى إمكانيات الانقلاب العميق في الإسلام الثقافي للكواكبي. وقد استمد هذا الانقلاب مقوماته من وعي أولوية السياسة والدولة في صيرورة الأصالة الحقيقية للعالم العربي. فالأصالة، بالنسبة للكواكبي، هي كل ما يتطابق مع أسلوب بناء الذات السياسية. وإذا كان الإسلام في رصيده الروحي والتاريخي هو الخلفية التي كونت ويمكنها إعادة تكوين هذا الأسلوب، فإن تجسيده المعقول في الواقع المعاصر، يفترض بناء الذات السياسية العربية. وهو البناء الذي صنع الأفغاني ومحمد عبده أحجاره الأولى من عناصر "الإسلامية السياسية".

***

 ا. د. ميثم الجنابي

.............................

[1] محمد عبده: الإسلام والنصرانية، ص163

[2] الكواكبي ، ج،1 ص 239

[3] المصدر السابق، ص

[4] المصدر  السابق، ص138.

[5] الكواكبي، الاعمال الكاملة، ج1، ص145

[6] المصدر السابق، ج1، ص183.

[7] المصدر السابق، ج21، ص183..

 

 

في المثقف اليوم