دراسات وبحوث

مسار الغزالي في دهاليز فلسفة الذات الإلهية

ميثم الجنابي"لولا أن ظهوره سبب خفائه لبهتت

العقول ودهشت القلوب" (الغزالي)

إن ارتقاء الوعي الاجتماعي إلى مصاف التأمل المسحور بما وراء الطبيعة في مقولات اللاهوت والفلسفة، يعني امتلاكه القدر المعقول من إدراك الكون. بينما لم ينحصر هذا الإدراك في عالم الإسلام الأول بقضايا الظهور والاندثار الطبيعين، بل في تحديد هوية الانتماء الحقيقي لعالم القرآن. فقد احتوى القرآن بين دفتيه قواعد اللغة ومفرداتها، وحدود الرؤية المعقولة والإيمانية تجاه الأبعاد  الشاملة والمعقدة  لماهية الظهور والاندثار. من هنا انهماك المسلمين الأوائل بقضايا الفعل الإنساني لا حركات الطبيعة، وبخلجات الضمير الوجداني لا تأملات العقل الباردة. فقد كانت قضايا الفعل والوجدان هي الأطراف الضرورية لوحدة  الروح والجسد في الصيرورة الجديدة لكون الإسلام الدولي والثقافي. تماما بالقدر الذي نشأ كلاهما من تجزئة الوحدة المتبلورة في الأمة المحمدية. الأمر الذي حدد ردود الفعل السياسية الأولى واجتهادها الفكري واللاهوتي عند الكلام والمتكلمين، والإسلام الإيمان، والكفر والفسق، والجبر والقدر، وعن كل ما هو مربوط بالحركة الفاعلة للكون الناشئ في الأمة والدولة الإسلاميتين.

وفي مجرى خفوت عاصفة الاحتراب تراكمت عناصر الإدراك العقلي لقيم المفاهيم المتناسقة في مدارس الإسلام وفرقه. إذ لم يكن بناؤها الفلسفي في نهاية المطاف، سوى الترتيب المعقول لوجدانها الأولي ورؤيتها السياسية. وبالتالي لم تكن قضايا الذات والصفات والأفعال الالهية في محتوياتها وغاياتها السياسية والأخلاقية، سوى محتوى الرؤية الواقعية والمثالية للفرق الإسلامية عن ذاتها وصفاتها وأفعالها السياسية والأخلاقية. وهو السرّ القائم وراء تبلور الصراع الفكرى وتدرجه من قضايا الأفعال إلى الصفات ثم إلى الذات. وذلك لأنها العملية التي كان ينبغي قطع أشواطها من أجل تكامل الذات الإسلامية في أمتها وأفرادها وفرقها، أي أن تحتوي في مجرى اغتنائها على كل ما كان جوهريا في تجاربها السياسية والأخلاقية والدينية واللغوية والأدبية. وأن تتمثل في مدارج اعتراكها واغتنائها معالم الوعي السياسي والأخلاقي والعقائدي والمذهبي. من هنا تمثيلية السياسة والأخلاق والعقائد والمذهب في منظومات الكلام التقليدية، بسبب وقوفها عند حدود معضلاتها وقضاياها، وحلولها ورؤيتها الموروثة.

غير ان هذه النزعة التقليدية المميزة للفرق الإسلامية كانت في الوقت نفسه الأسلوب المناسب لبلورة تقاليد الوعي المدرسي وشحذ إمكاناته الذهنية بمخزون تاريخها المتشعب. وقد ابتدأ الغزالي شأن معاصريه في مدارس التقليد لينتهي إلى ضرورة الفطرة. بمعنى قطع الحركة المعاكسة لتيار التاريخ الكلامي من التقليد المذهبي إلى الرؤية العقائدية، ومنها إلى الأخلاق والروح (السياسي)، أي من تقليدية المدارس إلى معترك السياسة الإصلاحية، باعتبارها إصلاحا للروح الأخلاقي العقائدي.

لقد ناقش مسألة الذات الإلهية بصورة منهجية ونقدية للمرة الأولى في (تهافت الفلاسفة). واعتبر الاستنتاج القائل بصيرورة الاثنين من الواحد مكابرة للعقول، واتصاف القديم (المبدأ الأول) بصفات أزلية مناقضة للتوحيد، مجرد دعوتين باطلتين. وأن بطلانهما يقوم في افتقادهما إلى أسس ضرورية عقلية. لهذا تساءل عن المانع الذي يمنع من أن يقال بأن المبدأ الأول عالم مريد قادر يفعل ما يشاء انطلاقا من أن استحالة هذا الحكم لا تعرف بضرورة العقل. ولم يسع هو من وراء ذلك التقليل من شأن العقل وحاكميته، بقدر ما كان يناهض فكرة الفيض الافلاطونية والوساطة الغنوصية. مما أدى إلى صياغة الوحدة المرنة للعقلانية واللاعقلانية، باعتبارها الصيغة المناسبة للروح الجدلي، وصعوبة الحلول المنطقية لقضايا الإلهيات الكبرى. لهذا ردد الحديث المنسوب للنبي محمد والقائل "تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في ذات الله"[1].

فقد كانت آراؤه الهجومية والدفاعية في (تهافت الفلاسفة)، كما سيؤكد لاحقا، هي النتاج الملازم لنزوع الشك الجدلي، الذي استعمله في مهاجمة آراء الفلاسفة ودعواها المنطقية في قضايا الإلهيات، لا رفض إمكانية البحث في الذات الإلهية. لهذا حصر في (تهافت الفلاسفة) مهمته الأساسية في نقد فكرة التأسيس النظرى للفلاسفة في قضايا الإلهيات بما فيها مسألة التوحيد والذات الإلهية. وهذه بدورها هي الفكرة التي سعت للبرهنة على أن التوحيد لا يتم إلا بإثبات الوحدة لذات الله من كل وجه. وأن إثبات الوحدة يقوم بنفي الكثرة من كل وجه عن طريق نفي قبول الانقسام في الذات فعلا أو وهما، ونفي انقسام الشيء في العقل إلى معنيين مختلفين، ونفي الصفات (العلم والقدرة والإرادة وغيرها)، لأنها تؤدي إلى كثرة في واجب الوجود، ونفي كثرة عقلية تحدث بتركيب الجنس والفصل مثل أن الإنسان حيوان ناطق، والحيوان جنس والناطق فصل، وانه مركب وهذا نوع كثرة. وإخيرا نفي كثرة تلزم من وجهة تقدير ماهية وتقدير وجود لتلك الماهية مثل أن للإنسان ماهية في الوجود، والوجود يرد عليها، مما يحدد بدوره ضرورة نفي الماهية عن الله. إن هذه الأوجه الخمسة للنفي الفلسفي الداعي في الوقت نفسه إلى اثبات الذات الوحدانية، تصطدم، كما يقول الغزالي، بتلك الكثرة من تسميات الفلاسفة التي يطلقونها على الله مثل المبدأ الاول، والموجود، والجوهر، والواحد، والقديم، والعالم، والعقل، والفاعل، والخالق، والحي، والعاشق، والجواد، والخير المطلق وغيرها[2]. فالفلاسفة تؤكد على أن ذات المبدأ الأول واحدة، وإنما تكثر الأسماء بإضافة شيء إليه، أو إضافته إلى شيء أو سلب شيء عنه. والسلب لا يوجد كثرة في الذات المسلوب عنها. ولا الإضافة توجب كثرة. لهذا اكدوا على أن الأول لا يعني سوى إضافته إلى موجودات بعده، في حين إن المبدأ هو إشارة إلى أن وجود غيره منه، وهو سبب له. ومعنى موجود معلوم. أما الجوهر فهو الموجود مسلوبا عنه الحلول في  موضوع. والقديم هو سلب للعدم عنه أولا، والباقي هو سلب العدم عنه آخرا، وواجب الوجود يعني موجوداً لا علة له وهو علة لغيره، بمعنى جمعه للسلب والإضافة. أما الخالق والفاعل وسائر صفات الأفعال فلا تعني إلا أن وجوده وجودا شريفا يفيض عنه وجود الكل فيضانا لازما[3].

أما البراهين التي يقدمها الفلاسفة في محاولاتهم إثبات الذات الوحدانية الحقة، فإنها لا تؤدي إلى ادراكها اليقين، كما هو الحال، على سبيل المثال، في مدافعتهم عن الصفات الإلهية. فعندما يتناولون قضية علم الله، أو ما يدعوه ابن سينا بالمعرفة النوعية الكلية، التي لا يحصرها زمان، فإنها تؤدي بالضرورة إلى برهانهم عن قِدَم علمه بالجزئيات، بفعل إيجابه تجدد الإحاطة (المعرفة)، مما يؤدي إلى تغير في ذات العالِم (الله)، أو أن الإقرار بهذه المعرفة المتجددة تؤدي في نهاية المطاف إلى لزوم الكثرة فيه. وبالتالي غياب الوحدة الحقة في ذاته، أي كل ما لا يمكنه أن يشكل برهانا حقيقيا لمعرفة الذات، إنطلاقا من انه ليس هناك من صفة وعرض إلا ويستدعي وجوده موصوفا. وإن قول القائل، بأن الله هو في ذاته عقل وعلم كقول القائل هو قدرة وإرادة. وينطبق هذا بالقدر ذاته على الأعراض والصفات الأخرى. إذ لا يمكن للصفات أيا كانت القيام بنفسها دون جسم هو غيرها. فالعلم والحياة والقدرة والإرادة لا تقوم بنفسها، وإنما تقوم بذات. فالحياة تقوم بالذات فتكون حياة بها. أما إنكار الفلاسفة لصفات الله فإنه لا يعني في الواقع سوى سلبه الحقيقة والماهية والقيومية بالذات كذات. وذلك لأن منطلق آرائهم ومواقفهم يؤدي إلى رد لله إلى حقائق الأعراض والصفات التي لا قوام لها بنفسها[4]. فالأدلة التي قدمها الفكر الفلسفي (السيني) حول ما يلزم أن يتصف به واجب الوجود لا يدل عليها دليل. إذ لو كان واجب الوجود كما وصفوه، بمعنى ألا يكون فيه  كثرة بفعل عدم احتياجه في قوامه إلى غيره، فإن ذلك لا يحتوي على إثبات واجب الوجود، وإنما الدليل، كما يقول الغزالي، دلّ على قطع التسلسل فقط[5]. فالرأي الفلسفي القائل، بأن كل ما لا علة له هو واجب الوجود، رأي دهري. وهو "لا يدل الا على قطع السلسلة" التي انقطعت عند الدهرى في أول الأمر. فهو لا يقول أكثر من انه لا علة للأجسام، أما الصور والأعراض فبعضها علة للبعض، إلى ان ينتهي إلى حركة دورية، وهي بعضها سبب للبعض ينقطع تسلسلها بها[6]. وينطبق هذا أيضا على فكرة "الوجود الأول البسيط". فالدليل الفلسفي هنا، حسب نظره، يرجع إلى دليل نفي الصفات ونفي الانقسام الجنسي  الفصلي، رغم تشوشه وتعقيده. إذ لا ترجع الكثرة هنا إلا إلى مجرد اللفظ. وإلا فالعقل يتسع، كما يقول الغزالي، لتقدير ماهية واحدة موجودة، بينما تقول الفلاسفة كل ماهية موجودة فمتكثرة، إذ في كل موجود ماهية ووجود. ولهذا وجد في هذه الفكرة مجرد تشوش لا غير. انطلاقا من أن الموجود واحد معقول بكل حال، ولا موجود إلا وله حقيقة، ووجود الحقيقة لا ينفي الوحدة[7]. فمن غير المعقول تصور وجود بلا ماهية ولا حقيقة. تماما كما لا نستطيع أن نعقل العدم المرسل إلا بالإضافة إلى موجود يقدّر عدمه. وذلك لأن "نفي الماهية نفي للحقيقة. وإذا انتفت حقيقة الموجود لم يعقل الوجود"[8]. لأن ذلك شبيه بقول القائل وجود لا موجود. إضافة لذلك أن الفكرة الفلسفية المشار إليها أعلاه، والتي حاولت نفي الكثرة والجسمية عن الله استنادا إلى الفيض الافلاطوني، لا يمكنها تقديم الدليل على أن الله ليس بجسم. ولم يسع الغزالي من وراء ذلك إثبات الجسمية، بقدر ما انه وضع الفكرة في اطار جدليتها العقلية القائلة، بأن من "لا يصدّق بحدوث الأجسام، لا يقدر على إقامة الدليل على أن الأول ليس بجسم أصلا"[9].

لقد حاول الكشف عما في الفكر الفلسفي الأرسطي الافلاطوني الإسلامي وبراهينه من خلل يصعب تلافيه في أدلته عن حقيقة الذات الإلهية. لهذا أكد على أن العجب لا يقوم في حيرة العقول في الصفات الإلهية، بقدر ما يقوم في أدلة الفلاسفة واعتقاداتهم التي يجزمون بطابعها اليقيني، مع ما "فيها من التناقضات العصية على الحل"[10].

وإذا كانت انتقاداته هنا تتركز اساسا حول إثبات تناقض أفكار الفلاسفة عن الذات الإلهية، باعتبارها أيضا المهمة التي وضعها في مقدمة جداله معهم، فإنه كان  ملزما بمواجهة موضوعاتها الأساسية في مؤلفاته التي اناط بها لاحقا مهمة إدراك الحقائق كما هي كما هو الحال في (إحياء علوم الدين) وأمثاله من الكتب والرسائل. ولم يقصد هو بذلك نفي القيمة العلمية والعقلية في مؤلفاته النقدية السابقة مثل (تهافت الفلاسفة) وأمثاله، أو رمي تجاربه السابقة في مزبلة صرحه الفكري الجديد، بقدر ما  كانت إعادة صياغة توليفية بنّاءة لتجاربه النظرية والعملية. فقد كرر في موقفه من الباري (أو المبدأ الأول) في مجرى استعراضه وشرحه لمصطلحات الفلاسفة في (معيار العلم في فن المنطق) ما سبق وأن وضعه في (تهافت الفلاسفة)، مما يعكس، في الإطار العام، موقفه من فكرة الوحدة والكثرة كما تناولها في (تهافت الفلاسفة)[11]. فقد ناقش هذه القضية بصورة مخصصة للمرة الأولى في (الاقتصاد في الاعتقاد) عندما تناول ما أسماه بالدعاوى العشر. حيث تظهر للمرة الأولى مساعيه النظرية (الكلامية الفلسفية) لكشف حقيقة الذات الإلهية في اطار البرهنة على وجودها.(يتبع...).

 

ا. د. ميثم الجنابي

......................

[1] الغزالي: تهافت الفلاسفة، ص153-155.

[2] الغزالي: تهافت الفلاسفة، ص164.

[3] الغزالي: تهافت الفلاسفة، ص166.

[4] الغزالي: تهافت الفلاسفة، ص183.

[5] الغزالي: تهافت الفلاسفة، ص186.

[6] الغزالي: تهافت الفلاسفة، ص196-197.

[7] الغزالي: تهافت الفلاسفة، ص191.

[8] الغزالي: تهافت الفلاسفة، ص191.

[9] الغزالي: تهافت الفلاسفة، ص195.

[10] الغزالي: تهافت الفلاسفة، ص205.

[11] الغزالي: معيار العلم في فن المنطق، ص207.

 

 

في المثقف اليوم