تكريمات

شهادات حية: الأمم بتاريخها ورجالها .. والحضارات بعلمائها وأدبائها

 وحين تتولّى الصحيفة هذه المهمة فتلك دلالةٌ على أنها المؤسسة الثقافية العظيمة الشأن التي تنهض بالفكر والتبعات الثقافية المنوطة بها على خير وجه، وتقدّر حق التقدير الشأن العظيم لرجال العلم والأدب والفكر ومنزلتهم الرفيعة في الساحة الثقافية . وهذه الصحيفة خليقة بالثناء والشكر الوافيين، وفاءً وتقديرا ً لما لهؤلاء العلماء من عطاء علمي وفكري أغنى الآفاق المعرفية وزوّد أبناء العروبة بالمعارف الثرّة، فقد حملوا مشعل الثقافة والمعرفة الذي قبست من نوره أجيال المتعلمين، وعطاؤهم الثقافي إنما هو قنديل يضاف إلى قناديل أخرى نيّرة بدّدت ظلمة الجهل وأخذت بيد الباحثين عن المعرفة في سلوك سبيلها والاهتداء بنورها.

كانت معرفتي الأولى به من خلال كتابه (الأسطورة في شعر السياب) في عام 1978، و لقائي الأول بالصديق العزيز الدكتور عبد الرضا منذ مايزيد على خمسةَ عشرَ عاماً حين كنت من الذين غادروا العراق في زمن اليباب، ويممت وجهي صوب اليمن لألتقيه هناك عندما كان نائباً لعميد كلية اللغات للشئون الأكاديمية والدراسات العليا في جامعة صنعاء، فبعد أن عرفته بنفسي استقبلني مرحبا بي، وقلت له: لدي معضلة البحث عن عمل في جامعة صنعاء، فلم يألُ جهداً في مساعدتي والحصول لي على عقد عمل في جامعة صنعاء آنذاك .

‏‏و أبرز ما عرفتُ من خصاله الكريمة الوفاء للأصدقاء، يتفقد أمورهم ويشاطرهم أفراحهم وأتراحهم، ويبادر إلى مدّ يد العون إليهم إذا ماتعرضوا لأزمة أو استعصى عليهم إيجاد حلّ لمعضلاتهم، ولا يتوانى في سبيل ذلك عن قصد من بيدهم الحل والعقد من أولي الأمر، وقد قدّم خدمات جلّى لقاصديه من الأصدقاء ومن غيرهم كما حصل لي  إذ كانت بابه مفتوحة لجميع العراقيين الطيبين . ومع مرور الوقت تعمقت الصِّلة فيما بيني وبينه لما رأيت فيه، من النُّبل، والخلق الكريم، والحرص على تقديم النصح والمشورة لقاصديه ومساعدتهم، في وقت عزَّ فيه النَّاصحون وندر فيه المخلصون . ولا ينقص من قيمته، ذلك أن قيمة أي نهر تبقى كامنة فيما يتدفق به من عذوبة وما يرويه من حقول عطشى، وما يحفره من مسار يختلف عن مسارات الأنهر الأخرى . ولا يمكن لأي محيط مهما عظم أن يوقف تدفق نهر، أو يحجب عذوبته، أو يقلل من توق العاشقين إلى السَمَر على ضفافه، أو يمنع الحقول من انتظار الحياة التي سيغدق به عليها.

 

ولا أخفي في أنني أول ما رأيته قبل أن ألقي التحية عليه في البداية خدعت بمظهره، أو بالأدق ما عرفت حقيقته، فقد رأيته يمشي متشامخاً بأنفه فظننت أن فيه كبراً، وسمعته يتكلم همساً فحسبت أنه لا يريد أن يسمعه بعضُنا، ورأيت فيه صلابة فظننته جموداً ولكن وبعدما زادتني الأيام معرفة به رأيت فيه ما يريح ويفرح، وعرفت أنه حين يمشي يمشي مترفعاً لا متشامخاً فهو مترفّع عن مفاتن الدنيا ومغرياتها لا عن ناسها وخلقها وهو كما عرفته يحب الخلقَ جميعاً حباً جماً وإن بدت من بعض الناس منغّصات وازعاجات، وعرفت أنه يتكلم همساً لأنه لا يريد أن يزعج انتظام نهر الحياة وسكون خلق الحياة بضجيج لا معنى لـه ولا حاجة إليه، وحسبه أن تصل الكلمة إلى هدفها وحسب الكلمة أن تفهم سامعها وأن أجمل الأصوات عنده هـي التي تصل إلى أعماق النفوس لا إلى عنان السماء .

 

وعرفت في الرجل الذي أتحدث عنه من ضمن ما عرفت أن صلابته وتمسكه برأيه هو تمسكه بالحق والموقف الصحيح هو من الحزم، وهو الذي كان السبب لمغادرته وطنه وأن يعيش في الغربة ، وأنه يخفي خلف الصلابة الظاهرة تلك بحراً من المحبة والإنسانية، وأنه تبكيه الكلمة الطيبة الصادقة، و يبكيه موقف إنساني يستحق العطف والتقدير والحنان، ولذا فهو يكره الظلم والظلمة من أي نوع أو صنف كان ومهما كان الشعار الذي يتلفّع به .

و في الجانب العلمي فأمر يعرفه كل من عاشره وجالسه وقرأ نتاجه العلمي الذي يربو على الخمسة عشرَ مؤلفا غير البحوث العلمية التي نشرت في الدوريات فضلاً عن مقالاته التي لاتعد ولاتحصى، فهو علاّمة غزير المعارف، واسع الاطلاع على التراث العربي وعلوم العربية وعلى غيرها من الآفاق المعرفية المتصلة بالثقافة العربية، تجد‏ فيه سمت العلماء ووقارهم، وألفتهم وهيبتهم، جُبل على الصدق والإخلاص، وفطر على محبة الناس، اعتزّ بأمته وتراثها، وملأت الغيرة إهابه عليها، زاحم بمنكبيه الشهب ليعلي من شأنها ويتفانى في خدمتها، أحب طلابه وأحبوه، واعترف الناس بفضله وحسن صنيعه، وقدّروا فيه حرصه وغيرته وصدقه وعلمه .

عبد الرضا علي ... الإنسان بهدوئه وجلال إطلالته... قارة إنسانية فائضة بالنبل، ومترعة بالصدق، وممتلئة بالرهافة، واحد من جيل إنساني نادر... الابن البار للعراق بعراقته وأبعاده الحضارية والثقافية... الابن الذي يجمع في شخصيته جلال العراق إلى جلال ذاته... جعل من حرمانه سنابل تنمو على حدود اللظى لترافق الجوهر الإنساني وهو يرقى معارج طينه في مواكب الفصول نحو هدفه السامي الكامن في غاية الحياة وفي لبّ الوجود .‏

ويبقى أستاذنا الدكتور عبد الرضا شجرة وارفة الظل، دانية القطوف، تنحني لكثرة ما تنوء بحمله من طيب الثمر، و أنموذج الرجل النشط المتواضع الذي يرفعه علمه وموقعه وعلمه وسلوكه إلى درجة أستاذية لا يعكر صفوها الادعاء أو الغرور ولا تهيض جناحها الغطرسة، فألف حوله قلوباً بالمحبة والصدق، واقترب منه من كان بعيداً عن الهزل .

 

تحية لك يا عبد الرضا... أيها الصديق النبيل...‏ يا وريقة ورد حيِّية وعبقة، أيها الرقيق كزهرة نسرين خجولة، أيها النقي كالحمامة.. لك أعطر سلام وأزكى، ولك دعاء من القلب أن يمد الله الكريم بعمرك وأن تتحفنا بدررك الرائعة يا طِيب النفس ومودة المعشر، وأن يزيدك صحّة وعطاءً .

إذ يكرّم هذا الرجل اليوم فإنما يكرم العزم والعلم والإنتاج والإنجاز والجدارة والإخلاص والقيم، ويعلن عن الحاجة لهذا النوع من الرجال في أوقات تشتد فيها المحن، وتكبر التحديات، وينتشر الفساد والإفساد، ويوجه التهديد الأكبر لثقافة الأمة وهويتها وتراثها.

 

نمدّ إليك يد التهنئة والإجلال... فأنت أهل لكل تقدير وتكريم.

...........................

خاص بالمثقف

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (عدد خاص: ملف: تكريم ا. د. عبد الرضا علي من: 17 / 8 / 2010)

 

في المثقف اليوم