تكريمات

الزجاجة في البحر

تمهيد: الشاعر ألفرد دي فينيي (1797 – 1863) وهو يطرح قضيّة الشرط الإنساني ينتهي إلى الاحتفال بمثال شعري قائم على الحب والارتفاع والتسامي.. "الزجاجة في البحر" La bouteille à la merنصّ كتبه خلال 1847 متغنّيا ببطل مقابل لشاترتون(Chatterton) ذاك الشاعر اليائس المحبط الذي عمد إلى حرق أعماله وآثاره قبل أن ينتحر ويُنهي حياته بطريقة مأساويّة وقد خّصص له دي فينيي دراما كتبها خلال 1835.

القبطان يقاوم حتى آخر رمق – كما الأشجار تموت واقفة – وهو يفكر في الآتين بعده ينظر نحوهم ويتوجّه إليهم برسالته.. "الإكسير الثمين" رسالة أمل ورجاء وهو ينشد أناشيد الانتصار متوجها بها إلى "الإله الحق" « Vrai Dieu »إله الأفكار.. الذي يسمح بتجاوز الرعب واليأس والقتامة.. كتب دي فينيي في يومياته خلال 1842 : "الكتاب زجاجة ملقاة في عرض البحر يجب أن تلصق عليها الملصقة التالية : "تدرك من يستطيع"  attrape qui peut" كما كتب إلى السيدة دا?ولت « d’agoult »ما يلي: " أكتب، أطبع، وبعد ذلك تدرك من يستطيع"

إنه المثل القديم الذي اعتمدته النّهضة "من يستطيع الفهم يفهم، من يمسك يملك "

"qui potest capere capiat, qui tient tiegne "

هذه القصة الرّمزية المأساوية تعبّر عن إيمان دي فينيي بالتتويج المستقبلي للعلم والفكر الذي أعدّه الشاعر ومهّد له وبشّر به.. دي فينيي كان محترما من معاصريه.. أثنى عليه بلزاك وبودلير وفلوبير وكان محل إعجاب مارسيل بروست وروبير ديسنوس ورينيه شار وإن كانت الكتب المدرسية الفرنسية تفضل في الغالب قصيدته "موت الذئب"   "La mort du loup  " ذلك النص المؤثر وإن كان أقل رمزيّة في الدّلالة على ذلك الطموح الفلسفي الذي يميّز الشّعر الرومنطيقي.

...........................

 

الزجاجة في البحر

الإهداء: إلى الأستاذ الدكتور  عبد الرضا علي.. مدركا للزجاجة في بحر الإبداع و قبطانا في سفينة النقد..

 

القبطان ما يزال يلقي نظرة نحو القطب

الذي يعود من استكشاف مضائقه المجهولة..

يصعد الماء إلى ركبتيه ويضرب كتفه..

يمكنه أن يرفع نحو السماء ذراعا من ذراعيه العاريتين..

انسابت سفينته.. تمّت حياته واكتملت..

يقذف بالزجاجة إلى البحر ويحيّي

أيّام المستقبل التي يحسبها قدمت بعدُ..

يبتسم وهو يحلم أن هذا الزجاج الهشّ

سيحمل فكره واسمه إلى المرفأ..

وأنّه من جزيرة مجهولة رفع قدر الأرض

وأنّه يسِمُ كوكبا جديدا ويعهد به إلى القدر

وأن الإله من الممكن جدا أن يسمح لمياه خرقاء أن تتلف مراكبَ

غير أنه لن يسمح بضَياع أفكار وتأمّلات..

وحيدا في المحيط.. وحيدا دائما.. ضائعا..

مثل نقطة لا مرئيّة في صحراء متحرّكة..

تعبر السّفينة المغامرة وتمرّ تائهة في المدى..

يرى مثل رأس خفيّ لم يكتشف..

سفينة راجفة مسافرة محكومة بالعَوْم

تحسّ فوق جيدها منذ عام

الطحالب وخزّ الماء وهي تصنع لها معطفا أخضرا ..

أخيرا ذات مساء تقوده الرّياح التي تهبّ من الجزر المزهرة

نحو فرنسا وسواحلها الممطرة..

صيّاد مقرفص تحت صخور جافة

يسحب في شباكه القارورة النفيسة..

إنه يجري.. يبحث عن عالِم يعرض عليه غنيمته

ومن غير أن يجرؤ على فتحها..يسأل مستعلِمًا :

ما هذا الإكسير الأسود المكتنف بالأسرار؟

ما هذا الإكسير ! إنّه العلم أيها الصيّاد..

إنّه الإكسير الإلهي الذي تشربه الأرواح..

كنز الفكر والتّجربة..

وإذا كانت شباكك الثقيلة – أيها الصيّاد – قد أمسكت

الذهب الذي دائما يتموّج في أوردة المكسيك

وألماس الهند وجواهر إفريقيا

فإنّ كدّك وعناءك لذلك اليوم سيكون ثمنه أقلّ..

أنظر.. يا له من ابتهاج مضطرم وجادّ!

المجد والفخر الأكثر سطوعا في الأمّة..

المدفع القويّ القادر والجرس الورع التقيّ

تجعل الإحساس يطفح فوق الأسطح الرّاجفة..

لأبطال العلم أكثر ممّا لأبطال المعارك

سنقيم اليوم جنائز مشهودة .

إقرأ تلكم الكلمة على الجدران : "احتفاءا بذكرى !"

ذكرى خالدة ! المجد للاكتشاف

في الإنسان أو في الطبيعة المتساويين في العمق..

في الحقّ والخير.. نبع لا يكاد يروي الصّادي..

في الفنّ الذي لا ينضب.. لجّة الإشراق والجلال..

مهما يكن من نسيان.. عضّ.. نهش.. وظلم أخرق

ثلوج وأعاصير عبورنا المضني؟

فوق حجر الموت تنمو شجرة العظمة.

تلكم الشجرة هي أجمل ما في الأرض الموعودة..

إنها منارتكم للجميع.. أيّها المفكرون المجتهدون؟

اندفعوا.. تمخّروا.. شقوا المياه.. أبدا لا تخشوا الموج أو الهواء البحريّ

من أجل كلّ كنز مختوم من الطابع الثمين.

على الذهب الخالص أن يطفو ويعوم ومجده أكيد.

قولوا وأنتم تبتسمون مثل هذا القبطان :

"فلتتحقق ولتظهر.. إذا كانت تلك إرادة الآلهة !"

الإله الحق.. الإله القويّ.. هو إله الأفكار!

على جبهاتنا حيث ألقى القدر السّبب...

لنسكب المعرفة في المُزن المخصبة..

ثم لنقطف الثمرة.. ثمرة الرّوح تماما كما خرجت..

كلّ بصمة من عبير الوحدة المقدّسة ..

لنقذف العمل المنجز والآثار إلى البحر.. بحر الحشود :

حتما سيأخذها الله بعنايته ليقودها إلى المرفأ.

 

Alfred de Vigny         ألفرد دي فينيي            ترجمة محسن العوني

Les destinées    الأقدار

Poèmes Philosophiques       (قصائد فلسفيّة)

Michel Lévy Frères, 1864    باريس 1864

 

    ...........................

خاص بالمثقف

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (عدد خاص: ملف: تكريم ا. د. عبد الرضا علي من: 17 / 8 / 2010)

 

 

في المثقف اليوم