دراسات وبحوث

الجاحظ: فيلسوف الإنسان والحياة

ميثم الجنابيفي شخصية الجاحظ يمكننا رؤية وحدة الظاهر "القبيح" والباطن "الجميل"، على الأقل بمعايير الحس المباشر. غير أن حقيقة الشخصية الكبرى تتراكم وراء الظاهر والباطن، بوصفها كينونة عقلية وروحية فاعلة. وهي الصفة التي جسدها الجاحظ في مفارقات ظاهره وباطنه وحياته وموته، كما لو انه الصدى الجميل لأنغام الثقافة العربية الإسلامية في أحلى وأحلك وجودها الفعلي وتاريخها الذاتي. فالثقافة حياة، ومن ثم تحتوي على كل مفارقات وتذبذب وجودها الواقعي في حياة الأفراد والجماعات والأمة.

إن اختلاف الآراء في تقييم شخصيته كانت وما تزال تتحدد بحدود القيم والآراء والقواعد المتحزبة، المذهبية منها والعقائدية. وقد كانت تلك سمة العصر. كما تعبّر في الوقت نفسه عن حالة الثقافة في مراحل ازدهارها وانفتاحها أو مراحل انحطاطها وانغلاقها. وأيا كانت المحددات، فإن شخصية الجاحظ المعتزلية الكبرى، وفلسفته النقدية، وروح الإبداع الحر، ونزعته الإنسانية العميقة، قد جعلته هدفا للتجريم والتجريح، التي يمكن رؤية احد امثلتها النموذجية في ما كتبه عبد القاهر البغدادي عنه. فقد انطلق البغدادي في تقييمه إياه من "أن الناس مجرد اغتروا بحسن بيانه". بينما كل ما كتبه هي أشياء بلا معنى. وفيما لو عرف الناس "جهالاته وضلالاته لاستغفروا الله من تسميتهم إياه إنسانا، فضلا عن أن ينسبوا إليه إحسانا"1 . بل جرى الطعن حتى في شخصه وأصله وهويته. فعندما افتخر الكعبي بالجاحظ، بوصفه كناني الأصل، رد عليه البغدادي بأنه لو كان الأمر كذلك فَلِمَ يا ترى نراه يصنف كتابا في مفاخر القحطانية على الكنانية وسائر العدنانية؟ وإن كان عربيا فلماذا صنّف كتاب (فضائل الموالي على العرب)؟2 .

بل واندفع لاحقا صوب تصوير مؤلفات الجاحظ بأوصاف اقل ما قال فيها هو جهلها المعرفي وسخافتها العقلية. من هنا هجومه العنيف على عناوين كتبه مثل (كتاب اللصوص) "الذي علّم فيه الفَسَقة وجوه السرقة"، وكتاب (غش الصناعات) الذي "افسد على التجار سلعهم". و(كتاب النواميس) الذي جعل منه "ذريعة للمحتالين يجلبون بها ودائع الناس وأموالهم"، و(كتاب الفتيا) "المشحون بطعن استاذه النظّام على الصحابة"، وكتب (الكلاب والقحاب) و(حيل المكدين)، التي وجد فيها البغدادي عناوين "لائقة به وبصفته وبأسرته". و(كتاب طبائع الحيوان) الذي "سلخه من كتاب ارسطو والمدائني" (من حكم العرب).. كما ملئ كتبه، كما يقول البغدادي، بالغث مثل مناظرة (الكلب والديك)3. واختتم كل هذه المواقف بما اسماه بقول أهل السنّة فيه شعرا:

لو يُمْسَخُ الخنزير مسخا ثانيا   ما كان إلا دون قبح الجاحظ

رجل ينوب عن الجحيم بنفسه  وهو القذى في كل طرف لاحظ

لم تكن أحكام البغدادي هذه وغيرها سوى احد النماذج الكلاسيكية للمذهبية المتشددة والسلفية الحنبلية والجمود العقلي والحشوية التقليدية في تاريخ الأفكار والثقافة الإسلامية. من هنا حشوه بالتجريح والاتهام. بل انه لم يفهم حتى مضمون عناوين مؤلفاته اضافة الى تشويه البعض منها كما في كتابه لعناوين كتبه (القيان) و(الحيوان) تحت عنوان (الكلاب والقحاب)! وأقل ما يمكن قوله في هذا النمط من الاستعراض هو دناءة النفس وخفة العقل وانعدام الضمير العلمي. وينطبق هذا أيضا على عرض مضمونها الذي يخالف بصورة مطلقة مع ما أراد منه الجاحظ. فهو لم يقصد من وراء (كتاب اللصوص) تعليم اللصوصية، ولا من كتاب (غش الصناعات) تعليم الناس على الغش، ولا من كتاب (النواميس) عقلنة السرقة الدقيقة، بل على العكس تماما. انه أراد الكشف عن إرادة الإنسان القابلة لمختلف أصناف الفضيلة والرذيلة. ومن ثم تنوير عقول العوام مما في أساليب اللصوصية والغش لكي يجري الاحتياط منها. كما إن (كتاب النواميس) هو احد النماذج التي تتعامل مع ضرورة الحذر وتحذير الناس مما ندعوه اليوم بالبنوك الهرمية والوهمية. اما كتب (الكلاب والقحاب) حسب عبارة البغدادي فهي احد أعظم النماذج الحية للفكرة العقلية الفلسفية وحرية الروح الإنساني، التي سأتناولها في مقالات لاحقة. الأمر الذي يعكس عن سماع البغدادي عن هذه الكتب وعدم قراءتها.

لم يفهم البغدادي وأمثاله معنى وحقيقة الجاحظ. فالبيان الجاحظي هو بيان الثقافة العربية الإسلامية. وإن كل ما كتبه يمتلك معاني متعددة ومتنوعة محكومة بفكرة الإرادة الحرة والنزعة الإنسانية والعقلية. وبالتالي، فإن كل ما اسماه البغدادي بالجهالات والضلالات ليست هي في الواقع سوى أحدى ذرى الحكمة التاريخية والحقيقة المعنوية والرد النقدي على جمود وتحلل الرؤية العقلية والإنسانية في شخصية البغدادي وما يمثله من تيار سائد في مجرى انحطاط الخلافة، والذي تحنَّط بهيئة قواعد عقائدية جازمة امتصت كل نماذج ومستويات الاستبداد والفكرة العبودية. والشيء نفسه ينطبق على مواقفه من أصله وموقفه من تفضيل الموالي على العرب. بمعنى إن البغدادي وكثير أمثاله مما يسمى بأهل السنّة والجماعة، ينبع من عدم استطاعتهم إدراك المعنى الحقيقي الكامن في ما كتبه الجاحظ ومضمونه الفلسفي، ومن ثم غايته النظرية والعملية.

أما موقف الجاحظ من تمايز وتفاخر العرب بينهم فهو تعبير عن موقفه المتسامي عن ترهات الانتماء العرقي والقبلي. فتفضيل آخرين على قومه هو التعبير النموذجي عن هذا الموقف. أما تفضيل الموالي على العرب، فهي مجرد لحظة في فكره الاجتماعي والسياسي الأخلاقي والفلسفي أيضا. فهو لا يعطي لها طابعا مطلقا، لذلك نراه يفضل السودان والأتراك وكثير غيرهم ليس بأثر فضائلهم المطلقة، بقدر ما انه أراد رد الاهانة المتنوعة تجاه الأقوام والأمم، أيا كان مصدرها ومبعثها، انطلاقا من رؤيته الإنسانية المتسامية. وبالتالي الدفاع عن الجميع بمعايير الرؤية العقلانية والنزعة الإنسانية. وهي فكرة تستجيب لحقيقة الرؤية الثقافية الإسلامية. وكذلك النظر إلى العرب بوصفهم أمة ثقافية كبرى. فالموالي بالنسبة له ليست أقواما غريبة بل هي الجزء الثقافي للكينونة العربية التي تراكمت في مجرى الخلافة وتطورها التاريخي. وقد أصاب ابو محمد الزبيدي الأندلسي (ت- 379) اللغوي الكبير، عندما قال "رضيت في الجنة بكتب الجاحظ عوضا عن نعيمها"4. وهو وصف يكفي لحاله دون الاتيان بعشرات أو مئات من العبارات، التي ترفع شخصية وحقيقة الجاحظ إلى مصاف الذروة الكبرى في تاريخ الثقافة العربية الاسلامية بشكل عام والاعتزال بشكل خاص.

وهي ذروة وجدت تعبيرها في تعمير الروح العقلي والإنساني في فلسفة الجاحظ. فهو لم يترك مظهرا من مظاهر الإنسان، وتجليا من تجليات الروح الإنساني دون أن يتناوله بما يتناسب ويستجيب لموقفه منهما. من هنا تنوع المواقف ما بين التأسيس والشرح والتبيان والتحقيق والنقد. وفي هذا التنوع تنعكس فلسفة الوحدة الداخلية للجاحظ بوصفها فلسفة الإنسان والحياة. وليس مصادفة أن تحتل اللغة وبيانها اهتمامه الجوهري. فمن خلالها حاول اكتشاف طبيعة الأشياء وطبائع الوجود، والتغلغل في أعمق أعماقها من اجل إبراز حقيقتها بوصفها حالة أو امرا يستحق الاهتمام والدفاع عنه. من هنا الاجماع الفكري والثقافي على كونه احد أعمدة البلاغة والبيان العربي. الأمر الذي اعطى لها عنده بعدا عربيا ثقافيا نعثر عليه في موقفه من العربية التي اعتبرها من بين اشرف اللغات، ومن الشعوبية بردّها الى حدودها، والدفاع عن الاقوام جميعا بمعايير العربية الثقافية. ومن خلال هذه العلاقة وفي مجراها المعقدة والمتذبذب تراكمت العلاقة الصميمية بين العرب والبيان. بحيث أصبحت البلاغة وتهذيب اللغة الصفة الجوهرية للعرب بالمعنى الثقافي.

لكن بلاغة الجاحظ هي ليست بلاغة اللسان، بل وبلاغة الإنسان. ولا خلاف بينهما. فبلاغة الإنسان هي الإنسان نفسه. من هنا تأسيسه للفكرة الجوهرية المتعلقة باللسان بوصفه أداة الوجود الإنساني وحقيقته. ونعثر على ذلك في موقفه من اللسان كما صاغه في عبارات دقيقة وعميقة وأخاذة من حيث التأسيس والتدقيق والمعنى تقول، بأن اللسان "هو أداة يظهر بها البيان، وشاهد يعبر عن الضمير، وحاكم يفصل الخطاب، وشافع تدرك به الحاجة، وواعظ ينهي عن القبيح، ومعزِّ يرد الأحزان، ومعتذر يرفع الضغينة، وزارع يحرث المودة ويستأصل العداوة، وشاكر يستوجب المزيد، ومادح يستحق الألفة، ومؤنس يذهب الوحشة". وهو تحديد يكفي بحد ذاته لأن تكون كتابات الجاحظ هي عين النعيم بالنسبة للثقافة الحية!

*** 

ا. د. ميثم الجنابي

......................

1- عبد القاهر البغدادي: الفرق بين الفرق، ص129.

2- عبد القاهر البغدادي: الفرق بين الفرق، ص130-131.

3- عبد القاهر البغدادي: الفرق بين الفرق، ص131.

4- السيوطي: طبقات النحاة، ص283.

 

في المثقف اليوم