تكريمات

شهادات حية: وفاء عبد الرزاق سيدة الشعر والأدب الأولى

إلى ظلال وسحر المكان الذي أنجب عبقرية كالسياب . البصرة بغابات نخيلها ونهرها .. بلد مضمخ بالشعر والأدب ... فلا عجب أن أنجب عبقريات شعرية من أمثال السياب ووفاء عبد الرزاق.

و منذ اللحظة الأولى أحسست أن شاعرة وأديبة متميزة بقامة وفاء عبد الرزاق ومن جاء من جيلها من عصر تُفيهَ فيه الأدب والشعر والثقافة بشكل عام باتجاه سيطرة الاستهلاكي والسطحي والسخيف مما رافق عصر هزيمة القوى المتنورة والصاعدة أبدا باتجاه ما هو إنساني مدعم بالقيم الرفيعة التي تميز الإنسان عن بقية الكائنات. لقد ظلم أدباء وشعراء بل ومثقفين في ظل هيمنة القطب الواحد .. الوحش الذي يلتهم كل ما هو إنساني وخالد في البشرية .. في عصر كهذا حفرت وفاء عبد الرزاق بأظافرها اسمها بأحرف من نور في جبين الأدب العربي (وربما العالمي بعد ترجمة أعمالها إلى العديد من اللغات الحية)... أقول لو عاش شاعر كالسياب اليوم .. لربما كان أقل شهرة وانتشارا مما وصلت إليه الأديبة الكبيرة وفاء عبد الرزاق!!.... لقد صعدت إلى ساحة الأدب العربي أسماء لامعة في عصر مختلف.. عصر الكلمة المكتوبة والقراءة لا عصر الصورة لمتلقٍ كسول يأكل شرائح البطاطا أو البوشار  على أريكة مريحة دون أن يجهد عقله أو يزعج نفسه بالتفكير، فكل شئ معلب وجاهز وما عليه إلا أن يبتلع !!

 

الفنانة الكبيرة وفاء عبد الرزاق: شاعرة حتى عمق الروح بل أزعم أنها تعيش حياتها بوهج الشعر فقد يمس قلبها مشهد في التلفيزيون فيشعل روحها وإنسانيتها فتتفجر شعرا غاضبا يوقظ كل من يقرأه للدفاع عن أطفال العراق الذين هانوا على رجاله من أجل منافع دنيئة منحطة توصلهم إلى درك الحيوان المتوحش لا بل أدنى من ذلك فلا نعرف حيوانا يقدم أطفاله وقودا رخيصا سوى أولئك الذين تاجروا بالوطن وبكل شي من أجل  دناءاتهم الخسيسة!!

 

و عندما قرأت أول قصيدة للشاعرة الكبيرة وفاء عبد الرزاق أدهشني المقدرة الكبيرة على ابتكار الصور الشعرية المتدفقة غير المطروقة.. إبداع يهز القارئ من اعماقة فيوقظ فيه الحس الإنساني الرفيع.. حالات لم تخبرها من قبل ... تتدفق الكلمات كنهر فياض..و تتالت قراءتي لقصائدها المدهشة .. وتوقفت طويلا عند رائعتها (من مذكرات طفل الحرب) فاجأتني الفكرة وكيف يتأتي لشاعرة  مضى بها العمر بعيدا عن ضفاف الطفولة أن تتقمص عيني طفل عراقي صغير فتقرأ من خلالهما المأساة العراقية برمتها ... الفاجعة المروعة التي حلت بأطفال العراق الذين صاروا يتزلجون على الدماء ويلعبون بالأشلاء!!!  قلتُ لنفسي يا لله ..  كيف استطاعت أن تتقمص وتتحدث مشاعر الطفل العراقي الذي يعاتب الله على ما يعيشه من دوي يومي ودخان ويورانيوم منضد... وو و!!  فأطلقت عليها (سيدة الشعر والأدب الأولى) كما يطلقون على امرأة الرئيس لكن الرئيس هنا هو الشعر والأدب!! وقد كان لي الشرف أن قمت بترجمة هذا النص العظيم إلى اللغة الانجليزية .. لعله يصور فيلما يفضح مأساة أطفال العراق المفجعة وتجار الحروب الذين عبثوا ببراءة الطفولة في ارض الرافدين!! ولعل البشرية تستيقظ لتقول لا لمصاصي دماء الأطفال الأبرياء.

 

ثم اكتشفت أن الأديبة الكبيرة وفاء عبد الرزاق ليست شاعرة فحسب بل وروائية متمكنة وكاتبة قصة قصيرة وشاعرة بالعامية العراقية.. وقد وجدتها مبدعة متميزة في كل ما قرأت لها ..

 

و صدق حدسي إذ أطلقت عليها (سيدة الشعر والأدب الأولى) .. فقد تمتعت بقراءة روايتين للفنانة (السماء تعود لأهلها ) و(أقصى الجنون.. الفراغ يهذي)..وقد وجدت أن وفاء عبد الرزاق التي تعيش حياتها شعراً وتتنفس الهواء شعراً..كذلك تكتب الرواية شعراً في معادلة من أصعب ما يكون ففي حين تبقى لغتها محلقة في سماء الشعر ويبقى تصورها العام تصوراً شعريا نراها ترسم شخصياتها وكأنها تصوغ حلية رفيعة الجمال فنشعر أن شخوصها الواقعيين والمتخيلين أناس يعيشون بيننا من لحم ودم ومشاعر وعواطف .. تقنعنا بان عيناء السمراء وأختها الشقراء اللتين خرجتا من لوحة بطل الرواية الرسام بأنهما من لحم ودم .. دون أن ننسى للحظة واحدة بأنهما أفكار البطل وتوقه وجناحاه!!! وكما في حكايات (ألف ليلة وليلة) تنزلان من اللوحة إلى لندن حتى نكاد ننسى أنهما من ألوان.. أو أنهما مجرد ألوان .. لم  ينتهِ البطل من تلوين أحداهن تماماً!!  وفي نفس الوقت نشعر دون أن ينقص ذلك من واقعية شخصية الرسام بطل القصة الذي افقده النظام الديكتاتوري رجولته وقطع يده أنه رمز للعراق برمته.. أليست هذه الرواية السحرية المدهشة رؤية شاعرة محلقة الخيال وملحمة للوطن العراقي بل للإنسان .. في مأساة يعيشها.. مرسومة بريشة فنانة مبدعة تجعلنا نغرق في بحر من جمال خيالها وروحها المبدعة!!

 

و في (أقصى الجنون .. الفراغ يهذي) تتناول الفنانة المبدعة والأديبة الكبيرة وفاء مأساة العراق تحت الحصار .. ومأساة  لجوء أبنائه الفارين من الموت المحتم الذي فرضه عليهم النظام الديكتاتوري الغاشم... فنرى لأول مرة تفاصيل وإذلال اللجوء ومراحله من العراق إلى سوريا إلى المغرب فبريطانيا!! موضوع يتم تناوله لأول مرة في الأدب العربي

(وربما في الأدب العالمي) بكل التفاصيل والعذابات التي يعيشها اللاجئ إلى بلد أخر .. ومع ذلك لا يغيب الوطن المحاصر عن عين الفنانة فيحتل بتفاصيل تصور المأساة من حصار وطن حصار اقتصادي ظالم فرضته قوى غاشمة تعاقب الشعب الأعزل بحجة معاقبة النظام ة!! فعلى فصلين كاملين من الرواية تقريبا تعود بطلة الرواية إلى طفلها الذي توفي في المشفى نتيجة الحصار واعتقال الطبيب الذي كان سيعالجه!!... كل ذلك في لغة تفيض حبا للناس وحنانا كحنان الأم الرؤوم على أبنائها..

 

وفي كلا العملين الروائيين الفذين نرى الأديبة الكبيرة تستلهم الأسلوب القرآني المعجز في القص.. فهي تنتقل في روايتها (السماء تعود إلى أهلها) من مكان إلى مكان.. داخل خيال وذاكرة الشخصية بسلاسة مدهشة ودون تمهيد ومع ذلك يسير القارئ معها بسهولة ويسر بين ما يحدث الآن وما حدث سابقا.. لتكتمل الصورة الرائعة للحدث الروائي.. كما تنقله بنفس السهولة والسلاسة من مكان إلى مكان.. من لندن إلى العراق ...

 

أقول أخيرا إن الفنانة الكبيرة، سيدة الشعر والأدب الأولى وفاء عبد الرزاق يمكن أن يكتب في فنها وأدبها الكتب.. في أسلوبها وروآها الجمالية المبدعة .. وما قلته هنا ليس أكثر من نتف من تأملاتي فيما قرأت من إنتاجها المبدع كتبته على عجل.. وهي تستحق دراسة أكثر موضوعية لعالمها الأدبي الغني.

 

يوسف إسماعيل شغري

شاعر وناقد سوري

 

...........................

خاص بالمثقف

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (عدد خاص: ملف: تكريم الأديبة وفاء عبد الرزاق، من: 05 / 11 / 2010)

 

 

  

في المثقف اليوم