تكريمات

قراءات نقدية: الشاعرة وفـــاء عبد الرزاق فسيسفاء حرب تتــمرأى على مذبح التأريخ

تلك الطفولة التي تتحد باقرائن الاسمى، قرائن الميثولوجيا والانقلاب على الراهن، ومن هنا جــاء التوسيم لمذكرات طفل الحرب:

 

هذه الوجوهُ حوارٌ

وأنتَ المشتبَهُ بهِ المهيّأ للسطو

تسبقني رصاصة ٌ تـُشبهني تماما ً

 كـُلُّ شيءٍ يصبح طفلاً

حتى الأطياف الراحلة

تفرد أُمّي ذراعيها

يَخرجُ وجهي منْ جـيبِ قلبـِها

ليسبقني إلى العتبة

لكنّ الرصاصةَ تفتتح عالمَ الحبر

 

فهي المدينة اذن وهي التي تلقي القبض على مشتبه جنايته التفكير وربما التنظير، واذا غاستو باشلار قد انتفض على المرئي باحضاره للا مرئي، وبــاطلاق ثيمة ان البيت هو كوننا الاول!!  فقد تجاهل موضوعة الوطن لينفذ منها الى حيث المطلق، مطلق الكتابة والتحاور مع البيئة الشد قربا من الذات، وهي تجربة غنية تتجسد في حبر الشاعرة وفاء عبد الرزاق، التي تريد ان تمد جسوراً بين عالم الاشارة وعالم المعنى:

 

الاشــارات: الحبر – الرصاص – الام – الاطـيــاف

المعنى: هدنة متأخرة مع الراهــــن

 

اما في سياق الحوار الاسمى وهو حوار الابعاد الهيئة للمشهد الدرامي فنقرأها المسار الشعري التالي:

 

لا ياسمينَ في شراييــن النهر !!

لا نهرَ في جيوبِ أولاد الحارة

نظـّفتُ الأسبوعَ من أيـّامه

وكأنني أستجيبُ للضوءِ المغسول

خرجتُ أغيظ براعـُم َ تلعبُ (الغـُمّيضة)

إنهُ الـّلعبُ، إنهُ اللعب

ألـّلعبُ يا أطفال

شقاوة ٌملطّخة ٌبدشاديشكم

وعند تبادلِ الحوار

كانت جدّتي مثلما لعبة ٌ ضُغط زِرّها

ألعابٌ كثيرة ٌحولي

لربَّما لجدات ٍ أخريات

 وأنا استمتعٌ بدهشة عيونهن

وأروي لهنّ عن مغامرتي

في التزحلق ببركِ الدَّمْ

 

انه الحضور الاسمى كما نوهنا الى الدم، وفي همهة عاجلة الى الدم، حيث يتضح لنا ان الدم ايقونة مزدوجة التضاد، وفي الدم الاحمر ســرّ الخليقة والتماثل والتكاثر والوسط الاكثر انغلاقا، وهو ذات الدم الذي يبيحه الغزاة والطغاة، لكنه الآن يمثل فجوة بين حوار الاسلاف، تلك الجدة التعبة الهرمة، وهذا الدم الواهم مثل شرارة البـــدء. وتمضي الحقول بنا الى حيث الوصاية الاجدى – إنه الاب – وفيه تتضح معالم زهو الشاعرة وهي تتفقد جيشها الحياتي اذا صح التعبير بقولها:

 

لستُ بحاجةٍ لأب

كما لستُ بحاجةٍ لجمال الفصول

أو لأمّ بردائها تفتحُ الدروب 

الدائرةُ كما تصورِها الجغرافي

تكرهُ التحايا صباحا ً

وتكرهُ أن أُدعى حُلماً مثلا ً

ممتنٌّ لها جداً

تلك الرصاصة ُالتي

ستـُصبح أسرتي القادمة

حقـّاً لستُ بحاجة ٍ

إلاّ لمزاج الدويّ 

 

هنا يفتح الطفل علينا سماوات لا  تغلق، فهذا الطفل والذي ولد او هو لم يولد بعد يرفض ابوته العربيه حصرا، مستنجدا بفصول ربما هي الاخرى ستأتي، وقد لا تأت ابدا، مما يمثل الانكفاء الامضى على خلية الرصاصة، شاهدنا واشارتنا الاولى، وهنا يكون الترقين الجغرافي للقصيدة كما يلي:

 

الرصاصة ( إسم) = الابوة ( إسم ) = المواسم ( إسم)

الطفل ( سيد الاشارة) = الرفض ( فعل) = الولادة ( إسم )

 

وهي تمضي بالتموسق على دلالـــة المضارع الصرف، عبر قولها – لست بحاجة لجمال الفصول – وهو التشيئ الشديد في القدرة على خلق معان جديدة هي الاخرى، ممــا يقرب الى أذهاننا قدرة الفاعل (الشاعرة) على خلق عوالم داخلية تتجاوز الفصول وجمالها المرتبط برصاص الدم.

 

أشمّ ُصمغ َ الجـثـث

واقلب أوراق الحرب

باحثاً عن إسم ٍله من أنفاسي بـَلـَلـُها

أجلسُ على كرسيّ بنصفِ رِجـل

الدفترُ المحروقُ

الـَّذي كان حـُلماً

وبـِمهدِهِ ارتعشَ علمُ الصباح

لم يجلس في حضني كعهده ومدرّس الـّلغة

وجدتـْه مـُستنداً على عكـّازه

 

في اقتران الدفتر الحامل لتأريخ الاسى وعبر شم صمغ الجثث (رمز ديمومة الموت) نلمح الجزء الاكبر من درامــا تأثيث الوجود بفن الحرب، فالذين يذهبون الى الحرب لا يدرون غير متسع الدرية في نقض حقائق الانسان، إلا انهم يصابون بخيبة الجمال الذي تقتله الحروب، ومنها ما يقوله النابه محمود درويش الى ان العدو في حربه سيخمش من جمال لوحة، ويعطل العمل في الشعر والفن التشكيلي، بل وحتى في اعداد فنجان قهوة اخير. هنا تضع الشاعرة وفاء عبد الرزاق يدها على حقيقة غير مغالية، ولا مبالية، انها حقيقة المد الراجع والعكسي لدخان الحروب، وكما اسلفت في مقالة سابقة عن الحرب، فان حيمنا قالها ذات مرة: يوجد الف طريق لتجب حرب مـــا، لكن الذهاب الى الحرب لا يتطلب سوى الارتماء فيها، اما خلص شاعرتنا هنا، فهو الدفتر، قرطاس الطلام الذي تتضح اسفاره في المطلق الذي تكرره هنا:

 

قاربـي الـورقـيّ

يـُجـدّفُ بالموت

غيماتُ بلعـن أرياقـَهـُنّ

وخبّأن للظامئِ زهراتٍ سود .

 

قاربي الورقيّ لم يرفع رأسَهُ عالياً

لأنّ الطيرَ بلا أجنحة

والنخيل أعقاب سجائر

ولأنّ السماءَ لم تأسفْ كطفل

تأخـُذهُ الجـُذوعُ إلى لـقاحها

ماتَ مـِشط ُ أمّي مُـنتـَحـِرا ً .

 

عباس الحسيني

شاعر ومترجم – الولايات المتحدة

 

...........................

خاص بالمثقف

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (عدد خاص: ملف: تكريم الأديبة وفاء عبد الرزاق، من: 05 / 11 / 2010)

 

في المثقف اليوم