دراسات وبحوث

الجاحظ: ثقافة الإرادة الحرة وبلاءها الثقافي

ميثم الجنابي"الإنسان هو إرادة"

(الجاحظ)

لقد توصل ابن سينا في مجرى بحوثه النظرية والعملية إلى صيغة تتناسق فيها معطيات العلم وإمكانيات الخيال بالشكل، الذي يجعلها إحدى أعظم وأعمق الأفكار الفلسفية وأكثرها جرأة في توسيع الخيال وفسح المجال أمام مغامرات العقل الحية. وقد وضعها في بيت شعري يقول، بأن كل ما يصعب البرهنة عليه فمن الممكن رميه في حيز الإمكان. إنها إمكانية الخيال العقلي غير المتناهية، والتي يستحيل بلوغها في ميدان الرؤية وتذوق معاناتها الفردية ومعناها الفعلي دون أن تبلغ الإرادة الإنسانية وعيها الذاتي، أي كل ما يجعلها بداية ونهاية المعنى الحي للوجود الإنساني. وهي الفكرة التي أول من بلورها الجاحظ وجعلها بداية ونهاية التأمل العقلي والعملي عندما وضعها في عبارة وجيزة عميقة غير متناهية المعنى تقول، بأن الانسان هو إرادة.

لقد وضع الجاحظ وحقق مبدأ الإرادة غير المتناهية في إمكاناتها. ووراء كل منها تيارات وشخصيات كبرى بلورت في مجرى تطور الاعتزال والفلسفة الإسلامية القوة الظاهرية والطاقة الخفية وراء سمو الإرادة في مساعيها صوب الكمال. بل، أن المتنبي في احدى قصائده استغرب ألا يسعى المرء للتمام والكمال. وهذه كلها ليست الا التعبير المتنوع عن الحقيقة القائلة، بأن الارادة الحية هي تلك التي يمتزج فيها العقل والخيال والغاية. ونعثر على كل هذه الجوانب في كل ما كتبه الجاحظ بدون استثناء، من علياء الإشكاليات الكبرى للوجود حتى أدق خلجات الضمير، لكي يصنع في نهاية المطاف احد النماذج الرفيعة للنفس الثقافية.

فالإرادة الحرة هي ابتلاء دائم للعقل والضمير الأخلاقي. بينما الجسد الثقافي هو تحقيقها العملي. وقد حقق الجاحظ هذه المعادلة المثمرة في فكرته المرجعية القائلة، بأن الإنسان إرادة. ومن ثم هي حقيقة ما فيه. وقد كانت تلك وما تزال، احدى أعظم الأفكار التي بلورتها المعتزلة بشكل عام والجاحظ بشكل خاص. وما يميز الجاحظ بهذا الصدد هو انه لم يؤسس ويحقق فكرته هذه بمعايير التأمل النظري البحث، بل بمعايير الأدب والتأديب العميق للإرادة العقلية والعملية من خلال توظيف حالتها الفعلية في الواقع والتاريخ. لقد كان يبحث دوما في الواقع عن مواد فكرته وميدان تحقيقها وإمكانياتها اللاحقة. وهو امر نعثر عليه في كل ما كتبه، وبالأخص ما وضعه في كتبه عن البرصان والعرجان والعميان والحولان[1]. إذ حوّل فيها الجسد البشري العادي الى جسد إنساني ثقافي، بوصفه التعبير الرقيق والدقيق والعميق المحتوى عما له صلة بالإرادة الإنسانية بوصفها جوهر ما فيه. وما عداها عوارض. بمعنى إن الجسد البشري هو كمية مادية وعجينة هلامية لا يصنع شكلها النهائي سوى الإرداة، أو ما ادعوه بتحويل الطبيعي إلى ماوراطبيعي. وهو فعل الإرادة العقلية أولا وقبل كل شيء. ففي هذه الصيرورة التي يكشف عنها الجاحظ على مثال الكثير من الشخصيات، تبرز قيمة وجوهرية الإرادة في جعل الجسد البشري جسدا إنسانيا، أي جسدا ثقافيا يتحقق في مختلف ميادين الإبداع. عندها تنحل وتتلاشى وتضمحل كل العاهات والنواقص الجسدية وراء رؤية الهالة الثقافية المتناسقة في الإبداع. فقد كان بشار بن برد اعمى. لكن ابداعه الشعري النقدي، ايا كان الموقف مما في ارائه ومواقفه، قد جعلته "بصيرا" بما يتعامل معه. بل انه يذلل هذا النقص بوصفه فضيلة، عندما قال:

إذا ولــد المولود اعمى وجدته   وجدّك اهدى من بصير وأحولا

عميت حينا والذكاء من العمى   فجئت عجيب الظن للعلم معقلا[2]. 

بينما كان بشر بن المعتمر (ت-210) وهو معلم ابي موسى المردار (ت-226) أبرصا. وكان متكلما رصينا، وشاعرا وراوية. وكان الجاحظ يفضله على أبان بن عبد الحميد (ناقل كليلة ودمنة وكتب المنطق).

لقد سعى الجاحظ هنا لتأسيس الفكرة وليس بتمريرها ضمن سياق المسار العادي للثقافة والتقاليد، التي هي بدورها لم تكن خالية من بلاء الإرداة ومعاناتها. انه سعى هنا ايضا للبحث عن بدائل متسامية. فقد كانت العرب، على سبيل المثال، تطلق كلمة البصير على الأعمى، وعلى مختلف العاهات الظاهرية ما يناقضها في الالفاظ والعبارة وأمثالها. وهي رؤية وموقف يحتويان في اعماقهما على أجّنة الفكرة الإنسانية عن الإرادة. فالاعرابي حالما يفرّ لا يفّر بالجبن من الأعداء، بل يخرج لذلك الفرار معنى ويجعل منه مذهبا، كما يقول الجاحظ[3]. وقدم مثال علىى ذلك في شخصية مالك بن ابي كعب القائل:

اقاتل حتى لا أرى لي مقاتلا     وأنجو إذا عمَّ الجبان من الكرب

أو أن يجري جعل الفرار والإقدام متكافئان في أخلاقه، كما في شعر عمرو ابن معد بكرب

ولقد أمــلأ رجليَّ بها      حذر الموت وأني لفرور

كل ذلك مني خــلقٌ        لكلٍّ أنا في الروّع جدير[4]

فقد كان عباد بن الحصين من المنهزمين يوم ابي فديك (من الخوارج). فكان يصيح في انهزامه "أنا عباد بن الحصين". وعندما سألوه عن ذلك قال: "لكي لا تركبني غمرة"، أي لا يصبح مشهورا، أي انه ترك القتال لا عن جبن بل حتى لا يقتل ضياعا.

لم تكن افكار ومواقف الجاحظ الجزئية هذه سوى بعض النماذج المعبّرة، التي تقف وراءها رؤية منهجية تستمد قوتها من مهمة وضرورة التأمل العقلي العميق والدقيق للمواقف والأحكام، أو ما يمكن دعوته بالمحاسبة الذاتية في الفكر والتفكير. فهي الفلسفة التي تقوم معالمها على الاقرار، بأن هذه المحاسبة رقيقة على الجاهل الغبي وغليظة على المعاند الذكي[5]. وليست هذه اللعبارة الأدبية سوى الصيغة المعبرة عما اسميته بمعاناة الإرادة وابتلاءها في التربية الذاتية والمواقف والأحكام. بحيث جعلته يضع الارادة ما وراء المعجزة المحبوكة بتقاليد الأديان. ففي مجرى حديثه عن الأمراض و"معجزات" الأنبياء السابقين للنبي محمد يشير إلى "أن الله لا يعطي الناس على قدر شهواتهم وامتحانهم وتمنيهم، ولا على سبيل التفكّه. فإذا لم يعطهم ذلك على سبيل التفكّه، فإعطاؤه إياهم على سبيل التعنت أبعد"[6]. لقد أراد الجاحظ القول، بأن لكل معجزة إرادتها، كما أن لكل موقف إرادة. بمعنى إن الإرادة تقف وراء كل موقف وحكم، بغض النظر عن نوعيتها وغايتها. لكنها دوما تلازم كينونة الشخصية القوية واستعدادها للمواجهة والتحدي. وقد اور الجاحظ الحكاية التي تري عن كيفية دفاع عبيد الله بن زياد بن ضبيان في مواجهة عبد الملك بن مروان قائلا:

"أنا والله اشبه بأبي من التمرة بالتمرة، والذباب بالذباب،والغراب بالغراب. ولكن إن شئت اخبرتك بالذي لا يشبه أباه.

من ذلك؟

الذي لم تنضجه الأرحام، ولم يولد لتمام، ولم يشبه الأخوال والأعمام[7]. (وكان يقصد به عبد الملك بن مروان، لانه ولد لسبعة أشهر.

غير أن هذه المواجهة الفردية ليس إلا مثالا لحالة قد تكون جزئية وعابرة لكنها معبّرة عن حقيقة الإرادة بوصفها ابتلاء وبلاءا وموقفا. وإذا كانت حقيقة الإنسان بالنسبة للجاحظ هي إرادة، فإن تأسيسها العقلي اتخذ صيغة التأسيس العقلي لمعناها وحقيقتها بوصفها تحديا للنفس. وتحدي النفس هو خروج على معالم وحدود الجسد أيا كانت حالته. أما بالنسبة لذوي العاهات، فإن تحديها وإبراز حقيقة المكنون في قدرتها الشخصية هو المحك الفعلي للإرادة. وهي الفكرة التي حاول البرهنة عليها بحكم البيان والعيان، أي بالرؤية الأدبية الفلسفية ووقائع الحياة الفعلية. إذ أن حقيقة هذه الفكرة لا تقوم في كمية البراهين عليها، بل بما فيها من منطق للتحدي الذاتي، ومن ثم البرهنة على تجليها التام عندما يكون المرء قادرا للصراخ:ها أنا ذا! أو كما صرخ الحلاج في أسواق بغداد بعبارة "أنا الحق".

إن المهمة الـتأسيسية بالنسبة للجاحظ تقوم في إبراز القدرة والإرادة التي استطاع البعض تجاوز علتها النفسية، بينما جزع الآخر منها. إنها قضية إرادة ونفس طويل أو قصير على المطاولة، أي التحدي. من هنا قول الجاحظ في وصفه لهذه الحالة:"منهم جماعة كانوا يبلغون من العَرَج ما لا يبلغه عامة الأصّحاء، ومع العمى يدركون ما لا يدرك أكثر البصراء، وكيف تهاجوا وتمادحوا، وكيف جزع منهم من جزع، وصبر من صبر"[8].

إن مأثرة الجاحظ بهذا الصدد تقوم في كونه لم يؤسس ويحقق فكرته هذه بمعايير التأمل النظري البحث، بل بمعايير الأدب والتأديب العميق للإرادة العقلية والعملية من خلال توظيف حالتها الفعلية في الواقع والتاريخ. من هنا اولوية التربية العقلية للإرادة، أي بما يتوافق مع روح الاعتزال وفكرته عن حرية الإرادة. لكنه جعل من الإرادة فلسفة التحدي الدائم للنفس بمعايير العقل والجسد.

فقد أرسى تربية الإرادة العقلية وحققها في أسلوب التربية في التعليم. وفيها وجد ما يمكن دعوته بمقدمة وأصل كل إبداع كبير. بل هي اساس وعماد الشخصية الإنسانية. لهذا طالب بالبدء من العلم بما لا يسع جهله، قبل التطوع بما يسع جهله، أولا. وثانيا أن لا يجري التماس الفروع إلا بعد إحكام الأصول[9]. ووضع ذلك في أساس نقده للفقهاء وتسرعهم بالفتوى. وثالثا الابتعاد عن الاستهزاء من الإنسان. من هنا وقوفه بالضد من أسلوب الهيثم بن عدي (130-207) ومواقفه المنثورة في كتبه، بوصفه نموذجا لهذا النمط المخرب للتربية العقلية. وأخير الانطلاق والاعتماد على المبدأ القائل، بأن سوء الظن في الجملة ليس مذموما، تماما كما أن حسن النظر في الجملة ليس محمودا. وإنما "المحمود من ذلك الصواب على قدر الأسباب القوية والضعيفة، والذي يتجلى للعيون من الأمور المقرّبة، وعلى ما جرت عليه العادة والتجربة"، كما يقول الجاحظ[10]. ذلك يعني، إن الجاحظ يضع العادة والتجربة في قاع الرؤية الحاكمة على قضايا المحمود والمذموم التي تتجلى للحس والعقل بصورة مباشرة. وهي عين الرؤية الدقيقة لماهية العلم والمعرفة والحقيقة نفسها.

لقد ربط الجاحظ الأبعاد العقلية والنفسية والأخلاقية والاجتماعية في كل واحد في فلسفته عن الإرادة. فهو بالقدر الذي يؤسس لأسسها العقلية، فإنه يعطي من كل ما له علاقة بالجسد الفردي والاجتماعي والثقافي قيمته الأخلاقية. لهذا اتخذ عنده الموقف من حرمة الجسد الحي والميت بُعدا واحدا، هو بُعْد الالتزام بحقيقة الإرادة بوصفها موقفا والتزاما عقليا وأخلاقيا. لهذا نراه يطالب الاطباء بالالتزام بما اسماه بأول الشروط التي وضعت في أعناقهم، ألا وهو "ستر ما يطلعون عليه في أبدان المرضى، وكذلك حكم من غّسل الموتى"[11]. وطبق هذا الموقف على كافة جوانب الحياة الفردية والاجتماعية، الظاهرية والباطنية، العلمية والعملية، المهنية وآثارها. ذلك يعني، إن الإرادة بالنسبة له هي دماء الحرية والالتزام والرقي الأخلاقي. ومن ثم أساس نفي الرذيلة أيا كان شكلها ومظاهرها ومستواها. فعندما انتقد، على سبيل المثال، مهنة المشعِّب، أي ذاك الذي يزاول مهنة عمي الأبصار، ويعرج أرجلهم من اجل الكدية! توصل في مجرى نقده لها النموذج من الظواهر المخزية بأنه لا يعرف من هو الأشد اجراما هنا الآباء والأمهات أم المهنة نفسها، التي بأثرها يترك المرء كل صناعة في الأرض ليتعلم هذه الصنعة[12]!

ووضع الجاحظ كل هذه الحصيلة في ما يمكن دعوته بفلسفة النقد العقلي والأخلاقي للتصورات المخذولة عن الإرادة. وانطلق بهذا الصدد من أن المهمة الجوهرية بالنسبة للإنسان هي أن يكون إنسانا أولا وقبل كل شيء، ومن ثم توجيه طاقته صوب العمل المبدع والمثمر. من هنا انتقاده لمختلف الحرف والمسالك والسلوك المخرّبة للروح الإنساني الفردي والاجتماعي مثل السرقة واللصوصية والغش والبخل وكثير غيرها مما يشابهها بالمعنى والشكل والمضمون. وبالمقابل بجعل من عمل الغواني إبداعا جماليا وروحيا يحيا به جسد الأمة الثقافي وروحها المعنوي. والسبب هو كونه عمل مبدع. وحصيلة كل ذلك تقوم في أن الإرادة إبداع دائم للروح والجسد وتناسقها في الآفاق والأنفس، أي في الظاهر والباطن، ومن ثم في الكلّ الحقيقي للوجود الإنساني.

***

ا. د. ميثم الجنابي

.....................

[1] الجاحظ: كتاب البرصان والعرجان والعميان والحولان، ضمن سلسلة كتب التراث، وزارة الثقافة والاعلام. تحقيق وشرح عبد السلام محمد هارون، بغداد، 1982.

[2] الجاحظ: كتاب البرصان والعرجان والعميان والحولان، ص30.

[3] الجاحظ: كتاب البرصان والعرجان والعميان والحولان، ص17.

[4] الجاحظ: كتاب البرصان والعرجان والعميان والحولان، ص19

[5] الجاحظ: كتاب البرصان والعرجان والعميان والحولان، ص7.

[6] الجاحظ: كتاب البرصان والعرجان والعميان والحولان، ص55.

[7] الجاحظ: كتاب البرصان والعرجان والعميان والحولان، ص63.

[8] الجاحظ: كتاب البرصان والعرجان والعميان والحولان، ص14.

[9] الجاحظ: كتاب البرصان والعرجان والعميان والحولان، ص7.

[10] الجاحظ: كتاب البرصان والعرجان والعميان والحولان، ص12.

[11] الجاحظ: كتاب البرصان والعرجان والعميان والحولان، ص15.

[12] الجاحظ: كتاب البرصان والعرجان والعميان والحولان، ص82.

 

في المثقف اليوم