دراسات وبحوث

يونس موحيا: إشكالية الحرية والجبرية في الفكر الكلامي

هل للإنسان إمكانية القيام بالفعل والاختيار باراته الحرة، أم أن هناك قوة غيبية تجعله مجبرا على أفعاله واختياراته؟

عودة إلى نقاش قديم الجواب الكلامي الإسلامي، في تصورات لاتجاه الاعتزالي والأشعري أنموذجا، من خلال الدراسة التحليلية للدكتور عبد الحكيم أجهر1.

لن نختلف إلى حد ما أن الممارسة الكلامية لم تكن ممارسة لاهوتية في جوهرها وأساسها، إذ حاولت أن تتجاوز تلك القضايا والإشكالات اللاهوتية التيولوجية بمعناهما التقليدي وتوسلت بالمناهج الفلسفية العقلية المنطقية خلال انفتاح الحضارة الإسلامية على الثقافات الأخرى، خاصة اليونانية وما أبدعته في مجال المنطق؛ طبعا في مرحلة نضج الممارسة الكلامية. ومن بين الإشكالات التي أثارت الفكر الإنساني منذ قرون هي إشكالية العناية الإلهية بالعالم، وبتعبير آخر هل الصانع حينما أبدع هذا العالم هل وضعه تحت عنايته أم لا؟ وهذا الإشكال سيعبر عليه في التراث الكلامي بمسألة الاختيار والجبر، بعبارة أخرى هل الإنسان مجبر على اختياراته ومسير في كل أفعاله، أم أن له حيز من الحرية والإرادة؟

لقد حاول العديد من الفلاسفة والمفكرين بل حتى الفقهاء ورجال الدين الإجابة عن هذه الإشكالية، وطبعا معهم العديد من المتكلمين، ومادام القرآن والسنة هما مصدري التشريع لدى المسلمين، ومادام علم الكلام كما قيل عنه "قنية2 إسلامية خالصة" فقد لجأ المتكلمون لهما، أي للقرآن والسنة، كمحاولة للإجابة عن هذا الإشكال. ولكن ما واجههم في البداية هي إشكالية التناقض والتعارض بل التضاد الظاهر بين الآيات القرآنية، ولهذا وجدوا أنفسهم مضطرين لإعمال التأويل لرفع كل تناقض وتعارض ظاهر، وكان من نتائج ذلك أن كل فرقة كلامية قادتها مسألة التأويل إلى نتائج مخالفة لنتائج الفرق الأخرى رغم انطلاقهم من نفس العقيدة.

إن الذين يقولون بالجبرية يعودون إلى النصوص الدينية التي تؤكد على أن قدرة الله قدرة مطلقة في العالمين السماوي والأرضي، والذين يقولون بالإرادة يعودون كذلك للنصوص التي تدعم تصورهم. وانطلاقا من ذلك فإن الطائفة الأولى ترى أن الإنسان مجبر في كل أفعاله واختياراته؛ واستدلالهم على ذلك أننا إذا نسبنا للإنسان القدرة على الفعل وقلنا إنه هو الذي يفعل فمعناه أنه يخلق، وبالتالي سيكون مشاركا لله في الخلق، وتجنبا لهذه النتيجة التي هي مناقضة لصفة من صفات الله، ومخالفة لأصل من أصول العقيدة أرجعوا كل الأفعال إلى الله. أما الفرقة الثانية فإنها تقر بالإرادة الإنسانية الحرة واستدلالهم على ذلك أننا إذا أقررنا بالجبرية فإننا سنسب إلى الله الظلم، إذ من الغير المعقول أن يحاسب الله عبدا على فعل لم يرتكبه بإرادته. وكما هو معلوم فإن من التوحيد أن ننزه الله عن كل الصفات القبيحة، وفي مقدمتها صفة الظلم، ومن العدل أيضا أن ننزه الله عن القيام بالأفعال القبيحة وفي مقدمتها أن يظلم عباده بعقابهم على فعل لم يرتكبونه، وبذلك أقروا بالعدل الإلهي كي يتجنبوا مخالفة أصل من أصول العقيدة.

لقد تركت لنا الحضارة الإسلامية إرثا كلاميا فلسفيا منطقيا كبيرا بخصوص هذه الإشكالية، وإذ سنشير فيما يلي لتصور كل من المعتزلة والأشاعرة فإننا بذلك لا نحاول أن نقزم من شساعة التصور الكلامي للفرق الكلامية الأخرى، لأن المسألة تحتاج إلى وقت وجهد وتفرغ للبحث، لذلك سنقتصر على فرقتين بارزتين أشار لهما الدكتور عبد الحكيم أجهر في الفصل الأول من كتابه3.

لقد اختلف المعتزلة مع الأشاعرة في مسألة قدم أو حدوث صفة الإرادة، بحيث عرفها المعتزلة بأنها "ما يتم التخصيص بها، تخصيص وقوع الفعل على وجه دون وجه" وبذلك اعتبروها مخلوقة أو حادثة لأن القول بأزليتها يشمل تعلقها بأفعال الشر والقبح في العالم، باعتبار أن المعتزلة يربطون بين الإرادة والفعل، ذلك لأن جميع أفعاله يجب أن يريدها لكونها أفعال خيرة وأنه لا يصدر عنه إلا ما هو حسن، وبالتالي تصبح الشرور والقبائح في العالم من مسؤولية الإنسان وليس الله، أي أنها تنسب للإنسان وليس لله. وعلى خلاف ذلك فإن الأشاعرة قالوا بقدم الإرادة واعتبروها شاملة ومطلقة مثلها مثل القدرة والعلم. إن أفعال الله حسب التصور الكلامي الأشعري لا يرتبط بما هو أصلح فقط بل يرتبط بكل ما هو حسن وقبيح، ذلك أن إرادة الله إرادة شاملة ومطلقة لكل شيء، لأن القول بعكس ذلك يقودنا لاعتبار أن الله مستكرها ومغلوبا لأن البشر قد يرتكبون بعض المعاصي التي حرمها الله عليهم وبالتالي إذا نفينا شمولية إرادة الله فإن الله بذلك سيكون مغلوبا ومستكرها.

أما بخصوص القدرة الإلهية كصفة فقد أجمع جل المتكلمين على قدمها وأزليتها. كما اتفق المعتزلة فيما بينهم على مبدأ أساسي وهو قولهم باستحالة مقدور بين قادرين، بمعنى أن الفعل الواحد لا يمكن أن يقوم به أكثر من فاعل واحد وهذا الفاعل الواحد إما أن يكون الله وإما أن يكون الإنسان ولا يجوز القول بأنهما يشتركان في الفعل الواحد لأن أي محاولة للإشراك بينها سيؤدي حتما إلى تقليص دور القدرة الإنسانية، وبالتالي ستطرح إشكالية المسؤولية الأخلاقية في العالم وعن أصل القبح والشر. من دون أن يعني هذا أن القدرة الإنسانية هي قدرة لها استقلالية مطلقة باعتبار أن مصدرها هي القدرة الإلهية ذاتها، هذه القدرة الأخيرة توزعت في العالم حقيقة وليس مجازا وحينما تقبع هذه القدرة أو القوة الإلهية في محل ما في العالم، يصبح هذا المحل فاعلا بتلك القدرة ومتصرفا بها على نحو مستقل.

كما اتفق معظم المتكلمين على أن الإنسان لا يستطيع القيام بأي فعل حتى تتوفر فيه الاستطاعة للقيام به، والاستطاعة هو عرض يخلقه الله في الإنسان ليصبح قادرا على القيام بالفعل، ولكن في المقابل إختلفوا في إشكالية الزمن، أي الوقت الذي يخلق فيه الله عرض الاستطاعة هذا، فالأشاعرة وغيرهم من الفرق الكلامية كالطحاوية والماتريدية أقروا بأن الله يخلق عرض الاستطاعة في الإنسان مع نفس الوقت الذي يقوم فيه بالفعل، وبذلك أبدعوا مفهوما جديدا في الممارسة الكلامية وهو مفهوم "الكسب" ذلك أن الإنسان قبل قيامه بأي فعل يحتاج لعنصرين أساسين وهما الإرادة والقدرة، فأما الإرادة فهي من الإنسان وأما القدرة فإنه يكسبها من الله وبالتالي فإن الكسب هو منزلة بين منزلتي الجبر والاختيار، باعتبار الحرية التامة والمطلقة هي لله وحده كما أن الإنسان ليس مسيرا ومجبرا في كل أفعاله واختياراته، وبالتالي تكون نتيجة ذلك أن الإنسان يتحمل كامل مسؤوليته في قيامه بأفعاله دون أن يؤثر ذلك على إرادة وقدرة الله. أما المعتزلة فقد اعتبروا أن الحرية والإرادة الإنسانية هي لطف ثان من الألطاف الإلهية بعد لطف العقل والنقل وفي ذلك يتجلى عدله تعالى بأن لا يعاقب عباده إلا بعدما يهب لهم العقل ويرسل لهم الرسل ويهب لهم الإرادة ويحاسبهم بقدر القدرة التي وهبها لهم، ويستدلون على ذلك أن الله إذا كان يسير العبد في كل أفعاله فهذا يعني أن الذي يعصي الله يطيعه وأن المؤمن والغير المؤمن كلاهما يطيعان الله والأكثر من ذلك أن الغير المؤمن يكون يوم القيامة مستحقا للثواب بدخوله للجنة لأنه أطاع الله. وبذلك قالوا المعتزلة بأن عرض الاستطاعة يخلقه الله في الإنسان قبل قيامه بالفعل بزمن، وهذا الزمن يخول فيه للإنسان القيام بالفعل وممارسته سواء القيام بنفس الفعل أو بضده أو حتى تركه.

وانطلاقا من كل ذلك فإن الأشاعرة قد وقفوا موقف وسط بين "النقيضين" وذلك حينما اعتبروا أن القدرة مخلوقة من الله لأن الله خالق لكل فعل بوصفه الخالق المباشر للقدرة، كما أن الله هو من خلق الإنسان وكل ما يصدر عن هذا الإنسان إنما هو مخلوق من عند الله، دون أن يعني هذا أن الأشاعرة يعتبرون أن الله هو من يقوم بالفعل بدلا من الإنسان أو أن الإنسان مقصي من الفعل تماما، ذلك أن الفعل يعود للفاعل. إضافة لذلك فإن تأكيدهم على أن الاستطاعة يتم فقط زمن القيام بالفعل ووقوعه يتم من خلاله ضمان شمولية القدرة الإلهية وعدم استقلال القدرة الإنسانية عنها. وبذلك سيؤكد الأشاعرة على أن القدرة الإنسانية ليست قادرة على الإحداث والإيجاد ولكنها مؤثرة بوصفها امتداد للقدرة الإلهية ذاتها عكس المعتزلة، خصوصا تصور أبي علي الجبائي، حيث أكدوا أن القدرة الإنسانية تمكنه من الخلق والإبداع وهي قدرة فاعلة حرة مستقلة عن مصدرها، أي عن القدرة الإلهية.

***

يونس موحيا - باحث مغربي

الكلية متعددة التخصصات الناظور، جامعة محمد الأول بوجدة

...................

1- عبد الحكيم أجهر، التشكلات المبكرة للفكر الإسلامي وتحولها الى أنساق عقلية دراسة في الأسس الأنطولوجية لعلم الكلام الإسلامي، المركز الثقافي العربي، (ط1)، الدار البيضاء، المغرب، 2005.

2- بمعنى أن علم الكلام نشأ في البداية من رحم الثقافة الإسلامية قبل أن ينفتح على التراث الأجنبي، اليوناني بالخصوص، لذلك فهو علم إسلامي خالص.

3- عبد الحكيم أجهر، (م س)، ص 43 وما بعدها، ص 73 وما بعدها.

في المثقف اليوم