دراسات وبحوث

الريحاني: الفكرة السياسية للثورة والاعتدال (3)

ميثم الجنابياعتقد الريحاني، بأن تغلغل السياسة والرؤية السياسية المتطرفة للأمور هو سبب التفاؤل المفرط والتشاؤم المفرط. وكتب بهذا الصدد يقول، بأن "المتشائمون والمتفائلون في الشرق لا يتجاوزون في نظراتهم ومساعيه الحدود السياسية"[1]. وهو حكم دقيق ينطلق من فكرة الريحاني نفسها عن أن الإصلاح هو تدرج في ارتقاء من المستوى الطبيعي إلى المستوى الاجتماعي ومنه إلى الأخلاقي، أي عملية مترابطة ومعقدة تفترض التوازن والتجانس بين مكونات التطور والرقي. لهذا حذر من مغبة التطرف وتجاهل قيم الإصلاح الحقيقي. وتوصل هنا إلى أحد أهم استنتاجاته الفكرية العميقة القائلة، بأنه "إذا اختل التوازن في المنفعة ومالت كفة الميزان فهناك السيادة الفاسدة أجنبية كانت أم وطنية، من القوي كانت أم من الضعيف، وهناك الاستيلاء والاغتصاب والظلم والاستبداد"[2].

من هذا المنطلق يمكن فهم موقفه من تقييم ثورة العشرين في العراق، التي وجد فيها تسرعا. إذ اعتقد حينذاك بأفضلية وجود الإنجليز المؤقت في العراق انطلاقا من أن العراق تحمل السيطرة الأجنبية (من فرس وأتراك) حوالي الف سنة، وبإمكانه أن يتحمل ذلك سنة أخرى! لاسيما وأن المعتدلون والمتطرفون يدركون بأن الاستقلال لا يعطى مجانا. وأن الانصياع والاندفاع وراء رجال الدين مهما كان إخلاصهم، لا ثبات فيه، لأنهم عرضة للتغير السريع. وليست الثورة في الواقع سوى نتاج مغامرات رجال السياسة وتأييد القبائل، وليست نتاج تطور اجتماعي وإدراك حقيقي للتقدم. لهذا أدت إلى صنع أحد أسباب التخريب الكبيرة، ألا وهو تأسيسها لشرعية استخدام السلاح وتقاليد الاقتتال عوضا عن دفع أولوية صراع الفكر وحاكميته في حل الخلافات. ولعل القدر الإيجابي الوحيد في ثورة العشرين في العراق، أنها وحّدت العراق في مدنه وقراه وقواه[3]. ولم يعن ذلك انتقاده للثورة كما هي أو انتقاصه منها. على العكس. فقد قيّم الريحاني الثورة عاليا، بل اعتبرها ضرورة تاريخية ووجد فيها "كلمة الله مجسدة في الأشياء"[4]. بل وجد تجليها في كل شيء، بما في ذلك في الطبيعة من زلازل وبراكين وسيول وطوفان. ومن هذا المنطلق توصل إلى أن تاريخ الإنسان هو "هزات هائلة تسمى بالثورات والحروب"[5]، أي انه أعطى لها بعدا ناموسيا (طبيعيا)، واعتبرها حلقة ضرورية في كسر مسار التاريخ "السيئ". من هنا استنتاجه القائل، بأن الثورة هي "مطهر الأمة وقد ثارت على ما فيها من الظلم والفساد، ومطهر الإنسان وقد ثار على ما في نفسه من قديم التقاليد والخرافات"، وبالتالي فأن من لا يثور على ما في نفسه لا ينجو من العبودية، ولا حق له بأن يشكو من العبودية[6]. واعتبر نفسه لهذا الغرض إنسانا ثوريا. وكتب بهذا الصدد يقول، بأنه ثوري لا تهمه الكعبة أكثر مما يهمه الدستور[7]. ولكنه "ثوري روحي سلاحه الكلمة". وأكد في إحدى مقالاته على أنه كان متخصصا في البداية بحياة روبسبير وكتب سلسلة مقالات عن "زعيم الثورة المعصوم" لجريدة شبلي شميل[8]. وهي "عصمة" وجدها في كل تاريخ الثورة الفرنسية والثورة البلشفية بالنسبة لتاريخ العالم ككل. وأورد بهذا الصدد الحكاية التي تروي قصة الملك الذي أمر باختصار حجم الكتاب الكبير الذي دوّن له حسب طلبه لأجل معرفة تاريخ الشعوب كلها. وعندما اختصره للمرة الأولى رده إليه ثانية وأمر باختصاره مرة أخرى. وفي كل مرة بعد اختصاره يأمر باختصار إلى أن شارف على الموت. عندها اختصره له الحكيم بعبارة واحدة:"لقد تنفسوا وتنافسوا وتعرفوا وماتوا"! وعلق على هذه الحكاية، قائلا بأن "في الأمة الفرنسية من نتائج الثورة العظيمة ما تبقى آثاره حية في ترقي الأمم"[9]. ونفس الشيء قاله عن الثورة البلشفية، التي "زرعت بذور الإصلاح البشري الأكبر، بحيث وجد فيها أسلوبا لتطهير الشرق من أمراضه واستثارته صوب الترقي"[10]. واعتقد بأن الثورة البلشفية أو ما اسماه أحيانا "بالكارثة الحمراء" تغطي برياحها "على كل الأضاليل الروحية والمدنية والسياسية والاقتصادية التي قيدت الإنسانية منذ البدء حتى الآن"[11].

فالثورة بالنسبة للريحاني هي ليست فعلا مرتبطا بالبطش. ولهذا عارض فكرة كارليل، الذي وجد فيها فعلا لأجل الخبز. ورد عليه قائلا، بأن المؤرخ الذي يعتقد "بالصعود المتواصل والترقي الدائم فهو لا شك يرى أن ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان"[12]، أي أن للثورة أبعادا تتجاوز المتطلبات المادية المباشرة. فالثورة هي "كلمة الله المجّسدة في الأرض"، أي أنها معنى البديل الحق. لهذا نراه يقول، بأن قوة الفوضى زمن الثورات يتبعها نظام جديد مبني على الخير والعدل هو أفضل من المظالم المستمرة[13]. لاسيما وأن الثورات في الأمم هي "نوع من العدل البشري الذي يمده من جهة عدل الإنسان، ومن جهة أخرى عدل الله"[14]. وليس عدل الإنسان وعدل الله هنا سوى الصيغة "التقليدية" لوحدة العدل كفضيلة (أخلاقية) والارتقاء (كحاجة طبيعية). وفي نهاية المطاف يرتبطان بحرية الإنسان وإرادة الخير باعتباره تحررا. وهي فكرة نعثر عليها واضحة في بحثه الذي قدمه عن (الشاهنامة) وفي تمثيليته (وفاء الزمان)، التي جعل من الثورة فيها أسلوبا للتحرر من الظلم كما جعل من الفعل الإنساني شرطا ضروريا للتحرر. ومن ثم ليس الإبداع الحق للحرية سوى الفعل الذي لا يحدده شيئا غير الحق. وليس مصادفة أن يشيد الريحاني بالخوارج ويعتبر نفسه خارجيا، على الأقل في ميدان اللغة والأدب[15]. وأن يفسر فكرتهم عن أنه "لا حكم إلا لله" بمعناها الصحيح، معتبرا إياها تمثلا وتمثيلا للحق المطلق، أي حق الجماعة (المجتمع). بل اعتبرها كلمة عظيمة لم ينضج آنذاك المجتمع ولا الآن لتمثل حقيقتها كما هي. وذلك لأن تنفيذها يفترض ارتقاء المجتمع إلى مصاف الحق[16]. كما وجد في المسيح اشتراكيا مبشرا بالحرية والعدل والمساواة وعدوا للمسيحية المعاصرة والكنيسة، لأنهما على طرفي نقيض. إذ لو ظهر المسيح الآن لخاطب المسيحية والكنيسة قائلا: أين عهد الإيمان؟![17].

لم تكن آراء الريحاني المبعثرة عن الثورة في مقالاته وتعليقاته وتمثيلياته ويومياته سوى الوجدان الذي تحسس وتلمس معنى الانتفاضة على الواقع القائم والرد إلى الرذيلة المنتشرة بوجد الفيلة ونفيها لمضاداتها. لهذا اعتبر طريقة الشخصية المثلى في الثورة هي إنجاز الثورة الفكرية. من هنا فكرته عما اسماه بأولوية الثورة الأدبية على الثورة السياسية، وأولوية الثورة الروحية على الثورة الاجتماعية[18]. ولهذا السبب وجد في الفلسفة الرواقية "أصلح الفلسفات"، لأنها "تعلمّ الواجب والإرادة والهمّة"[19]. وفي هذا تكمن رؤيته للدنيوية (العلمانية) والمجتمع المدني باعتبارهما ميدان تجلي الثورة السياسية والاجتماعية. وبهذا المعنى أيضا يمكن فهم آراءه عن ضرورة إصلاح الدين وتنقيته من خلال "تخليصه من السياسة". ووجد في ذلك الشرط الضروري للإصلاح، الذي لا تتم بدونه النهضة الفكرية والروحية الحقيقية[20]. ومن هنا شعاره "كن من أنصار الدعوة الإصلاحية التي تنير بنور الوطنية"[21]. وليس مصادفة أن ينتقد بهذا المعنى كل من الأفغاني وسليم سركيس اللذين اشتركا في اللهجة الحرة والغيرة الشرقية والجرأة، إلا أنهما لم يتجردا من التقاليد الدينية، الأول من الإسلام والثاني من النصرانية. واعتبر ذلك ضعفا[22].

إن الشيء الوحيد الذي يجمع آراء الريحاني المتضاربة هو وجدانيتها الصادقة، أي ليس فقدان النظام الفكري فيها سوى الصيغة التي تتفاعل مع متغيرات الوجود. أما هذه المتغيرات فهي الوحيدة التي تستحق الانتباه والتأمل والتحليل وتحديد المواقف. وهي وجدانية أرادت جمع كل شيء من اجل قول كل شيء. لهذا ظلت عائمة مع ما هو قادر على العوم، وغائصة مع ما هو قادر على الغوص، ومتحركة مع ما هو حي، وجامدة مع ما هو ساكن. كما احتوت على أنواع المتضادات دون أن ترتقي إلى مصاف الوحدة. ولم يكن ذلك معزولا عن رغبتها الوجدانية الصادقة في الوحدة. بل يمكن القول، بأن الوحدة هي علة التنوع والمتضادات في إبداع الريحاني وهاجسه الخفي. وقد أجاب مرة على سؤال عن ماهية ذاته، قائلا "من الناحية العنصرية هي سامية آرية (آشورية-إيرانية-يونانية-عربية)، ومن الناحية الدينية هي بعلية-ادونيسية-مسيحية-إسلامية-صوفية، ومن الناحية الأدبية هي شرقية-غربية، ومن الناحية السياسية هي أرستقراطية (شرقية بالإرادة) وديمقراطية (غربية بسيطة)"[23]. وهو خليط يمكن عقله والقبول به، باعتباره أمرا "طبيعيا" من الناحية التاريخية والثقافية "للنشوء والارتقاء" الفردي للريحاني. ولكنه خليط ظل "متجزئ" في المواقف، أي انه لم يتحول إلى نظام معقول له مبادئه المستقلة. وهي نقيصة لها فضيلة في ميدان المعركة الدائرة آنذاك في العالم العربي بشكل عام وفي سوريا الطبيعية بشكل خاص، من اجل "الارتقاء" عن حضيض التجزئة والطائفية.

لقد أراد الريحاني القول، بأن الوجود "الطبيعي" للعالم يفترض انطلاقه من المستوى "الطبيعي"، والإرتقاء إلى مصاف المستوى الأدبي والروحي. وهو ارتقاء لا يمكن تجسيده دون ما اسماه بالتساهل، حيث وجد فيه مبدأ ضروريا ومطلوبا في كل أمور الحياة[24]. إذ أنه "أساس التمدن وحجر زاوية الجامعة المدنية"[25]. وفي هذا يكمن سرّ معاداته للحزبية والسياسة المبتذلة، باعتبارهما الأساليب الأشد تدميرا للكينونة العربية ووحدتها الداخلية. واستغرب أن يكون ما اسماه بالأمة السورية التي لا يتجاوز عددها ثلاثة ملايين أن يكون فيها خمسة عشر حزبا وملة. وجعل من شعر ابن عربي

لقد صار قلبي قابلا كل صورة       فمرعى لغزلان ودير لرهبان

شعاره العملي في محاربة التجزئة والحزبية والطائفية بمختلف ألوانها وأشكالها ومستوياتها. وردد في أكثر من مكان آراء ابن عربي عن أن قلبه يتسع للأديان جميعا، لأن دينه هو دين الحب، فكيفما توجهت ركائبه فالحب دينه وإيمانه. وهو رد يستند إلى ملاحظاته ودراسته لتاريخ سوريا، باعتباره تاريخ النكبات بسبب العصبية والقبلية والجهوية والأسرية والطائفية. ووجد في العصبية سبب سقوط الدولة العربية، التي طابقها مع المرحلة الأموية فقط. واعتقد بأنها عصبية ظالمة وليست عصبية عربية جامعة للكلّ[26]. وتجربة التاريخ العربي تكشف عن انه حتى الدين التوحيدي (الإسلام) لم يستطع القضاء على عصبيات العرب من قبلية وجهوية ومذهبية. وجعله ذلك يصف سوريا ببابل العصبيات وبابل الأديان[27]. وهي تسمية يهودية توراتية تفتقد لما يسعى إليه الريحاني نفسه، لأن بابل هي ليست رمزا للعصبية والتجزئة، بل رمز القدرة الكبيرة على ردم عصبيات اليهود وأمثالهم. إلا أن معناها هنا يقوم في ذم التجزئة. وقدم نفسه نموذجا لتجاوزها، عندا كتب يقول، بأنه لبناني المولد عربي اللسان، ماروني مسيحي، روحه في العالم العربي ككل. وتوصل إلى هذا الإدراك في مجرى رحلته المديدة إلى أمريكا ورجوعه منها إلى مسقط رأسه. ذلك يعني أن العصبية التي نشأت معه عرضة للتغير والتبدل والارتقاء، شأن كل شيء آخر. من هنا اعتقاده بإمكانية حل العصبية في سوريا والعالم العربي ككل. أما حلها فيفترض القضاء عليها. إذ العصبية بحد ذاتها ليست حكما أزليا، بل عرضة للتغير. ومن ثم فهي عملية تحوير وتحرير. وحلها الحقيقي يقوم عبر استبدالها بفكرة القومية أو الوطنية السليمة. والتجربة التاريخية لسوريا تكشف عن أن "الأقليات" الدينية والطائفية والمذهبية وما شابه ذلك عادة ما تكون "طعما للسائد من الحكام" و"مطية للمظالم" و"سيفا بيد الغزاة" وفريسة للمنتفعين". كما أنها كانت في الأحوال جميعا ويلا على نفسها وعلى الأكثرية في البلاد[28]. ولعل أشد هذه الأشكال إثارة في التعصب هو التعصب الديني والطائفي. بحيث وجد فيه "آفة الشرق الكبرى". من هنا استنتاجه الراديكالي القائل، بأنه "إذا كان الكفر هو السبيل الوحيد للقضاء على هذا التعصب، فلا بأس من أن يكون الكفر لازما للشرق"[29]. (يتبع....).

 

ا. د. ميثم الجنابي

.........................

[1] المصدر السابق، ج2، ص137.

[2] المصدر السابق، ج1، ص353.

[3] أمين الريحاني: ملوك العرب، 2، ص335-336.

[4] أمين الريحاني: بذور الزارعين، ص38.

[5] أمين الريحاني، التطرف والإصلاح، ص24.

[6] المصدر السابق، ص24.

[7] أمين الريحاني: الريحانيات، ج2، ص129.

[8] أمين الريحاني: وجوه شرقية وغربية، ص146.

[9] المصدر السابق، ص56.

[10] أمين الريحاني: التطرف والإصلاح، ص19.

[11] المصدر السابق، ص23.

[12] أمين الريحاني: وجوه غربية وشرقية، ص52.

[13] أمين الريحاني: التطرف والإصلاح، ص19.

[14] أمين الريحاني: وجوه غربية وشرقية، ص19.

[15] أمين الريحاني: الريحانيات، ج2، ص154.

[16] المصدر السابق، ج2، ص133-134.

[17] المصدر الساق، ج2، ص142-143.

[18] أمين الريحاني: الطرف والإصلاح، ص31-32.

[19] أمين الريحاني: الريحانيات، ج1، ص183.

[20] المصدر السابق، ج2، ص130.

[21] أمين الريحاني: التطرف والإصلاح، ص15.

[22] أمين الريحاني: وجوه شرقية وغربية، ص111-112.

[23] أمين الريحاني: الريحانيات، ج1، ص10.

[24] المصدر الساق، ج1، ص15-16.

[25] المصدر السابق، ج1، ص25.

[26] أمين الريحاني: النكبات، ص74.

[27] المصدر السابق، ص59.

[28] المصدر السابق، ص5.

[29] أمين الريحاني: الريحانيات، ج2، ص15.

 

 

في المثقف اليوم