دراسات وبحوث

أحمد بن أبي داؤد وخَلق القرآن!!

صادق السامرائيفقيه وقاضي، صاحب محنة "خلق القرآن" التي قتل بسببها مئات الأعلام في الفقه وعلوم الدين واللغة وغيرهم، وقد تمكن من فرض آرائه وما يقضي به بحقهم على المأمون والمعتصم والواثق.

فكان يقدم علماء الأمة قرابين على النطع ليقطع رؤوسهم سيّاف، أو خليفة أوهمه بأنه يقتل زنديقا ويحمي الأمة من شروره، وربما هو الزنديق الأكبر والشيطان المدسوس المهووس بتدمير الأمة والدين.

ولا توجد إحصاءات بمن تسبب بقتلهم وتعذيبهم من أنوار الأمة ومشاعلها المعرفية ومناراتها العلمية، لكنهم ربما تجاوزوا بضعة مئات.

فبسببه دخلت الأمة في محنة إمتحان كل ذي علم ورأي بموضوع "خلق القرآن"، فإن لم يوافق الممتحن أقتيد مقيدا إلى حيث الموت الأكيد، بحضرة الخليفة المخمور بهذه البدعة.

ولا توجد معلومات وافية عن كيف إستطاع أن يقنع خليفة كالمأمون بمسألة "خلق القرآن"، وبأنها من الموجبات لتمام الدين والإيمان، وهي مسألة غيبية لا يمكن التيقن منها، ولا توجد أحاديث بصددها ولم تذكر في القرآن، أو تكلم بها النبي والصحابة وغيرهم من أعلام الدين.

لا يُعرف حقا من أين جاء بها، وكيف أوَّل "جعلناه" بأنها "خلقناهُ"، وكيف أقنع المأمون ليتخذها منهجا لحكمه، فأباد بها علماء الأمة وأنوارها المعرفية.

هل أن المأمون وجد ضالته فيها، بعد أن بلغ مرتبة متقدمة بالعلم، وأصابه وهم المعرفة أو العظمة، وبأنه فوق كل عليم وعليهم أن يتبعوا ما يراه ويعتقده ويتوصل إليه، بتفكيره الفلسفي العقلي الذي كان يعبر عنه ويتمسك به؟

وهل أن (أحمد بن أبي داؤد) قد أدرك ما يختلج في أعماق المأمون فأمتلكه وإستعبده بآرائه، حتى صار أقرب المقربين إليه، بل صار مرهونا به ، فلا يقدم على عمل إلا بعد أن يستشيره، وقد أوصى المعتصم بأن يكون معه ويسترشد بآرائه، وكأنه كان هو الذي يحكم في زمن الخلفاء الثلاثة.

ومن وجهة نظر نفسية أن المأمون كان يعاني من شعور بعقدة الذنب وتأنيب ضمير شديد، خصوصا بعد أن ألقيَ رأس أخيه الأمين أمامه، وأظنه قد فزع فزعا شديدا وأنّبه ضميره بقوة، ولهذا تأثير كبير على سلوكه، وكأنه وجد في هذه البدعة ما يكفّر عن ذنبه ويوهمه بأنه ينتقم لمقتل أخيه.

قد يستغرب البعض من هذا التحليل، لكن الأمين والمأمون من أقرب الأخوة إلى بعضهما وهما كالتوأم، ومن أكثر القادة تربية وثقافة في التأريخ، فقد بذل الرشيد جهودا فائقة لإعدادهما لقيادة الدولة العباسية المتنامية الإقتدار والإنتشار، فأحضر لتربيتهما جهابذة العلوم في زمانه.

فمن هو أحمد بن أبي داؤد؟

يقدم الرجل بسلوكه مثالا واضحا عما ينجم عنه إقران الدين بالنوازع السايكوباثية، التي تتخذ من الدين مطية لتمرير التعبير عنها، فالرجل ميّال لسفك الدماء دون أن يشعر بتأنيب ضمير، وهذا يفسر متانة العلاقة بينه وبين المأمون الذي تمكن منه تأنيب الضمير، فوجد فيه الوجه الآخر والقوة التي تحرره من ذلك الشعور الأليم.

هو أبو عبيد الله أحمد بن داؤد الأيادي  (160-240) هجرية، ولد في قنسرين واستقر بالعراق، وصحب هياج بن العلاء السلمي صاحب واصل بن العطاء فصار إلى الإعتزال، وهو من قضاة المعتزلة، إعتقد بخلق القرآن، واقنع ثلاثة خلفاء بفرض هذه الفكرة على الناس.

المذهل في سلوكه أن ثلاثة خلفاء قد تولعوا به وفرض إرادته عليهم، وكأنه ملكهم، فلديه أسلوب نفسي وموهبة تفاعلية نادرة، جعل الخلفاء يهيمون بحبه ويذعنون لقوله.

من وصية المأمون للمعتصم: "..وأبو عبيد الله أحمد بن أبي داؤد لا يفارقك الشركة في المشورة في كل أمرك فهو موضع ذلك..."

وفي زمن المعتصم والواثق صار قاضي القضاة، وفتن به المعتصم حتى ما كان يرد له طلبا.

يقول إبن خلكان: "أكرم من كان في دولة بني العباس البرامكة وإبن أبي داؤد".

وقال أبو العيناء:" كان بن أبي داؤد شاعرا مجيدا فصيحا بليغا".

وقال الصولي: " لولا ما وضع نفسه فيه من محبة المحنة، لاجتمعت الألسن عليه، ولم يُضف إلى كرمه كرم أحد".

ومدحه أبو تمام بقصائد كثيرة؟

وإتصل به الجاحظ وأهدى له كتابه البيان والتبيين، ومدحه بعد أن أعطاه خمسة آلاف دينار.

وكان يعطي فيُمْدَح لعطائه، وكـأنه كان يريد التكفير عن ذنوبه.

فنحن أمام شخصية متناقضة، تقضي بقتل الذين لا يرون أن القرآن مخلوق كما يرى هو، ومن ناحية أخرى يوصف بالصفات الحسنة، وما هو إلا شخص إمتلك مهارات الإغواء والتلاعب بالأهواء، وإستحوذ على وعي الخلفاء، لأن لديه قابلية فذة على قراءة خلجات نفوسهم، وما يعتمل في أعماقهم ورؤوسهم، فاستعبدهم أيما إستعباد، وأهان أعلام الأمة بهم.

وهو يقدم مثالا مروعا على أن لكل مذهب في الكرسي قميص، وقميص المعتزلة " خلق القرآن"، الذي إنقلب عليهم وأنهاهم فيما بعد.

وهكذا تسير الأمور عندما تتمكن فئة أو جماعة أو فرقة تدّعي المعرفة بالدين، وتمارس دوغماتية صارخة بعد أن وضعت يدها على السلطة، لتذيق الناس أسوأ السوء بإسم الدين الذي تراه على مقاسات أهوائها .

فما قيمة العقل بعد أن أصابته المعتزلة بمقتل، وما تمكنت من توظيفه لخدمة الأمة والدين، وقد سنحت لها فرصة ما بعدها فرصة؟!!

إن السلطة تُذهب العقل، وتستحضر إرادة النفس الأمّارة بالسوء، وهذا ما يحصل لكل فئة مؤدينة تتربع على كرسي السلطة، وعلى مر العصور!!

 

د. صادق السامرائي

 

 

في المثقف اليوم