دراسات وبحوث

النبي محمد وإرادة النفي الشامل للوثنية

ميثم الجنابيفلسفة النبوة المحمدية (8)

كانت مهمة تأسيس القيم الجديدة من بين أهم إشكاليات العلاقة بين الطبيعي والماوراطبيعي في الرؤية الإسلامية الجديدة. إذ جرى تأسيسها، بوصفها تحديا وبديلا للقيم الجاهلية والوثنية وليس العربية ككل. ومن ثم فإنها تحتوي على تمثل عميق لتجارب الأسلاف، أو التجارب التاريخية الذاتية ولكن من خلال صهرها في بوتقة المرجعيات الجديدة للمرحلة الدينية السياسية. ومن الممكن العثور على ذلك في مواقفه تجاه عشرات بل مئات المفاهيم والقضايا.

فقد كان العرب قبل الإسلام ينظرون إلى الموت على انه جزء من فعل الدهر، ومن ثم فإن كل حياة فانية بحد ذاتها، إلا أن قيمتها الكبرى ترتبط بقيم الوجود والذكرى المتسامية كما هو الحال في ارتباط ذكرى الإنسان بقيم الشجاعة والمروءة والكرم والجود والدفاع عن الأهل والقبيلة وغيرها من الفضائل. فالموت يختطف الإنسان، ومن ثم فكل وجود هو زمن عابر، لأن الإنسان موجود في الوجود، وأن وجوده ينتهي بمغادرته، كما في قول ضرار بن الخطاب بن مرداس:

فإن تك قتلى غودرت من رجالنا     فإنا رجال بعدهم سنغادر

وسوف يتغنى بهذا البيت الشعري محمد بن الحنفية في دراما مواجهته الموت. بينما أنشد شداد بن الأسود الليثي:

يخبرنا محمد لسوف نحيا     وكيف لقاء أصداء وهام؟

والصدى هو ما تبقى من الميت. أما الهام فمن جمع هامة. وهي طائر تزعم العرب انه يخرج من رأس القتيل يصيح ارقوني حتى يؤخذ بثأره فيسكت. وقد نفى الإسلام هذه الرؤية الطبيعية بفكرة ماوراطبيعية تقول بأن الموت هو مجرد طور في أطوار الوجود، يولد ويموت ويحيا، وأن لكل حالة معنى. فالإنسان كالوجود بمعايير الطبيعة عرضة للفناء والزوال، ولا يبقى غير وجه الله ذو العزة والجلال. لكنه بقاء يعطي لانقطاع الزمن العابر ولادته الجديدة.

وإذا كان الفوز في التقليد العربية القديمة هو فوز القوة الجسدية، فإنه ارتبط في الفكرة الإسلامية بتفاؤل الروح وليس بقوة الجسد. فعندما قتل احد الوثنيين مسلما بعد أن طعنه بالرمح، قال المسلم: "فزت والله!". فاستغرب الأول قائلا:"بأي شيء فاز وأنا قتلته؟". ذلك يعني أن الفوز ارتبط في الوعي الإسلامي الصاعد بالشهادة، بحيث سعى الفكر الإسلامي التاريخي والفقهي لاحقا بتصوير موت كبار المسلمين على أنهم شهداء بما في ذلك النبي محمد نفسه، انطلاقا من أن اليهود هم من دّس له السم.

كما عارض الإسلام وسعى لنفي قيمة القبيلة الجاهلية باستبدالها بفكرة الجماعة والأمة، وبفكرة المسلم المؤمن. بعبارة أخرى، إن الفكرة القائلة، بأن من غّير وبّدل البنية القبلية في الإسلام هو المدينة وليس الفكرة الإسلامية نفسها يتجاهل حقيقة أن الإسلام هو مصدر الفكرة المناهضة للقبلية وانه وضع أسس الدولة والفكرة المدنية والحقوق، أي كل ما كان يساهم، على خلفية المراكز الحضارية القديمة في العراق والشام ومصر، من تخفيف وتذليل القبلية. إن تذليل النزعة القبلية ينبع من فكرة التوحيد الإسلامية التي تربط وتؤسس للمفاهيم والقيم بمعاييرها وليس ببقايا أو تقاليد ما قبلها وغيرها. وليس مصادفة أن يؤدي الانحراف الأول عن هذا الموقف الإسلامي زمن عثمان بن عفان وتحوله إلى فكرة سياسية زمن الأموية، إلى ظاهرة التمرد الدائم عليه بوصفه خروجا على مبادئ الإسلام عن الأمة.

وفِي علاقته بالزمن والتاريخ جرى تحويل زمن الهجرة النبوية إلى تاريخ إسلامي، بدأ في ربيع أول السنة الثانية عشر بعد بداية الدعوة، التي تقابل الرابع والعشرين من أيلول عام 622 الميلادية. وبهذا يكون التقويم الإسلامي بداية وعي الذات التأسيسي بالنسبة للزمن والتاريخ، أي انه وضع مقدمة وأسس الانتقال إلى حالة أخرى في الوعي الديني السياسي. فقد رافق الهجرة النبوية مشروع التوحيد الاجتماعي والأخلاقي والقانوني والعقائدي الإسلامي. ففي الوثيقة التاريخية التي وضعها النبي محمد في يثرِب نعثر على جملة مبادئ عامة مثل التعليم، والموآخاة ( الأخوة )، والعدالة، والمساواة، وإدخال النساء والعبيد في حكم الشورى، والاستشارة، وتوحيد العبادات وإرساء أسسها وقواعدها. وفِي جميعها كانت نتاج تجربة ذاتية وتلقائية، ومن ثم كانت تحتوي وتعبر بقدر واحد عن نوعية التحول الإصلاحي الثوري في إرساء أسس الجماعة والأمة والفكرة السياسية. وليس اعتباطا أن تتحول لاحقا إلى بداية التقويم الاسلامي مع أن الأولى هو أن تكون بداية الدعوة المحمدية منطلق التقويم الإسلامي. الأمر الذي يعكس جوهريتها بالنسبة لوعي الذات الديني الثقافي والتاريخي والسياسي.

إن حصيلة كل هذه الأمثلة ومئات غيرها تكشف عن أن النفي الإسلامي لتقاليد الإثنية والجاهلية العربية كان نفيا توحيديا بالمعنى الاجتماعي والعقائدي. وكشفت حصيلة النفي التاريخي للوثنية والجاهلية عن أن مساعي التوحيد قد أسست لمنظومة مرجعياته النظرية والعملية. ومن الممكن اختصارها بما يلي: إن  العبادات فكرة دينية غاياتها سياسية وهي توحيد المسلمين على مستوى الروح والجسد؛ وأن الجماعة فكرة دينية بينما الأمة فكرة سياسية، وأن طاعة النبي دينية وطاعة أولياء الأمر سياسية. وينطبق هذا على اغلب المفاهيم المفصلية المتعلقة بالتوحيد الاجتماعي والعقائدي مثل الشورى والجهاد. وعموما يمكننا العثور في جميع الثنائيات الكبرى والعديدة على نفس النمط الذي يشير إلى النفي النموذجي والفعلي للمرحلة الثقافية الدينية بالمرحلة الدينية السياسية. ولعل فكرة السلطة والدولة من بين أكثرها وضوحا وأهمية.

أدت هذه العملية التاريخية ومّهدت لظهور فكرة السلطة من خلال فكرة المركز والقرار النبوي، وفكرة التوحيد الاجتماعي عبر الانتقال من فكرة الجماعة إلى فكرة الأمة. ومن تلاحمها تراكمت وتكونت فكرة الدولة الإسلامية. وخصوصيتها التاريخية والثقافية، تقوم في تشكلها عبر بناء مرجعياتها الروحية والعقائدية والاجتماعية بوصفها الأساس الضروري للنظام السياسي اللاحق والدولة. بمعنى أنها تراكمت وتكونت في القاعدة وبلغت ذروتها في النظام السياسي. الأمر الذي يفسر ثباتها وقوتها الروحية التي أبقت على مرجعية التوحيد ومبادئ العدل والاعتدال كامنة في الوعي السياسي والأخلاقي لمختلف الفرق والاتجاهات، رغم تباين أولوية القيم العملية في عقائدها.

وفيما يخص فكرة السلطة السياسية، فإنها لم تتبلور بصورة واضحة وجلية إلا بعد موت النبي محمد. وما قبل ذلك كانت تعتمل في الأنفس، بوصفها قوة معنوية لكنها لم تتغلغل وتثبت في الوعي والرغبات والمساعي بأثر العقيدة أولا، وبأثر الثروة والجاه لاحقا. وقد برزت الصيغة الأولية الواضحة والجلية بعد موت النبي محمد، في الخطوة التي قام بها أبو بكر عما اصطلح عليه بحادثة السقيفة. حيث تبلورت هنا للمرة الأولى بداية مرحلة جديدة تستكمل بدورها التجربة المحمدية ولكن بمعايير الاستخلاف. ووجد ذلك تعبيره النموذجي في الخطبة الشهيرة لأبي بكر الصديق كما هو جلي في قوله:"إني وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني. الضعيف قوي حتى ارجع الحق إليه، والقوي ضعيف حتى اخذ الحق منه. لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل. أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت فلا طاعة لي عليكم".

إننا نقف هنا أمام نموذج كلاسيكي للسلطة الرشيدة والمحكومة والفاعلة بقوة الشريعة والمصالح الاجتماعية وفكرة الحق والاحتكام للأمة، بما في ذلك حق الأمة أو واجبها بالانتفاض والتمرد وإجبار من خرج على القانون والشرع والمصالح العامة. وتعكس هذه الخطبة في فكرتها العامة ومبادئها العملية صدى الرؤية المحمدية للسلطة ومهامها وعلاقتها بالأمة، اذ أنها لم تظهر عفويا على لسان أبي بكر، أي أنها لم تكن ارتجالا، بل كانت النتاج الجلي لخطاب تاريخي مديد بلوره النبي محمد في مجرى نفيه لتقاليد التسلط والسيادة السائدة في مكة والجزيرة قبل سيطرة وانتصار الإسلام فيهما.

فقد رفض النبي محمد وأدان سلوك خالد بن الوليد الذي قتل جماعة من بني جذيمة بعد أن ألقوا السلاح وأعلنوا إسلامهم، حينذاك قال النبي محمد:"اللهم إني ابرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد". مع دفع دية القتلى. لقد كان سلوك خالد بن الوليد نتاجا لبقايا القبلية (الثأر لعمه)، وكذلك قوة السلطة. ونعثر على أثرها أيضا في بيعة ثقيف لمحمد، والتي لم تكن مبنية على أساس الإيمان الحق، بل خوفا من السلطة. إنهم طالبوه مقابل الدخول في الإسلام، إبقاء اللات لثلاث سنين وهدمهم إياها بأياديهم وإعفاءهم من الصلاة. ورفض محمد الشرط الأول والثالث وقبل بالثاني. وفي أواخر حياته أخذ يزداد استعمال كلمات الملوك والأمراء والوزراء في الخطابة والأحاديث. ولعل القصة المروية عن عدي بن حاتم الطائي وتذبذب مواقفه من محمد احد الأمثلة النموذجية بهذا الصدد، لأنه لم يحسم لنفسه إن كان محمد نبيا أم ملكا. وبعد رؤيته لتواضع محمد وسماع كلماته توصل الى أن محمدا نبي وليس ملكا.

لقد كان مفهوم الملك والملوكية معروفا للعرب بوصفه نظاما للحكم، أي بوصفه فكرة سياسية. وقد خاطب النبي محمد في رسائله الملوك. والشيء نفسه يمكن قوله عن الإمارة، التي كانت تتطابق في الوعي السياسي مع نموذج الإمارة التقليدية المبنية على القوة والسطوة والأبهة والثروة. فقد رفض بعض العرب مبايعة أبي بكر وقالوا: "نحن نبايع ذا العباءة"؟ وذلك لأن أبو بكر كان يرتدي العباءة ويسير مع الجميع ويفترشها ويجلس عليها. وعندما سأله رافع الطائي النصراني، الذي اسلم عما ينبغي القيام به أجابه:"أن توّحد الله ولا تشرك به أحدا ولا تتآمر على رجل من المسلمين". وعندما بويع بالخلافة سأله رافع بن رافع: ما حملك على أن تلي أمر  الناس؟ فأجابه: "لا أجد في ذلك بدا، خشيت على أمة محمد الفِرقة".

بعبارة أخرى، لقد كان النبي محمد والعرب عموما يعرفون أنظمة الملك والملوكية من قياصرة وأباطرة وكسروية وغيرها، لكنه كان يستعيض عنها  بفكرة العبودية لله. فقد كانت السلطة بالنسبة لمحمد هي سلطان الحق والعدل والاعتدال. وبالتالي، كانت السلطة بالنسبة له هي سلطان الأمة على نفسها. وهذه بدورها ليست إلا الصيغة المتعالية لفكرة السلطة الكامنة في الهيبة النبوية والأحكام "الإلهية" والقدرة على تنفيذها. فقد كان النبي محمد مركز القرار. ومع كل توسع وتعمق للهيبة المحمدية يصبح كل فعل وإشارة مظهرا من مظاهر السلطة. فقد تأثر، على سبيل المثال، عمر بن الخطاب تأثرا كبيرا بطلب النبي محمد من أبي عبيدة الجراح أن يكون حكما بين النصارى العرب بطلب منهم. وكان عمر بن الخطاب موجودا بحيث جعلته، كما ينقل عنه قوله:"ما حببت الإمارة قط حبي إياها يومئذ".

لم يفكر النبي محمد بالدولة في بدية الأمر، كما أنها لم تشغل باله حتى موته. إذ كانت همومه أوسع من فكرة الدولة. وذلك لأن الهموم السياسية كانت في البدء جزء من الهموم الدينية العقائدية الكبرى. وهي الحالة التي كانت تعكس أيضا أهمية وجوهرية الدولة كما تصورها النبي محمد، بوصفها خلافة الإنسان لله في الأرض. لقد وضع أسلوبا جديدا لبناء الدولة وصيرورتها من خلال الجماعة والأمة وتنظيمها ثم وحدتها السياسية. وهو أمر جلي في توحيد العرب بمعايير الفكرة الدينية السياسية والغزو الخارجي زمن أبي بكر. بمعنى أن  النبي محمد قد أرسى الأسس الفكرية للدولة اللاحقة. ومن ثم، فإن فكرة الخلافة تستمد مقوماتها من فكرة الأصول النظرية والعملية الكامنة في القرآن والسلوك النبوي. وقد تكون الفكرة التي بلورتها الآية القائلة، بأن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها، الصيغة العامة على رفض النماذج المتنوعة للملوكية والاستعاضة عنها بفكرة البديل الإسلامي، الذي تراكم في مجرى التجربة النبوية والسياسية لمحمد، أي كل ما وجد تعبيره في فكرة الله، ثم النبي، ثم أولياء الأمر. والمقصود بأولياء الأمر هنا هم من يتمثل حقيقة القرآن والسلوك النبوي من خلال الوحدة الحية لفكرة الجماعة والأمة. وبهذا يكون قد فسح المجال أمام الاجتهاد اللاحق عن الولاء والإتباع ولكن بمعايير الفكرة القرآنية. ففي زمن النبوة تبعثرت هذه المفاهيم لكنها توحّدت في شخصه كما هو الحال بالنسبة لفكرة الرضا، والشورى، وأولياء الأمر، والجماعة، والأمة.

احتل النبي محمد في مجرى تحدي الجاهلية الوثنية وصنع الإرادة الإسلامية الجديدة موقعا متزايدا ارتقى تدريجيا إلى مصاف المركز الحاسم لكل شيء. وقد كانت تلك عملية معقدة نسبيا لكنها انسيابية تراكمت في مجرى تغلغل الفكرة الوحدانية في كل مسام الوجود العربي الإسلامي الجديد. ونعثر على انعكاسها في الفكرة التي ظهرت في مجرى الصراع وارتكز عليها، ألا وهي إن النزاع المحتمل مع أي طرف ينبغي حسمه بالصبر والحق. وفيها يمكن العثور على الصيغة العملية للفكرة المتسامية القائمة في مبدأ "الإيمان بالله والرسول". ونعثر على صداها الجلي في الآية القائلة "لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ". ومن ثم، فإن مهمة الرسول تقوم في إخراج الناس من الظلمات إلى النور، مع ما ترتب عليها لاحقا من مبدأ اخذ بالتغلغل في الوعي الفردي والجمعي الاسلامي، بحيث تحول إلى جزء من العقيدة، والقائل، بأن من يطع الرسول فقد أطاع الله. إذ نعثر فيه على الصيغة المتسامية للعلاقة بين الطبيعي والماوراطبيعي. بعبارة أخرى، إن العلاقة الجديدة التي جرى بلورتها في مجرى تدقيق وتحقيق الفكرة الوحدانية الإسلامية تعكس ما يمكن دعوته بتهذيب الوحدة الحية بين الطبيعي والماوراطبيعي في الفكرة الإسلامية، التي وجدت انعكاسها في عدد كبير من الآيات، مثل "وما أتاكم الرسول فَخُذُوه، وما نَهَاكُم عنه فَانتَهُوا واتقوا الله"، وأن "النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ"، وأن النبي ليس فقط مبشرا ونذيرا ورسولا، بل و"سراج منير"، وبالتالي، فإن المسلمين ينبغوا أن "يقولوا في ما يفصل فيه: سمعنا وأطعنا". ذلك يعني، ضرورة أخذ الإذن منه للعمل، وألا "يدعوه مما يدعوا بعضهم بعضا". وبلغت كل هذه المظاهرة المتنوعة للموقع المتسامي للنبي محمد في الأمة والجماعة والفرد في الآية القائلة "إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ".

لم يكن بإمكان هذا الموقع أن يكون أثرة لفرد أو جماعة أيا كانت. الأمر الذي يفسر أيضا سبب ترك النبي محمد الأمر المتعلق بالسلطة لمن بعده، اذ انه لم يستخلف. وبهذا المعنى يكون قد ترك إدارة شئون الأمة للأمة نفسها. وظلت هذه القضية جزء من تجارب الأمة، بوصفها تاريخا سياسيا. وذلك لأن الفكرة الجوهرية للنبي محمد بهذا الصدد تقوم في نفي تقاليد الوثنية والجاهلية بشكل عام والعربية آنذاك بشكل خاص، ومن ثم وضع أسس العقيدة التوحيدية التي حددت بأشكال ومستويات مختلفة ومتباينة حدود الاجتهاد العملي في الموقف من مفهوم الشورى والاستخلاف وأولياء الأمر.

فقد قال عمر بن الخطاب، على سبيل المثال: "إن استخلفت فقد استخلف من هو خير مني، وإن تركتهم فقد تركهم من هو  خير مني". وعموما يمكن القول، بأن فكرة أو أجنة التوريث وضعها أبو بكر باستخلافه عمر بن الخطاب، بوصفه قرارا فرديا بحت، كما لو انه رد الجميل على اختيار عمر إياه في حادثة السقيفة، أو لاعتبارات أخرى. كما أن أبو بكر لم يستشر أحدا ولم يحصل على موافقة الأمة وبيعتها. والشيء نفسه ينطبق على ما يسمى بمبدأ القرشية في الخلافة. فقد كان هو الآخر اجتهادا سياسيا متسرعا يتعارض من حيث الجوهر مع الفكرة المحمدية عن حقيقة المسلم، والمؤمن، والجماعة، والأمة، وأولياء الأمر.

إذ لا سند لفكرة قرشية الخلافة في القرآن والسنّة العملية للنبي محمد و سلوكه الشخصي. بل على العكس. إن كل ما فيه ينفي ويذلل هذه الفكرة وحدودها الضيقة. ومع ذلك، فإن أول من قال بها هو أبو بكر الصديق. ففي معرض رده على الأنصار وقت السقيفة قال لهم:"لن تعرف هذا الأمر (الخلافة) إلا لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسبا ودارا". وبهذا يكون قد أسس لاسترجاع الفكرة الجاهلية والوثنية في الموقف من الخلافة. والشيء الوحيد الذي يبررها هو الاجتهاد السريع الذي اخمد إمكانية الفتنة السياسية في وقت لم يتصلب عود الإسلام بوصفه عقيدة الجميع المرسخة في مرجعيات معقولة ومقبولة للأغلبية. ولعل حركة الردة وإخمادها ومن ثم تجميع القوى وزجها في مجرى الفتوحات الإسلامية تكشف عن هذه العملية.

لقد تحول الغزو الخارجي، بوصفه امتدادا لتاريخ الغزوات المحمدية داخل الجزيرة إلى فتوحات إسلامية. وهو مصطلح يحتوي بقدر واحد على أبعاد طبيعية وماوراطبيعية. فالأبعاد الطبيعية فيه كونه حربا من اجل نشر الإسلام، وبالتالي فهو رديف لفكرة الدولة العربية الإسلامية الناشئة، ومن ثم فهو فتح إسلامي، أي محدد "بالإرادة الإلهية" التي جسّدها الإسلام.

إذ تنقل لنا كتب التاريخ والسير معطيات بهذا الصدد تقول بحدوث سبع وعشرين غزوة زمن النبي محمد قاتل في تسع منها، وثمان وثلاثين سرية. والغزوة في تقاليد ومفاهيم الإسلام الأول هو ما اشترك بها محمد على خلاف السرية. وأهم هذه الغزوات ودان، والعسيرة، وسفوان، وبدر الأولى، وبدر الكبرى، وبني سليم، والسويق، وذي أمر، وبني قنيقاع، وذات الرقاع، وَدُومَة الجندل والخندق، وغيرها. أما السرايا فهي سرية عبيدة بن الحرث، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن جحش، وزيد بن حارثة وغيرها.

لقد وضع النبي محمد في غزوة مؤتة أساس الرؤية المستقبلية لانتشار الإسلام والدولة. فبعد رجوع الجيش مهزوما بقيادة خالد بن الوليد اخذ أهل المدينة يحثون في وجوه الجيش بالتراب. وكان عدد الجيش آنذاك حوالي ثلاثة آلاف مقاتل، وكانت الناس تدعوهم بالفرارين، بينما قال محمد "ليسوا بفرار ولكنهم كرار إن شاء الله". وجعل من غزوة تبوك الشوط الثاني لاختبار وتدريب القوى العربية الإسلامية الناشئة في مواجهة الإمبراطوريات الكبرى القائمة آنذاك. ففي غزوة تبوك أراد أن يقود الجيش بنفسه، إضافة إلى انه أعلن المقصد والغاية مما لم يسبق له وإن أعلنه، إضافة إلى إرساله القوات في جو حار جداً.

وقد ردّ النبي محمد على أولئك الذين وصفوا زيدا بالغلام في قيادة حملة عسكرية كبرى في ظل وجود قادة وأبطال وصناديد، بأنهم يشككون بإمارته إياه. انه أراد أن تكون لفكرة القائد الأكبر هيبة لا تخضع للجدل زمن الحرب والسلم والمعارك والخطوب. وفيها أيضا تنعكس بعض جوانب الفكرة السياسية في إدارة شئون الدولة التي تضمحل فيها علاقات القرابة والقبيلة والعائلة وغيرها مما هو متعارف عليه وسائد آنذاك.

فقد كانت منطقة الهلال الخصيب ومصر والنوبة والشمال الأفريقي على قرب من العرب من حيث المكان والأصل والأنساب. إنها لم تكن عوالم مجهولة سواء جرى النظر إلى ذلك بمعايير العلاقة المباشرة من خلال التجارة كما هو معروف فيما يسمى برحلة الشتاء، أو بصورة غير مباشرة من خلال الهجرات القديمة من شبه جزيرة العرب إلى العراق والشام، أو من خلال أسلاف العرب القدماء من مختلف الأقوام "السامية" ودويلاتهم مثل إمارات الغساسنة والمناذرة.

ذلك يعني وجود علاقة تاريخية إثنية وثقافية قديمة وعريقة، الأمر الذي يفسر سهولة تعريب المنطقة وشعوبها القديمة ومن ثم استقرارها بوصفها عالما عربيا وإسلاميا. وذلك لأن هذه المهمة التاريخية كما حدثت واستتبت ارتبطت ارتباطا جوهريا بالإسلام.

لقد كانت رحلة الشتاء والصيف الوحدة الحية للزمان والمكان في الوعي العربي آنذاك، اذ لا فصول أخرى بالنسبة لعرب الجزيرة آنذاك، وبالتالي، فإن غزو العرب المسلمين لهذه المناطق كان بمعنى ما الإمكانية المفترضة لتاريخهم الزماني المكاني. وليس مصادفة أن تحصل كل هذه العملية اللاحقة في ضم هذه المناطق في جسد الكيان العربي الصاعد على تسمية الفتوحات الإسلامية، التي احتوت في ذاتها على تعميق وتوسيع العناصر المتبلورة في الوعي العربي الإسلامي ومساهماته في بناء الأمة الجديدة.

فقد فرّق المسلمون الأوائل بين الغزوات والحروب والفتح. ولم تطلق تسمية الفتح في المصطلحات الإسلامية إلا تجاه مكة بظهور عبارة "فتح مكة"، بوصفها البداية التأسيسية للطاقة التاريخية الثقافية العربية الإسلامية. فهي الطاقة التي أدرك قيمتها المطلقة الشيخ الأكبر (ابن عربي)، شانه في كل كشوفاته الفكرية، عندما وضع لمؤلفه التأسيسي عنوان (الفتوحات المكية).

الأمر الذي أعطى للغزو الخارجي بعدا له تقاليده الخاصة بوصفه جهادا متحررا من ضيق المصالح ومنفتحا على كل ما له علاقة بالمقدس والمتسامي. وقبل أن تبلغ هذه الرؤية صيغة الجهاد المقدس، كان ينبغي لها الاختمار في الذات الإسلامية الجديدة. حيث جرى اختمارها الأول عبر التوسع الكمي والنوعي كما نعثر عليه في القوة الفاعلة للفكرة الإسلامية الأولية عن وحدة الإسلام والإيمان، وفكرة الجماعة والأمة. وحالما تطابقت هذه الثنائيات في مستواها العربي "الخالص"، فإن اندفاعها صوب الخارج أصبح نتاجا طبيعيا لفتح مكة.

لم يختلف الغزو العربي الخارجي من الناحية الشكلية والمظهر عمن سبقه من غزوات وحروب، لكن ارتباطه بالإسلام أعطى له طابعا آخر جمع بين المصالح المادية والدعوة الروحية. فالمظاهر المادية جلية في بيت المال والعطاءات والإقطاع والهدايا، الأمر الذي دفع بالبعض على القول، بأن كل ذلك قد جرى بأثر روح الغنيمة (الخمس والجزية والفيء). أما في الواقع فإن الفتح الإسلامي كان يحتوي على صيغة نوعية جديدة استعاضت عن النهب والسرقة والأخذ بالقوة وما شابه ذلك بقواعد القانون: الجزية لغير المسلمين والزكاة على المسلمين. وليس مصادفة ان يرفض أبو بكر فكرة "المرتدين" بتحريرهم من الزكاة، اذ وجد فيها أمرا بمستوى الصلاة والصوم والحج، بمعنى أنها ليست قضية مادية أو اقتصادية صرف، أنها ضرورية للتوحيد الاجتماعي الجديد.

لقد توجت مساعي النبي محمد في النفي الشامل للوثنية والجاهلية. وقد كانت تلك بوابة الفتح الإسلامي العالمي صوب المشرق والمغرب، التي يبدأ معها العقل الإسلامي مرحلته الجديدة في إرساء أسس الثقافة الإسلامية وحضارتها اللاحقة. وهو العقل الذي أرسى النبي محمد مرجعياته الجوهرية ومبادئه الكبرى.

***

ا. د. ميثم الجنابي

 

في المثقف اليوم