دراسات وبحوث

عبد العزيز قريش: أسئلة في طريق إعداد درس مدرسي (2-3)

* ما هو النهج العام الذي سأفضله في التدريس توافقا مع الهدف ومعطيات الدرس؟

وهو سؤال يؤسس لنوع التفكير لدى المتعلم/ ة بما هو التفكير (تنفس العقل، وإن توقف اختنق العقل، والتفكير هو ما يهب المعلومات معنى، ويجعل للمعرفة مغزى، فالمعرفة تكشف لنا عن مغزاها من خلال التفكير، ويبرز معنى المعلومات بما يقوم به التفكير من عمليات التحليل والتنظيم والتجنيب والتعميم وغيرها، بل التفكير بلا مبالغة هو الذي يعطي الحياة بأسرها معنى؛ فوفقا لما يراه علماء النفس، يمكن للمرء أن يعيش حياة أفضل تلبي رغباته وتحقق ذاته إذا ما نجح في تنظيم تفكيره، وإخضاعه لقدر من الانضباط والتوجيه. والتفكير الجاد عمل شاق ما أندر أن يمارس، ولم تكن يوما لاعقلانية الإنسان وما جرته عليه من محن ونكبات بسبب نقص معرفته بل بسبب قصور تفكيره في إساءة استغلاله لها، وخير شاهد على ذلك هذا العصر المضطرب الذي نعيشه، فها هي المعرفة تحيط بنا من كل صوب ونحن إزاءها حيارى لا ندري ما هي السبل لاستغلالها بما يلبي حاجاتنا ويوفر أمننا وأماننا، ولا مخرج من هذه الأزمة سوى أن نشرع، وعلى الفور، في أن نعمل الفكر في التفكير بأقصى درجات الجدية، ويبدو منطقيا أن يكون العقل صانع الأفكار وصنيعتها هو المدخل لتناول معضلة التفكير)[23].

والتفكير في منظومتنا آخر ما يفكر فيه، وآخر ما يرد عند الممارس البيداغوجي، لأن التدريس متمحور حول تحصيل المتعلم/ ة المادة المدرسية، فيها يمتحن، لا في نوع تفكيره ومسلكياته المنهجية وفوق منهجية وإنتاجه الفكري الإبداعي، وإنما في إعادة تدوير إنتاج غيره في أحسن الأحوال. فمهما زعمنا في أدبياتنا التربوية والمدرسية المؤسسة والموجهة أن المتعلم/ ة مركز الفعل التدريسي؛ فإن نماذج الاختبارات على سبيل المثال تنفي ذلك بعيدا عن الممارسة الصفية، التي يطغى فيها الخطاب العمودي/ الشاقولي من الممارس البيداغوجي إلى المتعلم/ ة أو من المنهاج الدراسي إلى المتعلم/ ة بصيغة الأمر عبر ممارسه البيداغوجي. فكيف يكون تفكيرنا في التفكير و(نحن لا نملك ناصية عقولنا، وهي في أغلبها من صنع آخرين، حاضرين وغائبين، ولا نبالغ في القول بأن كثيرين لدينا يعانون طفولة في تفكيرهم فعقل الطفل في مراحله المبكرة يكون متمركزا حول ذاته، لذا نراهم ميالين إلى الظن بأن غيرنا يفكر مثلنا، ويقترب ذلك مما وصفه العفيف الأخضر بفكر " مبدأ اللذة "، فكر صبياني يحابي نفسه على حساب الآخرين يسقط أحواله الذاتية على الواقع الموضوعي، وخير شاهد على ما نزعمه هو ذلك الخطاب الفكري بالغ السذاجة الموجه إلى المتلقي الغربي عبر الإنترنيت دفاعا عن الثقافة العربية والحضارة الإسلامية، فهو خطاب يخاطب هذا المتلقي بصورة تكاد تكون مطابقة مع ما يوجه إلى المتلقي العربي. لقد تفشى وباء العقول حتى شمل غير قليل من صفوة النخب لدينا، وليس هناك من داء عقلي إلا وابتلينا به، من اللاعلمية إلى الخرافة، ومن ضمور الإنتاج الفكري إلى تبديد ما يندر أن يحققه من ثمار، ومن قصور التعليم إلى العزوف عن العلم ومداومة التعليم. وحسبنا أن الأسباب قد باتت معروفة وشائعة، حالة بائسة شاركنا جميعا في إرسائها، تعليمنا وإعلامنا، دعاتنا وأدعياؤنا، بيوتنا ونظمنا، ولا نستثني في ذلك بعضا من علمائنا ومفكرينا ومبدعينا، وفي خضم كل هذه الفوضى نجد هناك كثيرين يظنون أنهم يفكرون، وهم في حقيقة أمرهم لا يفعلون سوى إعادة ترتيب انحيازاتهم واجترار أفكارهم وأفكار غيرهم)؟[24]. لذا؛ ألفيت هذا السؤال محوريا في تفكير الممارس البيداغوجي حول درسه المدرسي، لأنه مناط خروجه من ضيق المنهاج إلى سعته، ومن النمطية الفكرية إلى إبداعية الفكر وتعدده، ومن خطية التفكير إلى عدميتها.

وهذا السؤال الجوهري يحيل الممارس البيداغوجي على مبدإ أساس في التخطيط للدرس المدرسي هو ملائمة مكونات الدرس المدرسي مع المعطيات الواقعية للفعل التدريسي، بما فيها:

ـ مستوى جماعة القسم الدراسي ومكتسباتها العامة المشتركة مع استحضار الفروق الفردية بين أفرادها.

ـ الانطلاق من مكتسبات المتعلم/ ة الفعلية ومن واقعه المعيشي لا المفترض مع التركيز على حاجته إلى المستجدات التي تساعده على بناء كفاياته انطلاقا من التقويم التشخيصي.

ـ مناسبة المعينات البيداغوجية للفعل التعليمي ومراحل أدائه.

ـ تدقيق خطة التقويم وأدواتها وتقنياتها، ومناسبتها لمراحل الدرس المدرسي مع استحضار كل الشروط والمتطلبات المساهمة في نجاح التقويم إزاء مراعاة سماته ومواصفاته.

ـ إضفاء الدلالة على كل مكونات الدرس المدرسي في إطار تلمس المتعلم/ ة أن كل ذلك لأجله حتى يحقق حاجاته وحاجياته ومطالبه.

ـ إغماس المتعلم/ ة في الفعل التعليمي من حيث هو المنطلق والمنتهى مع استحضار وساطة الممارس البيداغوجي في هذا الفعل. وتغيير الأدوار بأن يصبح الممارس البيداغوجي موجها مشاركا في بناء الدرس المدرسي بدل أن يظل الملقن والناقل لهذا الدرس.

ـ الوعي بأن الموارد التعليمية وأنشطتها سوى حامل لمحمول هدف غاية في الأهمية، وهو إكساب المتعلم/ ة عمليات التفكير المتنوعة من أدناها إلى أعلاها إقدارا له على مواجهة المشكلات وحلها واتخاذ القرارات والمواقف المناسبة والصحيحة في حياته الخاصة والعامة، وذلك بتمليكه أنواع التفكير وأنماطه. (إن الدور المركزي للمدارس هو تطوير عمليات التفكير العليا وحل المشكلات وصنع القرارات، خاصة وأن الانفجار المعلوماتي الراهن أخذ يحدث بسرعة بحيث لم يعد ممكنا حتى للخبراء في أي مجال أن يلحقوا أو يتابعوا المعارف الجديدة. لذا لم نعد نعرف ماذا نتعلم، وبدلا من ذلك ينبغي علينا أن نساعد الطلبة كيف يتعلمون)[25].

ـ تمليك المتعلم/ ة النزعة المعرفية بذاته وبموضوع اشتغاله، فيعرف كيف يشتغل عقله ويدرك آليات تفكيره وسيروراتها وقيمة نفسه؛ فيعي أنماط تفكيره المتنوعة لكي يستطيع التعامل مع عالمه الداخلي والخارجي. هذا الأخير تزداد فيه المجردات والمصورنات والرموز كثافة كلما ازداد العالم تقدما ونماء. فلم يعد هدف التدريس هو (تحصيل المعرفة، فلم تعد المعرفة هدفا في حد ذاته، بل الأهم من تحصيلها، هو القدرة على الوصول إلى مصادرها الأصلية وتوظيفها في حل المشاكل، لقد أصبحت القدرة على طرح الأسئلة في هذا العالم المتغير الزاخر بالاحتمالات والبدائل تفوق أهمية القدرة على الإجابة عنها)[26]. بمعنى آخر تكوين المتعلم على التعليم الذاتي نقلا له من التعليم الموجه.

ـ إيمان الممارس البيداغوجي أنه أمام إنضاج المتعلم/ ة مبكرا بتحويله من العقلية الطفولية إلى العقلية الراشدة، التي تتحمل المسؤولية والمستقلة والمفكرة والمبدعة والمعتمدة على نفسها تساوقا مع عصر المعلومات والثورة التكنولوجية والرقمية، فـ (فيما يخص مجتمع المعلومات، الذي سيسعى من خلال أساليب تربيته، وأنماط الحياة فيه إلى سرعة إنضاج الصغار، ونعني بذلك تقليل فترة التعليم الأساسي وتنمية قدراتهم الإبداعية والابتكارية، والتقليل من تأثير رقابة الكبار عليهم، واستقلالهم عن ذويهم في سنوات مبكرة)[27]. وتكوين العقلية العلمية والموضوعية والواعية والمنطقية بعيدا عن العقلية الخرافية والسذاجة المعرفية.

و ـ السؤال الموالي للسؤال السابق وهو متعلق به يتساءل الممارس البيداغوجي عن:

* ما الاستراتيجية المعرفية التي سأطورها؟

وهذا السؤال يحيله إلى:

ـ الوعي بأن الاشتغال المدرسي سواء بالنسبة لشق العملية التعليمية التعلمية الأول، وهو التعليم أو التدريس لا يتم إلا تحت عقلية مهندسة ومخططة وعلمية، كل فعل أو نشاط هو مدروس جيدا ومرتب ومعقلن. فلا مكان للعشوائية والتخبط والارتجال في فعل التعليم. ولا موقع للاطمئنان والركون إلى منطق الاستسلام في أنشطته. بل الاحتراز والتبصر واليقظة في كل منشط ومسلك تعليمي. وبذلك؛ كان فعل التعليم فعلا استراتيجيا بامتياز، من حيث التنظيم والاحتمال وإدارة الأزمات في تنفيذ الاستراتيجية. وهي متعلقة بالتفكير الاستراتيجي الذي جوهره (منهجيته العلمية التكنولوجية بأساليبها المتقدمة في مواجهة المشكلات وفي التحليل وفي الوصول إلى النتائج وفي المفاضلة والاختيار بينها. وأهم ما في هذه المنهجية العلمية التقنية استجابتها المسبقة للمشكلات التي يتم التنبؤ بحدوثها أو بإمكان حدوثها، بدلا من الاستجابة الفورية ورد الفعل الآني عليها. فهي تأخذ بمبدأ "الفعل المسبق" لا مبدأ "رد الفعل الفوري")[28]. والشق الثاني هو التعلم، ولا يتم بالنسبة للمتعلم إلا بالتفكير المنظم وفق مكتسبه المنهجي، وكذا وفق الميتامعرفة التي يقوم في ظلها بالتفكير في كيفية الاكتساب المعرفي والمهاري والسلوكي والأداء؛ إلا أن عقلية الممارس البيداغوجي كراشد غير تلك للمتعلم/ ة الطفل أو غير الراشد، التي قد تعتريها الأخطاء المنهجية، المؤدية إلى الأخطاء في النتائج. وبالتالي يقف هنا الممارس البيداغوجي مرشدا وموجها ومنقذا للمتعلم/ ة من الخطأ بالتصحيح والمعالجة. فالمتعلم/ ة قد يمتلك على سبيل المثال نظريات ساذجة يحتكم إليها في الحكم على الأشياء، فينبري الممارس البيداغوجي مصححا لها. ومنه لا يتم وجها عملة فعل التدريس إلا بالعقلية العلمية المعقلنة والمضبوطة والمخططة والمهندسة.

ـ الوعي بأن مجموع الأنشطة التعليمية تقوم على تعليم المتعلم/ ة كيف يتعلم وكيف يفكر بطرق مختلفة لمقاربة ومواجهة المشكلات التي تعترضه في حياته الخاصة والعامة، ومن ثمة ينطلق الممارس البيداغوجي من تشخيص المشكلات والتحديات والصعوبات في إطار الوضعيات التعليمية لتمريس المتعلم/ ة على حل المشكلات والمعضلات. لذا؛ على الممارس البيداغوجي توضيح الاستراتيجيات المعرفية التي سيسلكها لمقاربة أنشطة الدرس المدرسي أو يضع المتعلم/ ة في صلب تعلمها وفهمها والتمكن منها.

ـ الوعي بمدى وجود فروق فردية في الاستراتيجيات المعرفية بين المتعلمين/ ات نظرا لكون كل منهم له استراتيجيته الخاصة التي يتبعها في التعلم، غير أن الاستراتيجية المعرفية التي يريد الممارس البيداغوجي تنميتها لديهم، توحدهم حولها ويقوم أغلبهم بملاءمة تلك التي له معها، والتكيف معها. وبالتي يحاول زيادة فعالية المتعلم/ ة للتعلم والتفكير وحل المشكلات والتذكر والمعالجة المعرفية والاستراتيجيات المعرفية التي حتما تتنوع بتنوع مسلكيات الممارس البيداغوجي في الدرس المدرسي، والحرص على تنويعها.

ـ الوعي بان الاستراتيجيات المعرفية هي مفارقة لمضمون ومحتوى المعمار الفكري والبناء المعرفي للمتعلم/ ة ومستقلة عنه، لكنها لا تتم ولا تكتسب خارج المحتوى التعليمي ومضمونه؛ بمعنى لا تكتسب إلا من خلال النشاط الفكري والمهاري والأداء للمتعلم/ ة سواء كان موجها أو ذاتيا. وبما أن الاستراتيجية المعرفية هي مسلك منهجي وأدائي في ذات الوقت، فهي كذلك عمليات عقلية معرفية في عمقها. فلا يمكن الحديث عنها دون وجود مضمون ومحتوى معرفي أو أدائي لاشتغالها وممارستها، وهي تتضمن فعل التنظيم والتكيف واستثمار وتوظيف المتعلم/ ة العمليات العقلية المعرفية والميتامعرفية المتعلقة ب:

* التنبه والتركيز والاستقبال الانتقائي، الذي يسمح بالاختيار الجيد الموارد والمهارات والقدرات ... المناسبة والقابلة للتوظيف فضلا عن رصد المشكلات والقضايا والتمييز بينها، وترتيبها حسب الأولوية ...

* استحضار الذاكرة طويلة المدى، بما تعني من البرمجة والحفظ والتخزين والتركيم والترصيد. ولما لها من قدرة على حفظ ودائع الفكر والأحداث والمكتسبات والتجارب والخبرات من أجل استدعائها في الوقت المناسب.

* اشعال الذاكرة واستدعاء الموارد والمكتسبات واسترجاعها وتوضيبها وتجهيزها للتوظيف. وهنا يجب تدريس المتعلم/ ة كيفية انتقاء الرئيسة والقابلة للتصريف والتطبيق والملائمة لنوع المشكلة والمساهمة في حلها، لا تلك التي تزيدها تعقيدا على تعقيد. كما يحدث مع إصلاح "إصلاح التعليم"!

* إعمال التفكير في كيفية ممارسة حل المشكلة والشروع في التنفيذ. والتقويم والمعالجة الآنية للطوارئ وإدارة الأزمات.

وهذا السؤال مفتاح جيد لمغلقات التفكير عند المتعلم/ ة خاصة فيما يتعلق بما سبق من المراحل والمحطات الأربع، حيث لكل مرحلة أو مدخل فكري أو أدائي استراتيجيته المعرفية وفق التالي:

(1ـ الاستراتيجيات المعرفية المتعلقة بالانتباه:

تشير الدراسات والبحوث التي أجريت حول الاستراتيجيات المعرفية التي يمكن من خلالها إثارة انتباه المفحوص إلى أن استرجاع أسئلة او تساؤلات حول الموضوع أو النص المراد تعلمه يزيد من درجة من درجة الانتباه ويجعل الاستقبال الانتقائي مرتبط بالإجابة على هذه الأسئلة، وأن المتعلم يمكنه أن يتحكم معرفيا فيما يتعلمه إذا استخدم الاستراتيجيات الموجهة لانتباهه.

2 ـ الاستراتيجيات المعرفية المتعلقة بالترميز:

هنا استراتيجيتان رئيستان مستخدمتان في اكتساب المفهوم الصحيح هما:

الأولى: استراتيجية التركيز " Focusing "

الثانية: استراتيجية المسح " Scanning "

ومن خصائص استراتيجية التركيز أو المفحوص يبحث عن جميع الخصائص المشتركة المتنوعة للمفهوم، فقد عرض عدد من مثلثات مختلفة الشكل صفراء اللون، وجد أن المفحوص يقارن بين جميع الخصائص المشتركة بالمفهوم.

أما في استراتيجية المسح يقوم المفحوص بالاهتمام بخاصية واحدة متعلقة بالمفهوم مثل خاصية اللون، ثم يبحث عن خاصية أخرى لمفهوم آخر، وعند الاسترجاع يعتمد على هذه الخاصية.

وقد توصلت البحوث والدراسات إلى أن استراتيجية التركيز أكثر استخداما عندما يكون المتعلم واقعا تحت ضغط الوقت، بينما تكون استراتيجية المسح أكثر استخداما عندما لا يكون الوقت عاملا مؤثرا في الموقف.

3 ـ الاستراتيجيات المعرفية المتعلقة بالاسترجاع:

يشير مفهوم الاسترجاع إلى محاولة الفرد تذكر أو استرجاع المعلومات التي يتم استقبالها في الذاكرة قصيرة المدى أو السابق تعلمها وتخزينها في الذاكرة طويلة المدى.

وتأخذ استراتيجيات استرجاع المعلومات عدة أنماط هي:

* التسميع والمراجعة Reharsal & review

* تنظيم المعلومات أو الفقرات Organizing items أقل ارتباطا ببعضها البعض في وحدات مترابطة.

* الإتقان أو الإحكام Elaboration

* التصور البصري Visual Imagery

ويعتمد كل من التعلم الفعال والاحتفاظ الجيد بكمية كبيرة من المعلومات على استخدام واحدة أو أكثر من الاستراتيجيات الثلاث الخيرة. ويتوقف اختيار الاستراتيجية الملائمة على طبيعة المعلومات ومدى تشبعها بعامل المعنى ومستوى صعوبتها أو طولها ودرجة ارتباطها بالواقع أو مألوفيتها.

وتسير [العمليات الأساسية لتجهيز ومعالجة المعلومات على النحو التالي:

ـ المرحلة الأولى: عملية التحويل الشفري Encoding: وهي العملية التي بواسطتها يتم تكوين آثار الذاكرة التي تعمل على بقاء المعلومات في الذاكرة، ويتم في هذه المرحلة تحول وتغير شكل المعلومات من حالتها الطبيعة التي تكون عليها حينما تعرض على الفرد، إلى مجموعة صور ورموز، أي تتحول إلى شفرة لها مدلول خاص يتصل بهذه المعلومات، وهذه الشفرة يمكن تصنيفها إلى ما يلي:

أ ـ الشفرة البصريةVisual Code .

ب ـ الشفرة السمعية Acoustic Code.

جـ ـ الشفرة اللمسية Haptic Code.

د ـ شفرة الدلالة اللفظية Semantic Code.

ـ المرحلة الثانية: عملية التخزين Storage: وهي العملية التي يتم فيها احتفاظ الذاكرة بالمعلومات التي انتقلت إليها من المرحلة السابقة، وتبقى هذه المعلومات بالذاكرة لحين حاجة الفرد إليها.

ـ المرحلة الثالثة: عملية الاسترجاع Retrieval: وهي العملية التي يتم فيها استعادة الفرد للمعلومات التي سبق أن اختزنت في الذاكرة، ويتوقف استرجاع المعلومات على مدى قوة آثار الذاكرة، وعلى مستوى علاقة هذه الآثار بدلالات الاسترجاع، وعلى العوامل المعينة والمساعدة على الاسترجاع.

كما أن عملية الاسترجاع يمكن أن تتأثر بكل من مستوى تنظيم المعلومات ومستوى معالجة المعلومات، وذلك ما تؤكده بعض الدراسات، مثل دراسة صلاح باشا التي هدفت إلى معرفة أثر تنظيم وترابط المعلومات ومستوى المعالجة على التذكر واسترجاع المعلومات، وجاءت نتائج الدراسة دالة على تأثر استرجاع المعلومات بكل من هذه العوامل " تنظيم المعلومات ـ ترابط المعلومات ـ معالجة المعلومات "][29]

4 ـ الاستراتيجيات المعرفية المتعلقة بحل المشكلات Problem-Slovinh Strategies:

ترتبط استراتيجيات حل المشكلات ارتباطا موجبا ذا دلالة مع زيادة المعرفة والخبرة حيث تمكن زيادة المعرفة كما وكيفا من معرفة أفضل الأساليب اللازمة لفهم المعلومات المتعلقة بالموقف المشكل واستحضارها. واستخدام استراتيجيات أفضل ملائمة لتوظيف هذه المعلومات، واشتقاق الحل منها أو إنتاج خطط للحل وتقييمها بشكل أكثر مرونة وفاعلية.

كما يمكن تقرير أن كلا من المعرفة والخبرة المتزايدة تؤديان إلى تنظيم أكثر فعالية للمعلومات المستعارة من الذاكرة وبالتالي تخفيف العبء على الذاكرة قصيرة المدى مما يمكنها من معالجة المعلومات المحمولة بها والتي تتعلق بالموقف المشكل بفعالية أكبر.

وتتمايز استراتيجيات حل المشكلات بين عدة أنواع من الاستراتيجيات منها:

* استراتيجية تحليل الوسائل والغايات.

* استراتيجية العمل بين الأمام والخلف.

* استراتيجية تعميم البدائل)[30].

فمعرفة وعلم الممارس البيداغوجي ووعيه بمدى أهمية العلوم المعرفية والذكاء الاصطناعي وحضورها في هذا السؤال سيساعده كثير في فهم كيفية اشتغال الذاكرة كما أن علم الدماغ البشري يساهم بقسط وافر في نجاح أدائه التدريسي. كما يمكن التقرير هنا أن الميتامعرفة لها دور مهم في التعلم وفي معالجة المشكلات خاصة ان ارتبطت بالفكر الناقد والمبدع والمتشعب.

ز ـ سؤال الوضعية المشكلة الديداكتيكية تأتي بعد تحديد الاستراتيجية المعرفية التي سيطورها الممارس البيداغوجي، حيث يتعلق بهذه الوضعية السؤال التالي:

* ما المشكلة الملموسة التي سأطرحها في بداية الدرس لتحفيزهم؟

وهو سؤال يحيل الممارس البيداغوجي على العلم بالوضعيات الديداكتيكية والمقاربة بالكفايات أو ما تسمى في الخطاب التربوي المغربي بيداغوجيا الكفايات، وعلى مواصفات الوضعية الديداكتيكية، ودورها في التدريس وكيفية ومراحل توظيفها، وكيفية التخطيط لها وبنائها ... أي معرفته بالأدبيات التربوية الخاصة بالوضعيات. ومن طبيعة الوضعية الديداكتيكية أنها وضعية مشكلة، تستقي وجودها من دورها في تحفيز المتعلم/ ة على التعلم أو بناء موارده وتمثلها وتخزينها واسترجاعها واستدعائها وتوظيفها أو تقويم مكتسباته التي اكتسبها في سياق تعلمه، كما في سياق تعليمه. والوضعية المشكلة الديداكتيكية هي المعنية هنا، من حيث كونها المدخل للتعلم واللبنة الأولى التي توضع أم المتعلم/ ة؛ ولا يمكن الحديث هنا عن المشكلة دون أن يمسك الممارس البيداغوجي بمهارة الأشكلة سواء على مستوى وضع الأسئلة الإشكالية أو على مستوى تشييد البناء الإشكالي على المشكل الواقعي فعلا عائقا أو صياغته إشكاليا؛ ما يساهم في نقل المشكل إلى الطرح الإشكالي الذي سيدفع المتعلم إلى التفكير في حله ومقاربته؛ (بمعنى السلوكات والعمليات الفكرية الموجهة لأداء مهمة ذات متطلبات عقلية معرفية ... [من حيث] يستخدم الفرد فيها ما لديه من معارف مكتسبة سابقة ومهارات من أجل الاستجابة لمتطلبات موقف ليس مألوفا له، وتكون الاستجابة بمباشرة عمل ما يستهدف حل التناقض أو اللبس أو الغموض الذي يتضمنه الموقف. وقد يكون التناقض على شكل افتقار للترابط المنطقي بين أجزائه، أو وجود فجوة أو خلل في مكوناته)[31]. ذلك (أن التعلم المبني على المشكلات يستخدم لتنمية التفكير ذي المستوى الرفيع من خلال مواقف موجهة نحو مشكلات، وتعلم كيف نتعلم، إذ دور المدرس في التعلم المستند إلى مشكلة يتركز في أن يطرح مشكلات وأن يسأل أسئلة، وأن ييسر البحث والاستقصاء والحوار، وأهم من ذلك أن يوفر المدرس إطار عمل مساند، سقالات تيسر البحث والنمو الفكري، ولا يمكن أن يتم التعلم المبني المشكلات ما لم يوفر المدرسون بيئات صفية تتيح التناول المفتوح والأمين للأفكار ومعالجتها)[32].

ومنه لا يستقيم هذا الحديث دون التطرق إلى الوضعية المشكلة الديداكتيكية بشكل مقتضب لما في الأدبيات التربوية من إطناب في شأنها ترجمة ونقلا وتطويرا وهو الخطاب التربوي المغربي عاش ومازال يعيش في كنف بيداغوجيا الكفايات ويعرف جيدا أدبياتها وتفاصيلها ومعطياتها التاريخية وسياق التوظيف ومآلاتها.

والوضعية المشكلة الديداكتيكية لها مسميات أخرى كوضعية الانطلاق، وتحمل في بنيتها مشكلة معينة. وهي وضعية تقع زمنيا في بداية الدرس المدرسي، وتوسم بعديد من السمات تختلف من باحث ومنظر لآخر؛ لكن يمكن التركيز على السمات التالية:

* تنطلق من واقع المتعلم المعيش ومن خبراته وتجاربه ومشاهداته وكائنيته، لكي تكتسب دلالتها عنده، بما يشعر معها بالارتباط بها، ويجد نفسه معنيا بها ومفكرا فيها ومتمثلا لها ماديا وصوريا. فـ (كلما كانت المشكلة مرتبطة بالخبرة الشخصية للطالب، كانت دافعيته أقوى لمتابعة العمل من أجل حلها. وفي كل الحالات تتوقف عملية التعرف على المشكلة والتمثيل المعرفي والعقلي لها على التفاعل بين المعلومات المعطاة في متن المشكلة والمعارف والخبرات السابقة للفرد)[33].

* تحتوي وتتضمن تحديات وصعوبات وعوائق معرفية أو منهجية أو أدائية؛ مطلوب من المتعلم/ ة إيجاد حل لها من خلال مكتسباته ومواردها وكفاياته ومهاراته وقدراته المتنوعة. لكنه رغم ما يقوم به من إشعال ذاكرته واستدعاء موارده ومكتسباته وخبرته وتجربته، لا يستطيع تقديم حلول جاهزة لها وحلها أو مقاربتها، فيشعر أمامها بغياب الحل أو بعدم امتلاكه تصورا للحل أو استراتيجية لمقاربتها، ومنه يجهل الإجابة عنها أو عن أسئلتها أو أداء تعليماتها بمعنى المهمة المطلوب إنجازها من قبله نتيجة غياب موارد ومتطلبات رئيسة في سياق حل الوضعية المشكلة الديداكتيكية، وهي التي تشكل جديد الموارد والمهارات والكفايات والقدرات موضوع الدرس المدرسي. وبذلك تحفزه على البحث والتقصي وتحثه على الانخراط في إيجاد الحل، بما يحدث له توترا معرفيا مستتبعا بتوترات أخرى، وفقدان التوازن وفق نظرية جان بياجيه البنائية حين يفقد المتعلم/ ة التوازن بين مخططاته وخرائطه العقلية والفكرية وأطره المعرفية مع معطيات بيئته الخاصة به، فلا تتوافق توقعاته واستشرافاته وارهاصاته المبنية والمؤسسة على معرفته ومكتسباته وموارده السابقة مع الموارد والمعرفة الجديدتين؛ فيبحث حينئذ عن إيجاد التوازن من خلال اكتساب الموارد الجديدة، بما يؤدي به إلى إيجاد الحل. وهو الأمر المساهم في النمو المعرفي للمتعلم/ ة، بنقله من حالة اللاتوازن إلى التوازن، وهكذا يظل المتعلم/ ة ينتقل من حالة على أخرى في تنمية ونمو مكتسباته المعرفية والمهارية والأدائية والاجتماعية ... وبنياته الفكرية في عملية مستمرة مدى الحياة.

* تثير لدى المتعلم/ ة بعد تحديدها مجموعة من الأسئلة لمقاربتها بما يشكل علامات استفهامية حول مكونات بنيتها والعلاقات البينية بين مفرداتها الأساسية والثانوية وحتى الهامشية، ودور كل منها في نسق المشكلة، ومدى أهميته في وظيفة النسق، وما الاختلالات التي يحدثها غياب أحد هذه المكونات. ما يقوده من جهة أخرى إلى اكتشاف أماكن الخصاص المعرفي أو المهاري أو الأدائي الإجرائي ومتطلباته التي تساهم في تغطية الفارق بين المكتسبات السابقة والمكتسبات المستهدفة والعمل على تحصيله لحل المشكلة؛ التي تعتمد درجة كفاءة معالجتها (بصورة أساسية على قدرة الفرد [المتعلم/ ة] على إدراك العلاقات بين مكوناتها واستخلاص النقاط الرئيسة فيها، وإثارة التساؤلات الملائمة لها، وصياغة تنبؤات بالنتائج المحتملة)[34]. (فقد وصف سافوري وهيوز "Savoie & Hughes" خبرة التعلم على المشكلات أنها تحتاج إلى النشاطات التالية:

1 ـ تحديد مشكلة مناسبة للطلاب.

2 ـ توصيل المشكلة بسياق عالم الطلاب.

3 ـ تنظيم موضوع المشكلة خارج إطار الضبط.

4 ـ تحميل الطلبة مسؤولية التعرف على الخبرة المتعلمة الجديدة والتخطيط لحل المشكلة.

5 ـ تشجيع التعاون بين الطلاب باستخدام فرق التعلم.

6 ـ جعل تعلم الطلبة على شكل أداء أو منتج)[35].

وقد حدد فتحي عبد الرحمن جروان خمس خطوات لمقاربة مشكلة ما؛ وهي وغيرها من استراتيجيات[36] الحل تتساوق مع مراحل التفكير العلمي والتجريبي بالخصوص. وتتمثل في: (

أ ـ دراسة وفهم عناصر المشكلة والمعلومات الواردة فيها والمعلومات الناقصة، وتحديد عناصر الحالة المرغوب "الهدف" والحالة الراهنة والصعوبات أو العقبات التي تقع بينهما.

ب ـ تجميع معلومات وتوليد أفكار واستنتاجات أولية لحل المشكلة.

جـ ـ تحليل الأفكار المقترحة واختيار الأفضل منها في ضوء معايير معينة يجري تحديدها.

د ـ وضع خطة حل المشكلة.

هـ ـ تنفيذ الخطة وتقويم النتائج في ضوء الأهداف الموضوعة)[37].

* الوضعية المشكلة الديداكتيكية هي مشكلة تدريسية تثير أسئلة التفكير حولها من أجل تفكيك مفاصلها وتفاصيلها بغية إيجاد حل مناسب لمعطياتها وواقعها. ومن شأن تلك الأسئلة تنشيط التعليم والتعلم من حيث تثير انتباه المتعلم/ ة لموضوع المشكلة، وتعمل على ممارسة التفكير بشأن الخروج من تحدياتها وعوائقها وصعوباتها بتعلم جديد. فيجد المتعلم أن توظيف العقل هو أحد الدعامات التي يتكئ عليها في مواجهة المشكلة دون الركون إلى الحلول الجاهزة والنمطية والتقليدية، والذي يمنحه فرص إيجاد البدائل المتنوعة التي يختار منها الأجود والأقل تكلفة والآمن والأضمن ناتجا.

وهي الأسئلة من شأنها كذلك قيادة المتعلم إلى تأسيس وعيه وفهمه وإدراكه على خطط واستراتيجيات ومنهجيات للحل إزاء معرفته بالاستراتيجيات والذات والمهمة والمحتوى والسياق. وتتحصل لديه بذلك القدرة على التخطيط ووضع الاستراتيجيات وتنفيذ المنهجيات. إن أثار الأسئلة العميقة حول المشكلة تفيده في هذا الشأن بكثير لأنه في واقعنا التعليمي؛ غالبا ما لا يتساءل المتعلم/ ة عن الخطط والمنهجيات والديداكتيكا المتبعة في التعليم ولا يدركها ويكون تعاطيه مع المشكلات إما نمطيا وتقليديا أو عشوائيا تخبطيا غير منسجم، ومن ثمة تكون الأسئلة مفتاح الطريق نحو وضع الخطط وفهمها واستيعابها وتنفيذها وتقويمها ومعالجة نتائجها. فوعي ما نفعل له دور مهم جدا في طريق الحل؛ حيث (الوعي بالتفكير يعني القدرة على أن تعرف ما تعرفه وما لا تعرفه، وهذه العملية مركزها Cerebral cortex وهي خاصة بالإنسان فقط. وهي القدرة على التخطيط والوعي بالخطوات والاستراتيجيات التي نتخذها لحل المشكلات وتقييم كفاءة تفكيرنا. وإذا كانت اللغة الداخلية تبدأ في سن الخامسة فإن الوعي بالتفكير يبدأ في سن الحادية عشر، وهو ركن أساسي للتفكير الشكلي. ومن المعروف أن الوصول لمستوى التفكير الشكلي ليس عاما بين البشر، كما أن الوعي بالتفكير ليس عاما بين البشر أيضا)[38].

* ذات طابع ملموس يقف عليه المتعلم/ ة بفكره وحواسه، ويستشعر المشكل حقيقة ويحاول إيجاد الحل. فهذا الطابع يتم في سياق تدريسي، حيث يتلمسه المتعلم/ ة كما يحدث في واقعه، مما يولد له إحساسا به وحافزا على حله والرغبة في التعامل معه من خلال وروده في سياق معيشه اليومي المتنوع. لذا؛ كان التعلم المبني على المشكلات من أنجح وأنجع أنواع التعلم، بل والتعليم. لأنه يقوم على مشكلات الواقع ذات الطابع الملموس الذي يمكن الانطلاق منه في تنمية المعمار الفكري للمتعلم/ ة وخبراته وتجاربه. فـ (التعلم المبني على المشكلات يحرر المعلم من محدودية الكتاب المقرر والمواد التعليمية المدرسية، فبالنسبة للمعلم الذي يستخدم التعلم المبني على المشكلات فإن أي حدث أو مناسبة، سواء جرى خارج المدرسة أو داخلها يمكن أن يولد مشكلة ترتبط بحياة الطلاب. وليس هناك حد للأهداف المتنوعة الكامنة وراء المشكلات الواردة في التعلم المستند إلى مشكلة، إذ يمكن للمعلمين أن يعدوا مشكلات لمعالجة تعلم الطلاب للمنهج، أو لتحسين المجتمع، أو حل مشكلات بين شخصية في غرفة الصف. ويمكن للمشكلة أن تهدف إلى تغيير مدرسة غير مقبولة أو إلى تغيير وضع ما في حي مجاور، أو تهدف إلى الاحتفال بإنجاز ما للحي. كذلك يمكن تصميم مشكلات لجزء ما من مساق معين. وقد تكون خاصة بمادة ذات موضوع واحد أو بمادة ذات موضوعات متداخلة. ويمكن تصميمها من قبل معلم واحد أو بشكل تعاوني بين المعلمين لتعليمها من قبل الفريق)[39].

* (المشكلة يجب أن تكون متوافقة مع مرحلة النمو الخاصة بالطلاب، وذات صلة بخبراتهم، وتستند إلى المنهج. ويجب أن تتوافق المشاكل مع مجموعة متنوعة من الأساليب والاستراتيجيات التعليمية والتعلمية. كما يجب أن تزيد من اكتساب المعرفة وتنمية المهارات. إضافة إلى ذلك، يجب أن تكون المشكلة غير مكتملة التركيب لكي يكتشف الطلبة أثناء قيامهم ببحث إضافي صعوبة المشكلة ويعرفون أنها قد تشمل على عدة حلول)[40]. فهي تنمي في المتعلم/ ة المهارات التالية:

(ـ كيف يضع مشكلات ويحيط بحدودها؛

ـ كيف يفكر في حلول متعددة بواسطة جهده العقلي وحدسه، وذلك بصياغة فرضيات متلائمة مع طبيعة المشكلة؛

ـ كيف يبتكر أدوات التجربة ويصنعها؛

ـ كيف يدافع عن فكرة معينة بحجج وأدلة يبحث عنها بنفسه.

عن كل هذه المهارات تمكننا من تمييز الأهداف التي تتوخى بيداغوجيا حل المشكلات تحقيقها، ومن بينها:

ـ تنمية روح الإبداع والابتكار لدى التلميذ؛

ـ اكتساب التلميذ لمنهجية علمية من خلال إنجازه لسيرورة العمليات في التفكير والاستنتاج والتجربة ...؛

ـ تنمية الحاجة إلى التفكير والبحث والتأمل فيما يحيط به. وهكذا يحاول التلميذ أن يتساءل ويفكر باستمرار فيما يحيط به؛

ـ إكساب التلميذ القدرة على طرح أفكاره ووجهات نظره ومقارنتها مع آراء الآخرين؛

ـ تنمية القابلية للدخول في علاقات اجتماعية مكثفة مع الآخر؛

ـ خلق الحس النقدي، بحيث أن التلميذ لا يتقبل الآراء والأفكار إلا بعد التفكير فيها وتجريبها ...؛

ـ تأكيد الذات من خلال بحثها الشخصي وجهدها في الاكتساب والتعلم؛

ـ تنمية روح التواصل والتعاون بين الأفراد من أجل إيجاد حلول لمشكل ما؛

ـ تنمية روح الاستقلالية والمبادرة والمسؤولية لدى التلميذ)[41].

* تمنح المتعلم/ ة الثقة بالنفس من حيث يواجه المشكلة بنفسه تحت توجيه وإرشاد الممارس البيداغوجي لمعطى عدم اكتمال نضجه المعرفي ومعماره الفكري بتعزيز مهاراته وقدراته، من خلال الدفاع عن ذاته وأفكاره وأطروحاته بالدليل والحجة والمنطق والموضوعية في تناوله للمشكلة؛ فتزداد ثقته بنفسه بمواجهة تعقيدات وتحديات وصعوبات وعوائق المشكلة التي تطرحها عليه، وكذلك بمواجهة معطيات واقعه السوسيوتربوي القائم بين أفراد ومكونات جماعة القسم فضلا تنمية روح المبادرة والمبادأة في مواجهة المجهول الذي يكتشفه لأول مرة، وكذا من خلال امتلاك المتعلم/ ة قدرة التعلم ذاتيا عبر المواجهة والتصدي للمشكلات التي تعترضه واقعيا في السياق الاجتماعي، وبناء وتطوير وتنمية ذاته المعرفية والسيكولوجية والاجتماعية والثقافية. والتعلم الذاتي هو مدخل أساس للثقة بالنفس. فهي تمنح المتعلم/ ة فرصة التعبير عن رأيه باستقلالية تامة ووضوح وشفافية في مواجهة كل الضغوطات الذي يطرحها عليه الشك في الذات او اهتزاز الثقة بها، وتسمح له بالتعبير العلني عن مشاكل التعلم لديه فضلا عن تغيير نظرته لذاته وفق ما يطرحه علم النفس العاطفي، وتشكيل رؤية إيجابية عنها، وإرجاع ثقته بنفسه وبقدراته التي تقوده إلى التعاطي مع المشكلات والصعوبات والتحديات. هذا؛ ويتحرر كذلك من رؤية ونظرة الآخر إليه، والضغوطات التي يطرحها المجتمع المدرسي او جماعة القسم عليه حسب معطيات معينة أو سياقات علاقية متنوعة تنزع في أحيان كثيرة إلى الحط من قيمة الفرد داخل الجماعة. فتصبح نظرة ورؤية ورأي الآخرين لا قيمة له عند المتعلم/ ة نتيجة ثقته بنفسه. وهو في ذلك يكتسب التوافق الشخصي المبني على:

(1 ـ الاعتماد على النفس: ويقصد به ميل الفرد/ [المتعلم/ ة] إلى القيام بما يراه من عمل دون أن يطلب منه القيام به، ودون الاستعانة بغيره.

2 ـ الإحساس بالقيمة الذاتية: ويتضمن شعور الفرد/ [المتعلم/ ة] بأنه قادر على توجيه سلوكه وإن له الحرية في أن يقوم بقسط من تعزيز سلوكه.

3 ـ الشعور بالانتماء: أي أن الفرد/ [المتعلم/ ة] يتمتع بحب والديه وأسرته وبأنه مرغوب فيه من زملائه.

4 ـ الاندماج الاجتماعي: أي ميل الفرد/ [المتعلم/ ة] إلى الدخول في علاقات اجتماعية وعدم انطوائه.

5 ـ الخلو من الأمراض العصابية: بمعنى أنه لا يشكو من الأعراض الدالة على الاضطراب النفسي كعدم القدرة على النوم أو الخوف أو الشعور بالتعب)[42]. وهذا ما تسعى إليه المنظومات التربوية والتعليمية العالمية ودعت إليه اليونسكو في غايتها الأربع للتربية المعلنة في: تعلم لتعرف، وتعلم لتعمل، وتعلم لتكون، وتعلم لتشارك الآخرين، وهي الوارد بالتفصيل في:

(التعلم للمعرفة: يشمل التعلّم للمعرفة أن يتعلم المرء كيف يتعلم، وتلك من مهارات التعلم الفعالة المتأصلة في التعليم الأساسي، وتتيح للأفراد الاستفادة من الفرص التعليمية التي تسنح لهم طوال الحياة.” وبالنظر إلى التغيرات السريعة التي أحدثها التقدم العلمي وأشكال النشاط الاقتصادي والاجتماعي الجديدة“، فإن التعلم للمعرفة يسمح بالجمع بين” ثقافة عامة واسعة وبين إمكانية الدراسة المعمقة لعدد صغير من الموضوعات“.

ـ التعلم للعمل: التعلم للعمل يؤكد على اكتساب المهارات المهنية اللازمة لممارسة مهنة أو تجارة. ويشجع على إقامة بين عالم التعليم وعالم الشراكات وعالم مؤسسات الأعمال والصناعة لتعزيز مجموعة متنوعة من الترتيبات التي تسمح بتفاعل التعليم والتدريب مع عالم العمل. فبالإضافة إلى تعلم ممارسة مهنة أو تجارة، يحتاج الناس إلى اكتساب القدرة على التكيف مع مجموعة متنوعة من الحالات التي لا يمكن التنبؤ بها في كثير من الأحيان وعلى العمل الجماعي معا ـ ولا تلقى هذه المهارات في العادة الاهتمام الواجب في مجال التعليم.

ـ تعلم المرء ليكون: ويمثل هذا الموضوع الرئيسي لتقرير فور الذي نشرته اليونسكو في عام 1972 والذي شدد فيه على تنمية الإمكانات البشرية إلى أقصى حد. ولا تزال توصيات عام 1972 تعتبر ذات أهمية بالغة في تقرير ديلور” بالنظر إلى أن القرن الحادي والعشرين سيتطلب من الجميع قدرة أكبر على الاستقلال الذاتي والحكم على الأمور لتساير دعم المسؤولية الشخصية في تحقيق الهدف المشترك للجماعة. “

ـ التعلم للعيش مع الآخرين: ينظر إلى تعلم العيش معا باعتباره يحتاج إلى تنمية المعرفة بالآخرين وتاريخهم وتقاليدهم وروحانياتهم. وهذا الفهم” من شأنه بناء عقلية جديدة تدفع المرء، بفضل هذا الإدراك للتكافل المتزايد بيننا، وبفضل تحليل متوافق عليه لمخاطر المستقبل وتحدياته، إلى تحقيق مشروعات مشتركة أو إلى تسوية حصيفة وهادئة للنزاعات التي لا مناص منها. “ [...] والخروج من دائرة الأخطار التي يغذيها الاستخفاف أو الاستسلام)[43].

وهذا التعلم للعيش مع الآخرين هو ما يسعى إليه التعليم المبني على المشكلات أو ما يسمى في الأدبيات التربوية المغربية" بيداغوجيا حل المشكلات " التي (لا تتوخى فقط تنمية الجانب العقلي والذهني لدى التلميذ، بل تتوخى كذلك تنمية مواقف إيجابية، مثل التعاون والمبادرة والمسؤولية ...؛ ومن تم تختلف عن أهداف التربية التقليدية التي ترتكز على المادة، كما تختلف كذلك عن التربية التي تركز على البعد الفرداني في عملية التعلم)[44]، كما يحدث في أقسامنا التي يحث فيها الممارسون البيداغوجيين المتعلمين/ ات على الاشتغال بمفردهم!؟ وتحت غاية التعليم للمعرفة إن (طلاب اليوم من رياض الأطفال إلى الثالث الثانوي يحتاجون إلى بناء مهاراتهم في حل المشاكل والتفكير أثناء تعلم المضمون الضروري لتطبيق تلك المهارات. إن المنهج الذي يعد الطلاب جيدا ليكونوا عاملين ومواطنين منتجين في القرن الحادي والعشرين سوف لا يحشو أدمغتهم بحقائق ونظريات اليوم ـ والتي سرعان ما تصبح قديمة أو مهملة ـ بل أنه سيبين لهم كيف يتعلمون بأنفسهم وكيف يستخدمون المعلومات التي يتعلمونها)[45]. فقد (أصبحت مهمة التعليم، هي تعليم التلميذ كيف يتعلم ذاتيا، وكيف يداوم عملية التعلم تلك على مدى فترات حياته العملية، لقد فقد التمدرس احتكاره الذي طال لمهمة التعليم، ويتحول تعليم الكتل تدريجيا إلى أشكال متنوعة للتعلم الذاتي، الجماعي والانفرادي، لقد تعددت مصادر اقتناء المعرفة لتشمل بجانب المدرس: الكتاب، والمراجع والبرامج التعليمية، والمناهج المبرمجة، وبنوك المعلومات)[46].

* المشكل هو فعل إثارة التفكير في رأس المتعلم/ ة، بمعنى يؤدي به إلى التفكير في المشكل تحديدا وفهما واستيعابا ثم تحليلا وتفكيكا ودراسة معمقة فاستنتاجا وحلا وتطبيقا؛ وحين يفكر فيه وينفذه على أرض الواقع من أجل حل المشكل/ المشكلة، يمكن لهذا المشكل أن يطرح نفسه بصيغة أخرى هي التفكير في التفكير بمعنى الميتامعرفة[47] على المتعلم متسائلا عن الاستراتيجية المعرفية التي سلكها تفكيره لحلها، بدلالة السؤال: ما الخطوات والمراحل والمفاصل المنهجية/ الديداكتيكية التي قطعها تفكيري في حل المشكلة/ المشكل، حتى وصلت إلى النتيجة المستهدفة؟ وذلك من خلال طلب الممارس البيداغوجي (من التلاميذ أن يبينوا أو يشرحوا إجاباتهم وكيف توصلوا لها، أو يبينوا المنطق وراءها فهو يوجههم للتفكير في التفكير " الميتامعرفة ". وتشير كثير من الدلائل إلى أن تعبير التلاميذ عن استراتيجيات التفكير التي يستخدمونها وعمليات التفكير التي يصلون من خلالها إلى حل المشكلات أو إنجاز المهام التعليمية، سواء قبل أو أثناء أو بعد القيام بالتفكير فعلا هذا النشاط في ذاته ينمي التفكير)[48]. فهي المشكلة/ المشكل؛ رجع عن وعي المتعلم/ ة بها وبتنظيم أفكاره ومعلوماته ومهاراته وقدراته وخبراته وتجاربه ووقته وملاحظاته قصد إيجاد الحل والخروج من المشكلة. وبذلك، هي إعلان خطته للحل، يمكن نقلها من معرفة التجربة إلى المعرفة العامة. فـ (أهم مكون في الوعي بالتفكير وضع خطة عمل ثم الاحتفاظ بها في العقل. تكوين خطة عمل قبل السلوك الفعلي يساعد في متابعة خطوات هذه الخطة في السلوك بصورة واعية. كما يساعد على تقييم ما نقوم به بمقارنته بأنشطة أخرى. وتقدير ما إذا كان هناك استعداد أو تهيؤ لأنشطة أخرى. وهو يوجه تفسيرنا وإدراكنا وقراراتنا وسلوكنا. مثال لذلك ما يقوم به المعلمون المتميزون كنظام يومي: يضعون خطة معينة لتقديم الدرس، وتظل الخطة هاديا لهم أثناء التدريس، ثم يقيمونها في ضوء فاعليتها وما حققته من نتائج بالنسبة للتلاميذ)[49]. لذا وجدنا للميتامعرفة مكانة متقدمة في التعليم والتعلم، نتيجة غياب معرفة ما يفعل عند بعض المتعلمين وعدم إدراكه ووعيه، فسؤال الميتامعرفة يحيل المتعلم/ ة على التفكير في التفكير من باب الفهم والوعي والإدراك والتملك والضبط للاستراتيجيات والتخطيط والهندسة الفكرية التي تساهم بقسط كبير في تنظيم الاشتغال وتأسيسه على وعي وبصيرة وإدراكه، ولا تتركه للعشوائية والتخبط أو للتخمين والارتجالية والضمنية، التي لا تفيد الفعل التدريسي في شيء في أغلب الأوقات. بل تعيده إلى السذاجة التربوية الطفولية، التي تشتغل دون إدراكها لاشتغالها. ففيها؛

(التلاميذ يتبعون التعليمات دون أن يفكروا في سبب ما يقومون به من أنشطة معرفية، ونادرا ما يتساءلون عن الاستراتيجيات التي يقومون بها أثناء التعلم او يقومون بتقييم كفاءة أدائهم. بل أن بعض الأطفال ليس لديهم أدنى فكرة عما يقومون به من استراتيجيات عند حل المشكلة. أما الذين يفكرون تفكيرا ناقدا، ومن يتسمون بالمرونة ولديهم بصيرة، ومن يستخدمون مهاراتهم المعرفية فإن هؤلاء يستفيدون من امكاناتهم المعرفية والتي تتضمن:

1 ـ مهارات إدراكية حركية.

2 ـ اللغة ـ المعتقدات ـ المعرفة بالمضمون ـ عمليات التذكر.

3 ـ استراتيجيات محددة ومقصودة لتحقيق نتائج معينة.

فإذا كنا نود تنمية السلوك الذكي باعتباره الناتج الأساسي للتعلم، فلابد أن تمتزج المقررات الدراسية باستراتيجيات تعليمية تصمم[50] ـ [والتصميم في اللغة المضي في الأمر[51]، كما هو ضرب العظم فقطعه، وحين يصيب السيف المفصل ويقطعه؛ فذاك الطبق. وصمم تصميما في الأمر أو عليه[52]: مضى فيه غير منثن أو متردد. وهو ما يوحي بأننا إذا أردنا تمليك المتعلم كفاية التفكير في التفكير من بابي حل المشكلات، والتفكير الناقد، علينا ابتكار وتخطيط وتصميم منهجيات تعليمية قادرة على دفع المتعلم إلى التفكير في كيفية نشأتها قبل تطبيقها، وتكون محط دراسة وبحث في مسارها وخطواتها، التي تعمل على حل المشكلات. والانخراط الفعلي والحقيقي والمسؤول في تطبيقها والتدريب المتعلم/ ة على سلكها والمثابرة على ذلك والصبر والتبصر فيه؛ فذلك من شأنه تنمية التفكير في التفكير الذي هو المدخل الحقيقي إلى التفكير، أس كل شيء في الحياة النظرية والعملية والتطبيقية] ـ خصيصا لتنمية قدرات الوعي بالتفكير metacognition، ولابد أن تقدم هذه الاستراتيجيات في برامج إعداد المعلم والموجهين والإدارة المدرسية. ومن الملاحظ أن تعليم تلك الاستراتيجيات بفرضها على المتعلم لا يؤدي لتحقيق النتائج المطلوبة، على حين أن تهيئة الفرص للمتعلم كي يتوصل بنفسه إلى حاجته لتلك الاستراتيجيات في حل المشكلات ومناقشتها لها، وسعيه للتدرب عليها يؤدي نموها بصورة تلقائية. المهم هنا أن يتعلم التلاميذ الوعي بالتفكير دون أن يتحملوا مزيدا من الجهد)[53].

والتفكير في التفكير يؤسس فهم المتعلم/ ة كيفية اشتغال العقل الإنساني، وعاداته العقلية التي شكلت مبحثا من مباحث علم المعرفة، والتي لها أهمية في التدريس، حيث (إن عملية تشكيل عادات العقل لا تعني أن يمتلك الفرد مهارات التفكير الأساسية والقدرات التي تعمل على إنجازها فحسب بل لابد من التأكد من وجود الميل أو الرغبة لتطبيق كل ذلك في الأوقات والظروف والمواقف الملائمة. فالتعليم الناجح هو الذي يوسع ويطلق ويقوي الاستعداد للتفكير من خلال تشجيع الميول للاستكشاف والاستقصاء وحب الاستطلاع، وكذلك تشجيع الاتجاه نحو البحث والتحقق وتشجيع الطلبة على الاعتقاد بأن تفكيرهم سيكون مهما ومنتجا، مما يعزز ثقتهم بأنفسهم ودفعهم لبذل أقصى طاقاتهم لإنجاز المهمة. ونظرا للأهمية التربوية لعادات العقل باعتبارها هدفا تربويا تسعى إليه التربية الحديثة، مع ملاحظة أن تلك العادات تتفاوت من طالب لآخر، إضافة للواقع التعليمي الذي يؤكد على أن الطلبة يفتقرون إلى استخدام العادات العقلية في مختلف النشاطات)[54]. لذا، تركز المنظومات التربوية الجيدة حاليا وفي العالم على أهمية تعليم وتعلم المتعلم/ ة اتخاذ قرارات واعية ومتوازنة حول كيفية تأثير المعرفة بمفهوم العلم على حياته في مختلف سياقات معيشها وتعايشها واشتغالها، وكيفية استخدام المعرفة المحصلة لديه في حل المشكلات.

وهي عادات العقل صنفها أكثر من باحث وفق رؤيته واتجاه دراساته، وسنأخذ منها تصنيف مارزانو"Marzano" لعادات العقل المسماة عنده "عادات العقل المنتجة" عبر نموذج أبعاد التعلم الهادف إلى تعليم المتعلم/ ة كيفية عمل العقل الإنساني وتدريبه على ذلك وفق المكونات التالية عنده:

(1 ـ مهارات تنظيم الذات " Self regulator Skills: ويهدف تنظيم الذات إلى جعل التعليم تحت سيطرة المتعلم بحيث يصبح الطالب أكثر وعيا بطريقة تعلمه، ويتميز الفرد الذي يمتلك هذه المهارة بالقدرة على التخطيط، والقدرة على التفكير بطريقة سليمة، والمعرفة بالمصادر اللازمة للتعليم، والاستفادة من التغذية الراجعة، وتقييم كفاءة العمل.

2 ـ التفكير الناقد " Critical Thinking " ويتضمن العادات العقلية التي تجعل سلوك المتعلم أكثر حساسية، ومنطقية لمواقف الآخرين، ويتميز الفرد الذي يمتلك هذه المهارة بالوضوح، والدقة في العمل، وعدم الاندفاعية، والقدرة على اتخاذ المواقف عندما يستدعي الأمر ذلك، ومراعاة مشاعر الآخرين، ويكون متفهما لمستوى معرفة الآخرين، والانفتاح العقلي.

3 ـ التفكير الابتكاري " Inventory Thinking ": ويتضمن القدرة على ممارسة التفكير بصورة أكثر مرونة بدون الإحساس بأية عوائق، ويتميز الفرد الذي يمتلك هذه المهارة بالاندماج في المهام، وتوسيع حدود المعرفة، والقدرة على التقويم، وتوليد طرق جديدة للنظر إلى الأمور بشكل مختلف. فمثل هذا الاتجاه يحدد عادات العقل بثلاثة أنواع رئيسة تشكل مجالا خصبا لتنمية شخصية المتعلم، بالرغم من أهمية اكتساب الطلاب للمعلومات، إلا أن اكتسابهم للعادات العقلية يعد هدفا مهما لعملية التعليم، فهي تساعدهم على تعلم أية خبرة يحتاجونها في المستقبل)[55].

* المشكلة التي يروم الممارس البيداغوجي استهداف طرحها محفزا على التعلم ليست بسيطة وسهلة بالنسبة للمتعلم/ ة كما تتجلى له بداية لأنه هو واضعها أو مستقيها، وإنما هي معقدة ومركبة بالنسبة للمتعلم/ ة. فهي تطرح عليه عدة إشكالات مختلفة يجب التقرير بشأنها، ذلك أنه يتعلق الأمر بوضعية تعليمية وتعلمية للمتعلم/ ة غير مريحة وغير متوازنة وغير مستقرة، يبحث فيها عن حل للمشكلة المطروحة عليه أو بديل لها، فهو في مواجهتها يسعى جاهدا لحلها كليا أو جزئيا حسب طبيعتها بعدما يحدد تلك الطبيعة ويحصر موضوعها ويصيغه بشكل واضح وبين عنده ومفهوم وواع به، ويتعرف التعليمات حتى يعرف الجهاز المعرفي والآليات اللازمة والضرورية والمسالك المنهجية التي سيسلكها في الحل. ومنه يستحضر كل ذلك، لكنه يقف عند نقص المعلومات أو كثرتها أو تفاضلها في الوظيفة أو انعدامها حسب موارده.

(وبالتالي، فعلى المقرر/ [المتعلم/ ة] ألا يتعامل مع المعلومات التي يجمعها أو تتوارد عليه بشكل عشوائي، بل عليه اعتماد خطة تبدأ برسم الهدف أو الأهداف وتحديد الاليات التي سيعتمدها لحل المشكل. فقد نواجه أحيانا مشاكل مترابطة فيما بينها، بشكل يجعل طريقة المعالجة تؤثر على الأهداف المشتركة. كما أن طبيعة المشكل تدفع بنا/ [المتعلم/ ة] إلى البحث عن الكيفية التي يمكن أن نربط بها بين الوسائل والأهداف. وفي هذه الحالة قد يطلب من المقرر/ [المتعلم/ ة] رسم خطة تلائم طبيعة المشكل الذي ينوي معالجته. فالمشكل قد يكون بسيطا أو مركبا، محددا أو غامضا، مفتوحا أو مغلقا، صريحا أو ضمنيا، إلخ. فمتى كان المشكل بسيطا سهل التعامل معه وحله؛ أما متى كان مركبا، فالخطوة الأولى تكمن في تفييئه إلى فروع تراعي تراتبية قائمة على معايير محددة. وقد يحدث أحيانا أن يقدم الحل بشكل مباشر، بينما تقتضي بعض الأوضاع فحص أكثر قصد بيان مدى التلاؤم القائم بين عناصر الحل. كما أن العمل الذي يقوم به المقرر/ [المتعلم/ ة] يؤثر على المحيط، بشكل قد يغير خططه ويضع فرضيات جديدة بهدف طرح المشكل بطرق مختلفة تسمح له بمعالجته عبر مراحل. فكلما وصل المشكل ما درجة معينة من التعقيد، فإن الخطة الأفضل هي تجزئته ومعالجته عبر مراحل. حيث يمكن أن نستبعد مثلا ما هو ثانوي، بإعطائه قيمة محايدة أو احتمال ضعيف. وبالجملة، فالإحاطة بالمشكل وبمختلف أنواع الأسئلة التي يمكن أن تتفرع عنه، يتطلب من المقرر/ [المتعلم/ ة] تحقيق جملة من الشروط التي تمكنه من تنويع الأجوبة بتعدد الأسئلة وتنوع السائل)[56].

إن من مواصفات الوضعية المشكلة الديداكتيكية أن تكون دالة عند المتعلم، بمعنى أن تجيب عن سؤال الممارس البيداغوجي: كيف يمكنني إعطاء معنى لهذا الدرس من خلال وضعية الانطلاق وباقي الوضعيات البنائية وأنشطتها المتنوعة؟ وهو سؤال يبقي الممارس البيداغوجي داخل التفكير في واقع المتعلم/ ة وامتياح التعلمات والأنشطة منه، ومن سياقاته المختلفة والمتنوعة من السياق الاجتماعي إلى السياق الثقافي والاقتصادي والسياسي والشعبي، ومن وقائعه وأحداثه وعلاقاته وتبايناته من خلال مركزة المتعلم/ ة فعله التدريسي. فالسياق يؤثر على الذاكرة خلافا لمن قال بالعكس وزعم بأنها مستقلة عنه، تخزن المعلومة دونه وتسترجع في أي سياق. لكن بعض الأعمال والدراسات النفسية والتربوية بينت أن الذاكر مرتبطة بالسياق. ذلك؛ (أن الذاكرة ترتبط بالسياق في واقع الأمر، وقد بدأ علماء النفس يفهمون أهمية وكذلك مخاطر هذه التبعية. فيما يتعلق بمختلف الاستراتيجيات الممكنة من أجل اختيار الفرصة التي تفيد بأن السياق يلعب دورا على مستوى الذاكرة، عمل علماء النفس على معرفة ما إذا كان تخزين واسترجاع مادة في سياق متطابق أو مختلف، يؤثر في الإنجازات الذاكرية للأفراد، وتقتضي الطريقة المستعملة بصفة عامة، إخضاعهم أولا لحفظ مادة في سياقين مختلفين؛ ويتعين عليهم، في مرحلة ثانية، التذكير بها إما في نفس سياق التخزين وإما في آخر مختلف عنه؛ وعندئذ، تتم المقارنة بين إنجازاتهم تبعا لكون سياقي التخزين والتذكر متطابقين أو مختلفين. ولقد تمت دراسة تأثير السياق بالمعنى الواسع لمفهوم "السياق"، بحكم أن الانطلاق قد بوشر من السياق المادي "نفس مواضع التخزين والتذكر" في اتجاه نظيره السيكولوجي "نفس الحالة النفسية أثناء التخزين والتذكر")[57]. وقد خلصت أعمال سميت Smith وغلينبر Glenber وبورك Bjork، غودن وبادلي Goddenet Baddelay وإيتش Eich وفيغارتنر Weigartner وستيلمان Stillman وجيلين Gillin إلى أن السياق (يمكن أن يكون له تأثير مسهل على تخزين معلومات في الذاكرة الطويلة المدى؛ ويبدو بالمقابل، أن هذا التأثير لا يتمظهر إلا عندما يتطابق سياق التذكر أو يشبه بما يكفي مع سياق التخزين؛ وتوحي فرضية الترميز النوعي، بأن الآلية التي تقعد لهل التأثير، قد تتجسد في كون السياق يقدم مؤشرات لاسترجاع المعلومات المخزنة في الذاكرة الطويلة المدى؛ إذ أن المعلومات المتعلقة بالسياق وبالمعلومة الهدف تندمج في الذاكرة ككيان)[58].

والسياق في سيرورة التعليم والتعلم يلعب دورا مهما في بناء الموارد المعرفية القاعدية للكفايات والقدرات والمهارات وهيكلتها وصورنتها استهدافا للاحتفاظ بها وتعبئتها وتفعيلها واستثمارها أثناء الحاجة إلى توظيفها في حل المشكلات أو اتخاذ القرارات وغير ذلك، والتي تحيا بالسياق؛ اللاعب الأساسي في إعطاء معنى التعلمات والحدث التعليمي، بما يتوافق والكفاية المستهدفة. ولن يكون له أهمية إن لم يربط المتعلم أولا؛ بكل ما يحمل لديه من دلالة، ثم ثانيا؛ بكل ما سيعطيه معرفة الفعل؛ بمعنى ما سيؤسس له الكفاية. وقد سعت " بيداغوجيا الكفايات " في النظام التربوي المغربي إلى إعطاء معنى للتعلمات والكفايات المكتسبة بتوظيفها في أسرة من الوضعيات المتكافئة ذات معنى. والخروج من مفردات المنهاج الدراسي للمواد الدراسية المجزأة والمتشظية التي لا تحمل دلالة بالنسبة للمتعلم/ ة، الذي يجد نفسه خارج الاهتمام بها. والسياق هنا، يستحضر بشقيه اللغوي وغير اللغوي، أي السياق الكلامي، والسياق الحدثي والموقفي والمقامي، وهو يضم مؤثرات متعددة بيئية وتاريخية واجتماعية وثقافية وسياسية واقتصادية ودينية وإيديولوجية وحدثية عملية ... وحتى ينخرط المتعلم/ ة في بناء المعنى؛ لابد له من فهم البناء اللغوي من خلال معرفته لمعاني الكلمات وهي منضدة ومرتبة ومرصفة في السلسلة الكلامية، ومنخرطة في التفاعل اللغوي تأثيرا وتأثرا. فحين يعرف المعنى العام لمنطوق التعلمات، وهي هنا بصيغة الوضعيات المشكلة والديداكتيكية ومعطياتها تتحدد لديه دلالاتها، فيتخذ موقفه منها سلبا أو إيجابا، انخراطا أو إحجاما. ثم عليه أن يستوعب السياق الحدثي الذي وردت فيه التعلمات. حيث ترتيب كلمات نص التعلمات ومضمونها لا تتأت معرفتها إلا بالعودة إلى السياق؛ لما يلعبه من دور هام ومهم في إظهار وتبيان دلالات ومعاني التعلمات، وجلائها برفع الالتباسات والغموض والرمادية والإبهام عنها. فمعاني المفردات لا يظهر إلا بتوظيفها في سياقها، فأغلب الوحدات اللغوية الدلالية تقع في مجاورة وحدات دلالية أخرى. لا يمكن تحرير معناها ووصفه وضبطه إلا باعتبار كل الوحدات، بمعنى اعتبار النسق اللغوي بكامله داخل إطار المجاورة. وبذلك فمجموع السياقات والمواقف التي ترد فيها المفردات، هي التي تحدد معانيها وتوضح وتبين دلالاتها. غير أن السياق الحدثي هو الذي يموضع التعلمات في أطرها المختلفة؛ ذلك أن السياق الحدثي في المؤسسة للتعلمات هو سياق تعليمي تعلمي، وبالتالي فإطار التعلمات يفيد هنا أنه إطار بيداغوجي. بينما سياق الحدث ذاته يختلف من وضعية تعليمية تعلمية إلى أخرى؛ كأن يكون سياق وضعية ما سياقا تاريخيا أو اقتصاديا حسب حدثية الوضعية من مكونات وعلاقات ومؤثثات وغيرها. فيصبح للتعلمات حينئذ سياق تعليمي وتعلمي وتاريخي، منه يستطيع المتعلم/ ة نقل الكفاية والخبرة والتجربة والمعرفة ومختلف الموارد التي امتلكها من التعلمات وسياقها إلى مجال مرادف أو مخالف. خاصة إن كانت الكفاية متقنة جدا. إذن؛ فالسياق الذي يستند عليه المتعلم/ ة في تعلماته في تحديد معانيها ودلالاتها يرتكز على عناصر لغوية وغير لغوية وفق ورودها في سياق بيداغوجي فعلا تعليميا. وفي سياقات مختلفة عنه؛ كحدث وقع في سياق معين يستهدف تدريس المتعلم/ ة ذلك الحدث. وبالتالي فالتعلمات تحمل عدة معاني بالنسبة للمتعلم/ ة. لذلك نألف الممارس البيداغوجي يطرح الأسئلة على المتعلم/ ة قصد جمع البيانات، ومعالجتها من أجل إعطائها معنى، ويتبين العلاقات البينية بينها لاستخدامها وتوظيفها في مواقف جديدة ومختلفة، ووضعيات متنوعة.

يأتي

***

إعداد: عبد العزيز قريش

باحث في علوم التربية

 

في المثقف اليوم