دراسات وبحوث

الفضيل بن عياض.. استقامة الحق والحقيقة

ميثم الجنابيللمتصوفة في طرائقها طرقا لا تحصى. تماما كما أن الاختلاء بالجسد هو الاختلاء بالكون وما فيه، والانزواء بالروح هو عين الانفتاح على خباياه وإشكالاته. وفي هذا الكلّ المحير للمنطق تكمن الوحدة الحية للشخصية الصوفية الكبرى في ابتلائها وبلائها، ومنازلها ومنازلاتها، وعنائها ومعاناتها، ومكابداتها واكتشافاتها معنى الحقيقة وحقيقة المعنى.

فالطريق الصوفي في بدايته كسر للإرادة، وفي وسطه مساعي متنوعة لصهرها وإعادة بنائها بمعايير الحق، وفي نهايتها وقوف دائم بالحقيقة. وقد كانت بداية ووسط ونهاية الفضيل بن عياض أحد النماذج الحية لهذه الحلقات التي تشكلت منها سلسلة الصيرورة الصوفية للفضيل بن عياض وكينونتها التامة. مع انه لا تمام في التصوف باستثناء المكابدة الخالصة في الإخلاص للحق والحقيقة.

ولد الفضيل بن عياض بسمرقند ونشأ بأبِيْوَرْد وتكامل في الكوفة ومات في مكة (عام 187 للهجرة). بدأ حياته بالشطارة والسرقة على كل من استطاع الوصول إليه، بوصفه أحد قطاع الطرق لينتهي بقطع طريق الحق. بمعنى انه مثّل، على خلاف إبراهيم بن ادهم الذي انحدر من غنى العائلة الملكية إلى فقر المكابدة الصوفية، وعلى خلاف شقيق البلخي الذي ولع في بداية أمره بالتجارة والمال وانتهى بإفلاسه المادي وغناه الروحي، طريق كسر إرادة الغريزة الهمجية بإرادة الحق. بعبارة أخرى، لقد عاش الفضيل بن عياض عيشة الشطار قبل ان ينشطر قلبه ليخرج منه قيح العبث.

وتنقل لنا الروايات التاريخية المدونة ضمن أمهات تاريخ التصوف والكتب الصوفية عن ان الفضيل بن عياض كان شاطرا يقطع الطريق بين أبيورد وسرخس، وكان سبب توبته أنه عشق جارية، فبينا هو يرتقي الجدران إليها، إذ سمع تاليا يتلو (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ) فلما سمعها قال: بلى يا رب قد آن!

فرجع فأواه الليل إلى خربة فإذا فيها سابلة يقول بعضهم للآخر بان من الأفضل الرحيل من هنا، بينما اقترح البعض الآخر البقاء حتى الصباح خوفا من ان يقطع الفضيل عليهم الطريق. عندها تفكر الفضيل كما ينقل عن نفسه مخاطبا إياه "أنا سعى بالليل في المعاصي، وقوم من المسلمين هاهنا يخافوني. وما أرى الله ساقني إليهم إلا لأرتدع. اللهم إني قد تبت إليك، وجعلت توبتي مجاورة البيت الحرام ". بعدها ترك خراسان وانتقل إلى الكوفة، فسمع من مختلف علماءها، ثم اعتزل اعتزال المتصوفة، وبعدها انتقل إلى مكة ونزلها إلى أن مات بها عام 187 للهجرة.

غير ان هذه الصورة المكثفة لتنقله ليست إلا خطوط المسار العام والمجرد لسياحته في ارض الخلافة المعنوية. فقد كان من صفاته في الطريق السياحة في أرجاء الخلافة. وهي الممارسة التي أسس لها الفضيل بمعايير الجسد، قبل ان ترتقي لاحقا إلى قاعدة في طريق قهر الارادة وتربيتها على تمل مصاعب الوجود. وضمن هذا السياق يمكن فهم الصيغة التي حاول أبو نعيم الأصفهاني من خلالها رسم معالم الروح والجسد المميزة للفضيل، والتي وضعها في عبارة تقول "كان الفضيل من الخوف نحيفا، وللطواف أليفا". ومن شخصيته هذه بلور احد المبادئ أو القواعد الكبرى للتصوف والقائلة: "إن التصوف المبادرة في السفر والمساهرة في الحضر"[1]. لكنها، شأن كل وصف من هذا القبيل، قد تعكس بعض الجوانب الجوهرية في الشخصية لكنها لا تلمّ بما فيها من أفكار خاصة وتجربة فردية. بمعنى انه وصف من بين أوصاف يمكنها ان تكشف الانطباع الظاهري أو شخصيته الثقافية. وبالتالي يمكنها ان تسلط الضوء على ما فيه وليس حقيقته الباطنية.

فقد قال عنه خادمه إبراهيم بن الأشعث "ما رأيت أحدا كان الله في صدره أعظم من الفضيل، كان إذا ذَكر الله أو ذُكر عنده أو سمع القرآن ظهر به من الخوف والحزن وفاضت عيناه، وبكى حتى يرحمه من يحضره. وكان دائم الحزن شديد الفكرة. ما رأيت رجلا يريد الله بعلمه وعمله، وأخذه وعطائه، ومنعه وبذله، وبغضه وحبه، وخصاله كلها غيره. كنا إذا خرجنا معه في جنازة لا يزال يعظ، ويذكر ويبكي كأنه مودع أصحابه ذاهب إلى الآخرة حتى يبلغ المقابر فيجلس مكانه بين الموتى من الحزن والبكاء، حتى يقوم وكأنه رجع من الآخرة يخبر عنها"[2]. وفي موقع آخر قال "رأيت سفيان بن عيينة يقبل يد الفضيل مرتين". وضمن هذا التقييم ما قاله عنه أبو علي الرازي:"صحبت الفضيل بن عياض ثلاثين سنة ما رأيته ضاحكا ولا مبتسما إلا يوم مات ابنه". وعندما قال له بذلك أجاب "إن الله أحب أمرا فأحببت ما أحب"[3]. وهو تصوير يعكس جوهرية الله والخوف والحزن والتأمل الفكري الدائم. بينما وجد بشر بن الحارث فيه نموذجا "لأكل الحلال" كما في قوله "عشرة ممن كانوا يأكلون الحلال، لا يُدخلون بطونهم إلا حلالا ولو اسْتَفُّوا التراب والرماد" وجعل الفضيل بن عياض بينهم إلى جانب إبراهيم بن أدهم، وسليمان الخواص، ويوسف بن أسباط، وحذيفة المرعشي، وداود الطائي، ووهيب بن الورد وغيرهم. بينهما شدد ابن المبارك على جوهرية الورع في شخصيته. بحيث نراه يفرز فيه هذه الصفة مقارنة بما عند الآخرين، كما في قوله "رأيت أعبد الناس عبد العزيز بن أبي روَّاد، وأورع الناس الفضيل بن عياض، وأعلم الناس سفيان الثوري، وأفقه الناس أبا حنيفة". وهي الصفة التي شاطرها اغلب من وصفه كما في قول إبراهيم بن شماس "رأيت أفقه الناس، وأورع الناس، وأحفظ الناس وكيعا والفضيل وابن المبارك". بل نرى ونسمع هذا الوصف بما في ذلك على لسان هارون الرشيد، بأثر لقائه به كما في قوله "ما رأيت في العلماء أهيب من مالك، ولا أورع من الفضيل".

وعموما تراكمت فضيلة الفضيل بن عياض في سيل متنوع الروافد لكنها كانت جميعا تصب في الموقف منه باعتباره احد أفضل المشايخ والعلماء. فقد قال عنه عبيد الله القواريري، ان الفضيل بن عياض بين أفضل من رأى من المشايخ. بينما قال ابن المبارك عنه "إن الفضيل بن عياض صدق الله فأجرى الحكمة على لسانه، فالفضيل ممن نفعه علمه"، وانه "ما بقي على ظهر الأرض عندي أفضل من الفضيل بن عياض". وقال عنه أيضا "إذا نظرت إلى الفضيل، جَدَّد لي الحزن، ومقت نفسي". ثم بكى. بل نراه في خاتمة المطاف يقول "ما بقي في الحجاز أحد من الأبدال إلا الفضيل بن عياض". في حين قال البعض عنه "لم يزل لكل قوم حجة في أهل زمانهم، وإن الفضيل بن عياض حجة لأهل زمانه". بل وتنسب إلى هارون الرشيد قولة "ما رأت عيناي مثل الفضيل بن عياض. دخلت عليه فقال لي: فرّغ قلبك للحزن وللخوف حتى يسكناه، فيقطعاك عن المعاصي، ويباعداك من النار".

ولا يعني ذلك سوى صيرورته الروحية في مثال مرجعي في العلم والعمل والسلوك. اذ جّسد في ذاته وشخصيته وحدة المتناقضات الحية. وقد تكون العبارة التي رسمها إسحاق بن إبراهيم الطبري من بين أكثرها دقة كما في قوله عنه "ما رأيت أحدا أخوف على نفسه، ولا أرجى للناس من الفضيل. كانت قراءته حزينة، شهية، بطيئة، مترسلة، كأنه يخاطب إنسانا". وهو وصف اقرب إلى ما قاله خادمه إبراهيم بن الأشعث:"ما رأيت رجلا يريد الله بعلمه وعمله، وأخذه وعطائه، ومنعه وبذله، وبغضه وحبه، وخصاله كلها غيره". إننا نعثر في هذه الأوصاف على جمع الفضيل بين الأضداد، وهي الذروة التي يبلغها الروح بوصفه حامل المطلق. ووضع ذلك في جملة مفاهيم ومواقف الجمع بين الضدين بوصفه أسلوب بلوغ الاعتدال والحقيقة، كما في قوله"حزن الدنيا يذهب بهمّ الآخرة، وفرح الدنيا للدنيا يذهب بحلاوة العبادة"[4].

والمقصود بوحدة التناقضات الحية هي تفعيل وحدة الأحوال في العلم والعمل. من هنا تميز الفضيل بكونه "دائم الحزن شديد الفكرة". ولا يعني ذلك سوى التعامل الوجداني الحي تجاه كل ما في الوجود. والوجود تناقض لا يتناهى ولا ينتهي. الأمر الذي يثير في القلوب الحية على الدوام شعور الحزن والمحبة. ومنهما تتولد على الدوام شرارة التفكر والتأمل الدائم. وهي الحالة التي صورتها العبارة القائلة بان كل ما كان يقوم به الفضيل من علم وعمل،وأخذ وعطاء، ومنع وبذل، وبغض ومحبة هو لله، أي للمعيار المتسامي في الموقف من الأشياء والسلوك. وضمن هذا السياق يمكن فهم مضمون العبارة التي قال بها عبد الله بن المبارك عن انه "إذا مات الفضيل ارتفع الحزن"[5]. بمعنى بلوغه في هذا الحال ذروة المقام.

ان الذروة المتحققة في شخصية الفضيل بين عياض، التي وجدت انعكاسها في الصفات الجوهرية الملازمة لوجده ووجوده من حزن وتفكر وورع وخوف هي الوجه الآخر لتجاربه الشخصية ووعيه الذاتي. وهي تجارب ليست معزولة عن مخاض الدخول في الطريق الصوفي، أو تجربة انكسار الإرادة الأولى وأثرها اللاحق في المسار الشخصي للطريق. فهو بمعنى ما الوجه النقيض للماضي، والذي يسري، شأن كل مسار صوفي مهذًّب في مقامات الرقي الروحي وبلوغ ذروتها المعرفية في إدراك الحقيقة، اي حقائق الأحوال الباطنة والظاهرة. فقد اخذ مرة بيد سفيان بن عينة وقال له:"إن كنت تظن أن بقي على وجه الأرض شرّ مني ومنك فبأس ما تظن"[6]. وحالما يجري قلب هذه العبارة بمعايير الحال والمقام، فإنها تعني ضرورة التهذيب الدائم للإرادة والقلب، اي تهذيب الروح الأخلاقي العملي والمعرفي من اجل بلوغ الإخلاص في العلم والعمل. من هنا توسعه في نقد النفس وتهذيبها عبر وضعها على لهيب المحاسبة الذاتية كما في اقواله العديدة مثل "كيف ترى حال من كثرت ذنوبه، وضعف علمه، وفني عمره، ولم يتزود لمعاده"، و"يا مسكين! أنت مسيء وترى أنك محسن، وأنت جاهل وترى أنك عالم، وتبخل وترى أنك كريم، وأحمق وترى أنك عاقل، أجلك قصير، وأملك طويل" وامثالها العديدة. بحيث اوصله ذلك في نهاية المطاف للقول "كفى بالله مُحبا، وبالقرآن مؤنسا، وبالموت واعظا، وبخشية الله علما، وبالاغترار جهلا".

إننا نعثر في هذه المواقف والأحكام عن النفس ها على رقة الإخلاص الذي يميز دموع الأطفال البريئة عن دموع التماسيح البشرية! من هنا رؤية الوجود عبر موشور النقاء الخالص. وقد وضع ذلك عبر تجاربه الفردية بصيغ مختلفة ومتنوعة لكنها تصب شأن الجداول في بحر البحث عن اليقين. وهو يقين ظاهره نفي المظاهر والعابر، وباطنه انتصاب القلب في طلب الحق، كما في قوله "لو أن الدنيا بحذافيرها عرضت علي حلالا لا أحاسب بها في الآخرة، لكنت اتقذرها كما يتقذر أحدكم الجيفة إذا مر بها أن تصيب ثوبه"[7]. وأن يقول في حال آخر "لو خيرت بين أن ابعث فادخل الجنة وبين أن لا ابعث، لاخترت أن لا ابعث"[8]. وعندما قيل لم ذالك، أجاب "من الحياء". وأن يقول في حال آخر "والله لأن أكون هذا التراب أو هذا الحائط أحب إلي من أن أكون في مسلخ أفضل أهل الأرض اليوم"[9]. وفي حال آخر قال "لو خيرت أن أعيش كلبا وأموت كلبا ولا أرى القيامة لاخترت أن أعيش كلبا وأموت كلبا ولا أرى يوم القيامة"[10]. وانتهى في مواقفه هذه بقول يحتوي في أعماقه على كامل تجربته بهذا الصدد من خلال بلورة فكرة اللاشيء كما في قوله "ما اغبط ملكا مقربا، ولا نبيا مرسلا، يعاين القيام وأهوالها. ما اغبط إلا من لم يكن شيئا"[11].

ان اعتبار الحياة العادية مجرد قذارة هو الذي حدد موقفه منها ومن نفسه فيها. وبالتالي ليس رغبته عن تفضيله البقاء في "قبر" الوجود على الانبعاث إلى "جنة الخلد"، أو تفضيله ان يكون ترابا أو حائطا، وانه لا يغبطه شيئا أكثر من ان يكون لا شيء، سوى الصيغة العميقة للحزن الذي يعتصر العقل والقلب في رؤيته لديمومة القذارة الفعلية التي تلف وجود البشر، كما كان الحال بالنسبة لديموقريطيس (الفيلسوف الباكي)، الذي اختلى بنفسه بأثر تأمل الحياة ومستوى الانحراف الأخلاقي فيها، لكي يكتشف الحقيقة القائلة بان الوجود والعدم نار تحترق بمقدار وتنطفئ بمقدار. وهذه بدورها ليست إلا لهيب المعاناة والتأمل العميق للوجود وإشكالاته، التي تجعل المرء "شاهدا لغائب" كما تقول المتصوفة، وليس "غائبا لشاهد". بمعنى ان تكون في صلب الوجود والحياة والبشر بالقلب والحقيقة، وليس مستمعا لما فيها، اي حاضرا بجسدك غائبا بروحك.

لقد كانت هذه المواقف والاستنتاجات مستنبطة من التأمل العقلي الوجداني للحقيقة وتعبيرا عنها. لهذا نراه يجيب على قول ابنه علي:

يا أبتي إن الحلال عزيز.

يا بني، وإن قليله عند الله كثير!

وعندما سأله احدهم:

يا أبا علي ما الخلاص مما نحن فيه؟

أخبرني من أطاع الله هل تضره معصية أحد؟

لا!

فمن يعصي الله هل تنفعه طاعة أحد؟

لا!

هو الخلاص إن أردت الخلاص!

لقد وضع الفضيل الله في صلب المعيار التام للأقوال والأعمال. اذ ليس الله بالنسبة للفضيل (والمتصوفة جميعا) سوى الحق المطلق، ووحدة الحق والحقيقة، ووتر الأخلاق المشدود برقة الاستماع إلى ضربات الوجد والوجود، ودمعة الأطفال البراقة على وجنة البراءة المخدوشة، والوقوف في كل ما له صلة بالروح المتسامي. من هنا يمكن فهم مضمون العبارة التي قال احدهم عنه "ما رأيت رجلا يريد الله بعلمه وعمله، وأخذه وعطائه، ومنعه وبذله، وبغضه وحبه، وخصاله كلها غير الفضيل بن عياض". اذ نعثر في هذه العبارة على ما وضعه الفضيل نفسه من أفكار ومواقف مثل قوله "عاملوا الله بالصدق في السر، فان الرفيع من رفعه الله. وإذا أحب الله عبدا اسكن محبته في قلوب العباد"[12]. وأن "من خاف الله لم يغرّه شيء، ومن خاف غير الله لم ينفعه احد"[13]. وأن "من مقت نفسه في ذات الله آمنه الله من مقته"[14]، و"إذا أحب الله عبدا أكثر غمه، وإذا ابغض الله عبدا أوسع عليه دنياه[15]. وأن "أحق الناس بالرضا عن الله أهل المعرفة بالله"[16]، وأن "إن رهبة العبد من الله على قدر علمه بالله".

إننا نعثر في هذه الأفكار على مواقف أخلاقية عميقة اقرب ما تكون إلى المعارضة المتسامية في موقفها من الواقع. بمعنى أنها تواجه بمعايير الحق والحقيقة سواء تعلق الأمر بالصدق والاغترار والعزة الباطنية وحقيقة الغنى وما شابه ذلك والتي اختتمها بفكرة عميقة تقول بان معايير الحق والحقيقة هو معرفة الحق والحقيقة والعمل بهما.

وليس الله هنا سوى الحق المجرد والحقيقة المتسامية. من هنا قوله "أكذب الناس العائد في ذنبه. وأجهل الناس المُدِلّ بحسناته. وأعلم الناس بالله أخوفهم منه". بعبارة أخرى، ان معيار الحق والحقيقة في الله، أو معيار الله في الحق والحقيقة مرهون بالنسبة للفضيل بالمعرفة الصادقة والعمل بمعاييرها، من هنا قوله "رهبة العبد من الله على قدر علمه بالله. وزهادته في الدنيا على قدر رغبته في الآخرة. من عمل بما علم استغنى عما لا يعلم، ومن عمل بما علم وفَّقه الله لما لا يعلم، ومن ساء خلقه شان دينه وحسبه ومروءته". وقد حوّل الفضيل بت عياض هذه الحقائق المستنبطة من تجاربه الفردية إلى حقائق متحكمة في السلوك الباطني والظاهري لنفسه وللآخرين. من هنا قوله "بقدر ما يصغر الذنب عندك يعظم عند الله، وبقدر ما يعظم عندك يصغر عند الله"، و"إن قدرت أن لا تعرف فافعل، وما عليك أن لم يثن عليك". وشكلت هذه الأفكار ما يمكن دعوته بمرجعيات الروح الأخلاقي في مواجهة كل ما يواجهه في الحياة. من هنا قوله "من أحب أن يذكر لم يذكر، ومن كره أن يذكر ذكر"، وأن "ترْك العمل من أجل الناس رياء، والعمل من أجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيك الله عنهما". ذلك يعني ان العصمة الذاتية هي الوجه الفعلي للعلم والعمل في مواجهة الواقع أيا كان شكله وقيمته ومحتواه. بحيث نرى الفضيل يقول "لا يكون العبد من المتقين حتى يأمنه عدوه". بل ونسمعه يحلف قائلا "والله ما يحل لك أن تؤذي كلبا ولا خنزيرا بغير حق، فكيف تؤذي مسلما". فالإنسان في نهاية المطاف يقف على الدوام أمام سلسلة الماضي والحاضر والمستقبل، ويستمد منها قيمته وأثره في بلورة الشخصية الصوفية ومواقفها العملية، كما في قوله "إنما أمس مثلٌ، واليوم عمل، وغدا أمل".

ان هذه الحصيلة المتنوعة في المواقف تتوحد في انتمائها لفكرة القلب، بوصفه الإناء الذي ينضح ما فيه، أو المرآة التي تتجلى بها رؤية الوجود الحق أو رؤية الحقيقة. فمن حيث كونه إناءا ينسكب مما فيه في مختلف المواقف مثل قوله "ثلاث خصال تقس القلب: كثرة الأكل وكثرة النوم وكثرة الكلام"، و"كما أن القصور لا تسكنها الملوك حتى تفرغ، كذلك القلب لا يسكنه الحزن من الخوف حتى يفرغ"[17]. ومن هنا موقفه "لا يسلم قلبك حتى لا تبالي من كل الدنيا"[18]. فالعين، على سبيل المثال "ما لم يكن بصرها بالقلب فكأنما أبصرت سهوا"[19]. بحيث جعله ذلك يقول، بان "نقل الصخور من الجبال أيسر من إزالة رياسة قد ثبتت في قلب جاهل"[20]. وقد كانت مواقفه هذه كلها نتاج "قرح القلب"، اي معاناته الفعلية بمعايير الحق والحقيقة. وقد صورت هذه الحالة الحكاية الواردة على لسان سهل بن راهويه عندما قال لسفيان بن عيينة:

ألا ترى إلى الفضيل لا تكاد تجف له دمعة

إذا قَرِح القلب نديت العينان!

أما من حيث كونه رؤية الوجود الحق أو رؤية الحقيقة فيظهر في توسع أعماق الرؤية الباطنية للوجود ومداها وأثرها في المواقف الفعلية من النفس، أو المراقبة الذاتية، بوصفها أسلوب التنقية الدائمة للقلب وتصفيته من كدر الوجود وخبائث المعدوم. وهذا بدوره ليس إلا التعبير المناسب لتجربته الصوفية ونوعية تأسيسه لبعض المفاهيم الجوهرية بالنسبة للطريقة كالورع، والخلوة، والجوع، والخوف، والبلاء، والزهد، والرضا، والتوكل، اي كل ما يشكل عصب الطريقة والحقيقة. فالورع بالنسبة له ليس كمية المظاهر التي لا تخلو من رياء محتمل، بل هو مجرد "اجتناب المحارم"، ومن بين أشده هو "الورع في اللسان". بعبارة أخرى، انه لم يذهب باتجاه التفريع والتدقيق واكتفى بالحد الذي يقيد أخلاق المرء بحدود الفضيلة الباطنية وتعبيرها الظاهري في اللسان. فاللسان هو سوط الرذيلة حالما لا تقيد كلماته وعباراته أحرف الأخلاق وكلمات الحقيقة.

ووجد في الخلوة احد أساليب هذا التقييد الذاتي. فهو الأسلوب الذي يجمع التصوف والمتصوفة، لكنه شأن كل مفاصل المقامات الكبرى مرتبط من حيث حدوده ونوعيته وأثره في السلوك بالتجربة الفردية للصوفي. وقد اتخذت عند الفضيل أولويتها على الأنس. حيث تروى عنه الحادثة التالية. كان الفضيل جالسا وحده في المسجد الحرام، فجاء إليه أخ له فقال له:

ما جاء بك؟

المؤانسة يا أبا علي!

هي والله بالمواحشة أشبه! هل تريد إلا أن تتزين لي وأتزين لك؟ وتكذب لي واكذب لك؟ أما أن تقوم عني أو أقوم عنك![21]

وضمن هذا السياق يمكن فهم حقيقة قوله:"طوبى لمن استوحش من الناس، وأنس بربه وبكى على خطيئته"[22]. وضمنها أيضا يمكن فهم حقيقة موقفه من الجوع. فقد كان يخاطب نفسه "أي شيء تخافين؟ تخافين أن تجوعي؟ لا تخافي ذلك! أنت أهون على الله من ذلك، إنما يجوع محمد وأصحابه"[23]. بل نراه يرفع من شأن الجوع إلى مستوى الفضيلة الكبرى، كما في قوله:"الهي! أجعتني وأجعت عيالي وتركتني في ظلم الليالي بلا مصباح، وإنما تفعل ذلك بأوليائك، فبأي منزلة نلت هذا منك؟"[24]. ولا يعني ذلك سوى الاعتزاز بإرادته في تحدي وتذليل الأنس الفارغ الذي يجزع الناس بدونه، وجوع البطون الخاوية بجوع الارادة بوصفها تحد للنفس، ومعيار موقعها في مدارج الحقيقة.

وليس مصادفة ان تتحول دهاليز الإرادة الباحثة عن مخرج عبر الورع والجوع إلى ممر الخروج صوب أهمية وجوهرية فكرة الخوف، بوصفها فكرة تقويم الارادة الناطقة بمنطق الحق وذوق الحقيقة،كما في قوله "إذا قيل لك تخاف الله؟ فاسكت. فإن قلت (لا) كفرت، وإن قلت (نعم) فليس وصفك وصف من يخاف"[25]. من هنا استنتاجه القائل:"الخوف أفضل من الرجاء مادام الرجل صحيحا. فإذا نزل به الموت فالرجاء أفضل من الخوف"[26]. وما بينهما تبلورت فكرة البلاء وأهميتها بالنسبة لامتحان النفس والإرادة، كما وضعها في قوله "لا يبلغ العبد حقيقة الإيمان حتى يعد البلاء نعمة والرخاء مصيبة، وحتى لا يبالي من أكل الدنيا، وحتى لا يحب أن يحمد على عبادة الله"[27].

ان تحول البلاء إلى نعمة تعني جوهريتها أو مرجعيتها بالنسبة للإرادة في السلوك والعمل. فالإرادة الإنسانية محاصرة بقوة الغريزة والمصالح والعادات والتقاليد والأعراف والقيم السائدة والتصورات العقائدية وما إلى ذلك من قوى تقيّد أو تحبط الارادة الصوفية، بوصفها حرية السلوك المحكوم بقوة الحق والحقيقة. وقد قدم الفضيل بن عياض نماذج عدة لهذه الرؤية كما في قوله "الشيطان إنما يدور على هلاك الخلق"[28]، اي الرذيلة بمختلف أشكالها ومستوياتها وصورها عادة ما تلتف حول إرادة الإنسان لكي تكبله بأثقالها. ومن هنا استنتاج القائل بأنه "ليس في الأرض شيء اشد من ترك الشهوة"[29]. لهذا اعتبر "حب الدنيا وطول الأمل" من بين أكثر الخصال خطورة بهذا الصدد، بمعنى إهمال حقيقة المعنى الفعلي للحياة والأمل. فحقيقة الحياة هي العطاء لا الأخذ، وان الأمل هو شعاع الروح في وحشة المتوحشين، كما في قوله "من استوحش من الوحدة واستأنس بالناس لم يسلم من الرياء"[30]. كما ان "ترك العمل من اجل الناس هو الرياء"، بل ونراه يدفع هذه الفكرة إلى أقصاها عندما يشدد على ان "والعمل من اجل الناس هو الشرك"[31]. بمعنى ان حقيقة العمل هي العمل من اجل الحقيقة. عند ذاك تكون من اجل الناس بالفعل. وضمن هذا السياق يمكن فهم المعنى الباطن للفكرة التي وضعها في قوله "أمرنا أن لا نأخذ الشيء إلا في وقت الحاجة"[32]. وحاجة الصوفي هي كل ما يهذب ويشذب الارادة، وحصرها ضمن لمعان الحال العابر بعبارة تقول "من واقى خمسا فقد وقى شر الدنيا والآخرة – العجب والرياء والكبر والإزراء والشهوة"[33].

وقد حددت هذه الأفكار المتبلورة في مجرى التجربة الصوفية للفضيل بن عياض مواقفه المتنوعة في الظاهر والمتوحدة في باطنها سواء تجاه النفس أو الآخرين. مع انه لا آخر في حقيقة الموقف الصوفي. ففي بعض مواقفه من نفسه نسمعه يقول: "لو حلفت إني مرائي كان أحب إلي من أن احلف إني لست بمرائي"[34]. وفي موقف أخر يجيب على من قال له مرة عشية عرفة:

كيف ترى حال الناس؟

مغفورون لولا مكاني فيهم"[35].

وقد حقق هذا الموقف النقدي تجاه مختلف مظاهر الجسد وبواطن النفس. لهذا نسمعه مرة يقول "احفظ لسانك، واقبل على شأنك، واعرف زمانك، وأخف مكانك"[36]. ويقول في موقف آخر:"لا تقول اللهم أهلكه، بل قل اللهم أصلحه"[37]. بينما نراه يدقق في موقف آخر بواطن النفس بعد وضعها على محك الإيمان، اي على محك الروح الأخلاقي النقي كما في قوله:"الغبطة من الإيمان، والحسد من النفاق. والمؤمن يغبط ولا يحسد، والمنافق يحسد ولا يغبط. والمؤمن من يستر ويعظ وينصح، والفاجر يهتك ويعير ويفشي"[38]. و"المؤمن يهمه الهرب بذنبه إلى الله، يصبح مغموما ويمسي مغموما"[39]. في حين يصحح ويدقق في موقف آخر باطن النفس كما في قوله: "لن يتقرب العباد إلى الله بشيء أفضل من الفرائض. الفرائض رؤوس الأموال، والنوافل الأرباح"[40]. ووضع هذه الرؤية في مواجهة مرآة الأخلاق النقية المتمثلة في "أخلاق الأنبياء والأصفياء الأخيار الطاهرة"، الذين تتحكم في قلوبهم خلائق ثلاثة وهي "الحلم، والأناة، وحظ من قيام الليل"[41]. ومنها ومن خلالها يمكن تأمل حقيقة الأخلاق الفعلية للإنسان، أي مرآة أخلاقه الباطنة.

ان المرآة الباطنية بالنسبة للصوفي هي نتاج تجربته العلمية والعملية في الطريق. ولكل صوفي مرآته التي يرى فيها وعبرها الصورة الأكثر صفاء بوصفها صفاء روحه الذاتي، ومن ثم المعيار الذي يقيس به كمية ونوعية العقبات الكبرى من اجل قطع الطريق بقطع العلائق. فمنهم من وجدها في مقام الزهد، وآخر في الرضا وغيره بالتوكل أو المحبة وما إلى ذلك. بمعنى أن كل منهم مسك بيده مرآته لكي يتحسس من خلالها الوجد الذاتي، ويتأمل الوجود العام والخاص للأشياء والظواهر والقيم، باختصار لكل عوالم الظاهر والباطن. ومع ذلك فالطريق كل واحد. وقد كانت مرآة الله أو الحق هي الأكثر صفاء في قلبه والأشد تمسكا بها في مساره.

غير ان الله الصوفي ليس عكازة العميان والتعبان، بل قوة الروح المتوحد بهموم الحق والحقيقة. وقد وجدت هذه القوة فاعليتها المباشرة في الطريق من خلال التركيز على مقامات الزهد، والرضا، والتوكل، والمحبة، بوصفها مقامته الخاصة، اي ممرات الروح الباحث عن الحق، وتنقية مرآة القلب. لهذا نراه يعتبر "الزهد هو القناعة"[42]. وبدونه لا يمكن تذوق حقيقة الإيمان كما في قوله "حرام على قلوبكم أن تصيبوا حلاوة الإيمان حتى تزهدوا في الدنيا"[43]. من هنا حكمه العام والشامل بهذا الصدد والقائل:"اجعل الشر كله في بيت واحد واجعل مفتاحه الرغبة عن الدنيا، واجعل الخير كله في بيت واحد واجعل مفتاحه الزهد في الدنيا"[44]. بينما وجد في الرضا مرآة يمكن من خلالها رؤية التكامل الذاتي وسموه في الموقف من متناقضات الوجود كما في قوله الرضا هو "إذا استوى عنده المنع والعطاء"[45]. بل نراه يعتبر "درجة الرضا عن الله درجة المقربين، ليس بينهم وبين الله إلا روح وريحان"[46]. وبالتالي، فان "أحق الناس بالرضا عن الله أهل المعرفة بالله". في حين وجد في التوكل مرآة يرى عبرها "الوثوق بالله ولا يتهم ربه ولا يستشير ولي اله ولا يخاف خذلانه ولا يشكوه"[47]. لهذا نراه يسكب حقيقة التوكل في عبارة تقول، بأن "من خاف الله خاف منه كل شيء"[48]. بينما يدرج المحبة ضمن ما اسماه بفرض المحبة، والتي يقوم مضمونها في السكوت حالما يستفسر الآخرون منك فيما إذا تحب الله أم لا،وذلك "ان قلت نعم فليس وصفك وصف المحبين"، كما يقول الفضيل[49]. في حين لا نعثر إلا على القدر القليل جدا من مواقفه النظرية والعملية من الأنس وغيرها من الأحوال والمقامات.

تكشف كل هذه الصورة عن مسار الطريق الذاتي للفضيل بن عياض عما يمكن دعوته بصرامة الاحتجاج العملي والاستقامة مع النفس. الأمر الذي نعثر عليه في مواقفه من العادات والعبادات، والحديث،والبدع، والعلم والعمل، والمعرفة والحكمة، ومختلف المواقف الاجتماعية والسياسية.

ففي موقفه من العبادات اعتبر العبادة أداء الفرائض بوصفها رؤوس الأموال، بينما النوافل هي الأرباح. وبالتالي "لا يصح ربح إلا بعد رأس المال"[50]. غير ان هذه الصيغة المادية الخشنة هي التعبير الظاهري عن حقيقة العبادة بوصفها عمل وحكمة وتفكر وعبرة وما شابه ذلك، وليست حركات الجسد المقننة. ففي معرض مقارنته، على سبيل المثال، بين المؤمن والمنافق في مجال العبادة نسمعه يقول "المؤمن قليل الكلام كثير العمل، والمنافق كثير الكلام قليل العمل. كلام المؤمن حكمة، وصمته تفكر، ونظره عبرة، وعمله بر. وإذا كنت كذا لم تزل في عبادة"[51].

أما في موقفه من الحديث، فقد كان كما صورته الثقافة الإسلامية الورعة والمدققة والمحققة للحديث النبوي بأنه كان صحيح الحديث، صدوق اللسان، شديد الهيبة للحديث إذا حدث. بل وكان يثقل عليه الحديث جدا، بحيث قال مرة لأحدهم سأله بشأن الحديث:"لو أنك طلبت مني الدنانير كان أيسر علي من أن تطلب مني الحديث[52]. ونقل عن محرز بن عون قوله "أتيت الفضيل بمكة، فقال لي: يا محرز، وأنت أيضا مع أصحاب الحديث؟ ما فعل القرآن؟ والله لو نزل حرف باليمن لقد كان ينبغي أن نذهب حتى نسمعه، والله لأن تكون راعي الحمر وأنت مقيم على ما يحب الله خير لك من الطواف وأنت مقيم على ما يكره الله". بل نسمعه مرة يقول "وددت أنه طار في الناس أني مت حتى لا أذكر. إني لأسمع صوت أصحاب الحديث فيأخذني البول فرقا منهم ". وفي ذروة مواقفه بهذا الصدد قال لأصحاب الحديث عن رواية الحديث:"لِمَ تكرهوني على أمر تعلمون أني كاره له؟ لو كنت عبدا لكم، فكرهتكم كان نَوْلي أن تبيعوني. لو أعلم أني إذا دفعت ردائي هذا إليكم ذهبتم عني لفعلت". واختتم موقفه العام والخاص من أهل الحديث والمحدثين في إحدى عباراته التي خاطب بها احدهم:"هؤلاء المحدثون يعجبهم قرب الإسناد. ألا أخبرك بإسناد لا شك فيه؟ انه رسول الله عن جبريل عن الله". بعبارة أخرى انه أراد سحب البساط ممن اسماهم بأهل العجب، أي ذوي الافتخار والتبارز على فتات المعرفة وطحالبها والعيش عليها ومكاسبها. وطابق ذلك مع القراء. ووضع ذلك في عبارة مقتضبة تقول "آفة القراء العُجْب". فقد كان المعروف عنه عداءه للقراء[53]. من هنا نصيحته:"تباعد من القراء فإنهم إن أحبوك مدحوك بما ليس فيك، وإن غضبوا شهدوا عليك وقبل منهم ".

أما الوجه الآخر لموقفه من الحديث وأهل الحديث والقراء فهو موقفه من "البدعة" والمبتدعة. وكانوا هؤلاء يتطابقون عنده مع أهل الأهواء الفكري وأصحاب الخواء الروحي والمعنوي. من هنا موقفه القائل الدقيق "نظر المؤمن إلى المؤمن جلاء القلب، ونظر الرجل إلى صاحب بدعة يورث العمى"[54]. وأن "من أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله واخرج نور الإسلام من قلبه"[55]. من هنا موقفه الشخصي القائل "إني أحب من أحبهم الله. وهم الذين يسلم منهم أصحاب محمد، وابغض من ابغضه الله وهم أصحاب الأهواء والبدع"[56]. وذلك لان كل ما فيهم يخلو من حقيقة العلم والعمل كما في قوله "لا يرتفع لصاحب بدعة إلى الله عمل"[57]، وان "من جلس مع صاحب بدعة لم يعط الحكمة"[58]. بل نراه يقول في إحدى حالاته الوجدانية الحادة يقول "لان آكل عند اليهودي والنصراني أحب إلي من أن آكل عند صاحب بدعة اقتدى به الناس"[59].

أما في موقفه من العلم والعمل فتتجلى كامل تجربته المعرفية والأخلاقية. فقد بلور الفضيل بن عياض فكرة ان العلم هو عمل. من هنا قوله "لم يدرك عندنا من أدرك بكثرة صيام ولا صلاة، وإنما أدرك عندنا بسخاء الأنفس وسلامة الصدور والنصح للأمة"[60]، وانه "لا حج ولا جهاد ولا رباط اشد من حبس اللسان"[61]. اذ يكسب حبس اللسان عقل ووجدان المعرفة السليمة والمرنة للحق والحقيقة. الأمر الذي يحدد ماهية وقيمة وموقع العالم الحق بالنسبة للأمة ككل. من هنا قوله "يغفر للجاهل سبعون ذنبا ما لم يغفر للعالم ذنب واحد"[62].

ان العالم الحق بالنسبة للفضيل هو عالم الحكمة أو الحكيم المتنور بنور الحق والحقيقة. من هنا وضعه عالم الحكمة أو الحكيم بالضد ممن سيدعوهم الغزالي بعلماء السوء، اي أولئك الذين علمهم بلا عمل. فقد توصل الفضيل في مجرى معاناته الباطنية وتجربته الصوفية إلى الثنائية المتناحرة بين عالم الحق والحقيقة وما غيره، كما في قوله "إنما هما عالمان، عالم دنيا وعالم آخرة. فعالم الدنيا علمه منشور، وعالم الآخرة علمه مستور. فاتبعوا عالم الآخرة واحذروا عالم الدنيا"، ثم قرأ (إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل)[63]. وهؤلاء يعادلون عنده ما يمكن دعوته بمرتزقة "العلم" المزيف. من هنا قوله "إن كثيرا من علمائكم زيه كزي كسرى وقيصر منه لمحمد". اذ "لو كان مع علمائنا صبر ما غدوا لأبواب الملوك". من هنا تفرقته الجوهرية بين العلماء والحكماء، او بين العلماء المأجورين وعلماء الحق والحقيقة، أو من أطلق عليهم اسم الحكماء. من هنا استنتاجه القائل، بان "العلماء كثير والحكماء قلل. وإنما يراد من العلم الحكمة. فمن أوتي الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا". وعندما قال رجل له "العلماء ورثة الأنبياء"، أجابه: "الحكماء ورثة الأنبياء"[64]. وعندما رجل له "العلماء كثير"، أجابه الفضيل:"الحكماء قليل".

لم يقصد الفضيل من وراء هذا التفريق الحاد بين العلماء والحكماء، والعلم والحكمة وضع احدهما بالضد من الآخر، بل لإبراز حقيقة العلم بوصفه حكمة نظرية وعملية. من هنا قوله "من عامل الله بالصدق، أورثه الله الحكمة"[65]. وأن "من جلس مع صاحب بدعة لم يعط الحكمة". بمعنى ان الحكمة وبلوغها تفترض الثبات في الحق وليس التقلب مع الأهواء.

لقد اهبطه الارتقاء الروحي والسمو المعرفة وبلوغ الحكمة إلى عالم الوجود الطبيعي، بوصفه المحك الذي لابد منه في اختبار النفس واختيار الحق فيها. ووجد ذلك انعكاسه في مواقف عديدة تعكس في وحدتها مطلب ما تدعوه المتصوفة بانتصاب القلب في طلب الحق، بمعنى تكاملها الذاتي ووحدتها الباطنية. فعندما طلب منه احد الأشخاص أن يوصيه بوصية، أجابه:"اخف مكانك، واحفظ لسانك، واستغفر لذنبك، وللمؤمنين والمؤمنات، كما أمرك الله"[66]. وعندما نظر إلى رجل يشكو إلى رجل، قال: يا هذا! تشكو من يرحمك إلى من لا يرحمك؟!". وتوجت هذه المواقف العملية باختيار الفكرة الجوهرية للتصوف عن العلم والعمل ووضعها في صلب مواقفه من كل شيء وفعل وقيم، كما في قوله "بلغني أن العلماء فيما مضى كانوا إذا تعلموا عملوا، وإذا عملوا شغلوا، وإذا شغلوا فقدوا، وإذا فقدوا طلبوا، فإذا طلبوا هربوا". من هنا قوله "لا ينبغي لحامل القرآن ان يكون إلى الخلق بحاجة"، بمعنى ان التمسك بحقيقة الحق تجعل المرء حرا في المواقف، كما تجعله في مواقفه محكوما بالحقيقة كما في قوله، "لم يدرك عندنا من أدرك بكثرة صيام وصلاة، وإنما أدرك بسخاء الأنفس وسلامة الصدر والنصح للعامة". بينما نراه يحدد موقفه من الحياة بعبارة تقول "لو أن الدنيا بحذافيرها عرضت عليّ حلالا لا أحاسب عليها في الآخرة لكنت اتقذرها كما يتقذر أحدكم الجيفة إذا مر بها أن تصيب ثوبه"[67]. وهو موقف مبني على اساس إدراك حقيقة المفارقة بين الحياة والموت بوصفها معادلة المعاناة المتسامية للنفس من اجل خلودها في خلوة العيش بمعايير الحق والحقيقة، وليس بمعايير احتقار الحياة كما هي. وضمن هذا السياق يمكن فهم فكرته القائلة:"الدخول في الدنيا هين ولكن الخروج منها شديد"[68].

ان معادلة الحياة والموت هي معادلة المواقف المتنوعة والمختلفة التي تكشف ما أسميته بمحك الاختيار والاختبار. وقد يكون موقفه من الحياة والموت احد النماذج الحية التي أسست لمواقفه الاجتماعية والسياسية. فعندما قال له مرة رجل:

كيف أصبحت يا أبا علي؟ (وكان لا يحب هذه الأسئلة أو تثقل عليه)

في عافية

كيف حالك؟

عن أي حال تسأل؟ عن حال الدنيا أو حال الآخرة؟ إن كنت تسال عن حال الدنيا فإن الدنيا قد مالت بنا. وإن كنت تسأل عن حال الآخرة، فكيف ترى حال من كثرت ذنوبه، ولم يتأهب للموت، ولم يخضع للموت، ولم يتشمر للموت، ولم يتزين للموت"[69].

ولا يعني عدم تأهبه للموت، وعدم خضوعه للموت، وعدم تشمره للموت، وعدم تزينه للموت، سوى الصيغة القاطعة لإدراك قيمة ومعنى الحياة الحقيقة بوصفها أمانة أمام الله الإنسان والأمة مبنية على اساس الإخلاص والصواب. فقد فسر مضمون الآية (ليبولنكم أيكم أحسن عملا) بمعنى أخلصه وأصوبه. فانه إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا. والخالص إذا كان لله، والصواب إذا كان على السّنة"[70]. بمعنى ان الإخلاص في العمل يفترض صوابه لان الحق حقيقة والحقيقة حق. وهي الدوامة التي تصنع مغزل المواقف المتلونة بألوان الالتزام بالحق. ففي موقفه من المساكين(الفقراء)، على سبيل المثال، نسمعه يقول "بلغني أن نبيا من الأنبياء قال: يا رب كيف لي أن اعلم رضاك عني؟ فقال:انظر كيف رضا المساكين عنك"[71].وعندما سال مرة احد الأشخاص:

ممن أنت؟

مهلبي!

إن كنت رجلا صالحا، فأنت الشريف، وان كنت رجل سوء، فأنت الوضيع كل الوضيع"[72].

لهذا نراه على سبيل المثال يقول "التواضع هو الخضوع للحق والانقياد له أيا كان قائله". وقد كان في مواقفه جميعا نموذجا للخضوع للحق والانقياد له. وقد يكون موقفه من السلطة والسلطان تحقيقا لذلك. بمعنى جمعه بين الابتعاد عن السلطة لكي يبقى حرا في المواقف، ونقد "علماء السلاطين"، والنصيحة للجميع بما يتوافق مع حقيقة الشرع وشرع الحقيقة.

ففي موقفه من "علماء السلاطين" يقول "رجل لا يخالط (السلطان)، ولا يزيد على المكتوبة أفضل عندنا من رجل يقوم الليل ويصوم النهار ويحج ويعتمر ويجاهد في سبيل الله ويخالطهم"[73]. ثم يخاطبهم بعبارة:"ما لكم وللملوك؟ اركبوا طريق الآخرة. ولكن لا ترضون تبيعونهم بالدنيا ثم تزاحموهم على الدنيا. ما ينبغي لعالم أن يرضى هذا لنفسه"[74]. وفي حالة أخرى قال "ما على الرجل إذا كان يه ثلاث خصال. إذا لم يكن صاحب هوى، ولا يشتم السلف، ولا يخالط السلطان"[75]. لقد كان موقفه السلبي من السلطان مبني على اساس تأمل تجارب الخلافة. فقد أشار في أكثر من موقف إلى أهمية وضرورة الإمام الذي تتوقف على صلاحه صلاح الأمة. وعلى ظلمه فساد البلاد والعباد. لها نراه يشير إليه بكلمة "هؤلاء" وليس بالاسم إلا ما ندر. من هنا موقفه الحاد القائل "لان يدنو الرجل من جيفة منتنة خير له من أن يدنو إلى هؤلاء (يعني السلطان)[76]. لهذا ابتعد في حياته عن السلطة والسلطان، إلا في الحالات النادرة التي يتقربون إليه. وكان المعروف عنه انه يمتنع من جوائز الملوك.

ومن بين هذه الحالات النادرة تلك الواقعة التي جرت بينه وبين هارون الرشيد. اذ تنقل الروايات صيغ عديدة مختصرة وموسعة لكنها متشابه من حيث المضمون والمعنى. فالمختصرة تقول، بأنه حالما دخل على هارون الرشيد الذي سعى للتعرف عليه، قال:أيكم هو؟ (فأشاروا إلى الرشيد) فقال "أنت هو يا حسن الوجه؟ لقد وليت أمرا عظيما. إني ما رأيت أحدا هو أحسن وجها منك. فان قدرت أن لا تسود هذا الوجه بلفحة من نار فافعل[77]! وفي صيغة أخرى انه قال له: يا حسن الوجه، حساب الخلق كلهم عليك! أما الصيغة الموسعة فهي تلك التي يرويها الفضل بن الربيع، والتي يقوم مضمونها في كمية النصائح التي ألقاها الفضيل بن عياض على هارون الرشيد. ان مضمونها العام يقوم في أن الخلافة بلاء، أي امتحان للعقل والروح والضمير الأخلاقي. ومن ثم فإن مهمة الخليفة هو السهر على حقوق العامة وتنفيذ كل ما يفرضه الشرع، والتعامل مع الناس بمعايير الإخوة والبنوة والحق. وعندما أعطى له في نهاية الحوار كمية من المال رفضها الفضيل قائلا بأنه ينصح الخليفة من اجل النجاة بينما هو يكافئه بالمال[78]!

لقد جسّد الفضيل بن عياض في تعرجات حياته قدر الاستقامة المحكومة بقوة الحق والحقيقة. كما لو انه الرد الشامل على اعوجاج الجسد المحكوم بقوة الغريزة والنفس الغضبية. فالانتقال من عالم الشطارة والسرقة إلى عوالم الروح هو اختبار للإرادة في دهاليز البحث عن الحق والتحقق به، أي بلوغ حال الوقوف بالحقيقة والعمل بموجبها تجاه إشكاليات الوجود. الأمر الذي جعل من طريقه لغزا، ومن لغزه طريقا للحقيقة.

ا. د. ميثم الجنابي – باحث ومفكر

......................

[1] الأصفهاني: حلية الأولياء، ج8، ص84.

[2] الأصفهاني: حلية الأولياء، ج8، ص86.

[3]الأصفهاني: حلية الأولياء، ج8، ص101.

[4] الأصفهاني: حلية الأولياء، ج8، ص100.

[5] الأصفهاني: حلية الأولياء، ج8، ص87.

[6] الأصفهاني: حلية الأولياء، ج8، ص101.

[7] الأصفهاني: حلية الأولياء، ج8، ص89.

[8] الأصفهاني: حلية الأولياء، ج8، ص84.

[9] الأصفهاني: حلية الأولياء، ج8، ص85.

[10] الأصفهاني: حلية الأولياء، ج8، ص84.

[11] الأصفهاني: حلية الأولياء، ج8، ص90.

[12] الأصفهاني: حلية الأولياء، ج8، ص88.

[13] الأصفهاني: حلية الأولياء، ج8، ص88.

[14] الأصفهاني: حلية الأولياء، ج8، ص104.

[15] الأصفهاني: حلية الأولياء، ج8، ص88.

[16] الأصفهاني: حلية الأولياء، ج8، ص104.

[17] الأصفهاني: حلية الأولياء، ج8، ص101.

[18] الأصفهاني: حلية الأولياء، ج8، ص91.

[19] الأصفهاني: حلية الأولياء، ج8، ص89.

[20] أبو طالب المكي: قوت القلوب، ج1، ص267.

[21] الغزالي: الإحياء، ج 2، ص229.

[22] السلمي: طبقات الصوفية، ص12.

[23] الغزالي: الإحياء، ج 3، ص82.

[24] الغزالي: الإحياء، ج 3، ص83.

[25] أبو طالب المكي: قوت القلوب، ج1، ص226.

[26] الأصفهاني: حلية الأولياء، ج8، ص89.

[27] الأصفهاني: حلية الأولياء، ج8، ص94.

[28] الأصفهاني: حلية الأولياء، ج8، ص97.

[29] الأصفهاني: حلية الأولياء، ج8، ص98.

[30] الأصفهاني: حلية الأولياء، ج8، ص109.

[31] الأصفهاني: حلية الأولياء، ج8، ص95.

[32] الأصفهاني: حلية الأولياء، ج8، ص99.

[33] الأصفهاني: حلية الأولياء، ج8، ص95.

[34] الأصفهاني: حلية الأولياء، ج8، ص94.

[35] الكلاباذي: التعرف. ص53.

[36] الأصفهاني: حلية الأولياء، ج8، ص94.

[37] الأصفهاني: حلية الأولياء، ج8، ص97.

[38] الأصفهاني: حلية الأولياء، ج8، ص95.

[39] الأصفهاني: حلية الأولياء، ج8، ص97.

[40] الأصفهاني: حلية الأولياء، ج8، ص101.

[41] الأصفهاني: حلية الأولياء، ج8، ص95.

[42] أبو طالب المكي: قوت القلوب، ج1، ص267.

[43] الأصفهاني: حلية الأولياء، ج8، ص94.

[44] الأصفهاني: حلية الأولياء، ج8، ص91.

[45] أبو طالب المكي: قوت القلوب، ج2، ص40.

[46] الأصفهاني: حلية الأولياء، ج8، ص97.

[47] الأصفهاني: حلية الأولياء، ج8، ص95.

[48] أبو طالب المكي: قوت القلوب، ج2، ص4.

[49] أبو طالب المكي: قوت القلوب، ج2، ص52.

[50] أبو طالب المكي: قوت القلوب، ج2، ص207.

[51] الأصفهاني: حلية الأولياء، ج8، ص98.

[52] الأصفهاني: حلية الأولياء، ج8، ص86-87.

[53] السلمي: طبقات الصوفية، ص10.

[54] الأصفهاني: حلية الأولياء، ج8، ص103.

[55] الأصفهاني: حلية الأولياء، ج8، ص103.

[56] الأصفهاني: حلية الأولياء، ج8، ص103.

[57] الأصفهاني: حلية الأولياء، ج8، ص103.

[58] الأصفهاني: حلية الأولياء، ج8، ص103.

[59] الأصفهاني: حلية الأولياء، ج8، ص103.

[60] الأصفهاني: حلية الأولياء، ج8، ص103.

[61] الأصفهاني: حلية الأولياء، ج8، ص110.

[62] الأصفهاني: حلية الأولياء، ج8، ص100.

[63] أبو طالب المكي: قوت القلوب، ج1، ص141.

[64] الأصفهاني: حلية الأولياء، ج8، ص92.

[65] الأصفهاني: حلية الأولياء، ج8، ص99.

[66] الأصفهاني: حلية الأولياء، ج8، ص97.

[67] الغزالي: الإحياء، ج 3، ص209.

[68] الغزالي: الإحياء، ج 3، ص209.

[69] الأصفهاني: حلية الأولياء، ج8، ص85-86.

[70] الأصفهاني: حلية الأولياء، ج8، ص95.

[71] الغزالي: الإحياء، ج2، ص207..

[72] الأصفهاني: حلية الأولياء، ج8، ص96.

[73] الأصفهاني: حلية الأولياء، ج8، ص98.

[74] الأصفهاني: حلية الأولياء، ج8، ص102.

[75] الأصفهاني: حلية الأولياء، ج8، ص104.

[76] الأصفهاني: حلية الأولياء، ج8، ص98.

[77] الأصفهاني: حلية الأولياء، ج8، ص105.

[78] وهناك إضافة لهذه القصة بالشكل التالي: فدخلت عليه امرأة عن نسائه فقالت: قد ترى ما نحن فيه من الضيق، فلو قبلت هذا المال. قال: إنما مثلي ومثلكم كمثل قوم لهم بعير يأكلون من كسبه، فلما كبر نحروه فأكلوا لحمه! فلما سمع هارون هذا الكلام قال: ندخل فعسى أن يقبل المال. فلما علم الفضيل خرج فجلس في السطح على باب الغرفة، فجاء هارون فجلس إلى جنبه فجعل يكلمه فلا يجيبه، فبينا نحن كذلك إذ خرجت جارية سوداء فقالت: يا هذا قد آذيت الشيخ منذ الليلة فانصرف! فانصرفنا.

 

 

في المثقف اليوم