تكريمات

شهادات حية: الدكتور عبد الرضا علي منتهى الفخر أنك أستاذي

لأني قرأت بضعة كتب، وحفظت أسماء أدباء وكتاب ونقاد لا يجاوز عددهم أصابع اليدين، لم يكن عليّ إلا أن أضع نفسي في زمرة المثقفين، وظننت إني قد امتلكت كل خبرة ومهارة وذوق وعلوم ناقد أدبي.. لم يكن يعوزني شيء سوى أن أنال شهادة عليا!!

دخلت قسم اللغة العربية في تربية جامعة الموصل، لا لرغبة فيه (فعلوم اللغة لم تكن لتضيف إليّ شيئا)، إنما كانت درجات المعدل وزر حاسبة دائرة القبول المركزي هما من حكما بذلك.. في الرواية والشعر والقصة القصيرة قرأت لأسماء لامعة، وفي النقد قرأت إحسان عباس ومحمد مندور وجابر عصفور والطاهر على جواد، وفي النحو عباس حسن، فماذا سيضيف أساتذة هذا القسم لي من معارف لم أكن أعرفها؟!

كنت من عشاق السياب، أتبجح دوماً أني أفهم شعره جيداً، وأتبجح دوماً بحفظ قصائد كثيرة من شعره، ولا أشك ـ مجرد الشك ـ بقدرتي على تحليل قصائده، إلى أن ذكر زميل لي تحليلاً رائعاً لأحدى قصائد شاعري المفضل، وحين سألته كيف جئت بهذا التحليل الرائع.. أخبرني أنه تحليل الدكتور عبد الرضا علي في كتابه (الأسطورة في شعر السياب)، سحرني اسم الكتاب قبل قراءته، أذهلتني جرأته وتفرده في تصديه لأخطر أداة كان يستعملها بتفرد وتمكن عجيبين شاعرنا الكبير في شعره. أشعرني الكتاب ـ حين قرأته ـ بعمق مؤلفه وقدرته الفائقة على الرصد والتحليل وبصيرته النافذة التي تغوص في أعماق النص وتستخرج كنوزه الخافية عن قارئ إنشغل بجرس الألفاظ وموسيقاها. كنت أظن قبلاً أن بامكاني الغوص ببراعة في أعمق بحار الأدب، وحين قرأت (الأسطورة في شعر السياب) أدركت أني ما زلت على الشاطئ وأن أقدامي لمّا تبتل بماء نهر صغير بعد!

قسم اللغة العربية بتربية جامعة الموصل ـ أيام كان الدكتور عبد الرضا علي أحد أساتذته ـ كان حافلاً بمختلف صنوف النشاطات الأدبية، كل عام كانت هناك جلسة للقصة القصيرة خاصة لطلبة القسم، وجلسة أخرى في الشعر فضلاً عن نقد النتاجات، ولعل أهم من هاتين الجلستين لدى الطلبة المشاركين هو نشر نتاجاتهم في ملف على صفحات مجلة (الطليعة الأدبية) التي كانت تصدر حينذاك، وما زلت أذكر أن الشاعر النجفي الرائع عبد نور داود هو واحد من هؤلاء الأدباء الشباب الذين حظوا بعناية ورعاية، وربما، اكتشاف الدكتور عبد الرضا علي.. فضلا عن هذه الجلسات فقد كان القسم يستضيف نخبة من الأدباء والنقاد وأساتذة اللغة العربية اللامعين الذين كان تربطهم بأستاذنا علاقة خاصة يتكرمون بسببها علينا بإلقاء محاضرات غنية وممتعة ومفيدة.

لم يشرف الدكتور عبد الرضا علي على تدريسي مباشرة إلا في المرحلة الرابعة، حين ألقى علينا محاضرات في الأدب الحديث، وأذكر أنه حينها قد ترك التدخين، وكان يتندر بخفة على قرار رئيس النظام السابق في أن يكون جميع موظفي الدولة رشيقي الأبدان تزامناً مع أوامره بترشيق الإنفاق العام!!

في محاضراته، كما في كتبه ومقالاته، يستخدم الدكتور عبد الرضا علي لغة بسيطة مفهومة غير متكلفة بإمكان من في القمة ومن في السفح أن يفهمها.. في محاضراته لا يتسرب ملل أو رغبة في مغادرة الدرس عند أي طالب مهما كان كسولا راغباً عن التعلم.. محاضراته واحة من الأدب ونقده تتخللها نكات لطيفة مرحة تخرج من فم الدكتور بتلقائية ورشاقة.. في قسم اللغة العربية كل الطلبة تعرفه، وطلبة الجامعة أيضاً يعرفوه، وجميعهم يتمنى لو تشرف بحضور إحدى محاضراته، كنا نحن طلاب المرحلة الرابعة من سعدنا وتشرفنا بها وبه..

اليوم، وبعد مرور سنوات عديدة عن آخر محاضرة سمعتها ورأيتها وشربتها منه، أشعر أن أفضل ما أحسنه وأتقنه تشكل بيديه.. بفضل غنى معارفه عرفت جهلي وفقري.. أدركت أن العالم كلما ازدادت علومه ومعارفه كلما ازداد تواضعاً ورغبة في الاستزادة من منهل المعرفة يغرف من دون شبع.. الدكتور عبد الرضا علي لم يكن يضع حاجزاً بينه وبين طلبته فبابه مفتوح مثل قلبه الواسع العطوف المحب فكان أستاذا فاضلا ومربياً عظيماً وصديقاً ودوداً وأخاً محباً، وأظنه ما زال كذلك.. بفضله لم أعد فخوراً بما أعرف، إنما باحثاً على الدوام لأعرف ما أجهل، لكنني مع ذلك، لا يمكنني إلا أن أكون فخوراً يأخذني الغرور والخيلاء حين أتحدث عن أساتذتي وأذكر اسم الدكتور عبد الرضا علي..

 

سعد تركي

[email protected]

 

...........................

خاص بالمثقف

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (عدد خاص: ملف: تكريم ا. د. عبد الرضا علي من: 17 / 8 / 2010)

 

 

في المثقف اليوم