دراسات وبحوث

توحيد العارف عند الغزالي

ميثم الجنابيلقد أورد الغزالي في (إحياء علوم الدين) في مجرى تناوله معرفة ذات الله، باعتباره الركن الأول من أركان الإيمان، نفس المفاهيم التي سبق وأن وضعها في (الاقتصاد في الاعتقاد). لكنها لم تعد تحمل هنا تسمية الدعاوى العشر، بل الأصول العشرة.

الأول منها يقوم في ضرورة معرفة الله ووجود الله. وينبغي أن تستند هذه المعرفة إلى ما في القرآن من إضاءة روحية وعملية لها. بمعنى الاستضاءة بأنواره وسلوك ما فيه من اعتبارات وإرشادات للنجاة. إذ أن ما في القرآن من آيات مثيرة للعقل في تأمله الكون وعجائب الخلق والسموات والأرض وبدائع فطرة الحيوان والنبات وترتيب وجود الأشياء يبرهن على أن وجودها لا يستغني عن صانع يدبّره وفاعل يقدّره[1]، أي كل ما جعله يقرر بأن ما في فطرة الإنسان وشواهد القرآن ما يغني عن إقامة البرهان. وفي ما لو جرى صياغة هذه الفكرة حسب تقاليد "العلماء النظّار" (المتكلمين)، فمن الممكن التعبير عنها بفكرة "إن الحادث لا يستغني في حدوثه عن سبب يحدثه. والعالم حادث فإذاً لا يستغني في حدوثه عن سبب"[2]. وشرح هذه الفكرة وتأسيسها العقلي (الكلامي) انطلاقا من أن كل حادث مختص بوقت يجوز في العقل تقدير تقديمه وتأخيره، من هنا فإن اختصاصه بوقت محدد يفتقر بالضرورة إلى المخصص. أما كون العالَم حادث فبرهانه أن الأجسام والعالم لا تخلو عن الحركة والسكون. وما لا يخلو من الحوادث فهو حادث. بمعنى كل ما  ندركه بالبديهة والاضطرار. فالحركة والسكون ملازمان لوجود الأجسام كلها. وكونهما حادثين هو تعاقبهما ووجود البعض منهما بعد الآخر. لأنه لو ثبت قدم الشيء لاستحال عدمه. وقد حدد ذلك الاستنتاج الأخير القائل، بأن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث. إذ لو لم يكن كذلك لكان قبل كل حادث حوادث لا أول لها. وفي حالة افتراض ذلك لا تنفى وجود الحادث الحاضر واستحال وجوده. إذ أن انقضاء ما لا نهاية له محال. مما يبرهن على افتقار الحوادث إلى محدثها[3].

أما الأصل الثاني فهو العلم بأن الله قديم لم يزل، وانه أزلي ليس لوجوده أول. بل هو أول كل شيء، لأنه لو كان حادثاً لافتقر هو أيضا إلى محدث، وافتقر محدثه إلى محدث وإلى ما لا نهاية. الأمر الذي يستلزم الإقرار بأوليته[4].

أما الأصل الثالث، فهو العلم بأن الله مع كونه أزليا أبديا، ليس لوجوده آخر. فهو الأول والآخر، والظاهر والباطن، لأن ما ثبت قدمه استحال عدمه. أما برهان ذلك فيقوم في انه لو انعدم لكان ذلك أما لسبب في ذاته أو في شيء ما آخر يعدمه وكلاهما يتعارضان مع الأصول السابقة[5].

أما الأصل الرابع، فهو العلم بأن الله ليس بجوهر متحيز وذلك لأن كل جوهر متحيز هو مختص بحيزه. ولا يخلو من أن يكون ساكنا فيه أو متحركا عنه. بمعنى انه لا يخلو من السكون والحركة، وهما كلاهما حادثان[6].

أما الأصل الخامس فهو  العلم بأن الله ليس بجسم مؤلف من جواهر. غذ الجسم عبارة عن المؤلف من الجواهر. وإذا بطل كونه جوهرا مخصوصا بحيز، بطل كونه جسما، لأن كل جسم مختص بحيز ومركب من جوهر. والجوهر يستحيل خلوه عن الافتراق والاجتماع والحركة والسكون والهيئة والمقدار. وهي سمات الحوادث[7].

أما الأصل السادس، فهو العلم بأن الله ليس بعرض قائم في جسم أو حال في محل. لأن العرض ما يحل في الجسم. وكل جسم فهو حادث لا محالة، ويكون محدثه موجودا قبله، فكيف يكون حالا في الجسم، وقد كان موجودا في الأزل وحده؟[8].

أما الأصل السابع، فهو العلم، بأن الله منزه عن الاختصاص بالجهات فالجهات مخلوقة بالإنسان. والإنسان مخلوق. وإن الجهات حادثة بحدوث الإنسان. ولو لم يخلق الإنسان بهذه الخلقة، بل خلق مستديرا كالكرة لم يكن للجهات المعتادة وجود البتة. وما ورد في الشرع من تكليف في رفع الأيادي  والتوجه للسماء أو الانحناء للأرض والتوجه للقبلة، فهي اشارات إلى ما هو وصف للمدعو من الجلال والكبرياء تنبيها بقصد جهة العلو على صفة المجد والعلاء، لأنه فوق كل وجود بالقهر والاستيلاء[9].

أما الأصل الثامن، فهو العلم بأنه مستو على العرش بالمعنى الذي أراد الله بالاستواء. وهو الذي لا ينافي معنى الكبرياء ولا يتطرق اليه سمات الحدوث والفناء. وهو الذي اريد بالاستواء إلى السماء. وليس ذلك إلا بطريق القهر والاستيلاء كما قال الشاعر:

قد اسـتوى بشر على العـراق     من غير سـيف ودم مهـراق

أي تأويل الاستواء بالحق، كما اضطر أهل الباطن إلى تأويل جملة من الآيات والحديث[10].

أما الأصل التاسع، فهو العلم بأن الله مع كونه منزها عن الصورة والمقدار، مقدسا عن الجهات والأقطار،  فهو مرئي بالأعين والأبصار، في الدار الآخرة. ويرى في الدنيا. أما رؤيته الظاهرة فهي نوع كشف وعلم مثل تعلق العلم به وليس في جهة، أي إمكانية رؤيته من غير مقابلة كما يجوز العلم به من غير كيفية  وصورة[11].

أما الأصل العاشر، فهو العلم بأنه واحد لا شريك له، فرد لا ند له. انفرد بالخلق والإبداع، واستند بالإيجاد والاختراع لا مثيل له يساهمه ويساويه، ولا ضد له فينازعه ويناوئه[12].

إن تحول الدعاوى العشر إلى الأصول العشرة يعكس طبيعة الانقلاب العميق في مضمون العقائد المتعلقة بالذات الإلهية. بمعنى أنها لم تعد جزءًا من تقاليد الكلام في جدله وخلافاته ودعاويه، بل  "العلم" الضروري للوجود الاجتماعي الأخلاقي للأمة في وحدتها الروحية، أو المبادئ العامة في منظومة القيم الميتافيزيقية والدينية المحيطة بتكاليف الشرع وعباداته. مما يعني تكملتها العملية للإصلاح العقائدي في مستواه المقنن والظاهري. وبالتالي نفي تقاليد الكلام والإبقاء عليها في فاعليتها للعوام، باعتبارها أصولا ومبادئ كامنة وراء خلفية التطور الفردى والاجتماعي للأمة في عقائدها وإيمانها. مما يعكس تفريغ المبادئ العامة للكلام عن الذات الإلهية من حوافز المذهبية الضيقة ونزوعها التبريرى التقليدي. وبالتالي صهر الحصيلة النظرية للكلام في المهمات المدركة للوجود الروحي للأمة، أي تحصيل التجربة الاجتماعية السياسية والأخلاقية للأمة في قرونها الخمسة السابقة. وهذا بدوره يفسر بقاء صيغتها الكلامية في تآلفه اللاهوتي الفلسفي الصوفي على أنها أركان في صرح الإيمان الإسلامي للعوام. لأنها الصيغة التي استجابت في مظهريتها وتقنينها السنّي إلى ورع الاعتدال المعقول، باعتباره المكون الجوهرى للإحياء الشامل، كما صاغه في (إحياء علوم الدبن).

إن الأصول العشرة العامة كما وضعها في (إحياء علوم الدبن) عن الذات الإلهية ما هي إلا الصيغة الأولية ومستواها الكلامي، تماما كما هو الحال بالنسبة للصفات والأفعال، بمعنى تضمينها نفس العناصر الوظيفية لعلم الكلام (الذي انتقده الغزالي انتقادا لاذعا باعتباره علما لا يبحث عن الحقيقة كما هي)، كما هو جلي في (الاقتصاد في الاعتقاد)، وبصورة أدق في (الرسالة القدسية). وبغض النظر عن إدراجه (الرسالة القدسية في قواعد العقائد) في (إحياء علوم الدبن)، إلا أنها كانت في حصيلتها العامة الصيغة الأكثر تبسيطا والأكثر اعتدالا والأكثر إيجابية لما في (الاقتصاد في الاعتقاد). أنها الاستمرار النظري المقنن والعقائدي للرد الإيجابي الذي وعد بتنفيذه، بعد اتمام انتقاداته للفلاسفة في (تهافت الفلاسفة). فقد كرر في (الرسالة القدسية) ذات المفاهيم التي أوردها في (الاقتصاد في الاعتقاد) عن الذات الإلهية. وينطبق هذا بالقدر  نفسه على مثال الصفات والأفعال. إذ لا نعثر على أي جديد في (الرسالة القدسية) مقارنة بما في (الاقتصاد في الاعتقاد). وإذا كان هو قد أشار في وقت لاحق في (جواهر القرآن ودرره) و(المقصد الأسنى في  شرح اسماء الله الحسنى) إلى أن (الاقتصاد في الاعتقاد) هو من نوع مؤلفاته في علم الكلام، وأن إدراجه (رسالة قواعد العقائد) في (إحياء علوم الدبن) هو لأجل أن تحفظها العوام، فإن آراءه ومواقفه العامة لا تعني من حيث طابعها "البرهاني" سوى الصيغة الظاهرية والكلامية أو ما اسميته بالمستوى اللاهوتي الفلسفي.

إن هذا التداخل المتشابك بين وظيفة الكلام وحدوده العقلية، بين رفضه المبدئي في ميدان الحقيقة وضرورته في حدود الإيمان للعوام، قد وضع الغزالي أمام الإشكالية الحية عن حدود الحقائق الكلية والجزئية في وظائف الكلام، ومعنى التقليد وقيمته بالنسبة للوحدة والنظام. ومن ثم كيفية حل هذه الإشكاليات الفكرية العملية في تآلفه الاحيائي. فقد كان رفض الغزالي ودحضه للتقليد يجرى في اتجاه إظهار إعاقته الجدية لإدراك الحقائق كما هي. مما يعني أيضا إقراره بالإمكانية الواقعية والفاعلة للفكرة القائلة، بأن الحقائق التقليدية لا تكف عن أن تكون حقائق، وبالتالي لم يعن رفض التقليد سوى رفض منهجيته لا ما في اعتباراته وإشاراته وحججه وبراهينه من حقائق مبنية في مجرى الصراع الفكري وتأسيسه النظري.

إن هجومه ضد التقليد بشكل عام وتقليدية الكلام بشكل خاص موجه اساسا صوب إثارته روح الإيمان الحق وأركانه في العقائد المعقولة تجاه الذات الإلهية. إذ لم تعد هذه العقائد تقليدية شكلية، لأنها تفترض في منظومته إمكانية إدراكها اللاحق في تجارب الأفراد والجماعة. بمعنى اكتشاف أبعادها غير المتناهية انطلاقا من لا تناهي التجارب الإنسانية في بلوغ معرفة ذات الله. مما يعني رفعه ضرورة التجربة الفردية إلى مصاف المطلب الواجب في استيعاب حقائق العقائد. وقد تضمنت آراؤه هذه في اطار منظومته الإحيائية، محاولة حل إشكاليات العلاقة الواقعية والمثالية بين الطابع الوظيفي والحقائقي للفكرة في وحدة العقائد الكبرى للعوام، أي أيديولوجيتها الروحية. لأنه وجد في التمسك بأسسها (أركانها وأصولها) العقائدية خيوط الوحدة الاجتماعية الفكرية، وبالتالي تأسيسه لفكرة الضرورة في وحدة الأسس الروحية، أو  المبادئ الكبرى للوعي والنظام الاجتماعيين. أما الصيغة المعقولة لهذه الأسس عند العوام فقد وضعها بصيغة قواعد العقائد. في حين لم تعن التبريرية الظاهرية في بعض آرائه هنا،ومن الناحية التاريخية، سوى سلبية الشكل ايجابية المضمون. انه أدرك طابعها الوظيفي في مطلق الحقيقة ونسبية الممارسة. فالتقنين المرَّتب في قواعد العقائد هو أيضا تقنين اللانهاية، بمعنى احتوائه الخفي على وحدة الظاهر والباطن، النهائي واللانهائي، باعتبارها درجات ضرورية بفعل تباين الخلق في استعدادهم لقبول المعرفة. لهذا أكد على سعيه الاقتصار بالترجمة البسيطة لعقيدة العوام كافة. وبما أن وراء العوام درجات لا تحصى، لهذا يمكن القول بأن الغزالي، لم يعن بقواعد العقيدة المبسطة هنا سوى البوابة الضرورية لفتوح الإمكانية الدائمة في معرفة حقائق الوجود بمنظور الوحدانية الإسلامية. من هنا جوهرية حله لإشكالية السر ّالقائم في علاقة الظاهر بالباطن، والشريعة بالحقيقة، والعقل بالذوق. حيث كان هذا الحل، الأساس المعرفي النظري لاستيعابه وحدة الذات الإلهية.

 

ميثم  الجنابي

..........................

[1] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص105.

[2] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص106.

[3] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص106.

[4] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص106.

[5] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص106.

[6] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص106-107.

[7] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص107.

[8] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص107.

[9] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص107.

[10] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص108.

[11] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص108.

[12] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص108.

 

 

في المثقف اليوم