دراسات وبحوث

الفلسفة الحضارية للفكرة القومية عند قسطنطين زريق (1)

ميثم الجنابيالعرب وإشكالية وعي الذات التاريخي

إذا كانت المصاعب والمصائب تلعب أحيانا دور الابتلاء الضروري لتنقية القلب والإرادة، فإنَّ النكبات الكبرى عادة ما تحرق الوعي لتسلّط لهيبه على مسار الوعي الذاتي. عندها يمكن للمصيبة أن تصبح سببا للإرادة الفاعلة، والنكبة مصدرا للمحبة المبتلاة بفكرة الالتزام الوجودي نفسه. وقد تكون هي الحالة الأكثر تعبيرا عن شخصية وإبداع قسطنطين زريق (1900-2000). بمعنى إننا نعثر في فكرته القومية عن انعكاس خاص لهذه الحالة.

فمن الناحية الزمنية كان قسطنطين زريق ابن القرن العشرين، أي قرن الصيرورة الجديدة للعالم العربي الحديث. أما من الناحية التاريخية فقد كان وليد النكبتين! الأمر الذي نعثر عليه في الوحدة الخفية للزمن والتاريخ، أي في رؤيته وموقفه النقديين من نكبات العالم العربي، ومقترحاته المتعلقة بمشروع البدائل الضرورية للمستقبل. وما بينهما تراكمت فكرته القومية بوصفها فكرة تاريخية ثقافية (حضارية). وفيما لو أردنا اختصار كل هذا المسار الدرامي الخفي لنظريته القومية فمن الممكن وضعه بعبارة تقول: أنه أحب قوميته زمن المصائب، وأدرك واقعها زمن النكبة، وسعى لترميم وعيها التاريخي والثقافي بوصفه الشرط الضروري لتكاملها القومي. ووجد ذلك انعكاسه وتعبيره في رؤيته الخاصة للفكرة القومية من خلال إبراز وإفراز إشكالية الأبعاد الحضارية بوصفها جوهر المشكلة القومية العربية[1]. تماما كما كان الحاتل عند مالك بن نبي، ولكن بمعايير اخرى.

وبهذا يكون قسطنطين زريق الأول من بين مؤسسي الفكرة القومية العربية بمعايير الرؤية الحضارية (الثقافية). ومن ثم وضعه فكرة الارتقاء إلى مصاف المتطلبات والتحديات التي تفرضها الحضارة المعاصرة، بوصفها الصيغة العقلانية والواقعية لإدراك معنى وحقيقة ووظيفة الفكرة القومية بالنسبة للعالم العربي المعاصر. ووجد ذلك انعكاسه في تركيزه على فكرة وعي الذات التاريخي وتأسيسها العملي.

وليس مصادفة أن يشير في مقدمة كتابه (نحن والتاريخ)، الذي وضع فيه الصيغة الأولية لأهمية الرؤية التاريخية، إلى أن ما يكتبه "ليست فلسفة التاريخ"، بل هي "مطالب وتساؤلات" دعا إليها "النظر في الواقع العربي واختباره ومجابهة المشكلات الفكرية التي تنجم عنه"[2]. بعبارة أخرى، أن الأولوية في الرؤية التاريخية تضع مهمة إدراك الموقع الذاتي في التاريخ المعاصر عبر اختبار ما فيه ومواجهة الإشكاليات الفعلية الكبرى القائمة فيه وأمامه. ومع انه أشار إلى أن ما يريده أيضا هو "محاولة تلمس الأسئلة الهامة التي تثيرها علاقتنا بماضينا"[3]، إلا أن القضية الجوهرية ظلت تحوم حول كيفية وضع التاريخ العربي المعاصر وإشكالاته في صلب الرؤية المستقبلية أيضا. من هنا إدراكه لقيمة الرؤية التاريخية. فقد كتب بهذا الصدد يقول، بأنه "لابد لنا كأفراد وكأمة إذا أردنا أن نحيا من أن نجابه التاريخ"[4]. ووضع هذه المجابهة ضمن سياق التاريخ العالمي الحديث أو ما اسماه بواقع الإنسانية الحاضر. ولا يعني ذلك سوى رفع مهمة وعي الذات القومي إلى مصاف المعاصرة. بمعنى إجراء المقارنة التاريخية بمعايير الحاضر من اجل فهم الماضي والحاضر والمستقبل. ومن خلاله يمكن تحديد مهمات الوعي القومي. من هنا غلبة "المطالب والتساؤلات" على الإجابة والتأسيس النظري للتاريخ القومي. إلا أننا نعثر فيها على تأسيس خاص ومتميز، رغم بساطته، لفكرة وعي الذات التاريخي بوصفها فكرة عملية سياسية وثقافية حضارية. وضمن هذا السياق يمكن النظر إليها باعتبارها إحدى النماذج النظرية الأكثر رقيا لتأسيس الفكرة القومية العربية الحديثة.

انطلق زريق في تحديده لماهية التاريخ، باعتباره "سعيا لإدراك الماضي البشري وإحيائه"[5]. ولا يعني ذلك سوى تحويل التجارب التاريخية إلى مصدر فعال بالنسبة للإحياء الجديد، أي لوعي الذات مع ما يترتب عليه من تنشيط القوى المختلفة للإصلاح والارتقاء. ووجد في صيرورة العالم العربي الحديث تجسيدا لهذه الفكرة. إذ وجد فيما اسماه بتنبه العرب لتاريخهم أحد أعظم العوامل في النهضة القومية الحديثة منذ بزوغ فجرها في القرن التاسع عشر[6].

ووضع هذه المقدمة العامة في أساس تصنيفه للمواقف المختلفة من التاريخ، ومن ثم أثرها بالنسبة لمواجهة إشكاليات العصر. فقد اعتبر ما اسماه بالتيارات التقليدية والقومية والماركسية والعلمية، الصيغ الأكثر انتشارا وتأثيرا في الرؤية العملية. فالتيار التقليدي ينظر إلى التاريخ العربي على انه تاريخ "الأمة الإسلامية". وأن مجراها هو المجرى الرئيسي في التاريخ العالمي. وقيّم زريق هذه الرؤية على أنها "نظرة إلهية في تعليلها للأحداث". أما التيار القومي، فهو تيار صاعد متزايد تكيفت نظراته بعوامل عديدة. ويتميز بالإقبال على الماضي والانغماس شبه الكامل فيه، كما هو الحال في كتابات العقاد وطه حسين ومحمد حسين هيكل، مع أن اتجاههم مخلوط بالتقليدي[7]. وما يميز هذا الاتجاه هو اعتباره الماضي القومي لب الماضي، أي يعزل التاريخ القومي عن التاريخ العالمي. وأطلق زريق على هذه الرؤية صفة "التعليل التيوقراطي". بينما تطابق التيار الماركسي في رؤية زريق مع ما اسماه بتغلغل الماركسية في العالم العربي بفعل الصراع الخارجي. وجعلت من الصراع مع التيار القومي احد همومها الكبرى. أما التيار العلمي فيتميز برؤية عقلانية. وذلك لأنه يجعل العقل مرشدا هاديا. كما انه يتوجه إلى الماضي دون فكرة مسبقة.

وفيما لو أهملنا عدم سلامة هذا التصنيف من حيث حده لبعض التيارات وتحديده لحقيقتها ومضمونها الفعلي، وبالأخص ما يتعلق بتحديد ماهية ومضمون التيار التقليدي و"التيار القومي" بشكل خاص، فإن أهميته تكمن في إبرازه القيمة الموضوعية للرؤية التاريخية. ويظهر ذلك بوضوح في إدراكه النظري للقيمة العملية للرؤية التاريخية. إذ اعتبر الهمّ القائم وراء تأسيس الرؤية التاريخية يقوم في تعميق "الرؤية الاجتماعية السياسية الثقافية الصحيحة عن الغايات والمهمات"[8]. بمعنى أنه يوّحد في كلّ واحد الأبعاد الاجتماعية والسياسية والثقافية في رؤيتها للمهمات والغايات. وليس هذا بدوره سوى الصيغة المباشرة والعملية للفكرة التي وضعها في تحديده للتاريخ باعتباره سعيا لإدراك الماضي البشري وإحيائه. من هنا وضعه في فكرة الرؤية العلمية التاريخية ما اسماه بالفضائل المكتسبة والمزايا المطلوبة، والتي حصرها بخمس وهي كل من الجد والمثابرة، والشك والنقد، والدقة، والتجرد، وأخيرا محبة الحقيقة[9]. ووجد في هذه الفضائل المكتسبة حلقات لسلسة مهمتها إحياء الرؤية التاريخية بوصفها مشروعا مستقبليا. من هنا حديثه عما اسماه باحتياج العالم العربي المعاصر إلى هذه الفضائل المكتسبة. ففيها ومن خلالها تتوحد الرؤية المجردة، أي التي تنفذ إلى حقيقة الأشياء كما هي. خصوصا إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن العلم التاريخي في مواده علم نقلي. وبالتالي، فإنها خاضعة للأهواء والمصالح، كما أن الوثائق عادة ما تكتب في ظروف تسيطر فيها أفكار أو سياسات محددة. من هنا ضرورة الدقة بوصفها النتيجة الملازمة للنقد والشك، وذلك لما لها من أثر علمي بالنسبة "لترويض الذهن على الانضباط والانتظام".

وتوصل زريق بأثر هذه الرؤية إلى جملة استنتاجات عامة حصرها أيضا بخمس مزايا وهي: أن استعمال التاريخ واستغلاله الحسن هو احد أفضل الوسائل في بعث الروح القومية وتكوين الأمم ودفعها إلى ما تنشده من نهضة وعزة؛ وضرورة التخلي مما فيه عما هو مثير للأحقاد القومية والطائفية والدينية؛ وأن استغلال التاريخ لأهداف قومية يتوقف على أصالة فهم الموجهين والباحثين والمربين؛ كما أن استغلال التاريخ لأهداف قومية مسألة خطرة ينبغي إدراكها؛ وأخيرا، أن الغاية القومية ذاتها لا تؤتي نتائجها البعيدة المدى إلا إذا وافقت الحقيقة واهتديت بهديها[10].

وفيما لو أجملنا الحصيلة الفكرية لهذه القواعد الضرورية في تربية الرؤية التاريخية، أو المواقف المنهجية من التاريخ، فإنَّ غايتها ترمي إلى صنع وتوسيع مدى ما دعاه زريق نفسه بالثقافة التاريخية، بوصفها وعيا ذاتيا عمليا. بعبارة أخرى، إن الرؤية التاريخية العميقة ينبغي أن تسهم في صنع "ثقافة تاريخية". لهذا نراه يحدد مفهوم هذه "الثقافة التاريخية"، باعتبارها "الخلاصة التي يجنيها الإنسان من جهده في استكشاف الماضي. وبهذا الصفة يكون عاملا فعالا في تكييف نظرته وتعيين اتجاهه بالنسبة إلى الحياة بأكملها: ماضيا وحاضرا ومستقبلا"[11]. ذلك يعني، أن التاريخ يحتوي على إمكانية العبرة المستنبطة من مقدمات عقلية نقدية علمية هادفة من حيث أبعادها العملية. ونعثر على ذلك في محاولته تكثيف هذه العبرة النظرية من خلال إبراز أثر هذه "الثقافة التاريخية" في الفكر والنفس. وحصرها هنا أيضا بجملة فوائد عملية كبرى لعل أهمها هو أنها توّسع اختيار الإنسان وتعمقه، وترسي سبيل إدراك الذات، وتشيع في نفسه شعور الحرمة، وتعمل على تركيز الفرد والأمة وتوطيد كيانهما، كما أنها تعمق فيه نقد الذات والماضي، وأخيرا أنها تصنع  أداة التحرر[12]. (يتبع....).

 

ا. د. ميثم الجنابي – مفكر وباحث

.......................

[1] أهم مؤلفاته (الوعي القومي) (1939). و(معنى النكبة) (1948). و(أي غد) (1957). و(نحن والتاريخ) (1959). و(هذا العصر المتفجر) (1963). وفي (معركة الحضارة) (1964). و(معنى النكبة مجدداً) (1967). و(نحن والمستقبل) (1977). و(مطالب المستقبل العربي) (1983). و(من بعيد ومن قريب) -مقالات وخطب (1994). و(الكتاب الأحمر). ونشر مركز دراسات الوحدة العربية أعماله الكاملة في أربعة مجلدات في بيروت عام 1994،. مع أنها لم تتضمن كل ما كتبه ونشره. وصدرت بعنوان (الأعمال الفكرية العامة للدكتور قسطنطين زريق).

[2] قسطنطين زريق: نحن والتاريخ، بيروت، دار العلم للملايين، ط6، 1985، ص7. (الطبعة الأولى كانت في عام 1959). إذ نعثر فيه على تأمل مرحلة التحولات العاصفة بعد انقلاب 1952 في مصر و1958 في العراق وقبلها في سوريا.

[3] قسطنطين زريق: نحن والتاريخ، ص8.

[4] قسطنطين زريق: نحن والتاريخ، ص16.

[5] قسطنطين زريق: نحن والتاريخ، ص49.

[6] قسطنطين زريق: نحن والتاريخ، ص17.

[7] قسطنطين زريق: نحن والتاريخ، ص34.

[8] قسطنطين زريق: نحن والتاريخ، ص60.

[9] قسطنطين زريق: نحن والتاريخ، ص90-102.

[10] قسطنطين زريق: نحن والتاريخ، ص103-104.

[11] قسطنطين زريق: نحن والتاريخ، ص157.

[12] قسطنطين زريق: نحن والتاريخ، ص161-173.

 

 

 

في المثقف اليوم