دراسات وبحوث

الفلسفة الحضارية للفكرة القومية عند قسطنين زريق (3)

ميثم الجنابيفكرة الأصالة القومية

أعطى قسطنطين زريق للأصالة أبعادا فكرية أولا وقبل كل شيء، باعتبارها اجتهادا ذاتيا. من هنا دعوته إلى تنقية الكيان الذاتي وتأصيله. وكتب يقول، "يجب أن نهتدي في حل مشكلاتنا وبناء حياتنا الحاضرة وإعداد مستقبلنا (وبصورة خاصة) في تنقية كياننا الذاتي وتأصيله واغنائه. هذا الكيان الذي هو السند الأخير والجوهر الباقي لأية خطة نختطها، أو أي نظام ننشئه، أو أية قومية نبعثها"1 . وبغض النظر عن الطابع الإنشائي والدعائي لحد ما في هذه العبارة إلا أنها تحتوي على هاجس وباعث عميق يقوم في سعيها لتأسيس الهوية الثقافية وتأصيلها بوصفها قاعدة كل بديل حقيقي.

وضمن هذا السياق تراكمت وتبلورت رؤيته القومية. فقد مرت الفكرة القومية عنده عموما بمرحلتين، الأولى وهي المرحلة السياسية الأيديولوجية، والثانية هي المرحلة الفكرية النظرية. لكنهما تلازما من حيث الهاجس والهموم والغاية. ومن الممكن رؤية مضمون ومظهر المرحلة الأولى في (الكتاب الأحمر)، والثانية في مؤلفاته الفكرية السياسية والفلسفية التاريخية اللاحقة مثل (نحن والتاريخ) و(هذا العصر المتفجر) و(في معركة الحضارة) و(معنى النكبة مجدداً) و(نحن والمستقبل). وما بينهما كانت تتبلور ملامح الرؤية النقدية وصيرورة الفكرة القومية بوصفها رؤية تاريخية ثقافية مستقبلية كما هو الحال في كتبه (معنى النكبة) و(أي غدٍ).

ففي (الكتاب الأحمر) نعثر على ما يمكن دعوته بالدستور السياسي للفكرة القومية العربية. من هنا كثرة "مواده" التي تحدد ماهية الفكرة العربية، والقومية العربية، وماهية العرب والعالم العربي، ومختلف المواد "العملية" الداعية للتنظيم والجهاد الحشد والإيمان وغيرها، إضافة إلى طبيعة الدولة القومية وعلاقة الديني والدنيوي (العلمانية) وما إلى ذلك. إذ نقف هنا أمام تحديد سياسي أيديولوجي يعتبر الفكرة العربية قضية كبرى. وأنها تعبير عن الحركة الساعية للتحرر من الاستعمار والاستعباد والفقر والجهل وسائر ضروب الوهن. وإنها الفكرة الداعية والساعية إلى تأسيس دولة عربية قومية قوية متحضرة تضمن صيانة وجودهم المادي والمعنوي، وترفع من شأنهم لأداء رسالتهم الإنسانية والحضارية.

أما ماهية القومية العربية فهي كل ما يجمع العرب من صفات ومميزات وخصائص جعلت منهم في مجرى الزمن أمة واحدة. وأدرج فيها الأرض (الوطن)، واللغة، والثقافة، والتاريخ، والمطامح، والآلام، والجهاد المستمر، والمصلحة المادية والمعنوية المشتركة، باعتبارها العناصر الأكثر جوهرية. وإن هذه القومية ليست وليدة الحاضر، بل لها تاريخها العريق في الشعور والوعي. وقد كانت مصدر صعودهم التاريخي، وبالتالي هي مصدر نهضتهم الحديثة أيضا.

أما العربي فهو كل من يتكلم العربية ويعتبرها لغته الأم وينتمي إليها طوعا. والبلاد العربية هي جميع الأراضي التي يتكلم سكانها اللغة العربية. ويحدها شمالا جبال طوروس والبحر المتوسط، ومن الغرب المحيط الأطلسي والبحر المتوسط، ومن الجنوب بحر العرب وجبال الحبشة وصعيد السودان والصحراء الكبرى، ومن الشرق جبال تشتاكو والبختيارية وخليج البصرة. أما الجزر القريبة من الشواطئ العربية والتي يسكنها العرب فهي عربية. من هنا رفعه لفكرة الانتماء العربي إلى مصاف المرجعية الكبرى وتحريم كل ما يتناقض معها من طائفية وعنصرية وطبقية وإقليمية وقبلية وعائلية وأشباهها. من هنا أهمية العمل من اجلها بغض النظر عن المكان والحالة الاجتماعية والانتماء الفكري والسياسي. مما يستلزم بدوره تنوع أساليب العمل وتوّحد غايتها. مما يحدد بدوره أهمية التنظيم والتنسيق من اجل بلوغ الوحدة والدولة القومية الحديثة والتقدم الشامل.

لقد كانت هذه الصيغة التعبير الوجداني السياسي الذي يرتقي إلى مصاف الحدس القومي. بمعنى انه يعبر عن الحالة الوجدانية والرؤية السياسية الآخذة في النمو والتبلور تحت تأثير الصيرورة الجديدة للدولة العربية الجديدة ونمو فكرتها القومية الحديثة. وشأن كل صيرورة من هذا القبيل لا تخلو من تأثير التاريخ العريق المتغلغل في كل مسام الوعي التاريخي والروحي. من هنا محاصرتها الذاتية بين تاريخ واضح جلي وواقع لم ينتظم بعد. من هنا بدائل المستقبل الجلية، ومن ثم صعود الفكرة السياسية الأيديولوجية، بوصفها البديل الأكثر صلابة وثقة ويقينا وإيمانا بما ينبغي. لكن الصيرورة التاريخية عادة ما تتلذذ بمكرها العقلي مع فكرة الواجب واللازم لكي تصنع منهما مع مرور الزمن مقولات قابلة للتنظيم في بدائل أكثر واقعية وعقلانية. وعادة ما يبدأ ذلك بصعود الفكرة النقدية لينتهي بادراك الحكمة في ما جرى ويجري. ومن ثم وضعها في أساس الرؤية المستقبلية.

 

في نقد حالة الفكرة القومية

وقد تهذبت هذه الصيرورة الخشنة بالنسبة لقسطنطين زريق (أو هذا النمط من التفكير والفكرة) في مرحلة ما بين النكبتين (1948 و1967). وليس مصادفة أن تظهر أغلب كتبه النقدية وملامح الرؤية الفلسفية التاريخية بأثرهما. من هنا البحث في (معنى النكبة) و(أي غدٍ) نريد و(النكبة مجددا)، أي تبلور ملامح وعناصر ومفاهيم واتجاهات الرؤية النقدية ما بين أعوام 1948 -1967. الأمر الذي جعل من الفكرة القومية وجها آخر لهذه الحالة. ذلك يعني أن الحصيلة الفكرية الجديدة تكون قد مرت بدهاليز الرؤية السياسية والأيديولوجية بوصفها المرحلة ما قبل النقدية. إلا أنها مع ذلك لم تنف عناصرها الجوهرية الأولية كما هي. لقد جرى إعادة تأسيسها بمعايير فلسفة التاريخ. أو على الأقل انه جرى نقدها وتمحصيها وتأسيسها النظري بخليط من الفلسفة وعلم التاريخ الواقعي.

وليس مصادفة أن يأخذ قسطنطين زريق بالحديث عن "تاريخ" القضية القومية. فنراه يشير إلى أن الحركة القومية بدأت بفكرة الاستقلال السياسي وتوقفت عندها. بينما المهمة الجوهرية الآن تقوم في تحديد ماهية القضية القومية 2. فإذا كانت الفكرة القومية وحركاتها قد جسدت الكثير من الانجازات، وبالأخص دخول مصر العالم العربي بعد استقلالها، إلا أن القومية واجهت انكسار بعد النكبتين بحيث أصبح الشعار المرفوع هو "المطالبة بانسحاب القوى الإسرائيلية المحتلة". وحصر أسباب هذا الانتكاس في اثنين. الأول وهو انتشار وغلبة الفكرة الاشتراكية، والثاني هو ضعف المجتمعات العربية.

فقد وجد قسطنطين زريق في انتشار الفكرة الاشتراكية مظهرا من مظاهر انحسار الفكرة القومية الذي لم يكن معزولا عن ضعف وجود برنامج إصلاحي يهدف إلى فك القيود الداخلية ومكافحة الظلم الاقتصادي والاجتماعي. مع ما ترتب عليه من استعداد لقبول ومن ثم تغليب فكرة الصراع الطبقي على وحدة الأمة3 . أما السبب الثاني فيقوم في "أن القومية لم تظهر في المجتمعات البدائية" كما استنتج زريق. وبالتالي عجز الدعوة القومية عن أن تحدث في المجتمعات العربية التطور الاقتصادي والاجتماعي والفكري الذي يكفل لها البقاء والارتقاء، ومن ثم يتيح للولاء القومي التغلب على الولاءات الأخرى وأن يصهرها في ولاء شامل4 . (يتبع...).

 

ا. د. ميثم الجنانبي

............................

قسطنطين زريق: نحن والتاريخ، ص24

قسطنطين زريق: معنى النكبة مجددا، بيروت، دار العلم للملايين، 1967، ص27.

قسطنطين زريق: معنى النكبة مجددا، ص29.

قسطنطين زريق: معنى النكبة مجددا، ص30.

 

 

في المثقف اليوم