دراسات وبحوث

توليف الفكرة الاسلامية والقومية عند الافغاني (1-2)

ميثم الجنابي تحليل ونقد الفكرة الاصلاحية الاسلامية (13)

 إذا كان الأفغاني قد شدد في آرائه وأحكامه ومواقفه على القرآن فقط، فلأنه حاول من خلاله ربط الجميع بمركز الواحدية الوحدانية. بمعنى تحويله إلى قطب الانتماء الحق في ظل احتراب القوى العالمية وتفسخ الإمبراطورية العثمانية، وسقوط الكيان الإسلامي وتعمق التجزئة والافتراق، وصعود بوادر القومية الحديثة. وقد كان هذا الربط هو الأسلوب المناسب لاندفاع العقلانية الإصلاحية في مراحلها الأولى. وذلك لأنها كانت تعاني آنذاك من ثقل التناقض الخشن لوضوح الرؤية وعجز الإرادة، الأمر الذي ألزم الأفغاني بالبحث عن ضرورة التمسك بعروة المبادئ المتسامية. وهو تمسك يصعب الاستمساك به، بسبب صيرورة المتغيرات المكونة لوضوح الرؤية وعجز الإرادة. فقد كان من الصعب على هذه الرؤية والإرادة أن يتطابقا في الأفعال. لهذا لم تكن "وجهة الوحدة في الدين" و"السلطان في القرآن" سوى الصيغة الأكثر سموا لإعادة بناء الوحدة الإسلامية على أسس أكثر عقلانية وإصلاحا. وقد تضمنت هذه الفكرة في أعماقها على نفي غير مباشر للمركزية العثمانية ونظامها الاستبدادي. لكنه نفي لم يتكامل في منظومة واضحة المعالم آنذاك بسبب خضوع هذه الفكرة لمبدأ الإصلاح التدريجي. من هنا يمكن فهم سرّ معارضة الأفغاني للجنسية (القومية) في بادئ الأمر. وذلك لأنه وجد فيها، كما يقول، أداة بيد الأوربيين لتحطيم الوحدة الإسلامية. وهذا بدوره لم يكن معزولا عن إدراك الأوربيين آنذاك، بأن أقوى رابطة تجمع المسلمين هو إسلامهم[1]. وبالتالي، فإن "محاربة" القومية عند الأفغاني كانت جزءا أو مرحلة في إدراكه لأولوية المهمات الكبرى للمعركة الفعلية بين عالم الإسلام والعالم الأوربي الكولونيالي، وليس معارضة مبدئية للفكرة القومية كما هي. فقد استند هذا الإدراك السياسي إلى حوافز فكرية وعقائدية عميقة لها أسسها في أممية الإسلام وتاريخه الثقافي. وبهذا المعنى يمكن فهم آرائه القائلة، بأنه "لا جنسية (قومية) للمسلمين إلا في دينهم"[2]. وهو استنتاج له مقوماته في انتقاده الإسلامي للقومية. بمعنى النظر إليها بمعايير المطلق، كما أنها إعلاء شأن الفكرة الأخلاقية الروحية على التاريخية السياسية. ولهذا أعتبر القومية مَلَكة عارضة، وانه لا يذهب إلى "أنها أمر طبيعي". ومع ذلك أكد على انه "قد يكون من المَلَكات العارضة على الأنفس ترسمها على ألواحها الضرورات"[3]. وتحتوي هذه الفكرة على إقرار بواقعية القومية ضمن سياق الضرورة التاريخية. لكنه سعى في الوقت نفسه لتذليلها بمعايير المطلق. من هنا توكيده على أن القومية عرضة للزوال انطلاقا من أنها نشأت بالضرورة، فإنها يمكن أن تزول مع زوال هذه الضرورة. وأن المبدأ الأعلى لزوالها هو المبدأ المتسامي، الذي تتساوى أمامه الجميع، أي الله[4].

وبهذا المعنى يمكن فهم آرائه عن أن ترسيخ الديانة الإسلامية كفيل بتذليل القومية. ولم يقصد بالقومية هنا سوى صيغتها المغتربة عن الكلّ الإسلامي في تقاليده الثقافية والإنسانية. وبالتالي، لم يكن وقوفه ضد القومية المتطرفة ودعوته للاعتدال، سوى محاولة إرساء معادلة للعقلانية والأخلاق، للمطلق والإصلاح. وحصلت هذه المعادلة على تعبيرها الدقيق في فكرته العامة عن الأساس الشرعي والأخلاقي للوحدة الإسلامية، باعتبارها نقيضا للتطرف القومي. فالدين الإسلامي، كما يقول الأفغاني، لم تكن أصوله محصورة في إطار دعوة الناس إلى الله وملاحظة أحوال النفوس من جهة كونها روحانية المنشأ ومدعوة للتوجه من هذا العالم إلى العالم الآخر، بل وجاءت "وافية بوضع حدود المعاملات بين العباد، وبيان الحقوق كلها وجزئيتها، وتحديد السلطة الوازعة التي تقوم بتنفيذ المشروعات وإقامة الحدود وتعيين شروطها، حتى لا يكون القابض على زمامها إلا من أشد الناس خضوعا لها. ولن ينالها بوراثة ولا امتياز في جنس أو قبيلة أو قوة بدنية وثروة مالية، وإنما ينالها بالوقوف عند أحكام الشريعة والقدرة على تنفيذها ورضا الأمة"[5]. وبهذا يكون الأفغاني قد قيّد الوحدة الإسلامية بقيود القانون من خلال رفعه حدود المعاملات وبيان الحقوق وتحديد السلطة الوازعة. وهذه بدورها محصورة ومحددة بالقانون وليس بالوراثة أو الامتياز القبلي أو القومية أو أيما امتياز آخر. وتعكس هذه الآراء بحد ذاتها نقد التجربة التاريخية لدول الخلافة، بما في ذلك نموذجها القائل بقرشية الخلافة وما شابه ذلك، وكذلك نفي الخلافة المعاصرة له (العثمانية).

وشكلت هذه الفكرة الإطار العام لتعميق عقلانية الرؤية في المواقف من قضايا الوحدة والقومية. فقد أبقى على القومية ضمن حيز الانتماء الثقافي، والدعوة لها ضمن حيز الاستقلال السياسي بما يتناسب مع نظام القانون والحق. ولم يعن ذلك في الواقع سوى صياغة الأسس الأولية لترميم الوحدة الخربة في نموذجها الإمبراطوري العثماني. من هنا تأييده وتأكيده المتزايد على عدم تعارض الإسلام مع القومية، رغم تشديده في الوقت نفسه على أن الرابطة الدينية هي أشرف الروابط[6]. لقد أخذ الأفغاني يقترب من واقعية الرؤية، بما في ذلك التاريخية، من أجل إدراجها في فكرته الإصلاحية. فعندما تناول تجربة العرب قبل الإسلام، فإنه أشار إلى ضعف قوة القومية فيهم بفعل توزعها في القبائل، بينما استعاض الإسلام عن قوة القومية بتوحيدية الكلمة والإيمان. في حين أدى سلوك بعض الخلفاء وجهلهم إلى دخول الغرباء (المماليك)، ومن ثم انهيار قوة القومية (العربية) وزوال حكمهم. وينطبق هذا بالقدر ذاته على حالة الدولة التركية (العثمانية) المعاصرة له[7].

وبغض النظر عن التناقضات المتناثرة في هذه الأحكام والتصورات إلا أنها تعكس الإقرار المتزايد والمتعمق في الرؤية الواقعية لعلاقة القومي بالديني في ظل الانعطاف الكبير للدولة العثمانية وصعود العامل القومي، أي التجزئة الجديدة في ظل الوحدة القديمة (المتفسخة)، أو الوحدة الجديدة في ظل التجزئة المكبوتة بالقوة. من هنا استنتاجه القائل بأن الدول لا تتكون إلا في حالة وجود قوتين، وهما قوة الجنس (القومية) الداعية للاتحاد والغلبة، وقوة الدين الذي يقوم مقام الجنسية (القومية) في جمع الكلمة، بحيث أعتبرها من المبادئ الضرورية لحماية الدولة والحفاظ عليها[8]. وتستند هذه المبادئ إلى إدراكه المتعمق للمشاريع العملية في الفكرة الإصلاحية. وذلك لأن آراء الأفغاني الأساسية ومنطلقاته الكبرى تستند على نفي الطابع "الطبيعي" للقومية، أما في رؤيته النموذجية للمثال، فإنه ينفيها بمبادئ المطلق الإلهي (أو الإنساني الإلهي). بينما ألزمته الرؤية الواقعية ومتطلبات الإصلاح العقلاني إلى إدراجها في مشاريع السياسة العملية، باعتبارها مبدأ تقتضيه الضرورة. وفي هذه الضرورة لم تعد القومية لوحدها جزءا منه، بل والدين أيضا. وليس مصادفة أن يضع في تحديده لمكونات القومية كل من الدين واللسان (اللغة) والأخلاق والعوائد والإقليم[9]. ذلك يعني، انه أدرج فيها مكونات عقلانية وغير عقلانية، باعتبارها المعادلة الضرورية للتاريخي والأخلاقي في مشاريع السياسة الواقعية. وهو تحديد واسع وعميق في الوقت نفسه. وبالتالي أكثر عقلانية وإصلاحية في غايته، لأنه حاول أن يحصر إمكانية البدائل القومية بالمضمون الثقافي، وأن ينّشطها في الوقت نفسه باتجاه التوحيد السياسي الجديد. من هنا دفاعه عن العرب والعجم والترك وتشديده على أن القومية وممثلوها الحقيقيون هم أولئك الذين تشبعوا بلغتها وتثقفوا فيها (بغض النظر عن الدين والقومية والعرقية). ومن هذا المنطلق تكلم عن القومية العربية وثقافتها بحيث أدرج فيها المسلمون والنصارى والصابئة، والعرب والفرس والأتراك.

بصيغة أخرى، انه حاول أن يؤسس للفكرة القومية الثقافية من خلال بناء مكونات وحدتها الداخلية الاجتماعية الثقافية والسياسية. من هنا انتقاده لبقاء العقيدة الدينية المجردة عن الأعمال وغياب الصلات الأخرى بين شعوب العالم الإسلامي وقومياته[10]. بحيث جعله ذلك يتكلم عما يمكن دعوته "بالتعصب الثقافي" وقيمته بالنسبة للوحدة السياسية (والقومية). لهذا نراه يسخر من أولئك المتغربين المقلدين، الذين اتهموا بالتعصب من اسماهم هو بأهل الأصالة. وقد رد على ذلك محاولا البرهنة على أن التعصب ضروري لأنه "روح كلي مهبطه هيئة الأمة وصورتها .. وسائر أرواح الأفراد حواسه ومشاعره ". وبالتالي، فإن ضعف تعصب الأمة لذاتها هو دليل انحلالها، وذلك لأنه "قوام الاجتماع الإنساني وبه حياة الأمم"[11]. وينطبق هذا بالقدر ذاته على موقفه من قيمة الرابطة الدينية والقومية. فقد اعتبر الرابطة الدينية أشرف من أية رابطة أخرى. بينما أعتبر الثانية ضرورية ومكملة للأولى. ولم يكن هذا خلطا أو تركيبا عشوائيا، بقدر ما انه كان يخدم إدراكه لضرورة الوحدة الواقعية في عالم الإسلام المعاصر له. فعندما حلل أهمية العصبية باعتبارها "روحا كليا مهبطه الأمة وصورتها"، فإنه لم يقصد بذلك سوى كلّها الثقافي السياسي. وضمن هذا السياق يمكن فهم ردوده على اتهامات الأوربيين المعاصرين له عن "تعصب الإسلام". فقد وجد في هذه الاتهامات أسلوبا لتهشيم الوحدة الإسلامية، باعتبارها القوة المتصدية لمطامعهم في الشرق (الإسلامي). ولهذا نراه يتكلم عما اسماه بزيف الأوربيين في اتهامهم المسلمين بالتعصب، لأنهم (الأوربيين) أشد الناس تعصبا لقومياتهم وأديانهم[12]. في حين لم يقصد بالتعصب الضروري للمسلمين سوى ما يتطابق من حيث مضمونه مع فكرة العدل. فهو يؤكد على أن للتعصب طرفي غلو ووسط معتدل. وأن "التعصب الإسلامي" ينبغي أن يكون أوسطه، أي ذلك الذي يحافظ على شخصية الأمة في حقيقتها وصورتها أو كيانها الثقافي والسياسي. وبهذا يكون الأفغاني قد حوّل حوافز الوحدة "الطبيعية" صوب وجهتها الثقافية والسياسية. وحاول إبراز هذه الصيغة في موقفه من أن "التعصب" الأمثل للمسلمين ينبغي أن يسير في اتجاه طلب القوة الحقيقية والتفوق على الآخرين في المعرفة والعلم[13]. أما نموذجه السياسي فمن الممكن تصويره على مثال التجربة الألمانية. لكنه لم يسع من وراء ذلك إلى نقل التجربة السياسية الألمانية، بقدر ما أراد الكشف عما في طريقة ونموذج وحدتها السياسية والثقافية من قيمة كبرى بالنسبة لإعادة بناء الوحدة الجديدة لعالم الإسلام. فقد كان الألمان، كما يقول الأفغاني، "يختلفون في الدين المسيحي على نحو ما يختلف الإيرانيون مع الأفغانيين في مذاهب الديانة الإسلامية. فلما كان لهذا الاختلاف الفرعي أثر في الوحدة السياسية ظهر الضعف في الأمة الألمانية وكثرت عليها عاديات جيرانها. ولم يكن لها كلمة في سياسة أوربا. وعندما رجعوا إلى أنفسهم وأخذوا بالأصول الجوهرية وراعوا الوحدة الوطنية في المصالح أرجع الله عليهم من القوة والشوكة ما صاروا له حكام أوربا"[14].

وبهذا يكون الأفغاني قد جعل من عقلانية الوحدة السياسية أولوية كبرى للكلّ الإسلامي على اختلافاته الفرعية. ووجد الأسلوب المعقول لبلوغ ذلك في ما اسماه بالأخذ بالأصول الجوهرية ومراعاة الوحدة الوطنية. أما مكوناتها فقد وجدها في عناصر التوحيد والدين والمصلحة[15]. وهي مكونات يحدد كل منها الآخر، بمعنى تقييدها الذاتي بالشكل الذي يمنع عليها إمكانية التطرف الديني أو القومي أو النفعي. وبالتالي لا يعني ربطها الحق فيما بينها سوى ربط مكونات وجود الأمة (الإسلامية) بقومياتها المتعددة بعناصر وجودها الثقافي والسياسي. بمعنى الربط الممكن بين مكونات الدين واللغة والأخلاق (التقاليد) والعوائد (المصالح) والإقليم (الجغرافيا والتراب) في كل قومية لحالها، وفي إطار العالم الإسلامي ككل.

لقد تضمنت هذه الأفكار في حصيلتها العامة محاولة تأسيس الوحدة الثقافية والسياسية لأمة الإسلام وقومياتها بمعايير الإصلاحية العقلانية. واحتوت بالتالي على إدراك وتأسيس قيمة الوحدة وفاعليتها المباشرة وغير المباشرة بالنسبة لترميم وحدة الإسلام المنهارة، وإعادة بنائها الجديد في نظم عصرية معقولة. وإذا كانت هذه الأفكار في مظهرها تبدو أقرب إلى الطوباوية النشطة، فإنها كانت من حيث مضمونها أقرب إلى الواقعية الحالمة. فقد وضعت مهمات وأسس إعادة بناء الوحدة الجديدة للعالم الإسلامي ودوله المحتملة، دون أن تحسم بصورة نهائية ما إذا كان بالإمكان أو من الضروري أن يتجسد ذلك في هيئة قوميات ثقافية ضمن وحدة إسلامية مركزية أو فيدرالية، أو قوميات مستقلة يربطها اتحاد ثقافي وديني. ومع ذلك، فقد استشرف الأفغاني في أفكاره هذه آفاق المستقبل المتفائلة، دون أن يضعها في برنامج سياسي واضح، أو رؤية فكرية سياسية متكاملة، أو منظومة فلسفية ثقافية محددة. لقد كان يمثل في مفاهيمه المتحركة مفاهيم الحركة الصاعدة. لهذا اقترنت أحكامه المتفائلة والمستقبلية عن المشروع الثقافي برؤيته السياسية الواقعية، كما هو جلي في نظراته عن طبيعة الدولة المفترضة ونظامها السياسي.

لقد اقترنت موضوعية الأحكام في رؤية الأفغاني عن إمكانية البدائل الثقافية في الشرق (الإسلامي) بأسلوب تجسيدها السياسي. وهي الخاتمة التي كانت تصب فيها أقواله وأفعاله، أو نشاطه النظري والعملي. وليس مصادفة أن يشدد على أن السلطة الغاشمة، التي لا تتمتع بقدر ضروري من الأمانة، هو أحد الأسباب الكبرى وراء انقراض الأمم أو خضوعها الكامل للأجنبي[16]. واستند في حكمه هذا لا إلى التحذير الأخلاقي من مغبة الخاتمة المحزنة والمخزية لما يمكن أن تؤول إليها مجريات الأمور، بل إلى رؤيته الواقعية للدولة المعاصرة (أو دول العالم الإسلامي ككل والعثمانية منها بالأخص). وإذا كان هذا الحكم يستند إلى تقاليد التصورات والأحكام الأخلاقية عن ضرورة الدولة العادلة، أو جوهرية العدل باعتباره رابطة الكلّ الاجتماعي والفكري، فإن الأفغاني حاول إدراجه في الرؤية السياسية المباشرة. ومن ثم نقله إلى ميدان ضرورة الدولة وقيم النظام السياسي بالنسبة لإعادة ترتيب "الأنا التاريخية السياسية" في العالم المعاصر. من هنا تأكيده على أن الحكومة ضرورية ليس فقط بالنسبة لرفاهية الأمم، بل ولكونها ضمانة الوقوف ضد فوضى التقليد الأجوف "للديمقراطية الأوربية". وذلك لأن النظام السياسي الحقيقي يفترض المرور بمعاناة "الأنا السياسية" واكتمال حدودها الممكنة في مؤسسات الدولة ونظامها المعقول. وهو الذي يفسر أيضا حصره ضرورة الدولة في أشكال الجمهورية أو الملكية المشروطة أو الملكية المقيدة[17]. ذلك يعني أن حدود رؤيته لأهمية الدولة وضرورتها مرتبط في الوقت نفسه، بطبيعة نظامها السياسي. ووجد في النظام الدستوري الديمقراطي الصيغة المثلى بالنسبة للشرق (المسلم). وقد كان ذلك يعني أيضا نفيه لنموذج الدولة العثمانية ونظامها الاستبدادي.

إن تقييد ضرورة الدولة بشكل ما معين من الأنظمة السياسية في بداية مواقفه الفكرية والسياسية، كان يتضمن على موقف يبعد وينفي أنظمة الحكم السائد في العالم الإسلامي آنذاك. إذ لم تعن الجمهورية أو الملكية المقيدة، أو الملكية المشروطة سوى النفي المبطن لنظم الاستبداد السائدة آنذاك. في حين كان اختياره السياسي للنظام الدستوري الديمقراطي مرتبطا بيقينه عن كونه التمثيل الأمثل للفضيلة السياسية وشكل تحقيقها الاجتماعي والأخلاقي. وليس مصادفة أن يجعل من بين أسباب نهوض اليابان وتطورها السريع ما اسماه "بتقييد حكومة الإمبراطور( الميكادو) بالدستور وقبوله الشورى عن طيب خاطر وسعيه بإخلاص من وراء ذلك"[18]. فقد كان "تقييد السلطة" يعني من الناحية التاريخية نفي الاستبداد والإنفراد في نظام الحكم العثماني وأمثاله. لهذا أكد في بعض آرائه ومواقفه على أن نهضة الشرق ممكنة في حالة "تغير شكل الحكم في أهله"[19]. وربط تغير شكل الحكم بالنظام الدستوري الديمقراطي لا النظام الجمهوري. فالنظام الجمهوري بالنسبة للأفغاني كان يعادل النظام الرئاسي. مما كان يعني إمكانية احتواءه على التفرد والاستبداد. لهذا نراه يجد في الحكم الجمهوري شكلا "لا يصلح للشرق اليوم ولا لأهله"[20]. وهو حكم استند في آن واحد إلى حقائق الإدراك العقلاني والإصلاحي للواقع الإسلامي آنذاك، وإلى تحليل التجربة الأوربية. بعبارة أخرى، إن نفي النظام الجمهوري كان يعني بالنسبة للأفغاني نفي الاستبداد والراديكالية السياسية في ظل هيمنة تقاليد الإنفراد والاستفراد في الحكم. ففي مواقفه من تجربة مصر الدستورية المزيفة آنذاك، أكد على أن أهل الشرق ومصر لا يمكنهم أن يحيوا بدوله وإماراته، إلا إذا أتيح لكل منهم رجلا قويا عادلا يحكم بأهله على غير طريق التفرد بالقوة والسلطان. وذلك لأنه بالقوة المطلقة الاستبداد. ولا عدل إلا مع القوة المقيدة. وحكم مصر بأهلها إنما اعني به الاشتراك الأهلي بالحكم الدستوري الصحيح"[21].

إن القوة المقَيّدة بالدستور هي أسلوب النظام العادل، أي كل ما كان بإمكانه أن يتطابق، حسب نظر الأفغاني، مع تقاليد العالم الإسلامي الحقيقية وإمكانية نهوضه المعاصر. فقد شدد في أكثر من موضع على أن الحكم الدستوري يتطابق مع حقائق الحكم الإسلامي الحق[22]. ولم يفتعل الأفغاني تطابق الديمقراطية الأوربية بنظام الشورى الإسلامي، بقدر ما حاول إعطاء تشابههما صيغة البديل الواقعي لتجديد تقاليد الإسلام العقلاني بمعايير الفكرة الإصلاحية والواقعية السياسية الحديثة. لهذا رد على أولئك الذين حاولوا إثارة قضية الخلاف المستعصي على الحل بين السلطة الزمنية والروحية (أو الدينية والدنيوية) على أن "كلتا السلطتين ترمي إلى غاية واحدة في الجوهر والأصل"، وانه إذا طرأ خلل على أحداهما، فإن ذلك ليس في أصل الوضع. من هنا مطالبته بضرورة العمل من أجل إصلاحه و"الوقوف بوجه من أخلّ، وإرغامه على الرجوع إلى الأصل"[23]. بينما لم يضع في السلطة الروحية (الدينية) سوى ما يتطابق مع النفوذ المعنوي الأخلاقي[24]. ذلك يعني، أن الجوهري في الرجوع إلى الأصل هنا يتطابق مع فكرة الوحدة النموذجية بين عقلانية الرؤية وطابعها الإصلاحي في الفعل السياسي. أما نموذجها الأمثل في الحكم فقد ربطه بالنظام الدستوري الديمقراطي. وبالتالي، لم يعن الرجوع إلى الأصل وإرغام من اخلّ به للرجوع إليه سوى أولوية الدستور والنظام الديمقراطي. بينما لم تعن السلطة الروحية هنا سوى تأييدها المعنوي للنظام الدستوري الديمقراطي باعتباره نظاما عادلا. من هنا رفعه للشعار القائل، بأن من الضروري العمل على "أن يبقى رأس الملك بدون تاج، أو تاجه بدون رأس في حالة خيانته لدستور الأمة"[25]. وإذا كانت هذه الصيغة تبدو راديكالية المظهر، فإن مضمونها الفعلي يقوم في إبراز وإقرار قيمة الفكرة الشرعية والحقوق. وجعل من الشرعية والحقوق الحدود الصارمة والتي لا ينبغي لأي كان حق تخطيها وتجاوزها. لهذا أيضا أكد على أن هذا الشعار هو "ما يحسن بالأمة فعله، إذا هي خشيت من أمرائها وملوكها عدم الإخلاص لقانونها الأساسي، أو عدم قابليتهم لقبول الشكل الدستوري قلبا وقالبا"[26].

ووضع هذا الاستنتاج السياسي أيضا في مواقفه الملموسة من مشروع النظام الدستوري المزيف في مصر آنذاك. فقد انطلق في مواقفه المعارضة للنظام الدستوري المصري من أن القوة النيابية لأية أمة كانت لا يمكنها أن تكون حقيقية، إلا في حال استنادها إلى الأمة ذاتها وإرادتها الحرة. وذلك لأن تشكيل النظام بإرادة الغير (الأجانب) يعني صنع نظام مزيف، أو ما اسماه الأفغاني، بالقوة النيابية الموهومة، لأنها موقوفة في إرادتها على إرادة محدثها (الأجنبي). إضافة لذلك إن نظاما كهذا عرضة للزوال ولا قيمة له بحد ذاته. فهو نظام لا يحتوى برلمانه (مجلسه) على مكوناته الحرة في صراعه من أجل تنشيط المجتمع وحفظ حدوده ضمن ما اسماه الأفغاني بالواجبات والمساواة. وذلك لأنه "لا أثر لحزب الشمال (اليسار) في ذلك المجلس. لأن أقل مبادئه أن يكون معارضا للحكومة، وحزب اليمين أن يكون من أعوانها"[27]. لهذا اعتبر وجود هذا النظام يتعارض حتى مع إقراره الشخصي ويقينه بالقاعدة الفلسفية الكلية القائلة، بأن "الوجود خير من العدم". مما دفع ذلك الأفغاني للقول، بأن "عدم مثل هذا المجلس خير من وجوده"[28].

إن هذا الإدراك العميق لقيمة الصراع الحي والإرادة الحرة في صيرورة اليسار (حزب الشمال) واليمين هو الاستيعاب السياسي لتجارب أوربا البرلمانية والسياسية. أما الدعوة لعدمها في الشرق (الإسلامي)، فهو النتاج الملازم، رغم راديكاليتها الظاهرية، لإدراك قيمة الأسس المتينة لنظام الحكم الأمثل والتي يفرضها منطق العقلانية الإصلاحية العميق في رؤيته لآفاق التطور الاجتماعي والثقافي الحر. في حين حدد انتقاده هذا واستيعابه الجديد لإمكانيات النظام الدستوري الديمقراطي مواقفه من جوهرية العدالة والمساواة، التي لم تعد جزءا من شعارات أخلاقية ودعوات عامة، بل كلاّ واحدا للقيم السياسية التي ينبغي تجسيدها من خلال نظام الحكم نفسه. ومن ثم ضرورة تحول الشعب إلى مصدرها الوجودي والحقوقي أيضا. فالسلطة الزمنية (الدنيوية)، كما يقول الأفغاني، بمليكها أو سلطانها، إنما استمدت قوتها من الأمة لأجل قمع أهل الشر وصيانة حقوق العامة والخاصة[29]. وإن إرادة الشعب غير المكره وغير المسلوب الإرادة قولا وعملا هو قانون ذلك الشعب المتبع، والذي يجب على كل حاكم أن يكون خادما له أمينا على تنفيذه[30]. وبهذا يكون الأفغاني قد تعدى حدود التقاليد الدينية العادية السائدة عبر ربط مآثر العقلانية القديمة بمشروعه الإصلاحي، بوصفه بديلا سياسيا لنظام الاستبداد والتفرد بالسلطة. وليس مصادفة أن يؤكد على أن العالم الغربي (الأوربي) بكل تنوع دوله وقومياته ونظمه الداخلية، هو نتاج ما اسماه بالمساواة النسبية للجميع في الفضيلة القائمة في علمهم وعملهم بالواجبات والمساواة. وبهذا يكون الأفغاني قد نقل أخلاق العدالة المجردة إلى ميدان العمل المباشر (السياسة ونظام الحكم). ومن ثم أعطى لها بعدها العملي والأخلاقي الفعلي. بل ونراه يجد في ذلك أسلوبا ضروريا لإزالة "التفرد بالسلطة وسَوْق الأمة على هوى السلطان"[31].

لقد رفع الأفغاني النظام الدستوري الديمقراطي إلى مستوى الفضيلة الأخلاقية، انطلاقا من انه النظام الذي يكفل للإنسان إمكانية تجسيد ذاته والعدالة. لهذا لم يجد في انقراض النظم الاستبدادية في العالم البشري إحدى سنن الوجود، بل وأكد على أن الشورى (الديمقراطية) سوف تؤدي بالضرورة إلى تفّقه الشعوب لذاتها. وشكلت هذه الأحكام في حصيلتها أساس الفكرة القانونية والروحية الإصلاحية عند محمد عبده، وأساس الفكرة السياسية الإصلاحية عند الكواكبي.

 

ا. د. ميثم الجنابي

...................

[1] الافغني: الاعمال الكاملة، ج1، ص307.

[2] المصدر السابق، ج2، ص342.

[3] المصدر السابق، ج2، ص348.

[4] المصدر السابق، ج2، ص248.

[5] المصدر السابق، ج2،ص349.

[6] المصدر السابق، ج2، ص319.

[7] المصدر السابق، ج2، ص314.

[8] المصدر السابق، ج2، ص398.

[9] المصدر السابق، ج2، ص428.

[10] المصدر السابق، ج1، ص205.

[11] المصدر السابق، ج1، ص309.

[12] المصدر السابق، ج1، ص309.

[13] المصدر السابق، ج1، ص309-310.

[14] المصدر السابق، ج 2، ص318-319.

[15] المصدر السابق، ج2، ص319.

[16] المصدر السابق، ج1، ص147.

[17] المصدر السابق، ج1، ص146.

[18] المصدر السابق، ج1، ص200.

[19] المصدر السابق، ج1، ص218.

[20] المصدر السابق، ج2، ص479.

[21] المصدر السابق، ج2، ص477.

[22] المصدر السابق، ج1، ص245.

[23] المصدر السابق، ج2، ص322.

[24] المصدر السابق، ج2، ص323.

[25] المصدر السابق، ج2، ص479.

[26] المصدر السابق، ج2، ص479.

[27] المصدر السابق، ج2، ص273.

[28] المصدر السابق، ج2، ص274.

[29] المصدر السابق، ج2، ص323.

[30] المصدر السابق، ج2، ص323.

[31] المصدر السابق، ج2، ص428.

 

في المثقف اليوم