دراسات وبحوث

توليف الفكرة الإسلامية والعربية عند الكواكبي (1)

ميثم الجنابيتحليل ونقد الفكرة الاصلاحية الاسلامية (15)

إن الإدراك المتعمق لقيمة العمل العصري الحي هو النتيجة الملازمة لعقلانية الروح الإصلاحي. وذلك بسبب بحثها الدائم عن الأسباب المعقولة وراء حالة الانحطاط، أو ما دعاه الكواكبي بحالة الفتور العام والدعوة لتغييرها. وقد جمع كل ما يمكن جمعه من أسباب من أجل رؤية الحالة العامة والخاصة للانحطاط والتقهقر. ولم يكن هذا الجمع تجميعا للأسباب، بل تصنيفا لأصولها وفروعها. وهذا بدوره يعني محاولة الاحتواء المعقول لأسباب الانحطاط الفعلية، ومن ثم رؤية البدائل الواقعية. فهي الصيغة التي ميزت آراء الكواكبي، بمعنى خلّوها من عناصر الطوباوية والجزئية. فعندما تناول بداية الانحطاط الإسلامي فإنه أكد على أن "مسألة تقهقر الإسلام بنت ألف عام أو أكثر"[1]. ويقترب هذا التصوير مما وضعه محمد عبده. بمعنى مطابقته بداية الانحطاط مع انحطاط المركزية العربية في الخلافة. إلا أن تحديد بداية الانحطاط ما هو إلا الخلفية الزمنية لبحث أسبابه الواقعية. وقد حصرها الكواكبي في الأسباب الدينية والأخلاقية والسياسية. فعندما تناول الأصول والفروع في الأسباب الدينية، فإنه يربطها أساسا بالأفكار السائدة في عصره، وبالأخص ما يخدم مصالح الاستبداد والإمبراطورية مثل هيمنة عقيدة الجبر، وفتن الجدل في العقائد الدينية، والتفرقة، وانعدام التسامح، والتشدد في الدين، وسيطرة العلماء المدلّسين وغيرهما من الأسباب. بحيث جعله ذلك يستنتج في نهاية المطاف، بأن "سبب الفتور الطارئ الملازم لجامعة هذا الدين هو هذا الدين الحاضر ذاته"[2]. ولا يعني "هذا الدين الحاضر ذاته" سوى أنماطه "اليابسة" في أيديولوجية الاستبداد العثماني. فهو يتكلم عن أسباب الفتور الملازم لجامعة هذا الدين باعتباره الكلّ الفاعل في كيان الفتور والتخلف، والتقهقر والانحطاط. أما الأشكال الأخلاقية لظهوره وتجسيده، فإنه يربطها بالأسباب الأصول كالاستغراق في الجهل، وفقدان التضحية، وانحلال الرابطة الدينية، والتربية الدينية والأخلاقية، وعدم وجود الجمعيات، ومعاداة العلوم العالية، وانعدام الاهتمام بالشؤون العامة. أما فروعها ففي كل من استيلاء روح اليأس، والإخلاد إلى الخمول، وفساد التعليم، وترك الأعمال، وإهمال طلب الحقوق العامة جبنا، وتفضيل الارتزاق بالجندية وغيرها. مما يعنى حصره إياه في جمود الروح الاجتماعي الفعال.

إن حصيلة الأسباب التي جرت الإشارة إليها أعلاه في أصولها وفروعها هي الصيغة الدينية والأخلاقية للأسباب السياسية. وذلك بسبب تداخلها في مراحل الانحطاط وتطابقها النسبي. غير أن إفراز الكواكبي للأسباب السياسية القائمة بحد ذاتها يعكس حقائق ومهمات الإدراك العميق لجوهرية السياسة والتركيز عليها، باعتبارها المقدمة الكبرى والوسيلة الأكثر فاعلية في ربط عناصر الرؤية العقلانية والإصلاحية في كل واحد. ذلك يعني أن عقلانية الرؤية وروح الإصلاح لم تعد مجرد مكونات مستقلة وقائمة كل منها بحد ذاته، بل ترتبط بينها بمفاهيم السياسة ومعاييرها. وليس مصادفة أن نعثر في الأسباب الدينية والأخلاقية على خلفية الرؤية السياسية، وفي الرؤية السياسية على استقلاليتها الذاتية. إذ أدرج في أصول الأسباب السياسية كل من السياسة المطلقة غير المراقبة، وما اسماه بالسياسة المقلوبة في مجال الاجتماع والاقتصاد، وكذلك إبعاد الأحرار عن السلطة، وحصر اهتمام الدولة بالجندية والجباية. بينما أدرج في فروع الأسباب السياسية كل من التفرقة، وفقدان حرية القول والعمل، وانعدام العدالة والمساواة، وغياب الرأي العام، والتنكيل بالمعارضة وغيرها. بمعنى ربطه بين طبيعة السلطة والنظام الاجتماعي. ودفع هذا الإدراك إلى المقدمة جملة من القضايا الجوهرية بالنسبة لنهضة الأمم، لعل أكثرها أهمية هي كل من قضايا الحرية والعدالة والمساواة. ولم تعد هذه القيم والمبادئ تسبح في فضاء الشعارات الجذابة أو ما أسميته بلاهوتية الروح والمعنى، بل في متطلبات الفعل السياسي الواعي للأهداف القريبة والبعيدة. وحدد هذا بدوره مواقفه من الاستبداد وبدائله في ميدان النظام السياسي والوحدة (الاجتماعية والقومية). بمعنى إدراكه العقلاني للسياسة بمعايير السياسة ذاتها. الأمر الذي حدد بدوره أيضا الاستيعاب الجديد لأهمية العمل السياسي وتأسيسه الفكري في الوقت نفسه.

ولم تذب (تذوب) دعوته للعمل السياسي في عبارات الخطاب الحماسي، بل في الرؤية السياسية من خلال تأسيس شرعيته وضرورته. لهذا أكد على أهمية العمل السياسي الشرعي والقانوني المنظم انطلاقا من أثره في الحياة الاجتماعية، بحيث طابقه مع "سنّة الله في الوجود". من هنا تأكيده على أن "الجمعيات المنظمة يتسنى لها الثبات على مشروعها عمرا طويلا يبقى بما لا يبقى عمل الواحد الفرد"[3]. إضافة لذلك أنها تستطيع أن "تأتي بأعمالها كلها عزائم صادقة لا يفسدها التردد. وهذا هو سرّ ما ورد في الأمر من أن يد الله مع يد الجماعة"[4].

إن هذا الربط العميق بين التاريخ الاجتماعي والمثال المتسامي هو الصيغة المناسبة لاستثارة روح الجماعة المعاصرة باعتباره روحا اجتماعيا سياسيا مدركا لغاياته ضمن معايير السياسة الفاعلة. وترتب على ذلك تحويل السياسة الفاعلة إلى ميدان الإبداع الذاتي الحر. من هنا واقعية رؤيته السياسية في تناول المهام الجسام والكبرى القائمة أمام النهضة المفترضة. وليس مصادفة أن يضع الكواكبي ما اسماه بمباحث السياسة الدينية في أول مباحثات الجمعية، باعتباره الأسلوب الأفضل "لرفع علة الفتور"[5]. ولم يكن ذلك معزولا عن انطلاق الكواكبي من حضيض الواقع التاريخي، أي من رؤية مكوناته الواقعية بالنسبة لصياغة أسلوب الفعل السياسي المناسب. ومن ثم إمكانية بلورة عناصر الفكرة الجديدة للنهضة الاجتماعية السياسية والقومية والثقافية. لهذا ركز في (طبائع الاستبداد) على أن استمرار الاستبداد والانحطاط ما هو في نهاية المطاف إلا النتاج المباشر للخمول. في حين أن أعظم سرّ الكائنات هو ما يمكن دعوته، حسب آراء الكواكبي، بالاشتراك الفعال. إذ به "قيام كل شيء ما عدا الله وحده. به قيام الأجرام السماوية… والعالم العضوي والأجناس والأنواع… وسرّ الحياة وسرّ تجديد الاستمرار… فالاشتراك هو السرّ، كل السرّ في نجاح الأمم المتمدنة. به أكملوا ناموس حياتهم. به ضبطوا نظام حكوماتهم، به قاموا بعظائم الأمور. به نالوا كل ما يغبطهم عليه غيرهم"[6]. ومن خلال هذا الاشتراك الفعال يكون الكواكبي قد أسس لضرورة العمل السياسي الفردي والعام، باعتباره فعلا اجتماعيا سياسيا ذاتيا. من هنا تأكيده على أن "انحطاطنا من أنفسنا"، وأن سبب الخمول في "استرسال الأمة لعبادة الأمراء والأهواء والأوهام"[7]. وقد حدد ذلك مهاجمته لأفكار الجبر وضرورة تحوير مضامين القضاء والقدر بالشكل الذي ينبغي فهمهما على انه السعي والعمل[8]. وهي ذات الصيغة التي دعا إليها الأفغاني قبله. غير أن الكواكبي أدرجها ضمن الدعوة القومية للحرية، ومن ثم ضمن إطار ما يمكن دعوته بالتأسيس العقلاني للفعل السياسي المنظم. وبهذا يكون قد تجاوز تقاليد الخطابة الرنانة والتقليدية. وإذا كان من الصعب الحديث عن نظرية سياسية متكاملة في آراء الكواكبي، فلأن كتاباته كانت تمر في مرحلة صياغة أسسها النقدية العقلانية الأولية، أي أنها دققت في نفيها الفكري حصيلة التجارب الفكرية والعملية لقرن كامل في وعي العقلانية العربية لذاتها في ميدان العمل.

وبهذا يكون الكواكبي قد أسس بمعايير الفكر المعاصر لنهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين، قيمة وأهمية العمل السياسي بالنسبة للعالم العربي. انه أراد التأسيس النظري لوعي الذات السياسي. وبالتالي وضع المقدمات الفكرية (والروحية) للتاريخ السياسي العربي. لهذا شدد على قيمة العمل السياسي المنظم والشرعي، أي وحدة العمل والقانون، لأنها الوسيلة التي يمكن أن تشرك المجتمع فيها. وحاول إبراز قيمة هذه الفكرة من خلال المضمون الجديد لفكرة "يد الله مع يد الجماعة". بمعنى الاشتراك الفعلي النشط للمجتمع في هذا التأسيس، باعتباره الأس الأعظم لوجود الأمم أيضا. ووجد في ذلك قانونا يخضع لصيرورته كل ما هو موجود. وبهذا يكون الكواكبي قد سعى لربط الأبعاد الكونية والاجتماعية والقومية في رؤيته السياسية وغاياتها الأبعد. من هنا تشديده على أن "سرّ نشأة الأمم الغربية ونجاح أعمالها يقوم في تناسب القوة والزمان". ويحتوي هذا الاستنتاج ضمنيا على إدراك خاص لأهمية التحضير العملي والنظري وبالشكل الذي يستجيب لحجم المهمات المستقبلية.

وقد حدد هذا التأسيس العقلاني للعمل السياسي إدراك أولوية الدولة والقومية. ووضعه الكواكبي في أساس كشف الأسباب الكامنة وراء استمرار الاستبداد وفقدان الحرية (الفردية والاجتماعية والقومية) في السلطنة العثمانية. ذلك يعني أن العمل السياسي وضرورته لم يعد جزءا من الإصلاحية وتقاليدها العامة فحسب، بل وخطوة إلى الأمام في مجال تعميق المضمون الاجتماعي والسياسي والقومي. وقد كان هذا بدوره إدراكا جديدا لقيمة البدائل الجديدة في النظام الواجب وضرورته. وحدد ذلك أيضا مهمات انتقاد الدولة بمعايير السياسة، إضافة إلى تقديم الرؤية الواقعية للبديل وشكله الممكن في الوحدة القومية للعالم العربي، باعتبارها بديلا لوحدة الأمة الإمبراطورية (العثمانية). وبهذا المعنى يمكن القول، بأن (طبائع الاستبداد) لم يكن ردا مباشرا على واقع الدولة العثمانية، بل وصياغة جديدة لمبادئ الفكر السياسي العربي المعاصر، وآفاق بدائله الواقعية الممكنة. انه أراد تأصيل العمل السياسي بمفاهيم السياسة الخالصة. لهذا أشار إلى انه لم توجد عند الأقدمين كتبا سياسية بالمعنى الدقيق للكلمة إلا عند الرومان. أما كتابات (كليلة ودمنة) و(نهج البلاغة) و(الخراج) وغيرها فهي مجرد مؤلفات سياسية أخلاقية. وينطبق هذا بالقدر ذاته على كتابات الرازي والمعري والغزالي. وجعله ذلك يستنتج بأن العلم السياسي الخالص لم يحصل إلا عند الأوربيين المتأخرين. في حين لم يتطرق له من العرب المتأخرين إلا الطهطاوي وخير الدين التونسي وأحمد فارس الشدياق وسليم البستاني. وبغض النظر عما في هذه الأحكام من تجاف نسبي تجاه الإبداع الفكري السياسي الكبر لقدماء المسلمين، إلا انه حكم دقيق ضمن إطار استيعابه الخاص للمهمات الجديدة، التي أخذ يعيها بمفاهيم العقلانية الإصلاحية. بمعنى مطابقته للروح الإصلاحي والعقلاني بمفاهيم السياسة "الخالصة"، أي كل ما نعثر عليه في إبرازه وتأسيسه للنقد السياسي الشامل للاستبداد (الدولة القائمة) وآفاق التطور السياسي للدولة والعالم العربي.

فقد كان نقده للاستبداد هو إدراك سياسي لنهاية التاريخ العثماني وبداية التاريخ العربي، أو بداية التاريخ العربي ووعيه السياسي المستقل. إذ لم يعن نقده للاستبداد سوى نقده السياسي للدولة القائمة ورؤية محدوديتها التاريخية والثقافية. فقد استطاع في نقده للاستبداد وكشف "طبائعه" قطع تقاليد الأحكام المجردة والأخلاقية، من خلال الرجوع إلى الواقع كما هو. فقد رفع الكواكبي نقد الاستبداد إلى مصاف النقد السياسي وتحويله إلى مقدمة الأحكام السياسية. لهذا أدرج وأخضع كل الأبعاد المتعددة في الدولة إلى أحكام السياسة، بما في ذلك الأخلاقية منها. من هنا محاولته كشف أثر الاستبداد في كل نواحي الحياة الاجتماعية. فالاستبداد بنظره هو الذي يصنع الشخصيات الضعيفة، كما انه يقلب الحقائق في الأذهان، ويشوش البديهيات والنظر إلى التاريخ والرجال، ويفقد الإنسان إرادته الحرة[9]. من هنا نقده للفكرة القائلة، بأن سرّ الاستبداد راجع أما إلى مرض فيهم أو جهل منهم أو لتمسكهم بالدين وما شابه ذلك. وبالضد من ذلك شدد على انه فيما لو جرى تتبع الأسباب الحقيقية لأدركوا أن كل ذلك ناشئ "من الاستبداد، وأن العافية المفقودة هي الحرية السياسية"[10]. بعبارة أخرى، انه اعتبر المرض الفعلي لعالم الإسلام يقوم في افتقاده للحرية السياسية. ودفعه هذا الإدراك إلى تتبع مظاهره في نظام الحكم وهيئته الاجتماعية، أي في الدولة والقومية.

ولم يكتف الكواكبي بهذه الإشارة الدقيقة، بل وحاول كشف حقيقتها من خلال تحليل "طبائع الاستبداد"، أي أسبابه وخصائصه ونتائجه وبالتالي أساليب تهديمه. وبهذا المعنى يكون قد وضع الأسس الأولية لوعي الذات السياسي، باعتبارها المقدمة التي شكلت بدورها أساس وعي الذات السياسي العربي (القومي). فالاستبداد، حسب نظر الكواكبي، هو "صفة للحكومة المطلقة العنان، التي تتصرف في شؤون الرعية كما تشاء بلا خشية حساب وعقاب محققين"[11]. فالكواكبي يحصر الاستبداد في غياب مراقبة الشعب وعدم انتخاب السلطة. لهذا أكد على أن أشكال الحكومات المستبدة كبيرة، منها حكم الفرد المطلق وحكم الفرد المقيد الوارث أو المنتخب متى كان غير محاسب، وتشمل كذلك حكومة الجمع حتى في حالة انتخابها، لأن الاشتراك في الرأي لا يدفع الاستبداد، وإن الاستبداد يمكن أن يشمل الحكومة الدستورية أيضا. فهو يوجه نقده إلى جوهر الاستبداد باعتباره ظاهرة سياسية واجتماعية[12].

لقد سعى الكواكبي في ملاحظاته العديدة، الكشف عن الصلة الواقعية والفعلية بين نظام الاستبداد وأشكال مظاهره الاجتماعية وكيفية إعادة إنتاجه في دقائق الحياة. من هنا استنتاجه القائل، بأن "الحكومة المستبدة تكون طبعا مستبدة في كل فروعها، من المستبد الأعظم إلى الشرطي، إلى الفرّاش، إلى كناس الشوارع"[13]. ودفعه ذلك إلى تتبع ظاهرة الاستبداد، بما في ذلك في أشد العلاقات وجدانية وشخصية ليكشف من وراء ظواهر الامتهان أثر الاستبداد السياسي. بحيث جعله ذلك يستنتج، بأن "القسمة المتفاوتة بين آدم وحواء إلى هذه النسبة المتباعدة هي قسمة جاء بها الاستبداد السياسي"[14].

إن تحديد العصب القائم وراء شلل الوجود الإسلامي في غياب الحرية السياسية أو سيطرة الاستبداد، هو الذي دفع الكواكبي إلى صياغة البديل الفكري الأول في تقاليد العقلانية الإصلاحية المعاصرة ورؤيتها لآفاق التطور الاجتماعي السياسي والثقافي العربي. فهو لم يكتف بالنقد العميق لطبائع الاستبداد، بل وسعى لتأسيسه النظري السياسي في منظومة فكرية واضحة المعالم والغاية. فهو ينطلق من المقدمة العامة والقائلة، بأن سنّة الله في الوجود هو الترقي، أي أن التطور هو الصفة الملازمة لوجود الأشياء. وبما أن الاستبداد عائق للترقي، ومعيق يقلب السير من الترقي إلى الانحطاط، لهذا اعتبر مهمة صياغة البديل المعقول للاستبداد المهمة الكبرى بعد تحليل طبائع الاستبداد وكشف آفاقه المحدودة[15]. انه أدرك مهمة صياغة البديل العقلاني الإصلاحي، أو ما اسماه بالقانون المعتدل للترقي. من هنا نظرته إلى الترقي كطائر ينبغي أن تكون أجنحته في حركة متناسقة. وهو تصور دقيق لرؤية الحركة (الترقي) والتوازن (الاعتدال)، أو ما اسماه بضرورة أن يكون جناحي الاندفاع والانقباض فيه متوازيان كتوازن الايجابية والسلبية في الكهربائية[16]. وهذا بدوره ليس إلا الصياغة التي تسعى لتأسيس ما يمكن دعوته بالاندفاع المقيد بالعقل، انطلاقا من أن سيادة العقل في الاندفاع على النفس يؤدي إلى أن تكون الوجهة فيه إلى الحكمة، على عكس غلبة النفس على العقل، فأنها تؤدي إلى السير باتجاه الزيغ[17]. وتعكس هذه الصياغة من الناحية النظرية تقاليد العقلانية الأخلاقية، أما من حيث توجها الواقعي، فإنها تعكس رؤية البديل العقلاني الإصلاحي. إذ لا يعني القانون المعتدل سوى المعقول الإصلاحي. وهي الفكرة التي حاول البرهنة عليها من خلال التأسيس لكيفية إزالة الاستبداد.

انطلق الكواكبي في تأسيسه لإزالة الاستبداد مما اسماه بمدرسة التاريخ الطبيعي والعمومي وليس من اعتبارات الأخلاق المجردة. إذ وجد فيها أعظم مدرسة. أما البرهان الأقوى فهو برهان الاستقراء[18]. ولم يقصد بالتاريخ الطبيعي سوى تاريخ وجود الأشياء كما هي، أما العمومي فعالميته. وحالما يجري تطويع هذه المقدمة العامة في ميدان التاريخ الملموس فإنها تتمظهر في قضية الدولة، أي في ميدان التاريخ السياسي. من هنا تأكيده على أن حل مشكلة الاستبداد مرتبط بالكيفية التي تحل بها قضية الحكومة (السلطة والنظام السياسي). وذلك لأن تقرير شكل الحكومة، كما يقول الكواكبي، هو "أعظم وأقدم مشكلة في البشر. وهو المعترك الأكبر لأفكار الباحثين"[19]. وبالتالي هو المعترك الأكبر لفكره ووعيه الشخصي أيضا. وحدد هذا بدوره المسار العام لآرائه ومواقفه السياسية وتحليله لواقع الاستبداد العثماني وكيفية الخروج منه. فهو يمتلك واقع التجربة الأوربية في نماذجها السياسية العديدة وحصيلتها العامة في سيطرة العقلانية السياسية ومبادئها الكبرى في الحرية والقانون من جهة ، وواقع الاستبداد العثماني وخصوصية الإمكانات المتاحة للقضاء عليه من جهة أخرى. وقد أدرك الكواكبي هذا الاختلاف وسماته الواقعية. مما أسهم بدوره في تحديد عقلانيته السياسية وطابعها الإصلاحي العميق. فهو يؤكد على أن الأمم الأوربية المترقية قد توصلت عن طريق العقل والتجريب إلى ما اسماه بالبديهيات في حياتها، أي صيرورة البديهيات السياسية في الحرية وسيادة القانون والمساواة والعدالة. بمعنى تحولها إلى أجزاء جوهرية في بنية النظام السياسي. في حين ما زالت هذه "القواعد، التي أصبحت بديهية في الغرب مجهولة أو غريبة في الشرق، لأنها عند الأكثرين منهم لم تطرق سمعهم"[20]. من هنا وضعه مهمة تحويل هذه البديهية إلى واقع معقول في عالم الإسلام (العربي). ولم يضع هذه المهام في عبارات الدعوة الحماسية أو الصياغات الخطابية، بل في بلورة قضايا الفكر السياسي وكيفية حلها الواقعي. ووضع ذلك في خمسة وعشرين مبحثا، يمكنها حسب نظره، أن تساهم في نقل هذه البديهيات (الغربية) إلى الواقع الشرقي، لكي تستثير فيه في الوقت نفسه حوافز الحل السياسي، مثل ماهية الأمة والحكومة، والحقوق العامة، والمساواة في الحقوق، والحقوق الشخصية، ونوعية الحكومة ووظائفها، وحقوق الحاكمية، وطاعة الأمة للحكومة، وتوزيع التكليفات، والقضايا المتعلقة بالجيش، والمراقبة على الحكومة، وحفظ الأمن العام، وحفظ السلطة في القانون، وتأمين العدالة القضائية، وحفظ الدين والآداب، وتعيين الأعمال بالقوانين، وكيفية وضع وسن القوانين، وترقية المعارف والعلوم، وتطوير الزراعة والصناعة والتجارة والعمران.

إن هذا الجرد العام للقضايا التي حاول الكواكبي من خلالها تحويل بديهيات الغرب إلى بديهيات الشرق (العربي) يتضمن بحد ذاته الإدراك العميق لأولويات القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، أي المكونات الجوهرية للدولة العصرية ونظامها السياسي. فالموضوعات التي ينبغي أن تشغل فكر الباحثين السياسيين المسلمين بنظره، هي موضوعات النظام السياسي والقانون. ودفع الكواكبي هذه الفكرة إلى أقصى درجاتها الممكنة آنذاك من خلال رفعه قيمة القانون إلى مصاف "المطلق الإلهي"، بعد أن سكبه بمعايير السياسة العملية. إذ لا تعني محاولة إيجاد الأساس القانوني باعتباره البديل المطلق للاستبداد، سوى الإدراك العقلاني لقيمة الحق في بناء الهيكل الصالح للدولة والمجتمع. من هنا مطابقته حالة الفتور العام وانحلال الدولة والمجتمع وتخلفهما المريع مع ظاهرة الاستبداد. فالاستبداد هو فقدان القانون. من هنا استنتاجه العميق القائل، بأن "المنشأ الأصلي لكل شقاء في بني حواء هو أمر واحد لا ثاني له، ألا وهو السلطة القانونية المنحلة"[21]. ذلك يعني، إن انحلال السلطة القانونية هو السبب الأصلي وراء الشقاء التاريخي لعالم الإسلام المعاصر له بشكل عام، والعربي منه بشكل خاص. لهذا أكد على أن القانون هو السد المنيع أمام الاستبداد، وأسلوب البديل العقلاني له. فالاستبداد يعادل الافتقاد الكامل للقانون والحق، وبالتالي لبديهيات الفكر السياسي ومتطلباته المعاصرة. وليس مصادفة أن يناقش الكواكبي باختصار من بين مباحثه الخمس والعشرين المشار إليها أعلاه، سوى المبحث المتعلق بكيفية إزالة الاستبداد. انه حاول تقديم أحد نماذج الحلول الواقعية، وترك البقية الباقية للجميع من أجل الاشتراك في حل القضايا الشائكة والشاملة لترتيب حياة الأمم حسب بديهيات العقلانية السياسية.

فهو يشير في حلوله لكيفية إزالة الاستبداد، من انه لا يضع إلا القواعد الكبرى، التي حصرها في ثلاث قواعد. الأولى هي أن تشعر الأمة بضرورة الحرية. وأن يكون معنى الشعور هنا هو ضرورة إدراكها للخلاص من الاستبداد كنظام وظاهرة، لا من المستبد الفرد. أما القاعدة الثانية، فهي النشاط السلمي التدريجي، بمعنى ترك العنف والقوة، والاستناد إلى الحكمة، لأن الوسيلة الوحيدة الفاعلة "لقطع دابر الاستبداد هو ترقي الأمة في الإدراك الإحساس"[22]. أما القاعدة الثالثة فهي معقولية البديل والتخطيط الواعي له. أو ما وضعه الكواكبي بعبارة "انه يجب قبل مقاومة الاستبداد تهيئة ما يستبدل به الاستبداد" ‎وذلك لأن "معرفة الغاية إجمالا شرط طبيعي للإقدام على كل عمل. لكن المعرفة الإجمالية في هذا الباب لا تكفي مطلقا. بل لا بد من تعيين المطلب تعيينا واضحا موافقا لرأي الكلّ أو لرأي الأكثرية، التي هي فوق الثلاثة أرباع عدد أو قوة، وإلا فلا يتم الأمر"[23].

إن هذه الصيغة التدريجية في برنامج الأولويات الضرورية لإزالة الاستبداد تعكس في جوهرها الرؤية العقلانية والإصلاحية لمشروعه البديل ومضمونه الاجتماعي السياسي والثقافي القومي. إذ ليست القواعد الثلاث هنا، سوى فاعليتها الداخلية الموحدة وإدراكها الاجتماعي السياسي بالنسبة للنظام القومي. وبالتالي تحويل الشعارات والمبادئ الكبرى إلى بديهيات معقولة. فقد تعامل الكواكبي مع ما اسماه بشعور الأمة بوصفه نظاما وظاهرة شاملة تقوم على أساس إدراكها لضرورة الحرية والتخلص من الاستبداد. ولا يعني إدراك الحرية هنا سوى بلوغ الوعي القومي ذاته على انه بديهية سياسية. لاسيما وأن الكواكبي يضع في فكرة الحرية المعنى السياسي والاجتماعي ككل واحد. ومن ثم تضمينه إياها الأبعاد القومية والاجتماعية والثقافية. فهو لم يتكلم عن حرية جميع شعوب السلطنة في العيش المستقل، بل وعما اسماه بفروعها في تساوي الحقوق ومحاسبة الحكام باعتبارهم وكلاء الأمة، وحرية التعليم والخطابة والمطبوعات والمباحث العلمية والأمن على الدين والأرواح والشرف والأعراض، والأمن على العلم واستثماره[24]. لقد أدرج الكواكبي في الحرية القضايا الاجتماعية والثقافية السياسية الكبرى في وحدة متينة. إذ لم يعد العدل، على سبيل المثال، ما هو شائع في التقاليد الأخلاقية الإسلامية المتأخرة، بل العدل هو الاستعادة السياسية المتجددة للتقاليد العقلانية الإسلامية القائلة بأولوية العدل على الإسلام، انطلاقا من أن إسلام خارج العدل أو بالضد منه ليس إسلاما. إذ لا تطابق بين الإسلام الحق والاستبداد. من هنا أحكام المسلمين العقلانيين القدماء، القائلة بتفضيل الحاكم الكافر العادل على الحاكم المسلم الجائر. وأعاد الكواكبي في انتقاده السياسي للواقع هذه الفكرة بعبارة تقول: "إن الشرع والعقل يحكمان بأن ملوك الأجانب أفضل منهم وأولى بحكم المسلمين، لأنهم أقرب للعدل ولإقامة المصالح العامة، وأقدر على اعمار البلاد وترقية العباد"[25].

وينطبق هذا بالقدر ذاته على كافة القضايا التي ادخلها ضمن مفهوم وفكرة الحرية. فعندما تكلم عن حرية الرأي والخطابة، فإنه حاول أن يعطي لها صيغة القضية المميزة للتراث الإسلامي الهائل. وفي الوقت نفسه جعل منها قضية جديدة في جدل السياسة ومتطلباتها المعاصرة. ففي الوقت الذي حاول أن يعطي لمصطلح الاجتهاد الإسلامي مضمونه المعاصر باعتباره حرية الرأي والخطابة، فإنه دحض تقاليد الاجتهاد القديمة في تسميات المجتهدين المعاصرين، الذين لا يعني اجتهاد أفضلهم سوى تلقين. ولهذا دعا أمثال هؤلاء المجتهدين بالمرجحين أو المخرجين، أو الفقهاء المدققين لا غير[26]. وذلك لأنهم لا يجتهدون في أصول الدين والاجتماعيات والأحكام، بينما الاجتهاد الحق يفترض أن يتلمس المجتهد للضرورات أحكامها، وأن يأخذ بما يفرضه الزمان من متغيرات، وأن يقر بمبدأ الخلاف رحمة، أي الإقرار بضرورة التعددية الفكرية[27]. ووضع هذا المبدأ إلى جانب مبادئ أخرى في جوهر الحرية باعتبارها القاعدة الأولية الضرورية والبديهية السياسية للقضاء على نظام الاستبداد. وذلك لأن فقدان الحرية يؤدي في نهاية المطاف، كما يقول الكواكبي، إلى "إبطال الأعمال وتمويت النفوس، وتعطيل الشرائع واختلال القوانين"[28]، أي الضمور والاضمحلال الشامل للوجود الاجتماعي والقومي. وهو الحافز القائم وراء انتقاده اللاذع "لسياسة" ابن خلدون، رغم تقييمه الرفيع لإنتاجه العلمي. إذ لم يجد في آرائه الداعية للسكون والخلاص من المهالك عند الضرورة بالرضا بما هو موجود سوى قاعدة عبودية تتعارض مع ما يدعو إليه الكواكبي، من أن المجد مفّضل على الحياة عند الأحرار[29]. بمعنى أولوية الحرية في السلوك، أو القاعدة الأولى لإزالة الاستبداد.

غير أن الكواكبي لم يجعل من مبدأ الحرية رديفا للمغامرة السياسية الداعمة للفوضى، بل قيّدها بمبدأ الحكمة، أي بمبدأ وعي الذات السياسي وحدود القانون النابعة من علو الحرية ونظامها السياسي المفترض. ومن ثم دعوته إلى أولوية المبدأ السياسي الواعي لا إلى القوة. فقد وجد فيه أسلوب قطع دابر الاستبداد. ولم يعن ذلك آنذاك سوى صياغة المبدأ السياسي المناهض للراديكالية السياسية المغامرة. فقد حدس الكواكبي في الراديكالية السياسية المغامرة رديفا للاستبداد، وفي إمكاناتها الذاتية وآفاقها استعادة خشنة له. إضافة إلى عزلها جمهور الأمة عن الرقي في المدارك والإحساس إلى مستوى الوعي السياسي وبديهياته الكبرى. وبهذا يكون الكواكبي قد سعى لجعل قاعدة النشاط الواعي ورفض العنف بديهية في الوعي الاجتماعي، وأسلوبا في رقيه السياسي. ووضع هذه الفكرة أول الأمر في إحدى مواد برنامج (أم القرى) عن أن عمل الجمعية ينبغي أن يستند إلى الإخلاص في النية، والثبات على العمل. أما مسلكها فهو تذليل العقبات واحدة فواحدة[30]. ثم عمق هذه الفكرة في (طبائع الاستبداد) عما اسماه بقاعدة السلمية والتدرج، أو المبدأ السياسي الذي يفترض في ذاته تحوله إلى بديهية ملزمة للجميع من خلال تجوهره في وعي الأمة ومشاعرها، أو ما اسماه بترقي الأمة في الإدراك والإحساس لقيمة السلمية والتدرج ورفض العنف والقوة.[31]

ووضع الكواكبي هذا الترقي في وعي الأمة في ما اسماه بوضوح ودقة المطلب، وبموافقته لرأي الكل أو الأكثرية. ذلك يعني أن الطابع الملموس للبدائل يفترض وجود صيغته الملموسة في الوعي والمشاعر. وهذه بدورها غير ممكنة دون وحدة القواعد الضرورية المتحولة إلى بديهيات سياسية قادرة على التأثير من خلال بناء ما يمكن دعوته بالروح السياسي الفعال. أما هذا الأخير، فإنه لم يعد ضمانة لإزالة الاستبداد فحسب، بل ولمنع تولده في بدائل المغامرات السياسية أيضا.

لقد وجد الكواكبي في هذه العملية المترابطة عن كيفية إزالة الاستبداد طريقا طويلا ومعقدا، لكنه الأكثر أمانة ومتانة لبلوغ الأمم حكم نفسها بنفسها. وذلك لأن الأمة إذا لم تحسن سياسة نفسها بنفسها، كما يقول الكواكبي، فإنها تكون بالضرورة ذليلة لأخرى. غير انه لم ينظر إلى هذه الذلة بمعايير الإحساس القومي المباشر، بل نقلها إلى مجال علاقة الوجود والواجب السياسيين. انه حاول نفي الموجود بفكرة الواجب العقلانية والسياسية. ومن ثم تجاوز تقاليد الأخلاق المثالية المجردة ونوازع الطوباوية المتسامية. لهذا لم يخض جدل "المساهمة الايجابية" في ترميم السلطة العثمانية، بل أدرجها في صنف الاستبداد التام في عصره. من هنا أدلته المباشرة وغير المباشرة على ضرورة زوالها باعتبارها نظاما لا معقولا. وأن وجودها التاريخي قد استنفذ كافة إمكانياتها ولم يبق غير مهمة نفيها بالنظام الواجب(يتبع....).

 

ا. د. ميثم الجنابي

..........................

[1] الكواكبي: الأعمال الكاملة، ج1، ص136.

[2] المصدر السابق، ج1، ص182.

[3] المصدر السابق، ج1، ص141.

[4] المصدر السابق، ج1، ص141.

[5] المصدر السابق، ج1، ص306-307.

[6] المصدر السابق، ج2، ص392.

[7] المصدر السابق، ج1،ص156.

[8] المصدر السابق، ج1، ص268

[9] المصدر السابق، ج2، ص385-397.

[10] المصدر السابق، ج2، ص393.

[11] المصدر السابق، ج2، ص338.

[12] المصدر السابق، ج2، ص338-339.

[13] المصدر السابق، ج2، ص369-370.

[14] المصدر السابق، ج2، ص376.

[15] المصدر السابق، ج2، ص409.

[16] المصدر السابق، ج2، ص411.

[17] المصدر السابق، ج2، ص411.

[18] المصدر السابق، ج2، ص428.

[19] المصدر السابق، ج2، ص428.

[20] المصدر السابق، ج2، ص429.

[21] المصدر السابق، ج1، ص165.

[22] المصدر السابق، ج2، ص435.

[23] المصدر السابق، ج2، ص437.

[24] المصدر السابق، ج1، ص154.

[25] المصدر السابق، ج1، ص158.

[26]المصدر السابق، ج1، ص244.

[27] المصدر السابق، ج1، ص 247.

[28] المصدر السابق، ج1، ص154.

[29] المصدر السابق، ج2، ص362.

[30] المصدر السابق، ج1، ص294.

[31] إن المضمون الاجتماعي السياسي للسلمية في آراء الكواكبي لا ينحصر في إطار رفض المواجهة والعنف، بل وفي شموله مختلف جوانب الحياة المدنية أيضا. وبهذا المعنى يمكن القول، بأنه أول من حاول التأسيس لعناصر العقلانية المدنية في الفكر السياسي العربي المعاصر من خلال انتقاده العميق للروح العسكرية في السلطنة العثمانية. وبغض النظر عن حوافز انتقاد الانكشارية العثمانية، إلا أن نتائج انتقاده السياسي أدت إلى رفع شعار النظام المدني وضرورة خضوع العسكرية له. فهو لم يقف بالضد من الجيش، على العكس. لقد طالب بتكوين جيش قوي قادر على حماية الوطن. ومن هنا انتقاده اللاذع لتحويل الجندية إلى مصدر للكسب والمعيشة. ومقابل ذلك دعا إلى جعلها صنعة وأخلاق. وذلك لأنه وجد في تحول الجندية إلى مصدر الكسب والمعيشة النتيجة الملازمة لافتقاد الجندية في غضون القرنين الأخيرين، وبالأخص في العالم الإسلامي، عن أن تكون صنعة علمية. وسوف يضع الكواكبي هذه الأفكار لاحقا في إطار الفكرة السياسية الواعية عن ضرورة استقلال العالم العربي ووحدته. فعندما تكلم عن إمكانية خوف الأوربيين من الوحدة العربية، فإنه أشار إلى أن العرب اقرب إلى الأمة، وهم أصحاب كلمة وعهد. وبالتالي فلا ضرورة للخوف من فكرتهم عن الجهاد، لأنها لا تعني بحد ذاتها الحرب. ففي القرآن أكثر من خمسين آية تدعو للسلم، أما آيات الجهاد فأقل منها بكثير. إضافة إلى أنها محصورة ومخصوصة بالموقف من العرب المشركين، إذ "لا يوجد في القرآن ملزم لاعتبار عمومية حكمها". ذلك يعني انه سعى لإزالة خوف الأوربيين وطلب مساندتهم في الوقت نفسه للاستقلال العربي، وكذلك لسحب البساط الأيديولوجي من تحت أقدام الحكم العثماني ودعواته عن "الجهاد الإسلامي"، عبر تحويل فكرة الجهاد إلى قضية إسلامية خالصة وفي إطار تاريخها العربي الإسلامي الأول فقط.

 

في المثقف اليوم