دراسات وبحوث

أنسنة المطلق الأخلاقي في فلسفة الغزالي (4)

ميثم الجنابيإن البحث عن المطلق في آراء الغزالي هو البحث عنه في النفس. بمعنى إبداع مثال المطلق في النفس، أو التخلّق بأخلاق الله، أو أنسنة القيمة المطلقة، أو توحيد الذات بالذات. وإلا فبأي وسيلة يمكن للإنسان أن يبدع في ذاته الأسباب ومسبباتها، والاضطرار الاختيار؟ إذ ليس القضاء والقدر سوى الجبرية المطلقة، التي ترى في جزئيات الوجود كليتها الموَّحدة بغير المتناهي، باعتباره الامتداد الدائم في كل ما هو موجود. أما الاختيار (الحرية) فهو الامتداد الذي يعي حقيقة نسبته في المطلق أو الحقيقة التي يتجلى معناها في الجلاء الأخلاقي للعدم. آنذاك يستطيع الإنسان أن يتحول إلى حكم في ذاته بذاته. فالوجود في ذاته متحكم بذاته. إذ ليست الشقاوة إلا الشقي، وليست السعادة إلا السعيد. لكنه ليس لهذه الأشياء قيمتها بذاتها إلا في إطار الوجود ككل، أي في حركته وغايته بالخاتمة، انطلاقاً من أنها ذاتها هي حقيقة البداية.

إن هذه المحدودية الأنسية، في حالة إدراك حقيقتها غير المتناهية في المصير الفردي، ما هي إلا حركة المطلق، أو ما دعاه أحياناً، بقضاء الأزل، لأنها تظهر في ذاتها هوة الشرخ المعنوي أمام الوعي الإنساني وحيرته المندهشة أمام إدراك هويته ومعنى وجوده بين الأزل والأبد. الأمر الذي جعله يتكلم عن ضرورة النظر إلى الإنسان باعتباره ابن الوقت (ابن وقته) وترك الأزل والأبد، أو الماضي والمستقبل والنظر إلى ما هو موجود باعتباره حقيقة الأزل. أما حقيقته ففي خاتمته. وقد استندت هذه الفكرة بدورها إلى أنه لا بداية للإنسان بفعل نهايته، ولا نهاية له بفعل بدايته. فهي الذروة القلقة في عالم الحال، التي تصبح إحدى درجاتها العليا "استغراق القلب" بالحكم وملازمته "في الشهود".

لقد أراد الغزالي البرهنة على ضرورة إدراك الكلّ في الوحدة. لهذا أكد على أنه لا معنى للأول والآخر إلا في ظواهر تجزئته (الوجودية) التي يفرضها العقل لترتيب أوقاته وتصوراته ومساعيه. وإلا فلا أول ولا آخر. وبالتالي لم يسع إلا لإظهار حقيقة الكلّ في الوحدة وليس نفي الأولية والآخروية. إذ ليس الأول والآخر في منظومته الأخلاقية سوى علاقة الأزل في ما لم يزل. بينما الإنسان هو بؤرة وجودها. فالأول الأزلي يستحيل بلوغه، والآخر الأبدي يستحيل بلوغه. أما بلوغ وحدتهما فتقوم في تذليلها المعرفي الأخلاقي بالاتصاف بها، فالأخير الإلهي هو آخر ما يمكن أن يرتقي إليه الإنسان في درجات معرفته. وكل معرفة تحصل لديه هي درجة في السعي إليه. وآخر ما تبلغه درجاته هو الأخير. وبهذا يكون قد فتح الطريق في بدايته وأغلقه في آفاقه، وأغلقه في بدايته وفتح إمكانياته في نهايته. لقد بحث عن ثغرة الوجود الإلهي فوجدها في القلب. وبحث عن أسلوب الولوج إليها فوجده في حُجب الوجود الاجتماعي الأخلاقي والمعرفي التقليدي، أي كل ما جعله يصل إلى أن الطريق إلى المستحيل هو تذليل حُجب الوجود، من خلال إدراك حقيقة الكلّ في مساعي النفس صوب وحدتها بالمطلق، أو أنسنة الأزل في ما لم يزل. فهي الوحدة التي تجد انعكاسها في الاسم الظاهر – الباطن. لكنه لم يسع هو هنا للكشف عنها في ما يمكن دعوته بشفافية السذاجة، بل للتلاشي في عبير الوحدة. فالظاهر الباطن هو الأول الأخير بعد انتقاله من وجود الزمن إلى وجود الحال، ومن الوجود المعرفي إلى الوجود الأخلاقي. أما التشابه بين الظاهر والباطن في الله والإنسان فهي الصيغة الثقافية للوجود المعرفي. بمعنى أن الله باطن إن طُلِب عن طريق إدراك الحواس، وظاهر إن طلب عن طريق العقل (بالاستدلال)، تماماً كما هو الحال بالنسبة للإنسان. فهو ظاهر إن استدلّ عليه بأفعاله المرئية، وباطن إن طُلِب من إدراك الحس.

وشكلت هذه الفكرة المقدمة التي حاول من خلالها إظهار المستوى المعرفي الأول في مفهوم الظهور - البطون، باعتباره ما هو مضاف إلى المدركات. من هنا مفهوم الظاهر الباطن. إذ لا ظاهر ولا باطن، بل الكلّ. أما التجزئة والتباين فإنهما نتاج إدراك حقيقة الإضافة في المعرفة. لهذا ليس خفاء الله إلا لشدة ظهوره. وبالتالي فإن شدة ظهوره هو سبب خفائه، تماماً كما أن نوره هو حجاب نوره، لأن كل ما جاوز حده انقلب إلى ضده1 . وهي الظاهرة التي يشكل خفاء السرّ في الإنسان مثالها الملموس، باعتباره تجلياً للرحمة الإلهية. لهذا شدد الغزالي، على أنه لو كان بالإمكان معرفة سرّ الإنسان على الدوام لتهدمت أركان كينونته الذاتية والاجتماعية. وهي الرحمة التي يشكل إدراك حقيقة مثالها صورة مثالها في الله ومنه.

إن مثال الإنسان الحق في منظومة الغزالي الأخلاقية هو قطب الوجود الاجتماعي التاريخي، أو البؤرة المؤنسنة للأخلاق الإلهية، باعتبارها الذروة المتكررة في وجوده. غير أنه لم ينظر إليها كما لو أنها صدفة الزمن العابر بل تعامل معها كما لو أنها ضرورة الوجود التاريخي في تجليه الأخلاقي. وبهذا يكون قد فتح الطريق أمام التثوير الروحي في عالم التجزئة. فالتاريخ بمعنى ما هو التجزئة الدائمة للزمن الوجودي.. بينما لا سبيل لتوحيده في الذات الإنسانية سوى سبيل السعي نحو الواحد. وبغض النظر عن الطابع المجرد وصفة الخواص في مثال الذات الموَّحدة، إلا أنه لم يحصرها "بوحيد عصره" و"يتيم دهره" وما شابه ذلك من إطراء ومديح مفرط، بل بإمكانية بلوغه الفعلي. مما يعني واحديتها في لحظاتها الثابتة والمتغيرة. وإذا كان هذا الاستنتاج صائباً في ميادين الوجود الأخلاقي والمعرفي، استناداً إلى واحدية الحقيقة والوجود والذروة والفرادة والأصالة، فإن ذلك لا يلغي تعبيرها الزماني، بفعل عدم تناهي المعرفة والرقي الأخلاقي. بحيث جعله ذلك ينظر إلى الواحد الإنساني نظرته إلى ذاك الذي "لا نظير له في عصره وجنسه في خصلة من خصال الخير"2 .

إن الفرد الواحد هو تفرّد الوجود الاجتماعي التاريخي، أو ما دعاه أيضاً بمن "لا نظير له بالإضافة إلى أبناء جنسه بالإضافة إلى الوقت. إذ يمكن أن يظهر في وقت آخر مثله بالإضافة إلى بعض الخصال دون الجميع"3 . فالواحد المطلق أزلاً وأبداً هو الله. وهو المثال الدائم للدائم الأخلاقي والتاريخي. مما يعني إمكانية هذا الواحد من حيث وجوده التاريخي. إذ ليست الأسماء الإلهية سوى أسماء المطلق الإلهي. وبالتالي، فإن تحديدها الحق هو استمداد وجودها منه. وبهذا يكون الغزالي قد هشّم عوارض النخبوية المستندة إلى قوة الثروة والجاه والنسب وما شابه ذلك، من خلال تذليل قيمة الوسائط الواقعية والوهمية بين الإنسان والمطلق في مساعي العارف والمعرفة.

لقد ردد في نهاية "تنبيهاته" (شروحه) على الأسماء الإلهية، من أن التخلّق بهذا الخلق أو ذاك منها وأخذ نصيب منه هو المعني بذلك الاسم. بينما شدد في حالات أخرى على نسبة الممكن وطابع المجاز فيه. ومع ذلك لم يطابق بين القيمة المطلقة في أي من أسماء الله الحسنى وبين واقعيتها في الذات الإنسانية. وبهذا يكون قد حدد مسبقاً حدود التخلّق الإنساني بالاسم الإلهي. إلا أنه لم يحدد الإمكانية الدائمة وغير المتناهية للسمو الأخلاقي في ميادين الأسماء. لهذا أكد على أن الإنسان لا يمكنه أن يكون علياً وجليلاً وكبيراً وعظيماً وجامعاً مطلقاً، تماماً بالقدر الذي فسح المجال أمام إمكانية الارتقاء الأخلاقي المعرفي بالشكل الذي يمكنه بلوغ مصاف الأنبياء والملائكة، مشيراً إلى أنه يمكن تصور نيل درجة لا يكون من جنس الأنس من يفوقه، وهي درجة النبي محمد 4. وإذا كانت هذه الدرجة في وعي الغزالي هي درجة المثال الإنساني المطلق، فإن الأخير يتأنسن بقدر التخلّق بأخلاقه.

ذلك يعني، أن الإنسان يمكنه أن يكون جليلاً جميلاً، أي كمال صفاته على مثال كمال الصفات الإلهية. وأن يكون كامل الذات على مثال الكبير الإلهي، وأن يكون عظيماً بمعنى توحيده للكمال الذاتي والصفاتي والفعلي وجمعهم بوصفه الإنسان الجامع الكامل. وإذا كانت هذه الأحكام العامة تحمل في مظاهرها بصمات الصيغة التأملية، فإنها ترسي في منظومته العامة أسس روحها الإصلاحي العملي. بمعنى أنها تذلل في ميتافيزيقيتها الصارمة مظهرها الطوباوي من خلال تأسيسها لحقيقة النسبة المعقولة بين المطلق والعابر. وبالتالي لم يكن إهمال الأثر الظاهر للوجود الاجتماعي التاريخي والحضاري في الشخصية المجردة للكامل سوى وسيلة البحث في المطلق الميتافيزيقي عما يمكنه أن يكون بديلاً أخلاقياً لنموذجية المثال.

فعندما وضع مثال الجليل والكبير والعظيم المطلق في أنموذجه الأنسي، فإنه لم يقصد بذلك سوى مثال الواقعي الممكن. فالجليل (الإنسان) هو الكامل الصفات، الموّحد للجمال الأخلاقي في الباطن باعتباره تكامل الذات الباطنية على أفضل ما يكون. والكبير (الإنسان) هو الذي يوّحد في ذاته العقل والورع. والعظيم (الإنسان) هو الذي يوّحد في شخصه كمال الذات والصفات، والظاهر والباطن، والأخلاق والمعرفة. أما مثاله النموذجي ففي درجات الأستاذ للتلميذ والشيخ للمريد والنبي في أمته5 . ذلك يعني، بأن ميتافيزيقيته ما هي إلا الصورة النموذجية التاريخية لثقافة عصره. أنها تكشف في مثالها واقعية الأخلاق الكاملة ومهمتها العملية والعلمية. (يتبع....).

 

ا. د. ميثم الجنابي

......................

1- الغزالي: المقصد الأسنى في شرح اسماء الله الحسنى، ص136.

2- الغزالي: المقصد الأسنى في شرح اسماء الله الحسنى، ص133.

3- الغزالي: المقصد الأسنى في شرح اسماء الله الحسنى، ص133.

4- الغزالي: المقصد الأسنى في شرح اسماء الله الحسنى، ص109.

5- الغزالي: المقصد الأسنى في شرح اسماء الله الحسنى، ص105.

 

في المثقف اليوم