علوم

حاتم حميد محسن: ازدواجية الكون.. لغز اللاّمرئي

يسيطر على كوننا الحالي شكلان غامضان من المادة والطاقة لم يتم فهمهما بعد. معظم الكون الذي نحن فيه يختبئ عن الحواس. ومع اننا لا نستطيع رؤيته او لمسه، لكن معظم الفلكيين يقولون ان غالبية الكون يتألف من مادة مظلمة وطاقة مظلمة. ولكن ما هي هذه المادة المحيرة غير المرئية التي تحيط بنا؟ وما الفرق بين الطاقة المظلمة والمادة المظلمة؟ باختصار، المادة المظلمة تبطئ من توسّع الكون بينما الطاقة المظلمة تسرّع من اتّساعه.

المادة المظلمة تعمل كقوة جاذبة – نوع من الإسمنت الكوني الذي يشد الكون الى بعضه. هذا بسبب ان المادة المظلمة تتفاعل مع الجاذبية لكنها لاتعكس او تمتص او تبعث الضوء. اما بالنسبة للطاقة المظلمة هي قوة دافعة – مضادة للجاذبية – تدفع الكون في توسّع متسارع.

الطاقة المظلمة هي القوة الأكثر هيمنة بين القوتين، تشكل ما يقارب 68% من الكتلة والطاقة الكلية للكون. المادة المظلمة تشكل 27% والباقي 5% هو كل ماتبقّى من المادة العادية التي نراها ونتعامل معها كل يوم.

المادة المظلمة

في الثلاثينات من القرن الماضي، قام الفلكي السويسري فريتز زويكي بدراسة صور لما يقرب من 1000 مجرة تشكل عنقود كوما المجري coma cluster – حيث رصد شيئا مثيرا للدهشة في سلوكها.المجرات تحركت بسرعة قصوى لدرجة انها كان يجب ان تتحطم الى أجزاء متناثرة. هو اعتقد ان نوعا ما من "المادة المظلمة" كان يشدّها الى بعضها.

وبعد عقود لاحقة، وجد الفلكيان فيرا روبن و كينت فورد  ظاهرة مشابهة عندما درسا معدل دوران المجرة الواحدة. النجوم في حدود المجرة يجب ان تدور بشكل أبطأ من النجوم القريبة من المركز. تلك هي الطريقة التي تدور بها الكواكب في نظامنا الشمسي. بدلا من ذلك، هما لاحظا ان النجوم في أطراف المجرة تدور بنفس سرعة او أسرع من النجوم القريبة الى المركز. العالمان الفلكيان وجدا اكثر من دليل على ان شكل ما غير مرئي للمادة هو الذي يمسك الكون الى بعضه.

"حتى النجوم التي في الحافات البعيدة تدور بسرعة عالية"، هذا ما ذكره روبن في مقابلة مع مجلة discover. " هناك يجب ان يوجد الكثير من الكتلة لتجعل النجوم تدور بسرعة عالية، لكننا لا نستطيع رؤيتها. نحن نسمي هذه الكتلة غير المرئية بـ المادة المظلمة.

الفليكيون الآن لديهم خطوط اخرى للدليل تقترح ان المادة المظلمة هي حقيقية. في الحقيقة، ان وجود المادة المظلمة جرى القبول به على نطاق واسع لدرجة انها اصبحت جزءا مما  يسمى بـ  النموذج القياسي لعلم الكون، الذي يشكل الاساس في كيفية فهم العلماء لمولد وتطور الكون. نحن لا نستطيع بدونها توضيح كيفية مجيئنا الى هنا. لكن تلك الأهمية الكبيرة تضع ضغطا على الكوزمولوجيين ليجدوا برهانا واضحا واكيدا بان المادة المظلمة حقا موجودة وان نموذجهم في الكون صحيح. منذ عقود، استخدم الفيزيائيون في جميع انحاء العالم وسائل ذات تكنلوجيا عالية في محاولة للكشف عن المادة المظلمة. لكنهم حتى الآن لم يجدوا علامة لها.

الطاقة المظلمة

منذ أكثر من قرن عرف الفلكيون ان الكون يتمدد . المشاهدات التلسكوبية بيّنت ان معظم المجرات تتحرك بعيدا عن بعضها، وهو ما يعني ان المجرات كانت أقرب الى بعضها في الماضي البعيد. وبالتالي،تراكم الدليل على نظرية الانفجار الكبير Big Bang. غير ان الفلكيين افترضوا ان قوة السحب الجذبي الكلية لكل المجرات ونجوم الكون يجب ان تبطئ تمدد الكون، وربما سينهار الكون يوما ما مرتدا على ذاته في انكماش كبير Big crunch. تلك الفكرة اُهملت في اواخر التسعينات من القرن الماضي. الباحثون الذين درسوا السوبرنوفا في المجرات البعيدة جدا اكتشفوا ان المجرات البعيدة كانت تتحرك بعيدا عنا أسرع من حركة المجرات القريبة. الكون لم يكن يتمدد فقط، بل ان التمدد كان يتسارع.

لكن المشاهدات اللاحقة، بدلا من ان ترفض ذلك، فهي فقط جعلت الدليل على الطاقة المظلمة اكثر صلابة. في الحقيقة،بعض النقاد البارزين للمادة المظلمة لازالوا يقبلون بوجود الطاقة المظلمة.

الآن، ذلك لا يعني ان الباحثين يدركون ماهية الطاقة المظلمة. هم لازالوا بعيدين عنها. لكنهم يستطيعون وصف دورها في الكون، بفضل نظرية اينشتاين في النسبية العامة. اينشتاين لم يعرف عن الطاقة المظلمة، لكن معادلاته تفترض ان فضاءً جديدا يمكن ان يأتي الى الوجود. وهو ايضا أدخل عامل تصحيح في النسبية سماه الثابت الكوزمولوجي الذي – أضافهُ ثم ندم لاحقا – للحيلولة دون انهيار الكون نحو الداخل. هذه الفكرة تسمح للفضاء ذاته ليمتلك طاقة. غير ان العلماء لم يروا ابدا هذه القوة على الارض.

بعض الفيزيائيين النظريين يعتقدون ان هناك عالما مظلما كاملا من الجسيمات والقوى، تنتظر احدا لإكتشافها. ومهما كانت الكيفية التي صُنعت بها الطاقة المظلمة والمادة المظلمة، فهما  يلعبان لعبة الشد والدفع في الكون، كلاهما يمسكان به ويشطرانه الى قطع متناثرة.

***

حاتم حميد محسن

.......................

المصدر: Astronomy, Eric Betz, March 3, 2020

في المثقف اليوم