تكريمات

شهادة عن المبدعة العراقية وفاء عبد الرزّاق .. زهرة في بستان المحبة

كنت محظوظة الى حد كبير في أن أزور المغرب تلك البلاد التي يشتدّ بريقها وأن ألتقي فيها بالكاتبة العراقية وفاء عبد الرزاق ذات الشخصية المميزة فاذا بي في سفر واحد أكسب عصافير عديدة .. أكتشف بلادا ساحرة وأتعرّف على أناس مميزين .. من بينهم وفاء عبدالرزاق.

كنت في ملتقى شعري بمدينة مولاي ادريس بوسط المغرب .. كانت المدينة تقع في قمة جبل وكي تذهب للفندق يجب ولوج شوارع ضيقة تتصاعد بنا نحو السماء ثم تنفتح على مكان أشد ارتفاعا يشرف على كل المدينة وتفتح النوافذ على منازل الأهالي .

كنت من أولى الضيفات الوافدات .. لذلك خيّرني الشاعر ابراهيم قهوايجي (أحد منسقي الملتقى) عن التي ستشاركني الغرفة .. وعدّد لي أسماء الضيفات وحين وصل الى اسم وفاء عبد الرزاق هتفت دون تفكير ودون أن أنتظر بقية الأسماء : وفاء عبد الرزاق.

وفاء عبد الرزاق.. لم أكن أعرفها مباشرة .. قرأت لها مجموعة من الكتابات المختلفة في مواقع افتراضية عديدة لعلّ أهمها مركز النّور وكنت أجدها قلما ابداعيا متميّزا وكان يدفعني الفضول الى استكشاف شخصيتها بعيدا عن الحبر.. وأعتبر نفسي أني قد جازفت اذ يمكن أن أغامر بتلك الصورة التي أحملها عنها بوصفها كاتبة رقيقة وتكتب ببهاء لا يخفى عن أي قارئ وقد لا تنطبق تلك الصورة مع الواقع وتكون امرأة متعالية متصنّعة فتعسر عليّ الاقامة معها وقد أفسد عليّ الملتقى.

و لم أتفاجأ فقد وجدت شخصية وفاء عبد الرزاق في مستوى كتاباتها الجميلة.. يبدو أنها تغرف بهاء قصصها وقصائدها من نهر يسكن أعماقها ويفيض محبّة..

عندما التقينا لأول مرة أرسلت لي ابتسامة رقيقة ثم عانقتني وهي تقول بلهجة عراقية محبّبة : " مرحبا .. يا .. هلا .. يا .. هلا .."

رمت حقيبتها اليدوية جانبا وطفقت تتحدث عن تفاصيل يومها..كيف أنها تعبت كثيرا من جلوسها في الطائرة.. وأن الطريق الى مدينة مولاي ادريس تحفّها طبيعة ساحرة وأن لطف المغاربة ودماثتهم بيّنة وأنها ...أضاعت .. حقيبتها في مطار لندن.

كانت تبدو تلقائية، بسيطة ، متواضعة جدا  تتكلّم بلهجة عراقية جميلة ومحبّبة

و بدأ التناغم بيننا في أعلى مداه..

و تحدثت وفاء عبد الرزاق ..

عندما تتحدّث وفاء عبد الرزاق فان كل الأحاديث تؤدي الى العراق  ان تحدثنا عن ادارة الملتقيات الثقافية، عن هندسة المكان، عن سحر الطبيعة، عن تقاليد الأفراح، عن وصفات الأكل عن طرائف الحياة وعن النكت اللذيذة .. وراقني جدا أن أجد العراق كل العراق يسكن هذه المرأة.. العراق يرشح في دمها.. العراق يلهج في صوتها العراق يتنفّس من مسام جلدها.. وأذهلني هذا الشعور القوي بالانتماء الى وطن تحيط به المكائد ويقتاته الارهاب وتهتف بيقين قاطع : " العراق سيرجع أجمل من الأول.. سترين يا فاطمة " .

و اسألها : أين تقيمين في لندن ؟

تردّ : أنا أسكن شقة جميلة بس أحنا بيتنا في العراق كبير وعندنا شجرة قديمة .. كنت أحب الجلوس تحتها.. وكان السوق غير بعيد عنّا.. وكنت أحبّ أن أرافق أمي كثيرا.."

و أسألها هل غادرت العراق منذ فترة طويلة

و تردّ أنا ما فارقت العراق .. هي نبض قلبي ، أنا أتنفّس هواها

" شوفي" يا فاطمة هذه القصيدة التي كتبتها عن العراق

و تسرد واحدة من قصائدها الزجلية البديعة التي تضجّ بعشق العراق.. كل العراق.

و لاحظت انه في كل مرة يشتدّ بها الحنين الى العراق تلهيني بقراءة قصيد لها حتى لا أنتبه لدمعة حنين تترقرق في مقلتيها..

أتجاهل دمعها وأهتمّ بالقصيد.

من عناصر القوة في تجربة الابداع عند وفاء عبد الرزاق أنها تكتب الزجل العراقي وتصوغ من خلاله صور شعرية جميلة .. في الأمسيات الشعرية كانت تقرأ قصائدها.. يلتزم الجمهور بالصمت العمق وترى صوتها يضجّ في القاعة ويرتدّ الصدى بلهجة عراقية عذبة وما تكاد على الانتهاء حتى ترتجّ القاعة بالتصفيق الحاد..

عندما نعود آخر النهار الى غرفتنا المشتركة اقول لها " اقرئي لي القصائد الزجلية مرة أخرى فتقول " حرام عليك يا فاطمة انا متعبة" ولن يغفر لها تعبها من الحاحي الطفولي.

في المساء .. كانت مثلي لا تحتمل كثيرا اجهاد السهر .. لذلك كنا نأوي لغرفتنا المشتركة باكرا .. ننزع عنّا صخب اليوم وتستيقظ فينا الطفولة فيلذّ لنا ان نقرأ قصائد ونستحضر حكايات ونوادر .. ويحدث أن تستعصي عني فهم كلمة ما عراقية وعندما أسألها عنها تفسّرها أيضا بكلمات عراقية ونغرق في الضحك.

و لعلّ ما توفر من هامش في الملتقى بالمغرب قد كان كافيا لأقترب من وفاء عبد الرزاق بما هي أديبة متمرّسة وشخصية مثقفة لأكتشف فيها امرأة ذات احساس راق بالحياة وو ادراك قوي بالوجود لذلك كان يعنّ لي ان أقترب أكثر من تجربتها في الكتابة : كيف تختار مواضيعها السردية والشعرية ؟

ما هي طقوسها في الكتابة ؟

و وجدت وان كان اقتناص الموضوع المبتكر يعتبر عصيّا عند البعض .. فهو نظرة دقيقة ومختلفة عن السائد عند وفاء عبد الرزاق.

أما عن طقوسها في الكتابة فأذكر أنها حدثتني عن قدرتها على التحكمّ جيّدا في وقتها بمعنى انها ملتزمة يوميا بالجلوس في مكتبها بالبيت والانشغال بتوهج قصيد او ترتيب قصة أو خياطة رواية.. وخارج هذا الدوام الرسمي للكتابة يبقى المجال مفتوحا لقراءاتها المتنوعة والمختلفة.. فكرة الالتزام اليومي بالكتابة يجعل من الكاتب يعتبر الكتابة عنصر وجود في حياة . هذا التفرّغ للكتابة أجده مطلب الكتّاب الكبار الذين يراهنون على ان الحبر هو أداة تواصل بين الذات والعالم .. وان الكتابة وحدها هي كيان الانسان وتثبيت عالم القيم.

انتهى الملتقى وكان وداعنا في الدار البيضاء .. قررت أنا أن أقيم بها أياما أخرى وقررت هي الذهاب للرباط للقاء صديقات لها و.. افترقنا.

كان يمكن ان تنتهي العلاقة مع الكاتبة وفاء عبد الرزاق عند هذا الحدّ .. لو كان الأمر مع غيرها.. لكن مع وفاء عبد الرزاق الصداقة ليست رهينة ملتقى شعري وليست رحلة سفر.. وليست غرفة مشتركة في فندق.. مع وفاء عبد الرزاق الكاتبة الممتلئة بذاتها ، المشبعة بقيمها فان الصداقة بيننا كانت قد بدأت...

تعود هي الى بيتها في لندن وأعود أنا الى تونس .. وتكشف وفاء عبد الرزاق عن قدرتها الرائعة على التواصل الانساني والمحافظة على صداقاتها .. لذلك لا أتفاجأ أبدا عندما أفتح صباحا صفحتي في الفايسبوك فأجد كلماتها تشرق على جدار بيتي الافتراضي " صباح الخير فطوم " ويهتزّ قلبي لهذه الصديقة المميزة وأفرح بهذه الكاتبة المبدعة.. التي مثلما تتقن ترويض اللغة في نصوصها السردية والشعرية تتقن فن الصداقة وصنع البهجة لها ولأصدقائها.. ولذلك أبادلها المحبة والتقدير  ويلذ لي كثيرا أن أنزّل لها في الفايسبوك تسجيلا صوتيا لها وهي تقرأ قصائد زجلية تضجّ بحب العراق .. وأرى أصدقائي يتحلقون حول صوتها الرّخيم ويرتدّ صدى لهجتها العراقية المحبّبة فأفرح .. بها.

بالنسبة لي أن تكون وفاء عبد الرزاق صديقة لي فهذا  يعني ان لي في حياتي كاتبة مبدعة وامرأة مميّزة  وصديقة استثنائية.. وهذا  من دواعي اعتزازي بها.

 

انتهى

بقلم : الكاتبة التونسية فاطمة بن محمود

 

...........................

خاص بالمثقف

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (عدد خاص: ملف: تكريم الأديبة وفاء عبد الرزاق، من: 05 / 11 / 2010)

 

 

 

في المثقف اليوم