دراسات وبحوث

قراءآت في خير الأمم

يختلف الباحثون في النظر إلى أسباب الصراعات القديمة والحديثة فمنهم من يرجح كونها أيديولوجية أو دينية ومنهم من يميل إلى الطبيعة الاقتصادية لتلك العوامل، كما أن هذه العوامل قد تتفرع إلى مؤثرات جغرافية وتاريخية ومذهب وفكرية..الخ، وهناك توجهات عديدة للتفسير والدليل، منها التفسير المادي للتاريخ، فبموجب رؤية كارل ماركس، فإن الاقتصاد هو العامل المؤثر في حركة التاريخية التغيير الاجتماعي ومايترتب عليه .أما التفسير المثالي فإنه يستند على معطيات دينية وأخلاقية وعربية تعمل ضمن بيئات معينة على منديات إمكانية ومكانية لتؤسس للصراعات أو الحروب .

إن التفسير الرأسمالي -وكان أرى -لايولى اهتماما كبيرا للأسباب بقدر ما يركز على مفاهيم الملكية والفردانية والحرية باعتبارها قيما أخلاقية .

قد يكون من المناسب الإشارة هنا إلى أن مفهوم خير الأمم قد يترتب عليه فعل أو فهم أو مبنى فكري ربما تسبب في كثير من الحالات في صراعات أو حروب على مدى التاريخ البشري، كما أنه من المفيد الإشارة إلى علاقة مفهوم خير الأمم بمفهوم الشخص الفاضل أو الأفضل أو المعصوم أو خير البرية أو خير البشر..الخ وصولا إلى الإنسان الأسطوري او الإنسان الإله كليا أو جزئيا كما ورد في الملاحم الكبرى، على الرغم من أن تأثير هذا المفهوم في الصراعات ليس كبيرا بالمقارنة مع مفهوم خير الامم، فانه يبدو أن العلاقة بين هذين المفهومين هي كالعلاقة بين علمي الاجتماع وعلم النفس فلكل من العلمين منظومته الخاصة ومنهجه العلمي رغم أن العلمين يهتمان بسلوكيات ودوافع الإنسان الفرد (علم النفس) أو الجماعة (علم الاجتماع). وفيما يأتي محاولة لاستعراض مختصر لبعض الأفكار التي تؤسس لهذا الموضوع وفي مختلف الحضارات المهمة ..

تشكل الطبقية أساسا مهما ومعلما واضحا من معالم المجتمع الهندوسي يكون فيها البراهمة صفوة الخلق، وقد الحقوا بالالهة، ولهم أن ياخذوا من أموال عبيده ما يشاؤون، وعلى الرغم من أن الديانة البوذية تطورت تاريخيا عن عن الديانة الهندوسية إلا أنها تتبنى فيما تتبناه جوانب أخلاقية مرتبطة بالتقشف والتحمل ونبذ الكراهية، وبهذا فلا يمكن للمتتبع أن يرصد أيا من الجوانب الاجتماعية المرتبطة بمفهوم خير الأمم أو الفردانية المرتبطة بأفضل الخلق

يعتقد الكثيرون بان الحضارات الأميركية القديمة كالأنكا والمايا والأستيك متصلة عرقيا بشكل أو بآخر بحضارات الصين أو شرق آسيا على ضفة المحيط الهادي الأخرى، فالدلائل متوفرة على أن الإنسان كان قد عبر المحيط الهادي قديما بالفعل وهذا ما حاول إثباته عالم الآثار والانثروبولوجيا التاريخية النرويجي السيد تور هيردال في رحلته الشهيرة إلى جزر البولونيز ..إن هذا التشابه العرقي والحضاري كان ليؤدي إلى متبنيات فكرية متشابهة بما فيها القضية قيد البحث، فلم يرد ما يثبت تبني تلكم الأقوام ايه عقيدة عنصرية أو تدين يشي باعتقادهم الصريح أو الضمني بمبدأ خير الأمم أو أفضل الخلق وهم الذين عرف عنهم تقديمهم الأضاحي البشرية للالهة في طقوسهم الدينية، هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن الكثير من تراث تلك الأقوام كان قد دمر على يد الغراة الأسبان في القرن الخامس عشر وما تلاه الأمر الذي نتج عنه فقدان الكثير من المعلومات عن تلك الحضارات، ناهيك عن فقدان الكثير الآخر بسبب طبيعة تلك الأمم التي تناقلت ذلك التراث شفاهيا، فعلى سبيل المثال، فإن حضارة الانكا لم تكن لديها أبجدية معروفة .

وعلى الرغم من ان هيرودتس كان يعتقد بان الفرس يرون بانهم خير الناس جميعا من جميع الوجوه وان غيرهم من الامم تدنوا من الكمال بقدر ما يقترب موقعها الجغرافي من بلاد فارس وان "شر الناس ابعدهم عنها" فان هذا التاويل المبني على اسس جغرافية او بيئية له ما يشابهه، فقد اشار ابن خلدون الى اثر البيية على شكل الانسان وسلوكه ووعقله او فطنته وحتى دينه ..لكن ارنولد توينبي يقدم تفسيرا سلوكيا للمسالة برمتها، هذا التفسير يستند الى المنتج (الحضاري) المادي والأخلاقي والسلوكي المتسبب عن التفاعل بين التحدي والاستجابة، ونحن هنا لسنا بصدد نقد النظريات بقدر ما نحن نستعرضها ونشير اليها فقط .

وبهذا فان القصة الحقيقية للتفضيل بين الأعراق والثقافات والأديان بدأت بعد نشوء ما اصطلح عليه بالأديان السماوية أو الابراهيمية وهذا ما نود التركيز عليه، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الأفكار بمجملها ليست نتاجا مجردا لسلوك اجتماعي ليس فيه للسياسة والاقتصاد والبيئة كبير تأثير وهذا ما أشرنا إليه بنحو الإجمال في مقدمة هذا المقال..وعليه فلابد من الالتفات إلى نشوء تلك الأفكار في بيئاتها المختلفة في الدول والامبراطوريات السائدة في حينها.

إن التقسيم الطبقي الاجتماعي الذي كان سائدا إبان الإمبراطوريتين الإغريقية والرومانية كان ناتجا طبيعيا لانتصاراتهما العسكرية في تلك الفترة الأمر الذي تمخض عن حركات فكرية عنصرية تبنت التفوق العرقي لتلك الأمم حيث مازالت هذه الحركات تنتج صداها العنصري عند الأوروبيين والأمريكان حتى وقتنا الحاضر.لقد صنف السكان إلى أربع طبقات على أساس الثروة، ويمكن للناس تغيير طبقاتهم اذا كتبوا المزيد من المال، لقد تبنت الإمبراطورية الرومانية لاحقا الديانة المسيحية التي سرعان ما سيرتها سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.

إن أوضح التجليات لمفهوم خيرالامم والشعوب هي مفهوم الحلولية والشعب المختار، والحلولية هي الاعتقاد بأن الإله يحل بعض بني الانسان وان فكرة الشعب المختار أو الشعب الكنز هي الاعتقاد الفكري بإيمان اليهود بأنهم شعب مختار وفق النسق الديناميكي اليهودي وتعبير آخر للطبيعة الحلولية التي تشكلت داخل المنتظم اليهودي وتموضعت فيه.

لقد عرفت الحلولية في المسيحية أيضا، حيث يعتقد المسيحيون أن الله حل في السيد المسيح وان الثالوث الحلولي هو الإله و الأرض والشعب، إذ يحل الله في الأرض لتصبح أرضا مقدسة ومركزا للكون، ويحل في الشعب فيجعله مختارا وازليا ومقدسا، ولابد من القول بأن مبدأ الشعب المختار عند اليهود يستوجب وفق المعتقد تفوقا عرقيا اما عند المسيحيين فإن مبدأ فكرة شعب الله لا تتضمن الاختيار بالضرورة .

وعند مجيء الإسلام في القرن السادس الميلادي فقد كذب ادعاءات اليهود والمسيحيين بأنهم أبناء الله وأحبائه على الرغم من أنه أكد أفضلية بني إسرائيل (يعقوب) على الناس جميعا، إلا أنه سرعان ما فسر ذلك التفضيل بأنه تفضيل عطاء ونعمة ومنة قبل خيانتهم للعهد.

لقد أدى مفهوم خير الأمم إلى إشكاليات عديدة لدى متبنيه من الشعوب ولدى شركائهم في التاريخ والجغرافيا تجلت في صراعات وحروب غالبا ما استغلت أيديولوجيا وسياسيا، ويقر القران الكريم بذلك في النص القرآني (كلما اتت امة لعنت اختها)، في حين نجت بشكل عام الأمم التي لم تكن لتحاول شيطنة أو لعن أو ازدراء أو الحط من الشعوب الأخرى.

لقد كان الاستغلال السياسي واضحا في الحروب الصليبية والأنشطة المعادية للسامية (اليهود) والتطهير العرقي والأفعال النازية وممارسات اليهود ضد العرب الفلسطينيين كما أن الرئيس الأميركي جورج بوش كان قد تحدث عن تبنيه لحرب مقدسة صليبية عشية غزوه للعراق عام 1991 سرعان ما اسكته مستشاروه وذكروا له بأنه لم يكن موفقا تماما في اختاره للمفردة (صليبية) التي تشتمل على حساسية كثيرة في مجمل منطقة الشرق الإسلامي.

إن كلا طرفي النزاع العربي الإسرائيلي استعمل مفهوم خير الأمم من خلال تبني اليهود لفكرة شعب الله المختار أو تبني العرب او المسلمين لتاويل الآية (كنتم خير أمة ) في صراعه مع خصمه على الرغم من أن ذلك الاستعمال كان يهدف إلى أغراض تعبويه أكثر منها فكرية أو واقعية...

لقد اختلف فقهاء المسلمين كثيرا في تحديد مفهوم (خير امة) الواردة في سورة آل عمران (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون باللة)، حيث يشار إلى أهم المناحي والتوجهات التاويلية في من هم مدار الخيرية وأسبابها:

1) هم الذين هاجروا مع النبي محمد (ص) من مكة إلى المدينة.

2)الآية نزلت في جماعة محددة هم:عبد الله بن مسعود مولى أبو حذيفة وأبي ابن كعب و معاذ بن جبل.

3) الأولون فقط حسب رواية عمر بن الخطاب (رض) "تكون لأولنا ولا تكون لآخرنا.

4) هم الذين يؤدون شرط الله منها (أي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان ب الله)

5) أصحاب رسول الله (ص)

6) المشمولون بخطاب (تأتون بهم في السلاسل تدخلونهم في الاسلام.

7 ) تأويلها لأنهم أكثر الأمم استجابة للإسلام.

أما فيما يخص شروط (الخيرية) الثلاثة مدار الآية، ففيها الكثير الآراء والتفسيرات، أي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكذلك الإيمان باللة لكن الشائع منها هو أن المعروف هو ما تعارف عليه الناس من فعل أو قول حسن وهو أمر عقلاني تستحسنه النفوس على العكس من المنكر ..كما أن هناك اختلاف أيضا في من تقع عليه هذه المهمة كمسؤولية شرعية أو حتى اخلاقية..فمن الفقهاء والمفسرين من ضيق ومنهم من وسع ومنهم من اشترط..هذا من جهة ومن جهة أخرى فقد امتد الخلاف إلى الفعل الماضي (كنتم) حيث قصره البعض وخصصه بزمن النزول ومنهم من مد الحكم الشرعي به بشكل مفتوح ..

(8) يذهب مفسرو وفقهاء الشيعة إلى قراءة ينسبونها إلى الأمام علي (ع) "كنتم خير أئمة أخرجت للناس ويقصرون شمولها بآل محمد واؤصيائه.

9) هناك آراء غير تقليدية لاتعمد على النقل بل تستند إلى العقل والمنطق . في تأويل النصوص الدينية والنصوص التاريخية، وفي الفكر الإسلامي بدأت محاولات جادة بشكل مبكر على يد الكثير من المفكرين أو الجماعات ومنهم الحلاج وابو حيان التوحيدي والمعتزلة وإخوانه الصفا وغيرهم، صحيح أن هذه الآراء حوربت في حينها إلا أنها برزت إلى الساحة الفكرية في القرن التاسع عشر والعشرين على يد مجموعة من المجددين المسلمين كعبد الرحمن الكواكبي ومحمد عبده وجمال الدين الأفغاني وغيرهم وقد امتد هذا العمل الفكري إلى وقتنا الحاضر ليشكل تيارا إصلاحية مهما على يد محمد أركون ومحمد شحرور ونصر حامد أبو زيد وعدنان ابراهيم ويوسف الصديق واحمد الكاتب وغيرهم...وعلى الرغم من أن هذا التيار له تأثير كبير في الفكر الإسلامي المعاصر إلا أن هؤلاء العلماء والمفكرين لم يتبنوا خطأ أيديولوجيا واحدا ولهذا السبب فإننا نستعرض مثا لا واحدا هو رأي د.محمد شحرور الذي يتبنى مبدأ مهما هو عدم قبول الترادف في النص القرآني، فهو يميز بدقة بين الأمة والقوم والشعب، فما يميز الأمة برأيه هو وحدة السلوك والقناعة لمجموعة من الناس..كما هي حالة المسلمين (المؤمنين)الذين توحدهم القبلة والصوم والشعائر الأخرى. أما القوم، فواحدها امرئ وهي تطلق على اللسان وليس الدم أو العرق..فأمة محمد هي المسلمين وقومه هم العرب.اما الشعب فهو مجموعة من الناس تضم أمم وأقوام لها وحدة اقتصادية واجتماعية ومرجعية قانونية واحدة. كما أن الدكتور شحرور يرى أن مفهوم الاسلام أكثر شمولا من أتباع الرسالة المحمدية وبهذا فإنه لا وجود عرقي أو ديني أو اجتماعي لمفهوم (خير امة).

وخلاصة القول فإنه يبدو من هذا الاستعراض المختصر لهذا الموضوع الشائك والممتد زمنيا أن هناك نوعان من التناول والتعاطي الفكري والاخلاقي:أولهما : التعاطي المجرد الذي يعتبر الدين والمعتقد باعتباره معادلة رياضية أو عنصرثابت محدد المعالم بدقة متناهية ليس فيها اعتبار للتغيير لاحقا ..الثاني هو فسح المجال لإعادة النظر في مفاهيم ونصوص دينية وتاريخية لأسباب قد تكون عقلية اومنطقية أو برجماتية من شأنها أن تعمل على إشاعة أكبر قدر ممكن من الأمن الاجتماعي والإنساني دون التضحية بالنصوص المقدسة 

 

حسن الشرع

 

 

 

 

 

 

 

في المثقف اليوم