دراسات وبحوث

الولاية في مذهب ابن عربي

مجدي ابراهيمذكرنا في المقالة السابقة مسألة المفاضلة بين النبوة والولاية عند صوفية الإسلام، وقلنا إنها مسألة لا أساس لها من الصحة ولا صحة لها عندنا من أساس مقبول، ونفينا نفياً قاطعاً أن يكون هنالك اعتقاد أو حتى شبه اعتقاد لدى الصوفية يقدّم أفضيلة الولي على النبي بوجه من الوجوه، فلم يعرف عن أحد منهم أنه كان يقول بذلك أو يجريه على لسانه ولم يكن الحكيم الترمذي مطلقاً ممّن يرى تفضيل الولاية على النبوة ولا الأولياء على الأنبياء، ولم يكشف كتابه "ختم الأولياء" عن هذه النزعة فيه إلا أن يكون التفضيل للولاية من حيث هى مقام في النبوة، لا مطلق التفضيل كما هو الحال عند ابن عربي. وأخذنا على أستاذنا المرحوم الدكتور ابي العلا عفيفي أنه تابع بعض التوجهات السلفية التي تطعن في التصوف فنسب إلى بعض الصوفية القول بتلك المفاضلة غير أنه في كلامه عن ابن عربي لم يفعل ذلك. واليوم نناقش هذه القضية لدى ابن عربي كما ناقشنا في السابق مسألة المفاضلة بين الولاية والنبوة في التكفير الاسلامي.

وسنتناول في هذه المقالة مناقشة نقاط ثلاث أولها: معنى الولاية في مذهبه وخطأ الفهم لها. وثانيها: الحقيقة المحمديّة. وثالثها: المعراج الروحي: معراج النبيّ ومعراج الوليّ؛ ليتمُّ التركيز على آراء ابن عربي وفقاً لمذهبه في تلك النقاط الثلاث. ولابن عربي مذهبٌ خاصٌّ في الولاية يختلف عن مذاهب غيره كما أن له وجهة نظره في المفاضلة بين الرسالة والنبوة من جهة، والولاية من جهة أخرى.

ليس المفهوم من الولاية في مذهبه القداسة ولا المبالغة في التقوى، وإنْ كانت هاتان الصفتان ممّا يمتاز به الأولياء، ولكن أخص صفات الولاية عنده هى "المعرفة" أو العلم الباطن. فالولي على ذلك اسم مرادف للعارف بالله، وهو (أي ابن عربي) يستعمل هذا الاسم استعمالاً واسعاً يدخل فيه الأنبياء والرسل كما يدخل فيه الأولياء الذين منهم "الأفراد" و"الأمناء" و"الأبدال" و"الورثة" وغيرهم من رجال طبقات الغيب. فالرسول وليُّ من حيث معرفته بأمور الغيب، وهو رسول من حيث إنه مكلف بتبليغ رسالة الله إلى الخلق. والنبي وليُّ من حيث علمه بالغيب أيضاً، وكذلك الحال في بقيّة السلسلة التي أسلفنا ذكرها. وبما أن الولاية هى أساس المراتب الروحيّة كلها، كانت هى العنصر المشترك بينها جميعاً، أي بين النبوة والرسالة والولاية والمعرفة. ومن صفاتها الثبات والدوام؛ فالولاية دائمة لا تنقطع لأنها تمثل "البعد الروحي" الباقي بخلاف الحاصل في الرسالة ونبوة التشريع؛ فإنهما تنقطعان لأنهما تمثلان "البعد الزمني" المحدود بزمانه ومكانه. ومن لا يستطيع التفرقة بين هذين البعدين (الزمني، والروحي) في شخص النبي يخطئ فهم ولايته صلوات الله عليه ومن ثم يخطئ فهم المفاضلة بين نبوته وولايته أيضاً.

ويلزم - للصلة القويّة في شخص النبيّ بين الرسالة والنبوة والولاية - الحديث عن الحقيقة المحمديّة: حقيقة أوّليّة النور المحمدي.

غير أن ابن عربي في حديثه عن الحقيقة المحمدية لم يقتصر كابن الفارض على تسميتها بالقطب بل أطلق عليها مسميات منها: الكلمة، وروح محمد، والدُّرة البيضاء، والعقل الأول، والحق المخلوق به، والروح الأعظم. وهنالك - كما يقول الدكتور أبو العلا عفيفي رحمه الله - ما لا يقل عن إنثى وعشرين اصطلاحاً للدلالة على تسمية الحقيقة المحمدية عند ابن عربي منها: حقيقة الحقائق، روح محمد، القطب، العقل الأول (= النوس) عند أفلوطين، العرش، القلم الأعلى، الخليقة، الإنسان الكامل، أصل العالم، آدم الحقيقي، البرزخ، فلك الحياة، الحق المخلوق به، الهيولى (المادة الأولى: الهباء)، الروح الأعظم، عبد الجمع، مرآة الحق، الحقيقة المحمديّة، الكلمة، الدُّرة البيضاء، الاسم الجامع المحيط.

( Affifi (A): The Mystical philosophy of Muhy idin Ibnul Arabi,  combridge.1939. p .p.119 -122)

وكل اصطلاح من تلك الاصطلاحات له اشعاعاته الروحيّة والفلسفية، وله تشابه مع العناصر الخارجية في الثقافات الأخرى غير الإسلامية. وبما أن الحقيقة المحمدية هى المشكاة التي يستقي منها جميع الأنبياء والأولياء العلم الباطن من حيث أن محمداً، صلوات الله عليه، له حقيقة "الختم" (خاتم النبيين) فهو يقف بين الحق والخلق، يقبل على الأول مستمداً للعلم، ناظراً إلى الآخر ممدَّاً له؛ فإن ابن عربي ليقول:"بدء الخلق بالهباء (المادة الأولى = الهيولى) وأول موجود فيه الحقيقة المحمديّة، ولا أين يحصرها لعدم التحيز. وممّ وجد؟ من الحقيقة المعلومة التي لا تتصف بالوجود ولا بالعدم وهى (حقيقة الحقائق) وفيمَ وجد؟ في الهباء ... ولم وُجد؟ لإظهار الحقائق الإلهيّة (الفتوحات المكيّة: جـ 1 ص 118).

من أجل ذلك؛ يعتبر ابن عربي النور المحمدي أو الحقيقة المحمديّة التي هى (القطب)، هو غايات الكمال الإنساني؛ فهو الصورة الكاملة للإنسان الكامل الذي يجمع في نفسه حقائق الوجود، وأن هذا الروح المحمدي هو مصدر العلم والعرفان ومدد الأولياء والعارفين الذي لا ينقطع ولا يزول: "ولهذا بدأ به الأمر، أي بدأ بمحمد (= الكلمة المحمديّة) وختم (فصوص الحكم: جـ 1، ص 214).

ولا يزال هذا (العقل الأول) (= الحقيقة المحمديّة) متردداً بين الإقبال والأدبار؛ يقبل على باريه مستفيداً؛ فيتجلى له؛ فيكشف في ذاته بعض ما هو عليه، ويقبل على من دونه مفيداً هكذا أبد الآباد. ولهذا كانت للحقيقة المحمديّة وجهان: الأول من جهة الاستفادة حين يقبل على باريه وهو الوجه الأحمدي الإيماني الغيبي الأميّ المحجوب، وهو وجه التجلي الذي هو للوجه الأحمدي. والثاني هو الوجه المحمديّ: وهذا الوجه علمي جبرائيلي، وأن التنزيل يكون للوجه المحمدي من جهة الإقبال على من دونه مُفيداً، وهو الظاهر في جميع الأنبياء والأولياء من حيث الإفادة: " ... فكل نبيّ من لدن آدم إلى آخر نبيّ ما منهم أحدٌ يأخذ إلا من مشكاة خاتم النبيين، وإنْ تأخر وجود طينته، فإنه بحقيقته موجود؛ وهو قوله صلوات الله وسلامه عليه:"كنت نبياً وآدم بين الماء والطين". وغيره من الأنبياء ما كان نبياً إلّا حين بعث  )فصوص الحكم: جـ 1؛ ص 63- 64).

وعن ابن عربي أخذ الشعراني كثيراً من فنون النظر الإلهي، ومنها بالطبع مسألة الإيمان بهذا الأثر الغيبي الباطني الذي هو أيضاً بالطبع، أثرٌ من آثار التصوف لا شك فيه عندهم، ولذلك تسمى "بطبقات رجال الغيب"، كما اطلق عليه السيوطي هذا الاسم. بيد أنه، كما يوجد مثل هذا الأثر في التصوف، يوجد كذلك في التشيُّع: فمعارف القطب عند الصوفية تتشابه مع عقائد الشيعة مع فارق كبير في الدلالة والتخريج كنا تناولناه فيما سبق من دراسات.

على أن ابن عربي يطلق على الولاية بهذا المعنى اسم "الخلافة العامة"، وهى الخلافة الحقيقية التي على رأسها "الروح المحمديّ" الذي هو منبع العلم الباطن لجميع الأنبياء والأولياء. أمّا من ناحية المفاضلة بين الرسول والنبيّ من جهة، والولي من جهة أخرى، فإن ابن عربي يرى أن كل رسول وكل نبيّ، فإنما هو وليّ أولاً ورسول أو نبيّ ثانياً. وأنَّ كل رسول ونبيّ من حيث هو وليُّ أفضلُ منه من حيث هو رسول أو نبيّ. وهنا يكمن تحديد المفاضلة تحديداً مقيداً لا مطلقاً يعول على البعد الروحي الغيبي الميتافيزيقي لا البعد الزمني المحدود بزمان ومكان .

وهذه الرؤية الكاشفة وجدت لدى الحكيم الترمذي كما وجدت لدى ابن عربي. ولكن الدكتور عفيفي، رحمه الله، أرسلها مفاضلة مطلقة عند الحكيم الترمذي، ولم يقيدها بالتوضيح في حين يلاحظ أن عين رأي الحكيم في المفاضلة لا يتعدى نفس رأى الشيخ الأكبر. كلاهما واحد لا فرق فيه.

لم تكن مفاضلة بإطلاق بل الكلام فيها مقيّد، ولم يكن في وعي الولاية أي تفضيل لها على النبوة، وما يقالُ عن الحكيم الترمذي يقالُ بنفس الدرجة عن الشيخ الأكبر ولا يزيد. ومن أجل هذا يقول الشعراني:" ومن ظن أن ابن عربي يقول بأفضليّة الوليّ على الرسول أو النبيّ بإطلاق، بمعنى أن كل ولي أفضل من كل رسول أو نبيّ فقد أخطأ فهمه".

ويقول الشعراني إنّ الشيخ الأكبر لم يقل ذلك (أي لم يقل إن الولي أفضل من الرسول أو النبيّ) وإنّما قال:" اختلف الناس في رسالة النبيّ وولايته أيهما أفضل؟ والذي أقول به: إن ولايته أفضل لشرف المتعلق ودوامها (أي دوام الولاية) في الدنيا والآخرة، بخلاف الرسالة، فإنها تتعلق بالخلق، وتنقضي بانقضاء مدَّة التكليف، ووافقه في ذلك الشيخ عز الدين بن عبد السلام. فالكلام مخصوص ومقيد لا هو بالمطلق ولا بالعام، مخصوص ومقيد برسالة النبي مع ولايته لا في رسالته ونبوته مع ولاية غيره: فافهم". هذا ما يقول به الشعراني ويفهمه حاكياً عن ابن عربي.

وعليه؛ فالولاية خارجة من مشكاة النبوة تحقيقاً، صادرة عنها لا محالة، ولا يمكن أن يكون لها مصدر سوى هذا المصدر لا يتعداه؛ فأية محاولة تحاول تخريج معاريج الصوفية خارج حدود المضمون الديني، وخارج حدود المعراج النبوي، هى محاولة محكومٌ عليها بالعوار العلمي والكبوة المعرفية، ومحكوم عليها كذلك بتعسف التخريج، وبالخطأ البيّن الذي ينقض وعي صاحبه من أول وهلة، فضلاً عن قدحه بداية في نواياه.

بطبيعة الحال؛ يختلف هذا المعراج الروحي عند الصوفية، عن المعراج النبوي، وإنْ كان في الوقت ذاته يُشَاركه المثال، لكنه يختلف اختلاف درجة لا اختلاف نوع، باختلاف درجة الوعي بين الأولياء والأنبياء، هو نفسه الاختلاف الذي يرتد إلى عبارة الولي الهندي "عبد القدوس الجنجوهي"؛ فالوعي النبوي إنما هو وعي يتحكم في ضبط قوى التاريخ ضبطاً يوجهها نحو إنشاء عالم جديد من المثل العليا. ورجعة النبي من معراجه الروحي هى رجعة مُبْدِعَة؛ إذْ يعودُ ليشق طريقه في موكب الزمان؛ فيتغيّر بعودته نظام العالم الإنساني تغيراً تاماً.

وقد لاحظ الدكتور "إقبال" الفرق الفارق بين الوعي النبوي والوعي الصوفي؛ إذْ إن:"رغبة النبي في أن يرى رياضته الدينية قد تحوّلت إلى قوى عالمية حيّة رغبة تعلو على كل شيء، ولهذا كانت رجعته ضرباً من الامتحان العملي لقيمة رياضته الدينية، فإرادة النبي في عملها الإنشائي، تُقَدّر قيمتها هى كما تقدِّر عالم الحقائق المحسوسة التي تحاول أن تحقق وجودها فيه. وعندما يتغلغل النبيّ فيما يواجهه من أمور مستعصية، وينفذ إلى أعماقها، تتجلى له حينئذٍ نفسه فيعرفها، ويزيح القناع عنها فتراها أعين التاريخ (تجديد التفكير الديني في الإسلام؛ ص 74).

ولا هكذا الحال في عودة الولي؛ إذا نحن وضعنا في الاعتبار اختلاف وعي النبيّ عن وعي الولي والتحقق من مفهوم العودة بين الأنبياء والأولياء. فالوليُّ لا يريد العودة من المعراج الروحي، بل غايته الاتصال الدائم، غايته هى مقام الشهود، وهو حين يرجع من هذا المقام، ولا بد له أن يفعل؛ فإن رجعته لا تعني الشيء الكثير بالنسبة للبشر على وجه العموم. إنما المعراج في هذه الحالة ذاتيٌّ خاص، والرجعة منه كذلك ذاتية خاصّة .

لقد صوّر ابن عربي، كما صوّر الغزالي من قبله، المعراج الروحي تصويراً يشبه عملية التّحوِّل في العناصر المادية في أحد فصول الفتوحات المكية بعنوان "كيمياء السعادة"؛ وهو الفصل رقم (167) حيث يتخذ رمزاً لصعود الإنسان إلى السماء؛ فحيث إن غاية النفس شهود الله، فلا غرو في أن تجاهد هذا العالم الذي وضعها الله فيه، لكي تحصّل كمالاتها فتحظى في النهاية بمقام رفيع هو الغاية التي كانت تقصدها، وترمي على الدوام إلى بلوغها: شهود الله والاتصال به، ومحبته ومعرفته، والفناء فيه والبقاء معه.

ونموذج معراج النّبي - صلوات الله عليه - كما قلنا في كتابنا "مشكلة الاتصال بين ابن رشد والصوفية": هو النموذج الصالح والكامل، أقام الصوفية معاريجهم الروحيّة عليه، فطهّروا النفوس والأبدان ورققوا الحواشي والطباع، وهذبوا الأفئدة والضمائر، وخاضوا من أجل ذلك كله أعْتىَ التجارب الروحية وأقساها على الطبيعة، فكانت لهم من سيرة النبي أسوة حسنة، ومن مشكاة نبوته هداية صالحة لأن تقام عليها أعباء الطريق إلى الله والاتصال به ومحبته والفناء فيه والقُرب منه على أكمل ما يكون الاتصال، والحب، والقرب، والفناء، محققاً في مقامات السالكين وأحوال العارفين.

إذا نحن عدنا إلى كيمياء السعادة، نرى ابن عربي يعني بها عملية تحويل عناصر النفوس الإنسانية إلى الأكسير الروحي الخالص؛ وذلك لأن التحول في الحياة النفسية أشبهُ شيء بتحوّل العناصر الطبيعية إلى الذهب في الكيمياء. ولأجل هذا؛ فإن النفوس يمكنها أن تتحول من عناصر خسيسة إلى عناصر نفيسة في كيمياء السعادة الروحية. ولا يتمُّ هذا التحول إلا بإخلاص في مجاهدة النفس، بطريق الترقي الباطني؛ أي بطريق المعراج الروحي، حينئذٍ تتحول النفوس كما تتحول المعادن من عناصر خسيسة مُعْدَمة لا حياة فيها إلى أكمل صورة يمكن أن تتغير فيها تغيراً روحياً. وطبيعة النفس في أصلها قابلة لهذا التغير، شريطة أن يتم لها معرفة أصلها الذي انبثقت عنه" (لفتوحات المكية، طبعة بولاق، جـ 2، ص 256).

ولكي يكتمل للنفوس تحولها، فلابد لها من معرفة الأصل (الله) الذي استخلفها في الأبدان وغرس فيها حبّ المعرفة التي تُوصِّل إليه. ولما كانت المعرفة التي توصل إلى الحق نوعاً مختلفاً عن معرفة النظر العقلي؛ لأن العقل وحده قاصر عن أن يصل إلى حقيقة الله تعالى فكيف بالدلالة عليها؟

كان لزاماً لكمال المعرفة في الإنسان من استمداد العَوْن من الدين: من القوة الخارقة للطبيعة؛ لترشده في طريق الوصول إلى الله. ولا يمنع هذا من أن يرشد العقل صاحبه في المراحل الأولى من الطريق إلى الله، ولكن المراحل النهائية، لا يتوصل إليها إلا بنور إلهي يحمل مشكاته الأنبياء ثم يجئ الأولياء؛ ليستلموا الراية؛ وليرفعوا هذا النور أولاً في أنفسهم؛ وليهتدي به ثانياً من هُم دونهم من الناس.

وينتهي ابن عربي، كما انتهى الغزالي قبله، من اعتبار نور مشكاة النبوة طريقاً لمعرفة الحقيقة؛ ولإظهار الحقائق الإلهية، ولإمكان الاتصال بالله بالعروج الروحي إليه. وفي صورة الغزالي أو في صورة ابن عربي تنويعٌ، كما نُلاحظ، لوصف المعراج الروحي مردوداً إلى النبي عليه السلام؛ فهو الهدف الأسمى لتخليص النفس الإنسانية من أدران الآفات وتحولها باطنياً من حالة مذمومة إلى حالة محمودة أعلى منها قابلة للعروج ترتفع ما ارتفعت فيها مراقي الصعود إلى الاتصال بالله من طريق المعراج.

فالارتقاء صعداً في طراز رفيع من المجاهدات والمقامات والأحوال النفسية التي تتدرج فيها حتى يتم لها الاتصال هو مَزيّة هذا التّحوُّل الباطني، وهو فضيلة الغاية المثلى التي ينشدها الصوفي من معالم الطريق وأركانه وشروطه وخصائصه؛ هادفاً إلى الوصول للحق، ولا شيء غير هذا، ولا شيء فوق هذا. وكل المؤثرات الأخرى، كالأفلاطونية مثلاً أو الإشراقية الأجنبية لا ترسم صورة واضحة من حيث الغاية، كما ارتسمت في أذهان الصوفية، وأكدها جانب العمل فضلاً عن الاعتقاد في معاريجهم الروحية، وهى ولا شك من معراج النبوة تترسم صورتها.

ولا يكفي أن نقول إنّ الصوفية قد تأثروا بمعراج النبي فقط بل الأصوب والأصدق أن نقول إنّ معراج النبي كان بمثابة الأصل الذي يتصدر معاريجهم؛ ليصِلَهم بالغاية الشريفة وبالمقصد الأسنى؛ فلولاه ما كانت هنالك معاريج روحيّة، ولا كان هنالك تصوف في الإسلام، ولا كان هنالك إسلام أصلاً: لولاه لم تخرج الدنيا من العدم.

أمّا المؤثرات والمصادر الخارجية، فهى وسائل عامة تتشابه هنا وهناك، لكنها أبداً لا تمسّ صلب المضمون الذي يجعل الغاية بدورها مختلفة. وفي اختلاف الغايات كما نعلم اختلاف المضامين. وفي اختلاف المضامين استقلال الحياة الروحية في الإسلام وامتيازها من ناحية العمق عن غيرها من جملة مضامين كثيرة شَكّلت الاتجاهات الروحية في الحضارات والثقافات العالمية، قديمها وحديثها، وفي هذا ما يجعل ابن عربي أقرب من هذه الناحية: ناحية المضمون في موضوع الاتصال بالله معراجاً رُوحيّاً إلى الغزالي منه إلى أي مفكر آخر، أفلاطونياً كان أو أفلاطيناً، مع اختلاف التخريج الروحي عند كليهما (راجع كتابنا: مشكلة الاتصال بين ابن رشد والصوفية، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، سنة 2000؛ ص 120 وما بعدها).

ويذكر "أسين بلاسيوس" أن "دانتي" قد تأثر تأثراً واضحاً بهذا الفصل الذي يصف فيه ابن عربي الاتصال بالله عن طريق المعراج الروحي والصعود إلى الفردوس. وكذلك تأثر أيضاً برسالته التي يصف فيها رحلة النفس إلى المقام الأعلى حيث تنكشف لها حقائق الكون في عالم الملكوت، وهى بعنوان "الإسرا إلى مقام الأسرى". وهناك من الآراء التي تعدُّ ابن عربي من اتباع المدرسة الإشراقية، نظراً لأن أثار السَّهْرَوَردي المقتول وصلت إلى المغرب وتتلمذ إليها ابن عربي، وهذا ولا شك رأي مخالف للصواب لا يعول عليه. ولا خلاف في أن ابن عربي يمثّل وحده مدرسة كبرى من المدارس الصوفية، وأنه جاء بأقوال نظرية لم تكن موجودة من قبل في التصوف لا عند السَّهْرَوَردي، ولا عند غيره من الصوفية الأوائل والسابقين عليه، هى الأقوال التي صَبَغَتْ آراؤه بصبغة وحدة الوجود، وهى نظرية فلسفية، كما هو معروف، في الوقت الذي لا يمكن لنا أن نخرجها عن مضمونها الديني العميق في فرط الإيمان وجذوة التحقيق.

وكذلك؛ لا يمكن أن نحذفها من أصولها الروحيّة في الإسلام - إنْ في التصوف السُّني أو في آراء السَّهْرَوَردي المقتول - لكنها على أيةٍ حال هى مختلفة الطابع والمضمون والصبغة الفلسفية عن الفلسفة الإشراقية اختلافاً تاماً.

معراج الصوفي الذوقي، إنما هو معراجٌ تنكشف له فيه أسرار الذات الإلهية والأسماء والصفات انكشافاً لا يستطيع الولي التعبير عنه، وهذا مقام المعرفة الحقة: أسعد ساعات السعادة عند الصوفي غبطة عظمى هى بلا شك ثمرة الإيمان يستأنس بنوره العارف؛ فيقوده إلى طمأنينة اليقين ثم إلى منن الشهود.

هذا المعراج الروحي يتباينُ في طبيعته وخصائصه عن المعراج العقلي - إنْ صَحَّ أن يكون للعقل معراجٌ على الحقيقة، وهو الذي كان ابن عربي تخيّله في التفرقة بين علوم النظار من المتكلمين والفلاسفة، وبين علوم الصوفية من أهل الذوق وكبار الروحانيين، تماماً كما فَرَّق الغزالي قبل ابن عربي بين مسلك النظار، فلاسفة كانوا أو متكلمين، وبين مسلك أهل الكشف من الصوفية الذين يستمدون علومهم ومعارفهم من مشكاة النبوة.

غايات الغايات في عمل الأولياء أن تجيء الولاية نفسها مؤسسة على أحكام الشريعة؛ فالركيزة الأساسية التي تستند عليها هى العلم بالشريعة. والأصل اللغوي للولاية يدل بالقطع على الموالاة والنصرة، موالاة الله لأوليائه ونصرتهم له. وممّا يحتمله معنى "الولي" أمرين: أحدهما أن يكون فعيلاً مبالغة من الفاعل؛ كالعليم، والقدير، فيكون معناه: من توالت طاعاته من غير أن تتخَلَّلَهَا معصية. ويجوز أن يكون فعيلاً بمعنى مفعول؛ كقتيل بمعنى مقتول، وجريح بمعنى مجروح، وهو الذي يتولى الحق، سبحانه، حفظه وحراسته على الإدامة والتوالي، فلا يخلق له الخذلان الذي هو قدرة العصيان، وإنما يديم توفيقه الذي هو قدرة الطاعة (الرسالة القشيرية، ج2ص 523: "وهو يتولى الصالحين" (الأعراف، 196).

هذه الموالاة تربط الولاية بأواصر محكومة بحكم الشريعة، تدور معها على ديدن الحضور. وليست للولي، الذي هو الصوفي، ندحة عن نصرة النبي يدافع عنه ويُحاج عن شريعته، فوق نُصرته لها والعمل بها والاقتداء بأحكامها ومقاييسها حتى إذا ما خرج عن هذه الدائرة خرج عن دائرة الشرع، وخرج تباعاً غير مأسوف عليه عن ديوان الولاية.

وأولياء الله كما في رواية ابن عباس عن رسول الله هم الذين "إذا رؤوُا ذكر الله". وفي رواية أبي أمامة أنه صلوات الله وسلامه عليه قال:"إنّ أغبط أوليائي عندي لمؤمن خفيف الحاد ذو حظ من الصلاة, أحسن عبادة ربه، وأطاعه في السّر، وكان غامضاً في الناس، لا يُشَارُ إليه بالأصابع، وكان رزقه كفافاً، وصبر على ذلك ... ثم نقرَ بيده الشريفة فقال: عجلت منيّته، قَلَّتْ بواكيه، وقلَّ تراثه". تلك كانت أوصاف "الولي"، كما رواها رسول الله صلوات الله وسلامه عليه تقدح من الوهلة الأولى فيمن ينكرون أحاديثه في الولاية، وهى لازمة لها في الواقع وفي المثال وفي التحقيق؛ فيما يلزم عنه، صلوات الله عليه، من أحاديث.

 

بقلم د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم