دراسات وبحوث

الجاحظ: النقد العقلي للدين والأديان

ميثم الجنابيإن نقد الدين والأديان في الاطار العام، وعلى امتداد التاريخ الثقافي للأمم، هو جزء من صيرورة الروح العقلي والنزعة الإنسانية ووهج الحرية الفعلية. فنقد الدين يبحث في الأغلب عن صيغة عقلية لفهم النفس والواقع، بينما نقد الأديان هو الصيغة التاريخية الثقافية لنزوع الفكر الحر في تأمل إشكاليات الوجود كما هي، إضافة إلى خوض المعارك الفكرية في مواجهة الخلل الواقعي أو المحتمل أو المختلق، بوصفها أجزاء من تاريخ الثقافة.

فارتقاء الدين إلى مصاف المقدس هو النتاج الذي يلازم انتصاره وتحوله إلى عقيدة شاملة للروح والجسد، وأيديولوجية "متسامية" للدولة. وما عدا ذلك أو قبله هو مجرد أساطير وحكايات وخرافات وأحكام واقعية وقيم أخلاقية تناسب تاريخها الذاتي. وبالتالي، فإن لنقد الدين منطقه الذاتي في الفكرة المنطقية العلمية نفسها، بينما يتمثل نقد الأديان الحالة التاريخية الثقافية. بمعنى، إن لكل مرحلة تاريخية ثقافية خصوصيتها في نقد الدين والأديان. لكنها بمجموعها تمثل وتتمثل مسار العقل النقدي بشكل عام والنظري منه بشكل خاص. وهو امر جلي حالما نتأمل هذه الظاهرة على مثال تاريخ الثقافات والإمبراطوريات والحضارات الكبرى، سواء ما يتعلق منها بالمرحلة الثقافية – الدينية أو المرحلة الدينية - السياسية في المسار التاريخي للأمم.

واكتفي هنا بتناول هذه الظاهرة ضمن مسار المرحلة الدينية - السياسية، أي تلك التي تتبلور فيها العقائد الدينية بهيئة مرجعيات ثقافية كبرى وفعالة في كل مسام الوجود الفردي والاجتماعي، وكذلك في تراكم التجارب الثقافية للأمة والدولة. الأمر الذي حدد بالضرورة طبيعة وأبعاد وأساليب وأدوات وصيغ النقد الفكري للدين والأديان. إذ عادة ما يتحول نقد الدين في هذه المرحلة (التي عاش فيها الجاحظ وأبدع نتاجه الفكري) إلى جزء من المعترك الأيديولوجي والعقائدي للفِرَق. بمعنى انه يتخذ في الأغلب صيغة الاتهام العقائدي والسياسي. من هنا هيمنة مفاهيم الكافر والملحد والمشرك والمعطل والمنافق والفاسق وكثير غيرها.

لهذا اتخذ نقد الدين بالمعنى الدقيق للكلمة منظوماته وأساليبه ومفاهيمه وقيمه ومواقفه الخاصة في عالم الإسلام[1]. بمعنى إن له تقاليده الخاصة. لقد سار ضمن سياق نقد الدين المزيف بمختلف أشكاله ومستوياته، بما في ذلك في تلك الحالات التي يجري اتهام الخصوم بالإلحاد وما شابه ذلك. فهي اتهامات عقائدية أكثر مما هي نقد لنقد الدين الواقعي. وهي الصفة التي ميزت في عالم الإسلام ثقافة وعقائد ومواقف ما يسمى بتيار "اهل السنّة الجماعة"، أي ذلك التيار الذي تشبع منذ البداية بتأييد الخروج الفعلي على الإسلام المحمدي كما وجد تعبير الأولي شبه التام في التيار الأموي (القرشي- المرواني). فهو صاحب ومنتج الفكرة الجبرية والحشوية بمعناهما العقائدي الديني والسياسي. بل ووجد ذلك تعبيره حتى في مناهج الموسوعات الدينية والفلسفية (علم المِلَل والنِّحل)[2]. فإذا كانت مهمة هذا الفن العلمي تقوم في استعراض وتحليل وتنظيم الأفكار والمبادئ الكبرى العامة والخاصة للفِرق الدينية والمدارس الفلسفية، فإن التيار "السنّي" ظل "أمينا" للتحجر الفكري والعقائدي ضمن تقاليد الاتهام والتجريم والتحريم، كما نراها على سبيل المثال عند عبد القاهر البغدادي بشكل تام وجزئيا عند ابن حزم الأندلسي. مع إن الخلاف بينهما يبقى كبيرا. بفعل عقائدية الأول وفلسفية الثاني.

وعموما يمكننا الحديث في الاطار العام عن ثلاثة مواقف من الدين والنقد الديني، كما تبلورت في الثقافة الإسلامية. الأول وهو المبني على أساس التقييم الديني واللاهوتي العقائدي، والثاني المبني على أساس الفكر الحر، والثالث هو ذاك الذي بنى مواقفه وتقييمه على اساس التجارب الروحية المتسامية (التصوف). وكانت التيارات السلفية والعقائدية الجازمة هي من يمثل النمط الاول. بينما كان المعتزلة الممثل الأكبر والأعمق والأكثر تجانسا للموقف الثاني. وليس مصادفة أن يتعرضوا على امتداد التاريخ الإسلامي، باستثناء مرحلة الازدهار الأكبر للحضارة الإسلامية بتأييد السلطة واحتضانهما المتبادل زمن المأمون وخلفاءه القلة. الأمر الذي يفسر أسباب تعرضهم الدائم لاتهامات السلفيات المتنوعة ووضعهم ضمن قائمة الكفر!

بينما كان جوهر هذه القضية في الواقع، ومن حيث مقدماتها ونتائجها وسريانها في الثقافة الإسلامية نتاج الموقف من إشكالية العقل والإيمان، أو العقل والنقل، أو الفلسفة والدين (الشريعة). وإذا كان نمط العلاقة بين الفلسفة والشريعة أو الفلسفة والدين أكثر تلازما مع الفكر الفلسفي الإسلامي الكلاسيكي، فإن جميع مظاهر هذه الإشكالية كانت تلازم أيضا الفكرة المعتزلية. وهو امر لم يكن معزولا عن دورهم الأولي والتاريخي السبّاق لمن غيرهم في دمج الفكر الفلسفي وتقاليده المنطقية والعلمية في مبدأ العقل وأهميته الكبرى بالنسبة لإدراك الوجود والعمل ضمن سياقه. والسبب يقوم في أن كل ذلك كان جزءا من تقاليد علم الكلام والعلوم الإسلامية ككل. من هنا الدور التاريخي الفعال للمعتزلة في بلورة المعنى العقلي والنزوع العقلاني للثقافة الإسلامية. ومن ثم تحولها إلى ممثلة الفكر الحر وحاملة الفكرة العقلية الحرة.

أما الاتهام العام من جانب التيارات غير العقلانية والسلفية المتحجرة والمختبئة في قاع التقليد، فإنها عادة ما تنظر إلى اغلب ما كتبه الجاحظ على انه "خروجا" على الإسلام وانتهاكا لحرمته ونفيا لما فيه. وهو كلام سليم حالما يجرى وضعه ضمن سياقه السليم. بمعنى انه يخرج على ما هو مألوف من محرمات الرؤية المتحجرة بقواعد العقائد السلفية. لكننا حالما ننظر إلى ما في مؤلفاته من مفاهيم وقيم بمعايير الرؤية الثقافية وتطورها الدرامي أيضا، فإنها تتجلى بوصفها شكلا من أشكال حرية الفكر والفكر الحر والعقلانية الباحثة عن يقين ما وراء ومن خلال الشكوك والنقد المتفحص لكل ما هو مزيف. من هنا يمكن فهم مضمون الانتقاد والهجوم العلني والمستتر الذي اشار إليه ابن قتيبة في (مختلف الحديث) عن أن الجاحظ عادة ما يقصد بكتبه "للمضاحيك والعبث". وهي الصيغة التي تكشف عن انه لا يفهم ولا يتذوق معنى النقد الساخر.

فالجاحظ هو الشخصية الأدبية الأولى الكبرى في تاريخ الثقافة الإسلامية التي أرست أسس النقد العلني والمستتر والساخر تجاه كل معالم العيب العقلي والجهل المعرفي وخزعبلات التدين المزيف والتقليد والحشوية. وينطبق هذا على ما يسمى باستهزائه بالأحاديث النبوية ما "لا تخفي على اهل العلم" مثل تفسيره سبب كون حجر الكعبة أسودا، انطلاقا من انه كان في بادئ الأمر أبيضا فسوّده المشركون، وكان يجب أن يبيّضه المسلمون حين أسلموا. بل واعتبروه "من أكذب الأمة" و"أوضعهم للحديث" و"أنصرهم للباطل". بينما في حقيقته هو من اكثر الشخصيات الفكرية الإسلامية الكبرى ائتمانا وصدقا للحق والحقيقة، وأكثرهم اهتماما بإشكاليات العقل وليس كل ما كان يحيط بالحديث من سفاهة وخرافة. وغير معروف عن أي باطل يجري الحديث؟ وعموما إن كل هذه الانتقادات ليست إلا اتهامات لأنها ليست مبنية على وقائع لا تقبل الشك، ولا على حقائق مبرهن عليها.

ومع ذلك فإن للجاحظ موقعه ورؤيته الخاصة في نقد الدين والأديان. وقد حقق في مواقفه بهذا الصدد مضمون الفكرة المعتزلية وجوهرية العقل في التعامل مع كل إشكاليات الفكر والوجود. وفقد كان مضمون وأسلوب فكرته بهذا الصدد يقوم في توليفه الأدبي للرؤية والمواقف المنطقية والنقدية واستكماله بتحقيق مهمات التنوير العقلي للفرد والجماعة والأمة. من هنا حصره لنقد الدين والاديان ضمن قضايا نقد مظاهر وأشكال الغلو الديني، والانغلاق العقائدي، والتحجر المعرفي، والارتزاق السياسي. بمعنى انه لم يواجه بالنقد مضمون الدين كما هو او كما فهمه هو، بل وجّه نقد صوب الاديان ومظاهرها الواقعية في العقائد والمعارف والسلوك والقيم.

فقد وضع موقفه النقدي من النصارى والنصرانية، واليهود واليهودية ضمن سياق الموقف الأيديولوجي والوجداني والأخلاقي والمعرفي. ومن ثم حرره من قيود وترهات المواقف الدينية الصرف واللاهوتية. لهذا نراه يستهلّ موقفه في الرد على آراء وأحكام النصارى من الإسلام والمسلمين من تحليل مقدمات، ومن ثم خصوصية العلاقة بين النصارى والمسلمين. انه يبدأ بتحليل العلاقة بينهما. ويعتبرها علاقة حميمة، اضافة الى ما فيها من حب المسلمين للنصارى على خلاف موقفهم من اليهود. وأن لهذا الحب مقدماته التاريخية والاجتماعية. ومن شأن الناس حب من اصطنع لها خيرا، كما يقول الجاحظ. ويقصد هو بذلك العلاقة التاريخية للعرب المسلمين الأوائل (المهاجرين) بنصارى الحبشة[3]. اضافة لذلك، جاء الإسلام وملوك العرب نصارى من غساسنة ومناذرة وكذلك في نجران. كما كان العرب قبل الإسلام يتعاملون في تجارتهم مع الشام والجنوب، وكلاهما نصارى وليس مع كسرى، كما يقول الجاحظ. كما أن النصرانية كانت منتشرة بين العرب وعليها غالبة، باستثناء مضر. فلم تغلب عليها لا اليهودية ولا المجوسية ولا النصرانية، باستثناء من كان يقال لهم العبّاد، أي أولئك الذين نزلوا الحيرة، كما يقول الجاحظ. الأمر الذي حدد طبيعة العلاقة الطيبة بالنصارى. وهذه بدورها نتاج وأثر القرابة أيضا. وأخير، انه كان بين النصارى العرب الكثير من المتكلمين والأطباء والحكماء والعقلاء، أو كما يقول الجاحظ. وبغض النظر عن انكماش النصارى إلا أن التزاوج مع المسلمين كان كبيرا، على عكس اليهود"، الذي أدى بهم الانغلاق على النفس، إلى ضعف عقولهم وأرواحهم. وهي "حالة نلاحظها في الخيل والإبل والحيوان ككل"، كما يقول الجاحظ[4]. إضافة لذلك، إن النصارى مع مرور الزمن اصبحوا كالمسلمين من حيث الملبس ونمط الحياة بل والأسماء والألقاب. إذ اخذت تنتشر بينهم اسماء الحسن والحسين والعباس، باستثناء محمد.

وطبق الموقف نفسه تجاه اليهود واليهودية. إذ لم تستطع اليهودية، على عكس او خلاف النصرانية، من الانتشار إلا في اليمن بين حمير ويثرب. إضافة لذلك انطلق الجاحظ هنا من الفكرة العامة بأن اليهود كانت تعيش مع العرب في الجزيرة. وعداوة الجيران اشبه بعداوة الأقارب في شدة التمكن وثبات الحقد. وإنما يعادي الانسان من يعرف... وعلى قدر الحب والقرب يكون البغض والبعد. من هنا بغض اليهود للعرب بعد ملاحظة قوتهم الجديدة بفضل الإسلام، كما يستنج الجاحظ.، على خلاف ما كان عليه الحال بالنسبة للنصارى.

لقد شكلت هذه الرؤية الاجتماعية التاريخية الثقافية عن الدين (النصرانية واليهودية) والأديان (النصارى واليهود) المقدمة النظرية لموقف من القضايا الفكرية والإيمانية الدينية التي شغلت حيزا من الجدل الفكري العارم آنذاك في مختلف ميادين الثقافة الإسلامية.

وقد انصب نقد الجاحظ للنصارى حول ما اسماه عدم فهمهم لمضمون الآيات القرآنية بمعايير الرؤية الاسلامية، وليس بمعايير ما هو متفق عليه أو سائد في الاعتقادات الدينية للنصارى. من هنا موقفه مما اسماه بالرؤية الوحيدة الجانب للنصارى في فهم مضمون الآيات القرآنية (المتعلقة بالنصارى والنصرانية، ولاحقا باليهود واليهودية)، وكيف "انهم بتبعون التناقض في احاديثنا، والضعيف بالإسناد من رواياتنا، ثم يخلون بالضعفاء"[5]. فالآية القرآنية القائلة:"لتجدن اشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين اشركوا، ولتجد أقربهم مودة للذين آمنوا، الذين قالوا إنا نصارى". لا تقد ما يفهم النصارى اليوم. إذ لم يقصد القرآن،كما يقول الجاحظ، بذلك هؤلاء النصارى ولا اشباههم من الملكانية واليعقوبية، وإنما كان يعني بهم نماذج الرهبان الخلص[6]. والشيئ نفسه ينطبق على موقفهم من الآية القائلة "قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله؟". بينما النصارى تقول، بأنهم لم يدينوا قط بأن مريم إله في سرّهم، ولا ادعوا ذلك قط في علانيتهم. والقرآن يتحدث عن تكلم عيسى بالمهد. بينما تقول النصارى، بأنهم جميعا ومختلف فرقهم لم يقل احد بذلك وينطبق هذا على ما ورد في القرآن من قوله بقول اليهود، بأن عزير ابن الله، ويد الله مغلولة، والله فقير وهم الاغنياء.

لقد وجد في اعتراضات النصارى اليهود على الآيات المتعلقة ببعض جوانب العقائد والمفاهيم اشياء لا علاقة صميمية لها بمضمون الآيات القرآنية. انطلاقا من أن القرآن يتناول هذه القضايا ضمن وحيه الذاتي وليس ضمن ما استتب في عرف الأديان الأخرى، بما في ذلك عن نفسها. وذلك لاختلاف النصارى واليهود إلى فِرق وشيع عديدة لكل منها "كتابها المقدس" وامتلاءها بالاختلافات الجلية والمستترة.

كل ذلك يوصلنا الى استنتاج يقوم في مساعي الجاحظ  للخروح من "مأزق" الصراع الفكري الديني استنادا إلى فكرة تأويل اللغة العربية. انه وضع القضية بالشكل التالي: انكم تسألوننا عن ديننا ونحن نجيب بما نحن أولى وأعرف به منكم. فالمقصود، على سبيل المثال، بالنفخ والروح هو ليس ما يقصده النصارى. فالروح والقدس يقصد فيه ايضا جبريل. الى جانب عيسى وآدم. كما سمي القرآن روحا (كذلك اوحينا اليك روحا من أمرنا) و(نزل الملائكة والروح فيها). فالنفخ من وجوه والروح من وجوه. منها ما اضافه إلى نفسه ومنها ما لم يضفه إلى نفسه. إنما يكون ذلك على قدر ما عظم من الأمور"[7].

وبالمقابل واجه الجاحظ بعض المفاهيم بالاستفسار والاستهجان، انطلاقا من مخالفتها للعقل والطبيعة والفطرة. بمعنى انه يضع اسئلته ويبلورها ضمن سياق الفكرة النقدية العقلية وليس الدينية. ومن بين الاسئلة التي وجها بهذا الصدد هو هل إن المسيح انسان بلا الوهية فيه؟ او انه إلها بلا انسان؟ او أن يكون إلها وإنسانا؟ فإن قالوا كان إلها بلا انسان قلنا لهم، ولكن اليس هو من كان صغيرا فشّب والتحى واخذ يأكل ويشرب وينجو ويبول وقتل بزعمكم؟ وإلا فما هو الانسان يا ترى غير مما جرت الاشارة اليه؟ ثم كيف يمكن أن يكون إلها بلا انسان وهو الموصوف بجميع صفات الإنسان؟ واستكمل ذلك بسؤال منطقي يقول، بأنه في حال زعم النصارى، بأنه لم ينقلب عن الإنسانية ولم يتحول عن جوهر البشرية، ولكن لمّا كان اللاهوت فيه لهذا صار قوة خالقة. من هنا اطلاق لفظة الإله عليه. عندها يظهر السؤال التالي المتعلق بماهية هذا اللاهوت. أكان فيه وفي غيره أم كان فيه دون غيره؟ فإن كان فيه وفي غيره فليس هو أولى بأن يكون خالقا ويسمى إلها من غيره. وإن كان فيه دون غيره فقد صار اللاهوت جسما. كل ذلك يشير إلى إننا نقف أمام استفسارات منطقية وعقلية خالصة لا علاقة بالرؤية العقائدية. بمعنى انه يبعدها عن أن تكون موضوعا للتأمل العقلي. اضافة لذلك، إن المعتقدات النصرانية عن المسيح هي ذاتها محل الخلاف بينهم من جهة، وعدم الاقرار بها من جانب الآخرين جميعا، من جهة أخرى. بمعنى انها لا تحتوي على ابسط مقادير المعقول في الموقف منها. فاليهود لا تعترف بمعجزات المسيح وتعتبرها غشا وخداعا. والمجوس لا تقر لعيسى بشيئ. والزرادشتيين أيضا، والهنود لا تقر لأي نبي بالعجزة. وفي الأناجيل اربعة تتعارض بينها وتختلف. واليهود المتنصرين هم القادة الروحيين للنصارى. وبالتالي فما هي الغرابة الممكنة لوضع كل ما يمكن وضعه وتحريفه[8]. والشيء نفسه يمكن قوله عن فكرة أو عقيدة الأب والابن. وقد أسس هنا الجاحظ موقفه الذي سيكرره لاحقا الفكر الإسلامي النقدي، أو على الأقل انه تغلغل في نسيج وعيه النقدي. وكتب الجاحظ بهذا الصدد يقول، بأنه لو صار عيسى ابنا لله لأنه خلقه من غير ذكر، فآدم وحواء أولى. وإذا كان المقصود رباه، فمن رباه هو حماد ابن موسى وداوود. ورباه بمعنى غذاه ورزقه واطعمه. وهو الشيئ الذي نلحظه عند جميع الناس[9].

غير أن الجاحظ يشير أيضا إلى أن بعض المتكلمين فسح المجال امام قبول هذه الصيغة المعنوية، انطلاقا من أن "ليس في القياس فرق بين اتخاذ الولد على التبني والتربية وبين اتخاذ الخليل على الولاية، أي لا على جهة الولادة واتخاذ المصاحبة. من هنا تجويز قول إن الله يقول "اسرائيل بكري"، و"اسرائيل بكري وبنوه أولادي". وإن الله قال لداوود سيولد لك غلام يسمى لي ابنا وأسمى له أبا. وفي الإنجيل نعثر على صيغة مماثلة: "أني أذهب إلى أبي وأبيكم، وإلهي وإلهكم"[10]. وهو تخريج لا يعارض الجاحظ بمعايير اللغة والتأويل الغوي. من هنا فسحه المجال النسبي لهذا التفسير والتأويل اللغوي، رغم اشارته إلى ما اسماه "بسوء العبارة"، اضافة إلى سوء تأويل اصحاب الكتب وجهلهم مجازات الكلام. لكن هذا التجويز والتخريج يبقى في نهاية المطاف نتاجا للتقليد الأعمى[11]. كما لا يمكن تفسير ذلك على اساس المصلحة و"طبائع الأمم". لقد وجد الجاحظ في هذا التجويز و"الاجتهاد" اللغوي الفارغ مجرد جهل عظيم. لأنه لو جاز أن يكون ابا ليعقوب لجاز أن يكون جدا ليوسف. رغم إن ذلك لا يحطّ من قدر الإنسان وارتباطه النسبي بالله. إلا انه يؤدي في حق الله إلى فضائع وحماقات لا تحصى، كما يقول الجاحظ[12]. إن هذه الأشياء ممكنة بحق من لا يعرف قدر الله وقدر الإنسان. إذ ليس من الحكمة أن تحسن إلى عبدك بأن تسئ إلى نفسك. ولا يعرف حقيقة الله وهيبته من يجوّز عليه صفات البشر[13].

تكشف هذه الحصيلة عن أن الجاحظ يتناول نقد الدين هنا ضمن سياق تحقيق الفكرة المعتزلية النافية للتشبيه، والحشو، والفهم الحرفي للنصوص، وغياب العقل، وهيمنة التقليد. وهذه جميعا مرتبطة بالعقيدة المعتزلية عن الذات والصفات، وفكرة التنزيه وضرورة التأويل بما يتوافق مع المنطق العقلي. بل وتوسع الجاحظ في رؤيته النقدية بالشكل الذي دفعها صوب تأسيس النقد المبني على اسس اجتماعية وسياسية واقتصادية وأخلاقية وحياتية عادية، أي ليست عقائدية إيمانية. من هنا ادراجه حتى الملاحظات الحياتية العادية مثل الموقف من الخصا. وبالأخص بين الروم وأهل الحبشة. إذ يفعلون ذلك بأطفال لا ذنب لهم. ولو طبقت ممارستهم هذه على الجميع لأنقطع النسل وذهب الدين وفني الناس، كما يقول الجاحظ. كما أن النصراني وإن كان انظف ثوبا وأحسن صناعة، فإن باطنه اقذر، لأنه اغلف ولا يغتسل من الجنابة[14].

لكن المضمون الأعمق للفكرة النقدية تجاه الدين والأديان (النصرانية واليهودية) يقوم في ابراز الطابع غير العقلي ومنهج التقليد الأعمى المميز لكليهما. ففيما يخص النصرانية، فإن آرائهم متضاربة في المسيح. وأفضع ما فيها قولهم في الوهية المسيح. لهذا اعتبر من الصعب عقل حقيقة النصرانية، بمعنى قبولها بمعايير العقل والمنطق. كما أن اتباعهم يتميزون بالتقليد والتبعية للأسلاف بصورة حرفية. وأخيرا، إنهم يقولون بالتشبيه والتجسيم كاليهود والرافضة من المشبهة والحشوية النابتة. والاستثناء النسبي هنا هو لبعض من ينتمي للمعارضة من بين علماء الدين واللاهوت والفلسفة.

ووسع هذه الفكرة النقدية عندما شدد على أن العوام منهم فيما لو علموا حقيقتهم لأدركوا بأنه ليس عندهم حكمة ولا بيان ولا بعد روية غير حكمة الكف والنجم والتصوير وحياكة اليزبون (السندس). بمعنى خلوهم الفعلي من حدود الأدباء وديوان الفلاسفة والحكماء، كما يقول الجاحظ. وكل ما عندهم من كتب المنطق والكون والفساد وغيرها فهي لارسطو، وهو غير رومي ولا نصراني. وكذلك الحال بالنسبة لكتاب المجسطي لبطليموس، وكتاب الطب لجالينوس، وكتب ديمقراط وبقراط وافلاطون. فجميع هؤلاء يونانيون وليس على دين النصارى. وأدبهم غير أدبهم، اليونان علماء والرومان صناع. اما قول النصارى آنذاك، بأن فلاسفة الإسلام هم اتباع في الفلسفة للروم، وأنهم احتذوا على مثالهم، فهو حكم لا نصيب له من الصحة. فقد اخذ الروم بفعل القرب والجوار انجازات الفكر اليوناني، مع تشويهه. وينطبق هذا على زعمهم ، بأن اليونان قبيلة من الروم. ليس ذلك فحسب، بل واعتبر نصارى زمنه ضعيفي العقول، من هنا وقوع الكثير منهم في الزنذقة. وهذا شأن كل من "نظر في الأمور الغامضة بالعقول الضعيفة"[15]. وهو حكم نقدي اجتماعي ثقافي تاريخي خاص. وبالأخص حالما نراه يشدد على أن اكثر من قتل بسبب اتهامه بالزندقة في الإسلام هم "مسلمون من أمهات أو آباء نصارى". وهذه ملاحظة دقيقة للغاية وضعها الجاحظ بهذا الصدد. بمعنى، إن صفة الخروج على منطق الاعتدال هو نتاج "العقول الضعيفة" وبقاء نفسية وذهنية الأقلية. وقد لاحظ الجاحظ هذه الظاهرة على مثال تحول اليهود إلى نصارى، الأمر الذي اشبعها بالإسرائيليات والغلو. تمام كما أن الثقافة الإسلامية قد عانت جزئيا من ثقل الإسرائيليات بسبب اعتناق بعض اليهود الأوائل للإسلام وتحولهم إلى صحابة وتابعين. لكن هذه الظاهرة لم يكن بإمكانها أن تعلب دورا مهما بالنسبة للرؤية الإسلامية ومعتقداتها ومبادئها.

أما موقفه النقدي تجاه اليهود واليهودية فقد حصره بإشكالية العقل والمعرفة. بمعنى، أن موقفه النقدي من اليهود واليهودية كان مبنيا على أسس معرفية، حصرها في ما اسماه بشدة التقليد وضيق الأفق المميز للرؤية اليهودية. فقد اعتبر معارضة العلم والمعرفة من خاصية اليهود والديانة اليهودية.  وذلك لأنهم، كما يقول الجاحظ، يرون النظر في الفلسفة كفرا، والكلام في الدين بدعة. وانه لا علم إلا ما كان موجودا في التوراة وكتب النبياء. من هنا نقده المبطن أو غير المباشر لما هو منتشر وسائد بين العوام عن اليهود واليهودية. فإذا كان الكثير من النصارى كتابا للسلاطين، والملوك، وأطباء اشراف وعطارين، فإنك لا تجد اليهودي إلا صباغا أو دباغا أو حجاما أو قصابا. فلما رأت العوام اليهود كذلك "توهمت إن دين اليهود في الأديان كصناعتهم في الصناعات، وأن كفرهم اقذر الكفر إذ كانوا هم اقذر الأمم". بعبارة اخرى، لقد اخرج الجاحظ الفكرة النقدية تجاه الاديان من الانطباعات الساذجة، ايا كان مصدرها وشكلها ومستواها، عبر ارجاعها إلى ما هو حقيقي وفعلي. ووجد ذلك فيم اسماه بضيق الأفق المعرفي الثقافي لليهود واليهودية.

وابتدأ، شان موقفه من النصرانية، بتحليل ونقد تصوراتهم عن القرآن وآياته المتعلقة باليهود واليهودية. وتوصل في نهاية المطاف الى استنتاج مفاده، أن اليهود أوتوا من قلة المعرفة بوجوه الكلام ومن سوء الترجمة، مع الحكم بما سبق الى القلوب، بحيث ادى بهم اما الى تشويه الفكرة او عدم فهم مقصودها. فقد ترجموا بعض آيات القرآن مثل (على العرش استوى) و(ناضرة الى ربها ناظرة) بالشكل الذي اخرجها من معانيهما الحقيقية. ولا يعتد بقول وآراء بعض المتكلمين المسلمين من المشبهة والحشوية، التي كانت تسند المواقف اليهودية بهذا الصدد. وهنا يجد الجاحظ فرصة لمهاجمة المشبهة والدفاع عن التأويل العقلاني المعتزلي[16]. بل نراه ينتقد آراء ابراهيم النظّام رغم إقرار الكثير من المعتزلة بتأويله، وبالأخص ما له علاقة بفكرة الخلّة والخليل، التي شهدت قبل ذلك معارك فكرية وجسدية هائلة اهدرت فيها دماء كبيرة زمن الاموية من اجل كبح الرؤية الداعية لتفسيرها بما يتوافق مع العقل والمنطق. فقد نظر إبراهيم النظّام إلى الخليل بمعنى الحبيب (خليل الرحمن مثل حبيبه). لهذا اجاز أن يسمى عبدا له وولدا. فالانسان، كما كان يقول النظّام، لو ربى جروا لا يقال له ولدا. ولكن يسمي نفسه أبا لو ربى ولدا. فإذا كانت نسبة الإنسان أبعد من الله من شبه الجرو بالإنسان، كان الله احق بأن يجعله ولده وينسبه إلى نفسه. بينما رد الجاحظ على ذلك قائلا، بأن الكلب يمكنه أن يكون إلى كلابه خليلا ويدافع عنه. والعبد الصالح أبعد شبها من الله بذلك الكلب الوفي. فالعبد الصالح لا يشبه الله في أي وجه من الوجوه، والكلب قد يشبه كلابه لوجوه كثيرة[17].  ووضع هذه الفكرة في اساس موقفه من مفهوم الخلة. وبالتالي، فإن إبراهيم (النبي) لم يكن خليلا بخلة كانت بينه وبين الله. فكل هذه الأوصاف منفية عن الله. لكنه يجوز أن يكون ابراهيم خليلا بالخلة التي ادخلها الله عليه على نفسه وماله. وذلك لأن إبراهيم اختل في الله اختلالا لم يختله احد قبله، بقذفهم إياه في النار وذبحه ابنه. فالخلة والاختلال بالعربية من جذر واحد.

فقد قال زهير بن ابي سلمى

وأن اتاه خليل يوم مسألة  يقول لا عاجز مالي ولا حرم

لقد كانت هذه المقدمة ضرورية بالنسبة للجاحظ من اجل تذليل تقاليد التقديس العادية. وذلك لأنها مجرد صيغ للتعظيم لا غير مثل قولنا عن الكعبة "بيت الله"، و"أهل الله" والقرآن "كتاب الله" وكذلك قولنا عن البعض "اسد الله" و"سيف الله". وبالتالي، فكليم الله لصفة خاصة (موسى) و(روح الله) لعيسى لصفة خاصة أيضا، أي أن الله خَلق في مريم روح وجسد على غير مجرى العادة. بمعنى إمكانية وجود خصلة أرفع لكل نبي عن آخر. وكذلك جميع الناس. فهناك من يحسن لأمه وأبيه بالبر والإحسان رغم انه احوج وفقير. وهناك من يحسن لأمه وأبيه بالمال والخُلق ولكن بالجهاد[18].

لقد أسس الجاحظ لنمط خاص في نقد الدين والأديان، بناه على قواعد عقلية ومعرفية وثقافية. بمعنى انه خرج من اطار التدليل والبرهنة على أفضلية دين على آخر، والانهماك في جدل البراهين اللاهوتية. فهي بالنسبة له مجرد تقليد أعمى للنصوص وهيبة الأسلاف. بينما يفترض العقل، بوصفه خاصة الانسان الجوهرية، أن يكون بداية ونهاية المواقف النظرية والعملية تجاه كل شيء، بما في ذلك الدين والأديان.

***

ا. د. ميثم الجنابي

......................

[1]  لقد تناولت هذه الجوانب في كتابي (الحضارة الإسلامية: روح الاعتدال اليقين).

[2]  لقد تناولت هذه الجوانب في كتابي (علم المِلَل والنِّحَل. فلسفة المقالات والأحكام في الثقافة الإسلامية)، المركز الأكاديمي للأبحاث (العراق-كندا)، بيروت، 2019.

[3] الجاحظ: الرد على النصارى، ضمن مجموعة ثلاث رسائل للجاحظ،، القاهرة، المطبعة السلفية، 1344 للهجرة، تحقيق ونشر يوشع فنكل، ص13-14.

[4]  الجاحظ: الرد على النصارى،ص18.

[5]  الجاحظ: الرد على النصارى،ص19.

[6]  الجاحظ: الرد على النصارى،ص14.

[7]  الجاحظ: الرد على النصارى،ص37.

[8]  الجاحظ: الرد على النصارى،ص25.

[9]  الجاحظ: الرد على النصارى،ص33.

[10]  الجاحظ: الرد على النصارى،ص25.

[11]  الجاحظ: الرد على النصارى،ص25.

[12]  الجاحظ: الرد على النصارى،ص26.

[13]  الجاحظ: الرد على النصارى،ص26.

[14]  الجاحظ: الرد على النصارى،ص20.

[15]  الجاحظ: الرد على النصارى،ص17.

[16]  الجاحظ: الرد على النصارى،ص29.

[17]  الجاحظ: الرد على النصارى،ص29.

[18] الجاحظ: الرد على النصارى،ص32.

 

 

في المثقف اليوم