دراسات وبحوث

الإرادة المحمدية: إرادة التحدي والمواجهة والبدائل

ميثم الجنابيفلسفة النبوة المحمدية (4)

كانت الهموم العقائدية والعملية للنبي محمد في ميدان الإرادة تقوم في صنع الإرادة المتوّحدة من خلال توحيد المعنى الإسلامي للمفاهيم والقيم. ففي معرض رده، على سبيل المثال، على رسالة مسلمة الحنفي (مسيلمة الكذاب)، فإننا نرى فيها الموقف من الإسلام والتوحيد بوصفه مبدأ دينيا سياسيا وليس سياسيا دينيا. فعندما كتب إليه مسلمة الحنفي (مسيلمة الكذاب)، كما تنقل الروايات التاريخية، كتابه الذي احتوى على نفس نموذج التحية الإسلامية، واعتبار نفسه رسول الله، وانه أشرك معه في أمر النبوة، ومن ثم اقترح عليه "تقسيم الأرض بينهما بالمناصفة"، رد عليه النبي محمد قائلا: "بسم الله الرحمن الرحيم.. السلام على من اتبع الهدى. الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين". ونرى نفس الشيء في موقفه من مطالب ثقيف مقابل القبول بالإسلام واعتناقه. فقد طالبت مع قبولها باعتناق الإسلام، بأن تبقى على عبادة اللات ثلاث سنوات، وترك الصلاة، وأن يزيلوا الأصنام بأنفسهم. وقد وافق محمد على طلبهم الأخير ورفض الأول والثاني. وليس مصادفة ان يتمسك أبو بكر الصديق زمن الفتنة التاريخية الصعبة التي واجهها في ظاهرة الردة بعد موت النبي محمد، بالرفض التام والقاطع لمطالب من أراد مقايضة البقاء على إسلامه ان يتركوا الصوم والصلاة وعدم إتيان الزكاة.

ونفس الشيء يمكن رؤيته في مواقف النبي محمد من التقاليد والأعراف والقيم. ففي موقفه من النسيء نعثر على رفض أولي قاطع للاستهانة بثباتها، بمعنى رفض من أراد تغيير حالة اشهر الحرام حسب رغباته، بحثا عن الثبات، ولكنا نراه يجد فيها حجر عثرة زمن الضرورة الحاسمة للصراع. وعندما سألوه عن ذك كما في الآية القائلة " يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ...". وبرر ذلك بأن الكفر بالله والصد عنه، وإخراج أهله من المسجد الحرام عند الله أكبر من التمسك بالنسيئة. الأمر الذي يعني انه يدينها من حيث كونها جزء من إرادة الأهواء لا إرادة الحق.

كما تنوعت وتوسعت مواقفه من المفاهيم والقيم، لكنها كانت على الدوام مرتبطة بإرادة الحق والتوحيد. اذ أدى توسع وتنوع أشكال الصراع إلى أن يعيد النبي محمد ويوسع تصوراته وأحكامه عن الله ونفسه وجميع المفاهيم والقيم السائدة في عالم الوثنية والعرب الجاهلية. اذ لم تعد الهزيمة والفوز، على سبيل المثال، من عند البشر بل من عند الله. فالفوز هو هبة إلهية بينما الهزيمة بلاء منه لاختبار إرادة المسلمين. واعتبر ان ما يمس المسلمين من حرج في مجرى الصراع فقد مّس آخرين غيرهم، انطلاقا من أن الهزيمة والانتصار من حيث الظاهر هي حالة طبيعية بوصفها "أيام نداولها بين الناس". ومن ثم فإن الشيء الأكثر أهمية بالنسبة للإرادة هو الثبات عند فكرة التوكل الفاعل انطلاقا من المبدأ القائل " وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ". وذلك لأن جميع الأحداث والمجريات محكومة بسرّ الهي، ومن ثم فإن البقاء ضمنه وفيه أولى. فبعدما صرخ البعض في مجرى معركة احد، بأن محمدا قد مات، جاء الرد في الآية " وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ "، " وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلا  "، وأن الموت أصناف وأنواع وأفضلها هو الموت في سبيل الله، أي في سبيل الحق، كما في الآية "وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا، بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ". وبهذا تكون الفكرة الجديدة عن الموت قد حررت الروح من ثقل الجسد، والجسد من فكرة الاندثار والتلاشي. بمعنى الإبقاء على كينونة الإنسان بوصفه مخلوقا أبديا.

إن سوء الفهم لحقيقة الله، أو ما وصفه النبي محمد بعبارة "يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ" هو اساس ومقدمة الرؤية والمواقف المغلوطة التي شكلت حجر المسن الفعلي للإرادة المحمدية بوصفها إرادة التحدي والمواجهة والبدائل. بعبارة أخرى، لقد وجد النبي محمد في آراء ومواقف وأحكام العرب الوثنية بصدد مختلف القضايا والقيم مجرد ظنون خاطئة، أي ليست عقلية ولا تستقيم مع الحق والحقيقة. ففي الموقف من الموت، على سبيل المثال، كانت العرب الوثنية في مجرى صراعها ضده تؤكد على أن الإنسان يولد ويموت شأن كل ما في الوجود، وأنه لا قدرة للإنسان ولا اثر فيه. بينما جعل محمد من الموت والحياة أيضا أجزاء أو عناصر في الإرادة الإلهية التي تعطي في نهاية المطاف للإنسان بعدا وقيمة تتجاوز حدود ما أعطته الوثنية له. فالعرب الوثنية تقول بأنه "ليس لنا من الأمر شيء". بينما يجيب النبي محمد: " قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّه" بما فيه الحياة والموت. مع ما ترتب على ذلك من أبعاد أخلاقية وروحية. بمعنى الاستعاضة عن فكرة الموت زمن الشدائد بفكرة الشهادة الحية. بحيث نرى انعكاس هذا التعارض وتغلغله في المواقف والسلوك والإحساس والخطابة والشعر.

فقد كتب الزبعري، بعد معركة أٌحد، في إحدى قصائده الجميلة في الثأر على هزيمة ومقتل قريش في بدر قائلا:

كل عيش ونعيم زائل         وبنات الدهر يلعبن بكل

كم قتلنا من كريم سيد         ماجد الجدين مقدام بطل

ليت أشياخي ببدر شهدوا  جزع الخزرج من وقع الأسل

بينما رد عليه المسلم كعب بن مالك قائلا:

ابلغ قريشا وخير القول أصدقه  والصدق عند ذوي الألباب مقبول

إن تقتلونا فدين الحق فطرتنا     والقتل في الحق عند الله تفضيل

إننا نقف هنا أمام لوحة تنعكس فيها الأفكار والمواقف المتضادة عن معنى الحياة والموت. الأول يعكس موقف التقاليد الوثنية القبلية عن القدر والثأر، بينما الثاني يربط الحياة والموت بالقيم المتسامية عن الحق والتضحية من اجله. بمعنى نفي قيم الوثنية والقبلية بقيم الروح المتسامي الذي تتكشف وراءه ما يمكن دعوته بإرادة التوحيد.

إن إرادة التوحيد هي القوة والطاقة والوسيلة التي تتوحد فيها الرؤية العقائدية المتسامية بالرؤية والمواقف العملية للوحدة الاجتماعية. وقد اتخذت الأخيرة في الإرادة المحمدية هيئة ونموذج الجماعة والأمة من أجل تنظيم توحيدها الروحي العقائدي والسلوك العملي، أي وحدة الروح والجسد على مستوى الفرد والجماعة والتنظيم. وتمثل الحادثة المروية عنه ورؤيته للحل الواقعي تجاه اختلاف أو تنافس القبائل في بناء الكعبة، سواء جرت بصورة فعلية أو رمزية، عن الأبعاد الفعلية أو الدفينة، الواقعية أو التأويلية للمغزى العميق في رؤيته وسلوكه. فعندما اختلف الناس فيمن يكون الأول بنقل الحجر إلى الكعبة. بينما اقترح محمد أن يكون من كل قبيلة من يمثلها، ثم وضع الحجر في الرداء الذي يحمله وأشركهم جميعا في رفعه وحمله دفعة واحدة. إننا نعثر في هذه الصورة على نموذج الفعل الجماعي، ومساعي التوحيد الاجتماعي. وطبق ذلك لاحقا على جميع العبادات ونمطها الإسلامي الجديد من صلاة وصوم وحج وغيرها. فعندما تم الإعلان عن الدعوة جهرا، اخذ النبي يصلي بالمسلمين في إحدى شعاب مكة. ولاحقا سينقلها إلى مكة و"بيت الله الحرام". وتجرى تدقيق وتنظيم هذه الوحدة العبادية (الروحية والعقائدية) في مجرى الصراع ضد قريش والوثنية عموما. بمعنى أن آراءه الخاصة بتوحيد الإرادة أخذت بالتطور والتدقيق والتهذيب في مجرى الصراع الاجتماعي والديني والفكري، الذي تبلور في مجراه أيضا فكرة الواحد والجماعة، بوصفها الحد الفاصل بين المتضادات والجماعات والأفراد والعلاقات. 

كانت فكرة التوحيد تعني بالنسبة للنبي محمد وتتطابق مع فكرة الحق. ومن ثم فما سواها باطل أيا كان شكله ومستواه ومظهره. فالله هو الإله الواحد ضد الكثرة، لأن الكثرة في هذا المجال هي أوثان وأوهام. ذلك يعني، أن الإله الواحد هو الحق، كما أن الحقيقة واحدة واحدة. وتغلغلت هذه الحقيقة الواحدة في أعماقه بوصفها وحيا حيا صنع على مثاله مقوماته الذاتية وإرادته الحرة، بوصفها قدرا أيضا. ففي هذه المفارقة كان ما يكفي من حيوية وصدق جعلته مستعدا للتضحية من اجلها دون تردد، ولكن بوصفها تضحية النبوة وليس قربان الوثنية، أي تضحية الإبداع التاريخي أو القربان التاريخي. وهذه أشياء مختلفة ومتباينة بل ومتناقضة أحيانا بمعايير المنطق الشكلي، لكنها وحدة حية بمعايير الإرادة المشتركة. من هنا يمكن فهم معارضته الأولية للمقايضة التي حاولت قريش إغرائه بها. إذ رفض أن يكفّ عما يقوم به ولو أعطوه مقابل ذلك الشمس والقمر. الأمر الذي أثار دهشة قريش المتربية بحب الجاه والمال والثروة. بحيث نراهم يجدون في موقفه وشخصه "سحرا عجيبا". وسحبوا ذلك على غيره من المواقف، مثل استغرابهم بقدرته على التفريق "بين الابن وأبيه، والأخ وأخيه". أما في الواقع، فأن الإرادة النبوية وتحديها الشامل قد قلب الموازين والقيم، وأصبح ما هو غريب عاديا، وما هو مثيرا للاستغراب مقبولا، وما هو سحر معقولا. ولا غرابة في الأمر، فإن للتاريخ الفعلي مساره الغريب والمدهش والمثير للاستغراب أحيانا، مثل أن تتحول قريش التي أكثر من ناصب محمد والإسلام العداء إلى قبيلة "مقدسة" وحاملة الحق الأوحد في مدّ الخلافة بقبائلها ورجالها! لكن هذه المفارقة تبقى في نهاية المطاف الصيغة المشوهة للانقلاب التاريخي الذي أحدثته فلتة صعود أبو بكر للخلافة ومغامرة الأموية في تثبيتها اللاحق.

أما المسار الأول للخلافة النبوية، أي استخلاف النبي محمد للإرادة الإلهية، فقد كان له مساره ومنطقه الخاص القائم في البعد التوحيدي الكامن في كل فعل كان يقوم به محمد. فعندما اضطروه للهجرة الأولى إلى الحبشة، فإنه جمعهم وكوّنهم كوحدة من مختلف القبائل، بحيث نرى فيهم من بني هاشم وبني أمية وبني أسد وعبد شمس ونوفل وعبد قصي وعبد النار وهديل وبهراء وتميم وغيرهم.

وفي نفس الوقت كان النبي محمد مستعدا لمساومة قريش، ولكن بالاتجاه الذي يخدم وحدانية الدين الجديد، ومن خلاله توحيد العرب. انه دعا قريش الوثنية من اجل أن تسود قريش الإسلامية. وكان مستعدا للاتفاق معها بما في ذلك إزالة عبارة "محمد رسول الله"، على أن تبقى عبارة "لا اله إلا الله" وخلع عبادة الأوثان. حينذاك يمكن لقريش أن تسود العرب وتدين لهم العجم. ولا يتعارض هذا السلوك في احد مراحل تحديه للعرب الوثنية. فالإرادة المتسامية تعمل بمعايير الحق وليس بالأهواء. والجوهري في إسلام محمد هو "لا اله إلا الله"، أي الوحدانية الخالصة والإخلاص لها. وما عدا ذلك يمكن التساهل به ومعه. ولكن إلى حد.

فقد تنوعت مواقفه، لكنها توّحدت في الإصرار والثبات على فكرة التوحيد. إذ سمح في البداية وأحيانا وتساهل مع اقتراف الإثم، على الأقل فيما يتعلق بقضايا وإشكالات ما بعد الموت. ووجد تخريج لهذا الموقف في العبارة القائلة "الله إن شاء عذّب وإن شاء لم يعّذب". وينطبق هذا على مواقف أخرى متغيرة ومتبدلة، باستثناء مبدأ الاعتراف بالله. اذ وجد فيه السرّ العميق الكامن في كل الفضائل المحتملة. ومع ذلك وضع حدودا دقيقة متراكمة عن كمية ونوعية الفضائل التي شكلت منظومة القيم الإسلامية. من هنا توكيده منذ البدء على عدم السرقة والعدوان والقتل والزنا وقتل الأبناء وإتيان البهتان. كل ذلك كان يهدف إلى التوحيد الاجتماعي عبر شحذ مثال وأنموذج الفكرة الوحدانية الإسلامية، التي أخذت ملامحها تتراكم وتتضح في كمية ونوعية الجماعة المتجمعة حوله ودوره فيها وشخصيته.

غير أن أهم وابرز ملامح الفكرة التوحيدية ضمن مسار الإرادة وثباتها تظهر في الأبعاد العقائدية للإسلام المحمدي الأول، وبالأخص في الموقف من اليهودية والنصرانية في جزيرة العرب. ووجد ذلك انعكاسه الأولي في الحكم المؤقت للفصل بين اليهود والنصارى. فقد كانت تكمن فيه أفضلية الإسلام، لما فيه من رمزية كامنة ومبطنة. إذ لم يقف محمد إلى جانب طرف ضد آخر، بل سعى للسمو والعلو عن هذه المعارك ومن ثم الكشف عما فيها من خلل كما صوره القرآن في الآية القائلة: "قَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ. كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ. فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ".

إننا نقف هنا أمام موقف يتساوى فيها العلم والجهل بأثر تحزبهما وانعدام علاقتهما بالحقيقة كما هي. بمعنى إنهما ابتعدا عن حقيقة الدين اليهودي والنصراني. إذ لا يعترف أحدهما بالآخر، وكلاهما لا يعترفان بالإسلام، بينما الإسلام يقر بما فيهما من حقيقة وينتقد ما يجافيها عندهم.

فعندما طالبته اليهود بالتهّود، والنصارى بالتنّصر، أجاب بأن الهدى الإسلامي أهدى لله الحق والتوحيد الحق. وانه لا يستطيع إتباع ما جرى تحريفه. وانه يتبع مضمون التوحيد وحقيقته في اليهودية والنصرانية وليس ما يتبعه اليهود والنصارى من تحريف له، أو ما وضعه في عبارة تقول بإتباع "مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِين".

كان مسار النقد الإسلامي لليهودية والنصرانية يقوم في تنقية الفكرة الوحدانية ورسم حدودها الحقيقية. ومن ثم البرهنة على أن التوحيد الحق لا علاقة له بالأديان نفسها ولا حتى بالأشخاص. ذلك يعني، إن حقيقة التوحيد تقوم في إبراز حقيقته كما هي. وإن التوحيد فكرة سليمة بحد ذاتها، أما محاولة امتلاكها ومصادرتها الخاصة فهو أما جهل أو بأثر التقليد وتلوث القلب الأخلاقي. من هنا اعتباره تصورات اليهود عن يهودية إبراهيم، وتصورات النصارى عن نصرانية إبراهيم أحكام لا علاقة لها بحقيقة إبراهيم وذلك لأنه قبل التوراة والإنجيل. إن حقيقة إبراهيم تقوم في كونه "حنيفا مسلما". وبهذا يكون محمد قد سعى لإبراز قيمة الحنيفية، أي التوحيدية الخالصة. فهو لم يناقش فكرة الانتماء والمصادرة للأشخاص أيا كانوا. وذلك لأن الجوهر والجوهري هو الله الواحد، وما عداه أشخاص وأسماء لا غير.

لقد أراد النبي محمد إبراز نقاء فكرة التوحيد، وأن دين الله واحد، أي أن الوحدانية الخالصة تقوم بالإخلاص لله الواحد الحق. وهي فكرة تتضمن في أعماقها مهمة تنقية الإرادة والعمل بموجبها من أجل التوحيد العام والشامل. وضمن هذا السياق يمكن توقع ما نسب إليه عن ضرورة الدين الواحد في الجزيرة، أي أن "لا يترك بجزيرة العرب دينان". وأيا كانت حقيقة هذه النسبة، بمعنى أن تكون من كلمات محمد أو من الاجتهاد الديني السياسي اللاحق لعمر بن الخطاب، فإن مقدماتها الخفية تكمن في فكرة الإرادة النقية. وبالتالي لا علاقة لها بفكرة القيم من تسامح وتعدد وما شابه ذلك. فهي حالة متناقضة بمعايير المنطق الشكلي، لكنها معقولة بمعايير الإرادة الساعية إلى دفع التحدي الشامل للوثنية صوب نهايته المنطقية. الأمر الذي نعثر عليه في الوحدة المتناقضة لفكرة "لا إكراه في الدين" و"لا دينان في جزيرة العرب". فالفكرة الأولى هي شعار الدفاع، والثانية شعار الهجوم. وبالتالي، يعّبران عن مسار الصيرورة الطبيعية والماوراطبيعية لفكرة التوحيد الروحي والأخلاقي والاجتماعي والسياسي، الذي وجد انعكاسه في تدّرج الإرادة المتحدية والمتفائلة.

ففي بداية الأمر كان الصراع موجها من اجل القضاء على الوثنية، ولاحقا الإبقاء على الدين الأكثر تأثيرا وفاعلية، وأخيرا تحديد معالم ومهمات وغايات الدين التوحيدي الحق وإبعاد البقية الباقية وفرزها بهيئات مختلفة من كفار، ومشركين، وأهل ذمة، وأهل كتاب، وغيرها. وتوّجت هذه الغاية في الكتاب الذي أرسله النبي محمد بيد عمرو بن حزم إلى بني الحارث ينهي فيه الدعوة لشيء أيا كان لغير الله. وورد فيه النص التالي: "إذا كان بين الناس هيج الدعاء إلى القبائل والعشائر، فليكن دعواهم إلى الله وحده لا شريك له. فمن لم يدع إلى الله ودعا إلى القبائل والعشائر فليحذفوا بالسيف حتى تكون دعواهم إلى الله وحده لا شريك له". بعبارة أخرى، إن الإرادة الساعية صوب الوحدانية النقية والإخلاص لها يفترض نفي ما هو غيرها بصدد توحيد الناس والعالم الروحي للجماعة والأمة. وهو منطق الإرادة النبوية أو الإرادة المتسامية. فهي الوحيدة القادرة على إيجاد الحلول بحدس الحرية والإخلاص، أي المتحرر من رق التقليد والقيم الجامدة والعادات والعبادات الموروثة، التي ماتت فيها أو تحللت طاقة الوجدان الحي، أي كل ما يتعارض مع حقيقتها الأولى، بوصفها وسائل الوحدة والإرادة الفاعلة بإخلاصها للحق.

 

ا. د. ميثم الجنابي

 

 

في المثقف اليوم