دراسات وبحوث

عبد الامير كاظم زاهد: التراث الفكري السلجوقي.. مقاربة تحليلية في البنية الثقافية

ظهر السلاجقة في القرن الرابع الهجري قبائل تركية في أواسط اسيا، وكانوا قد نزحوا من بلاد كشغر غرب الصين واستقروا في الاناضول ثم نزحوا الى إقليم خراسان في عام 375 هج بسبب الحروب والفقر والذي كان تابعا للدولة الغزنوية وصاروا رعايا تلك الدوله وكان جدهم وزعيمهم سلجوق قد جعل منهم قوة مسلحة مستعدة للغزوات والحروب وبعد موته اعقبه ابنه إسرائيل وبعصر هذا الابن صار للسلاجقة شان كبير من القوة العسكرية فتمردوا على السلطان محمود الغزنوي فحاربهم وقرر القضاء عليهم واسر زعيمهم إسرائيل فخلفه اخوه ميكائيل فاجبره الغزنوي على الاستسلام فاضطر للمهادنة مع الغزنوي وبالخفاء لملم شتات جماعته وقرر الهجوم على الدولة الغزنوية وقتل في احدى غزواته فتولى امرهم ابنه طغرل بك فاعد جيشا وسعى جاهدا لتكوين دوله خاصة للسلاجقة فلما مات محمود الغزنوي وضعفت الدولة دخل معهم بمعارك وسيطر على بعض المناطق واستقل بإقليم خراسان عام 429 هج واعلن قيام الدولة السلجوقية

وبعد إعلانه الدولة السلجوقية راسل الخليفة العباسي القائم بامر الله يطلب منه الاعتراف بدولته فاعترف بها الخليفة العباسي عام 432 هج فاكتسبوا صفة الشرعية المعتادة آنذاك فاكتسحوا البلدان القريبة من خراسان ووسعوا حدود دولتهم باسقاط الامارات الإسلامية المحيطة بهم فسيطروا على فارس وشمال العراق وارمينية واسيا الصغرى.(1)

في سنة447 هج استنجد بهم الخليفة العباسي ليخلصوه من سطوة البويهيين وعلى مقاليد الخلافة فسار طغرل بك بجيشه نحو بغداد ودخلها في تلك السنة فاستقبله الخليفة وامر بنقش اسمه على العملة وان يذكر في الخطبة بمساجد بغداد ثم تصاهر الخليفة مع طغرل بك فتزوج من ابنة أخيه وتزوج طغرل بك من ابنة الخليفة وبعد موت طغرل بك 455 هج خلفه ابنه الب أرسلان ثم تلاه ابن أرسلان ملك شاه في 465وحكم حتى 485 بمساعدة وزيرهم المخضرم نظام الملك ثم انفرط عقد قوتهم ودب الضعف في أروقة الدولة فانقسمت الى عدة كيانات فانهارت دولتهم (2)

لقد كان العالم الإسلامي موزعا على عدة دويلات في القرن الرابع فقد عرف العالم الاسلامي في القرن الخامس الهجري صراعا سياسيا حادا بين عدة دويلات توسل بالايدولوجيا الدينية بشكل لافت من ذلك هو الصراع السلجوقي مع البويهيين والفاطميين يقول ادم متز كان القرن الرابع قرن الدول الشيعية في كتابه الحضارة الإسلامية (3) فالدولة العلوية ففي شمال ايران دولة شيعية زيدية وهي دولة الداعي العلوي الطبرستانية (250- 316 ه) وفي بغداد كانت الدولة البويهية (334- 447) وكان قادتها زيدية المذهب ثم تحولوا للمذهب الامامي(4) والدولة الحمدانية الشيعية في الموصل والشام 317-367 ه والدولة الفاطمية الإسماعيلية في مصر وشمال افريقيا ( 358 ه - 567 ه) وكانت الخلافة العباسية السنية تتمتع بوضع رمزي فلما قويت شوكة السلاجقة واستنجد بهم الخليفة القائم بامر الله العباسي لكي يتخلص من هيمنة البويهيين فقد اسقط نفسه في هيمنة السلاجقة فدخلوا بغداد عام 447ه واسقطوا دولة البويهيين ثم انشغلوا بصراع سياسي مع الفاطميين وكان شاغلهم محو الاثار الفكرية للتشيع البويهي في بغداد كضرورة ملحة لاستقرارهم السياسي الى جانب مواجهة خطورة الدعاة الفاطميين المنتشرين في العراق وايران فلقد كان التنافس بينهم وبين الفاطميين ذا طبيعة سياسية لكنه ارتكز اساسا على مقولات دينية فمتى انتصرت الرؤية الدينية ينتصر اتباعها سياسيا (5)

لقد ادرك هذه الحقيقة الفعلية على الارض وزير الدولة السلجوقية المسمى نظام الملك وكان الحاكم الفعلي فهو الرجل الذي عمل وزيرا لعدد من سلاطين السلاجقة ولمدة ثلاثين عاما كاملة وعاصر اثنين منهم وهما ألب أرسلان وابنه ملكشاه، وقد أثبت قدرة في الإدارة واضافة لمهامه الإدارية الجسيمة فقد كان رجلا قادرا على التحسب للمستقبل السياسي فجعل الخليفة العباسي يكتفى برمزيته الدينية جبرا عليه (6) وفكر باستراتيجية معرفية عميقة باعتماد سياسة فرض عقيدة الدولة التي بموجبها تتدخل السلطة في تحديد ما يجب الاعتقاد به وما لا يجب وما يجب التخلي عنه من معتقدات (7)

ونشير الى ان تجربة قاسية وتنميطية سبقت استراتيجية نظام الملك هي تجربة الخليفة القادر بالله العباسي المتوفى في (422 ه) وتدخله في الزام الناس بعقيدة السلطة وكانت تحت عنوان البيان القادري الصادر في 408 ه والذي حدد فيه الاعتقاد اللازم الاتباع من الناس فجمع العلماء والقضاة والوعاظ و رجال الدين واخذ منهم ميثاقا بذلك وامرهم بقراءة البيان الرسمي في الجوامع وعاقب من لم يلتزم به طوعا او كرها وكان البيان القادري (8)قد حقق بعض اهدافه في منع العقل الديني من ممارسة التعددية والاجتهاد في مجال الراي الديني والزامه براي الدولة فمهدت تلك التجرية الأرضية(لاستراتيجية العقيدة الواحدة ) وكانت تجربة مشجعة لوزير السلاجقة نظام الملك ان يكررها بطريقة افضل ويستفيد من هناتها فقام بتاسيس حاضنة معرفية ذات بعد مذهبي وعقائدي واحد اسماها المدرسة النظامية وكان مركزها في بغداد وفتح لها فروعا في امصار الدولة السلجوقية مثل نيسابور والبصرة وهراة وبلخ واصفهان وغيرها لنشر العقيدة الاشعرية والفقه الشافعي (9) ليواجه بهما تحديات الفكر الشيعي، ويتخذ من الاشعرية ومذهب الشافعي ايديولوجيه للحكم والتوسع الذي يتطلب ان يعمل على تقليص نفوذ التشيع المنتشر شرقا وغربا ويهدف من النظامية الى إيجاد طائفة من المعلمين الاشاعرة والمؤهلين بالفقه الشافعي لتدريس المذهب الشافعي ونشره في الأقاليم المختلفة ليكون جيل لايعرف غير عقيدة الدولة ثم الزم رعايا الدولة بان يعتمدوا فقط العقيدة الاشعرية في مجال الكلام والمذهب الشافعي في الفقه ومنع عرض او ذكر اي راي اخر في مجالي الفقه والعقيدة لكن هذه المدرسة أصبحت منطلقا لكثير من الفتن و المشاغبات التي قُتل فيها خلق كثير من الناس فقد ذكر في الكامل في التاريخ انه في هذه السنة ورد بغداد أبو نصر ابن الأستاذ أبي القاسم القشيري حاجا وجلس في المدرسة النظامية يعظ الناس وفي رباط شيخ الشيوخ وجرى له مع الحنابلة فتن لأنه تكلم على مذهب الأشعري ونصره جمع وكثر أتباعه والمتعصبون له وقصد خصومه من الحنابلة ومن تبعهم سوق المدرسة النظامية وقتلوا جماعة من المتعصبين للقشيري وغيرهم وجرت بين الطائفتين أمور عظيمة (10)( ج8-413) وكان في بغداد شيخ الطائفة الشيعية محمد بن الحسن الطوسي الذي تقاطر عليه العلماء لحضور مجلسه حتى عد تلاميذه بأكثر من ثلاثمائة من مختلف المذاهب الاسلامية، وقد منحه الخليفة العباسي القائم بأمر الله (422 - 467 ه‍) كرسي الكلام، وكان هذا الكرسي لا يعطى إلا للقليلين من كبار العلماء، ولا يعطى الا لرئيس علماء الوقت وقد أثار عليه حسد بعضهم فسعوا به لدى الخليفة القائم، واتهموه بأنه يتناول الصحابة بما لا يليق بهم، (11) فكانت بغداد مسرحا لهذه الفتن، وقد وجدت طريقها عام 447 ه‍ عند دخول السلاجقة، فقاموا في عام 448 ه‍، باعمال العنف والقتل والاحراق، ولم يسلم الشيخ الطوسي من غوائلها، فقد كبست داره ونهبت وأحرقت كتبه وآثاره ودفاتره بمحضر من الناس، وأحرق كرسي التدريس الذي منحه الخليفة القائم له، ونهبت أثاثه كذلك، وقتل أبو عبد الله الجلاب على باب داره وهو من علماء الشيعة فهاجر الطوسي تاركا بغداد الى النجف ليتخذها مقرا ومدرسة لعلوم الشيعة (12)

لقد انفق نظام الملك على المدرسة النظامية اموالا طائلة وادخل فيها طلبة العلوم الدينية حتى يتخرج منها الوعاظ والقضاة والمدرسين والخطباء وائمة المساجد وصناع للراي العام فيحملوا الناس على تنفيذ خطة الوزير وكان من تطورات المدرسة النظامية ان نظام الملك جعل مدوناتها مراجعا للعقيدة المتاحة والمذهب الفقهي المعمول به على صعيد الدولة فطلب من العلماء الكبار ان ينخرطوا في النظامية كمدرسين ومؤلفين ودعاة واغراهم بالاموال الطائلة حتى قيل انه كان يزن اي مؤلف لهم بالذهب مكافاة للمؤلف فتهافت الناس على الدخول بهذه النظامية (13) حتى اصبح كبار علماء الاسلام في النصف الثاني من القرن الخامس من اساتذة النظامية ومنهم :

إمام الحرمين أبو المعالي الجويني.478هج وابي نصر الصباغ 477 هج وأبو زيد الدبوسي 430 هج الذي كان حنفيا فاجبر على كتابة مؤلف يقارن فيه اقوال الحنفية بالشافعية ومنهم السهروردي الصوفي وابن الجوزي الحنبلي والكيا الهراسي والقفال الشاشي والباقلاني والغزالي والشهرستاني صاحب الملل والنحل والجرجاني صاحب النظم القراني (14) وبقية علماء القرن الخامس الهجري فمن كان منهم اشعريا شافعيا فهو المطلوب ومن لم يكن فقد تم احتواؤه في النظامية وقد امرهم نظام الملك بان يكتبوا للناس كتبا تؤدي الى ترسيخ عقيدة الدولة وفقهها ويبرهنوا على بطلان العقائد الاخرى والاراء الفقهية للمذاهب من غير الشافعية وركزوا على التاليف في مجالات الفرق والعقائد او ما سمي بالملل والنحل فكانت كتب الفرق والمقالات ابرز منتجات العصر السلجوقي والتي غالبا ما كان يبدأها مؤلفوها بحديث الفرقة الناجية وهو حديث في اسناده الكثير من العلل وفي متنه مشكلات التعارض الكثيرة مع ايات الكتاب الكريم والمتواتر من السنة بحيث لا يصلح للحجية في الظنيات ناهيك ان البحث العقائدي لا يكتفي الا بالقطعي من المستندات الدينية (15) ولقد رسخت الثقافة المسطرة في المدونات السلجوقية عدة امور منها :

1- انها اقصت من ساحة المعرفة بقية الاتجاهات الفكرية – عدا الاشعرية – وعاملت الاتجاهات العقلية معاملة قاسية كالمعتزلة والماتريدية والشيعة بكل تنوعاتهم ومنعت كتبهم ومدوناتهم ومنعتهم من الحوارات الفكرية مع الاتجاهات الاخرى ومن يتابع ابن النديم في الفهرست (16)سيجد ان الاف الكتب المنسوبة للعلماء الذين اختلفت اراؤهم مع عقيدة الدولة السلجوقية قد اختفت من الوجود

2- اذكت هذه الاستراتيجية النزاع الشافعي مع الحنفية الذين تركزوا في القارة الهندية وافغانستان فكتبوا ردودا على الفقه الشافعي كتب الشافعية نقدا للفقه الحنفي ويمكننا القول ان افضل المناظرات الفقهية المتاحة الان في تراثنا هي تلك التي بين الشافعية والحنفية ومن يرغب الإفادة من تلك السجالات فعليه بكتاب ابن الهمام التحرير في أصول الفقه الجامع بين أصول الحنفية والشافعية وكتاب الزمخشري (المسائل الخلافية بين الحنفية والشافعية(16) ومال الحنفية للماتريدية ومال الشافعية للاشاعرة واختفت عقائد المعتزلة وانكفأ الشيعة خارج الحدث

3- حفزت الموجة السلجوقية الحوارات المدونة بين الماتريدية والاشاعرة المغالية وتمت ادانة منهج الاعتزال بمدارسه البغدادية والبصرية وظهرت الاشعرية المحسنة في مناظرات عقائدية عميقة كمخرجات للواحدية المذهبية السلجوقية (17)

4- الغى السلاجقة كرسي الكلام الذي منحه الخليفة العباسي للطوسي وهو اكاديمية للعقائد المقارنة وجعله بعهدة الشيخ محمد بن الحسن الطوسي ت 460 ه ببغداد واحرق الكرسي واحرقت مكتبة الطوسي وهاجر الرجل من بغداد فمنعوا بعد هذا اي حوار بين الفقهاء او المفكرين التزاما بواحدية المسلك العقدي والفقهي للدولة السلجوقية (17)

5- ادت مدونات العصر السلجوقي التي انتشرت والزم بها الناس وبقيت متوارثة لكثرة نسخها وانتشارها وتوظيفها الى خلق عقل ديني طائفي متزمت يؤمن باحتكار الحقيقة الدينية ويرى انه الصحيح مطلقا وغيره ايا كان باطل مطلقا وكان ذلك سابقة مهمة لكل محاولات سحب الشرعية الدينية من الاخر كمحاولة ابن تيمية والحنابلة والسلفيات المعاصرة فيما بعد

6- لقد كتب الغزالي للسلاجقة تهافت الفلاسفة الذي كفرهم في ثلاث مسائل وفسقهم في بضع عشرة مسالة (18 )و كتب لهم فضائح الباطنية (19) لادانة الإسماعيلية والجام العوام عن علم الكلام و فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة وغيرها من كتب تؤكد أيديولوجية السلاجقة (20)

7- ادت الثقافة السلجوقية الى تمهيد الاجواء لابن الصلاح الشهرزوري 654 ه لفتواه الشهيرة والمدمرة بتحريم الاجتهاد الفقهي خارج الاراء التقليدية لائمة المذاهب الاربعة (21) فاوقف بذلك تطور العقل الاسلامي الذي كان يجب ان يوازي التطور الحياتي فغلب الواقع الحياتي احاطة الفقه به وتخلف الفقه عن الحياة واقيمت الفجوة التاريخية بين الاراء الفقهية لعصورها وما يجب ان تكون لعصرنا فادت الى فشل تجارب الدولة الدينية في العالم الاسلامي الحالي لانها ملتزمة بالفقه التقليدي وتريد من فقه القرون الوسطى ان يدير بجدارة واقع القرن الحادي والعشرين الميلادي بكل تطوراته التقنية والمنهجية والفلسفية ويمكن التدليل على ذلك بتجربة السعودية والسودان ومصر محمد مرسي وتونس الغنوشي وافغانستان طالبان ودولة داعش في العراق والشام اما ايران فقد عانت من هذه الفجوة واختارت منهجا اجتهاديا براغماتيا واسست منظومة فقهية اسمتها تشخيص مصلحة النظام اي مصلحة الحاضر علما ان الفقه الشيعي قد اعانته نزعته الاجتهادية التي لم يلتزم فقهاؤه بوقف الاجتهاد وان كان جو ايقاف الاجتهاد قد سرب عدوى كبيرة للاستنباط الشيعي ومنه مثلا النزعة الاخبارية وما ترتب عليها حاليا (22)

8- اسست الثقافة السلجوقية عقلا دينيا طائفيا زرع الكراهية والادانة الايديولوجية للمنهجيات العقلانية فالشيعة اليوم يعانون من ترسخ اتهامات غير صحيحة نسبت لهم في المدونات السلجوقية وترسخت في العقل السني من دون تمحيص وتثبت ومقارنة (23)

9- لقد اكمل الشهرزوري اضلاع المحاصرة للعقلانية فافتى بتحريم المنطق وتحريم الاشتغال بالفلسفة وسماها اس السفه (24)

10- من الواجب الإشارة الى ان حملات الفكرة الواحدية تدرجت في المسار التاريخي ففي عصر معاوية نشات الجبرية والزم الناس بها وفي عصر الزهري كانت احاديث عدالة الصحابة وانهم خير القرون وانهم مناجم الحقيقة الدينية وفي عصر المتوكل اضطهدت السلطة الاتجاه العقلاني فحوكم المعتزلة وشردوا واحرقت كتبهم ثم جاء السلاجقة فاكملوا الحلقات لتاسيس فكر احادي للدولة

11- أقيمت المد ارس النظامية،في عصر الدولة السلجوقية، حيث اجبر العلماء للعمل بها وتعتبر المدارس النظامية التي أنشأهانظام الملك، أحد أبرز منتجات الساسة في عصر السلاجقة كانت تهدف إلى صناعة الراي المذهبي فخرج منها أهم العلماء منهم الشيرازي والجويني والغزالي وابن عساكر والعز بن عبد السلام فضلاً عن عماد الدين ونور الدين وصلاح الدين الأيوبي، وأبو المعالي الجويني (ت 478هـ/1085م) صاحب كتاب “الرسالة النظامية”، ويقال انه من أجل الجويني بنى نظام الملك المدرسة النظامية في نيسابور عاصمة خراسان،أما العلامة أبو حامد الغزالي (ت 505هـ/1111م) وهو ابن مدينة طوس المدينة ذاتها التي وُلد فيها نظام الملك، وتلميذ الجويني، فقد تقرب هو الآخر من نظام الملك، ودعي إلى بغداد كي يدرس في المدرسة النظامية التي بناها لإحياء المذاهب الشافعي والعقائد السنية بين أوساط العامة، كان يحضر في نظامية نيسابور ثلاثمئة طالب يومياً، وعلى مدار ثلاثين سنة للإصغاء إلى دروس إمام الحرمين الجويني (25)

12- تاسست نظامية بغداد بين عامي 457 إلى 459هـ، فكانت لها أوقاف كثيرة من أسواق وحمّامات ودكاكين وضياع لتأمين أجور العمال والأساتذة ونفقات الطلبة، وكان فيها أيضاً مكتبة وأساتذة ومعيدون وكُتبية وحُرّاس وخدم كثيرون، لقد كانت نفقات الأساتذة والطلاب خمسة عشر ألف دينار سنوياً، وكان عدد طلابها ستة آلاف طالب يدرسون الفقه، والتفسير، والحديث (26)

13- انتشرت المدارس النظامية في البصرة وأصفهان وبلخ وهراة ومرو والموصل، وكان أكثر أساتذة النظاميات وكتبييها وطلابها من مشاهير علماء القرن الخامس والسادس والسابع الهجري، وكانت حصرا لعلماء الشافعية والأشاعرة، وقد انتشر طلابها في حواضر العالم الإسلامي وتولّوا الوظائف المختلفة، حتى إن العلامة أبو إسحاق الشيرازي، المدرس الأول لنظامية بغداد، يحكي عن الأثر الكبير الذي أحدثه مشروع “المدارس النظامية” lمن “لما خرجتُ في رسالة الخليفة المقتدر إلى خراسان لم أدخُل بلدا أو قرية إلا وجدتُ قاضيها وخطيبها من تلامذتي”، ومن هنا بدأ المشروع يؤتي ثماره بتخرج دفعات من الطلاب الحريصين على نشر المذهب الشافعي، حتى أصبح للمدارس النظامية دورها في خلق جيل يعادي الاجتهاد والتعددية.

وهنا لا بد من ذكر ترجمات لهؤلاء العلماء وأهم مصنفاتهم التي لا تزال تخلق ذهنيات متعصبة حتى يومنا هذا، ففيما يتعلق بالإمام الجويني، إمام الحرمين، (419 هـ – 438 هـ) فقد بزغ نجمه في العهد السلجوقي و بلغت مؤلَّفات الجويني من التنوُّع والكثرة حدّاً كبيراً، مثل غياث الأمم في التياث الظلم، في علم الفقه: نهاية المطلب في دراية المذهب، ومختصر التقريب، ومختصر النهاية، والرسالة النظاميَّة في الأركان الإسلامية، في أصول الفقه: التلخيص، والبرهان، والغنية، التحفة، والورقات

ثم أبو حامد الغزالي (450 هـ – 505 هـ)، تلميذ الإمام الجويني، الذي عاش في زمن دولة السلاجقة وعاصر الحروب الصليبية وقد الف في الفقه، والكلام، والحكمة، من أشهر مصنفاته: الاقتصاد في الاعتقاد، إلجام العوام عن علم الكلام، مقاصد الفلاسفة، تهافت الفلاسفة، الوسيط في فقه الإمام الشافعي، إحياء علوم الدين، المنقذ من الضلال و ومنهم ً الإمام أبو إسحاق الشيرازي (393 هـ – 574 هـ)، صنف في الأصول والفروع والخلاف والمذهب، من مؤلفاته: الإشارة إلى مذهب أهل الحقّ، المهذب في الفقه الشّافعي، التنبيه في الفقه الشّافعيّ، طبقات الفقهاء، التبصرة في أصول الفقه (27)، وغير ذلك.

ولعل هذا النجاح الكبير هو الذي جعل العلامة الحافظ ابن عساكر مؤرخ الشام ومحدّثها يُسارع للخروج من دمشق إلى بغداد ليسمع الدروس في الجامعة النظامية، وبعد عودته يعكف على تأليف أهم موسوعة خُطّت في ذلك العصر وهي “تاريخ دمشق” في أكثر من 70 مجلداً (28) .

لأهمية هذا العهد، كان مشروعهم العلمي والعمراني مُلهماً للدول التي أعقبت السلاجقة في منطقة الشرق الإسلامي كما حدث مع الدولة الزنكية والأيوبية والمملوكية وكلهم ساروا على نهج نظام الملك ونظامه التعليمي الذي كفل معاداة التعددية وتحجيم البحث العلمي، ونتج عنه في نهاية المطاف كمّاً هائلاً من المصنفات في فروع العلوم الإسلامية التي أُلّفت في القرون السادس والسابع والثامن والتاسع الهجري، والتي لا تزال شاهدة على خلق الذهنية المتعصبة وهذا يعني أن الثقافات هي امتداد بعضها لبعض، وما يؤكد ذلك ترحال العلماء الدائم من مدنهم إلى المدن التي تضم الحاضنة (29)

14- ومما يؤسف له أنَّ بعض كتب الملل والنحل التي كتب اكثرها في المدرسة النظامية السلجوقية قد تساهلت كثيراً توصيف حقيقي لاراء الفرق، فأدرجت الغلاة من ضمن طوائف الشيعة وان اول من سنها نظام الملك نفسه في كتاب له اسماه سياسة نامه واستُغل هذا الخلط من المتاخرين أبشع استغلال واستعانوا به في رمي الشيعة بمختلف الاباطيل، فنرى انَّ الدكتور أحمد أمين يشهر هذه الورقة في وجه التشيع فيقول: «ولم يكتفِ غلاة الشيعة في علي بأنَّه أفضل الخلق بعد النبي وانه معصوم بل منهم مَن ألَّهه». (30)

ومثله محمد ثابت المصري في كتابه (جولة في ربوع الشرق الأدنى) حيث يقول: «ومن الشيعة قسم أوجب النبوة بعد النبي فقالوا بأنَّ الشبه بين محمد وعلي كانَ قريباً لدرجة أنَّ جبرائيل أخطأ، وتلكَ فئة الغالية أو الغلاة، ومنهم مَن قال بأنَّ جبرائيل تعمَّد ذلك» .(31)

ومثلهما محمد فريد وجدي في دائرة معارفه فقد زجَّ بالغلاة ضمن فرق الشيعة بقصد التشنيع والتهجين والتشويه، فيقول : ان فرق الشيعة خمس كيسانية، وزيدية، وإمامية، وغلاة وإسماعيلية وبعضهم يميل في الاصول الى الاعتزال، وبعضهم الي السنة، وبعضهم الى التشبيه ويلاحظ هذا الخلط البالغ الجهالة (32)

وفي الوقت الذي يتبرأ فيه الشيعة الامامية الاثنا عشرية من المغالين أشدَّ البراءة، ويعدّون المغالي في علي عليه السلام أو أحد أبنائه خارجاً عن الدين بشكل واضح وصريح في جميع كتبهم ومصنفاتهم نجد انَّ السمعاني وغيره يقذف نفس الامامية بالغلو، فيقول في كتابه (الانساب) ما نصه:«الامامية جماعة من غلاة الشيعة، وانّما لُقّبوا بهذا اللقب لأنَّهم يرونَ الامامة لعلي (33)

ومنه ما ذكره المقريزى فى خططه عندما عدد الفرق واختلاف عاداتها، ذكر أسماء لمسميات ادرجوها فى فرق الشيعه لم يسمع بها احد غيره .(24) وبالغ مؤلفوا الفرق من النظامية فى تكثير الثلاثه والسبعين فرقه فجعلوا اكثرها من الشيعه. وكانهم لما نقص عليهم العدد اضطروا الى اختراع فرق لا وجود لها، ووضعوا لها اسماء من عندهم، كما فعل المقريزى الذى زعم ان فرق الشيعة بلغت الثلثمائه، ولم يستطع ان يعد منها غير عشرين لايصح تسمية كل منها بالفرقة على ان جملة هذه العشرين مختلقة مخترعة وبالمحصلة ان معظم ما وجه الى الشيعة من نقد غير حقيقي يشتمل على ادانة بلا برهان وشحن الذهن بالكراهية والتفرقة والتمييز قد اخذ من كتب الملل والنحل التي الفت بالمدرسة النظامية

ولعل اصل ذلك الخبط والتخليط كتاب«مقالات الإسلاميين واختلاف المصلّين» الأساس لكلّ من كتب بعده، كـ«الفرق بين الفرق» لعبد القاهر البغدادي و «الملل والنحل» للشهرستاني وغيرهما،وكان ممن تبنى مذهب النظامية وعمل على نشره المهدي بن تومرت مهدي الموحدين، ونور الدين محمود زنكي، والسلطان صلاح الدين الأيوبي،ومعروف سلوك هولاء العنفي ضد الاخر العقائدي بالإضافة إلى اعتماد جمهرة من فقهاء الشافعية والمالكية المتأخرين . ولذلك انتشر المذهب في العالم الإسلامي بسبب النظامية ولا زال المذهب الأشعري سائداً في أكثر البلاد الإسلامية وممن قرا كتب الملل والنحل والمقالات ابن تيمية الذي اخرج الكثير من المسلمين عن الإسلام وكفر اهل المنطق والفلسفة والكلام والتصوف، وكفر من اسماهم أهل البدع، وألف في ذلك المصنفات الدالة على زرع الكراهية والحقد والتمييز بسبب الراي والاعتقاد، ووجه جل جهده لنصرة وترجيح مذهب السلف من دون برهنة او منهج مقارن

15-ان تمسك الغزالي بالمنطق والحاحه على ضرورة اصطناع المنطق منهجاً وحيداً في تحصيل العلم لم يكن من أجل المنطق ذاته، بل كان ضد نظرية " التعليم" العرفانية الإسماعيلية الباطنية ومن أجل تقوية المذهب الأشعري الذي كانت الدولة السلجوقية قائمة على أسسه الفكرية والعقائدي وبالتالي كان هذا البعد يعتبر توجيه ضربة قوية لخصوم السلاجقة كالدولة الفاطمية الإسماعيلية ودعاتها في مرتكزاتها الفكرية

***

ا. د. عبد الامير كاظم زاهد

في المثقف اليوم