تكريمات

قراءات نقدية: ديوان من مذكرات طفل الحرب، للشاعرة وفاء عبد الرزاق

 (من مذكرات طفل الحرب)، وهو عبارة عن قصيدة شعرية مطولة، من خمسة عشرة مذكرة، وكل مذكرة تتضمن ستة مقاطع، تهيم الشاعرة في عالم الطفولة، وتعاشرها منذ الولادة وتقدمها لنا بصورة أكثر واقعية منها الى الخيالية، من خلال سيرة مصورة خلاقة،

 

الديوان :

ترتدي الشاعرة وفاء عبد الرزاق، قناع الطفولة، وتستعير صرخة ، لتضع أمامنا سيرة طفولة، تارة ذاتية، وأخرى شخصية، وتعيدنا الى اعمال مبدعة، كمسرحية الكاتب عبد الرحمن الشرقاوي بجزئيها، الحسين ثائرا، والحسين شهيدا،وكقناع صلاح عبد الصبور في مسرحيته الشعرية  الحلاج، وكذلك مسرحية عبد الرزاق عبد الواحد، الشعرية، الحر الرياحي، والتي وصف بها القناع (الشاعر نفسه)، في معرض أجابته على سؤال ألأديب عبد العزيز المقالح، أيهم أنت ؟، فأجاب (فيّ كثير من شخصية الحسين عليه السلام، وقليل من شخصية الشمر، و كل الحر الرياحي)، وكذلك قناع الشاعر بدر شاكر السياب في قصيدته (في المغرب العربي)، ونحن اذ نأخذ بأعتبارات عدة، أن الشخصيات هنا صريحة ومطلقة، كبطولة وكأسطورة، مايدعونا الى أن الشاعرة وفاء تبرز أهمية الطفولة، كعموم وتحيلها الى خاص، من كونها رمزا، وتنادي الى، أن الطفولة أصبحت أسطورة، من خلال هذه المذكرات، ونحن هنا لانخوض في المنهج التحليلي الوصفي، كما تقول الدكتورة بشرى البستاني،(على أعتبار أن المنهج الوصفي قد أندثر، ولايوجد منهج تحليلي، لأن التحليل آلية تستخدمها كل المناهج، ومهمة الشعر العربي، تأسيس المعنى)،

ومن حيث المبدأ، تعلن لنا الشاعرة أنها ترتدي قناع الطفولة، بتصريح منها في أول ألكلام (ألأهداء) وأن كان خارج المتن،

 

(المدينة تعترف :

هذه الوجوه حوار

وأنت المشتبه به المهيأ للسطو،

المشتبه بها

وفاء)

................

 

وعلى أعتبار أن السيرة ذاتية، فكونها تعود في (المذكرة الاولى، البحر ليس طفلاً)، المقطع (1)، الى المكان (الولادة – مسقط الراس) وهذا يعني المدينة، وتستعير الشجرة كناية عن النخلة، والنخلة تدلنا بدقة الى مدينة البصرة في العراق، وكذلك يتعين الزمان أيضا، كون مدينة البصرة كانت من جبهات القتال في الحرب العراقية – الايرانية، 80 – 88، واستقبلت رصاصا وقنابل، فتعينت لنا ذاتية السيرة، مكانا وزمانا، تقول :

 

أمد رأسي الى الدار

(لأتذكر ماقالته الشجرة لأغصانها)

تسبقني رصاصة تشبهني تماما

كل شيء يصبح طفلا

حتى ألأطياف الراحلة

تفرد أمي ذراعيها

يخرج وجهي من جيب قلبها

ليسبقني الى العتبة

لكن الرصاصة تفتح عالم الحبر

......................................

 

وفي المقطع الثاني، وبألأسلوب نفسه، (الروائي) كما تحب صاحبة النص أن يكون العمل كذلك (سينمائيا)، برغم المسحة المسرحية التي يتميز بها،(وتجدر بنا الاشارة الى أن أعمالا  كثيرة تمت معالجتها مسرحيا، منها رواية خمس أصوات للروائي العراقي غائب طعمة فرمان التي حولها للمسرح الفنان المبدع محمود ابو العباس)، ولكون الشاعرة قدمت في هذا النص أبداعا قد جمع بين مذكراته عوالم مختلفة، بين الشعر، كقصيدة مطولة، وبين التفاصيل الروائية، وبين المشاهد كمسرحية، فيحق لها  ما تذهب اليه، وبالوقت نفسه يحق للمتلقي كذلك، على أعتبار أن الشاعر (حاصب نبوءة)، في هذا المقطع (الثاني)، وبشيء من التفصيل الروائي، يقترب بحدة من أسلوب، عبد الرحمن منيف في روايته ألأخيرة (أرض السواد)، تسرد ذكرياتها بألأستعانة بجدتها هذه المرة، بعد أن أستعانت بألأم في المقطع ألأول،

لأني أخاف النوم وحيدا

تذكرت قصص جدتي

..........................

 

وتعود مرة أخرى (المقطع الثالث)، الى التذكير بالمكان والزمان، بأشتياقها لأصوات المدافع، بعد أن ذكرتنا بالرصاص في أول الامر :

حقا لست بحاجة

ألأ لمزاج الدويّ

...................

 

وتمسح جغرافيا المدينة زمانيا (المقطع الرابع)، بين الجد واللعب، :

وجميل وجهي في عيون أولاد الحارة

اللذين رأيتهم

بما ليسوا بحاجة اليه

سيصبحون مجرد دوي

..............................

 

وتنتهي بتفاصيل المقطع الخامس والسادس، سيرة عقد الثمانينات، وتنهي بدورها المذكرة الاولى،

لتتناول بالمذكرة الثانية (أمرأة واحدة لاتكفي)، عقد من السنين ترك جرح قد يطول بنا التاريخ لنسيانه ولم ينته ألأ بالكي !!

وتكبر الطفولة، على آمل أن تمارس حقها في التعليم، ولكن حظها لم يكن أفضل حالا من طيور، الشاعرة ريم قيس كبة في ديوانها (نوارس تقترف التحليق)، حيث ممارسة الحق يصبح تهمة، ويبدأ الحصار، متمثلا بالبطاقة التموينية الرعناء، التي تنام في جيب مثقوب، (المقطع الاول)، وهنا تتحول السيرة من ذاتية الى سيرة شخصية، بعموم المكان، وتنتقل من مدينة البصرة الى مدينة بغداد وبالتحديد، ملجأ العامرية، الذي مزق به دعاة الحرية أجساد الطفولة وأحالوها الى اشلاء و رماد، :

 

أو رقصتم على قفزات الشظايا ؟

هكذا رقصت زينب أبنة جارنا

وأهدتني عينها الممتلئة بالدخان لأشبع

..............................................

 

ولأن ملجأ العامرية، كان غاص، بالنساء، وألأطفال، والشيوخ، (أكثر من 600 شخصا)، أحرق منهم 420 طفلا وتلاحمت أجسادهم، وأختلطت أشلاائهم، (أسف لا أستطيع تكملة المشهد، ومن يريد معرفة المزيد عليه البحث في مصادر اخرى، قبلي منذ زمن، أعتذرت الكاتبة خديجة عبد الرحمن، في كتابها، سكينة، عن رواية تفاصيل معركة الطف، وطلبت من يريد قراءتها الذهاب الى أبي فرج ألأصفهاني)، تقول وفاء، بتعبير بليغ فيه من ألأسى ما يوجع (المقطع الثاني) :

 

أشم صمغ الجثث

أقلب أوراق الحرب

باحثا عن اسم له من أنفاسي بللها

أجلس على كرسي بنصف رجل

........................................

 

وتتوالى الصورة بين أعمدة الدخان، وألأرتعاش، في مشهد غاية في القبح، وتستمر الذكريات ولكن هذه المرة على عكاز :

 

الذكريات بلا أذرع

والطنين يصفق لعمر غض

فتسقط من عكازها

ذكريات بلا أذرع

......................

 

وينتهي من حيث لا ينتهي مشهد من أعنف مشاهد الرعب  في التاريخ، لأصحاب أكبر تمثال للحرية في العالم، الذي خلعت الشاعرة وفاء، رداءه، واطفاة شعلته، وتمت تعريته تماما، وتنتقل بنا الشاعرة (المقطع الثالث)، بسؤال الى ألأرض، كيف تحمل فوق ظهرها كل هذا الظلم ؟ :

دار

دور

نار...، تأكل الرؤوس

واحشاء أعشابها نهب شرار

كل شيء تلاشى

أيتها ألأرض ألأكثر صبرا على حمم تلتهم ألأسئلة

.............................................................

 

ويقول الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد، في مسرحيته (الحر الرياحي)، في دفاعه عن الحق وكيف ازيح :

 

أنما محنتي بك ألأن أضعاف محنتك بيّ

أنا من شاء ليّ سؤ حظي

أن أزيل كامل المروءة عن كاهل ألأرض

أنك عبء من الطُهر

تكرهك ألأرض أذ أنت تفضحها

..........................................

 

وفي المقطع الرابع  والخامس، تعود الى البصرة، عبر النخلة (الرمز)، وتأنس لجمارها، وكذلك شط العرب بقواربه، في تاكيد الانتماء  للمكان، والموقف من المدينة، تقول :

 

على اعناق النخيل

ضاع

ذلك الذي يقال له (الجمار)

...................................

 

ومن خلال  مرحلة الطفولة، تبين لنا الشاعرة في هذه المذكرات، تأكيدها على الموقف من المدينة، والموقف من الزمن، من أتجاهات الشعر العربي المعاصر التي حددها الباحث الدكتور (الراحل)  احسان عباس في كاتبه،(أتجاهات الشعر العربي المعاصر)، وأوجزها، بالموقف من المدينة، والموقف من الزمن، والموقف من التراث، والموقف من الحب، والموقف من المجتمع، على الرغم من تطرقها الى الموقف من التراث، عن طريق الجدة، في حكاياتها، وكذلك الموقف من المجتمع، المتمثل بالحارة، وايضا الموقف من الحب، في أغنية البرتقال (المذكرة الثالثة)، :

كان العود شجرة

كانت الشجرة زحاما

ورفيقا آتي اليه

كلما غنى المطر

أغنية البرتقال

.................

 

وتتخذ الشاعرة هنا من المطر رمزا للحب، أنه حب ايام الصبا والجمال، والدلال والدلع، والولع بكل شيء جميل، الايام التي تتحكم بها وتحركها العاطفة، ولكن هذه الطفولة، تتاثر بالواقع، وتتحول الى استنطاق العقل (الحكمة)، حيث تكبر بسرعة، وتتحول الى برج مراقبة لما يحدث، وتؤرشف مايجري بنبوءة،  المذكرة الرابعة (مآوى) المقطع الاول، تقول :

أسرح شعر الطرقات

وأنظف الشظايا

من صور تشبه البحر

بينما الطائرات

تسرح شعر البيوت

.......................

 

ويلعب الشارع دور الحكيم من حيث شاهدته على العصر، وخزن الذكريات بحكمة، المقطع السادس، تقول :

لان الشارع شيخ

والعصا على عجل

تلتهم الفراغ

......................

 

وايضا المذكرة الخامسة (باتجاه الله)، والمذكرة السادسة (القربان)، حيث التضرع لشدة الماساة، في تصاعد مكثف للحدث،

وتعمد الشاعرة على سلسة من تناغم الصور بشكل تفصيل روائي، تارة وايجاز قصصي تارة اخرى، لتقدم مراحل العمر وتوالي الاحداث معا، في المذكرات، السابعة (تجميل الموت)، والثامنة (حصار)، والتاسعة (اسراف)، والعاشرة (ذئبة يمام)،

لكن الشاعرة في المذكرة رقم 11 (تمساح)، تخونها معالجة الفكرة، على اعتبار سخرية الجلاد من ضحيته، تقول :

الشمال

الجنوب

تعاهدا

على ان ينفخا طفولتي

بالونا للسرك

....................

 

 بينما نجد معالجة هذه الفكرة، عند الشاعر الانساني، ناظم حكمت، في مسرحيته (الجمجمة)، معالجة مقنعة باسلوب فني رفيع، لكن الشاعرة وفاء تجيد في الفصول الاخيرة في اقناعنا بتهاوي الحدث، المذكرات 12 (مرايا الفراشات)، و13 (تأهيل)،

و14 (زجاج السر) وتختمها بالمذكرة الاخيرة (صلاة الموت)، حيث ينتهي كل شيء، ويتلاشى، شكلا ومضمونا وتعبيرا كما في قصيدة (الشراع)، للشاعر بدر شاكر السياب،  وهنا يبدا المشهد الجنائزي، المقطع الاول، تقول :

عيناه المنكستان

سقط منهما الصحو

ومضى

كيفما يوميء اليه الرب

..............................

 

أنها الشهادة (مشيئة الرحمن)، وفي المقطع الخامس تقول :

أطفئوا الشاشة

اطفئوا ألضواء

ربوبيتي

ستحرق ألأشياء

......................

 

وتختتم الشاعرة ماساة الطفولة  باعلان الشهادة  :

أخرجوا

قاعة الدنيا تحطمت

رقبتي عن جسدي افصلت

...............................

 

وتجيد  الشاعرة في تجسيد واقع طفولي اليم، من خلال عوالم طفولة ومراحلها، تصاحبها بدقة متناهية  عوالم القتل، والقهر، والحرمان، والخوف، وفي غاية من التعبير تعري المجتمع الانساني، وترسم خارطة واسعة لعالم قد ينتبه  من حيث يدري ولا يدري، بأن الطفولة تنتظر غد يحترق، وليس بوسعها ان تحلم لتفيق على دوي جديد، يقول الشاعر محمود درويش في قصيدته،

لي حكمة المحكوم بألأعدام :

ونمت مضرجا ومتوجا بغدي

حلمت بأن قلب ألأرض أكبر

من خريطتها

وأوضح من مراياها ومشنقتي

....................................

 

لكنه يفيق من حلمه على نداء الحارس الليلي، بتأجيل حياته الى موت جديد، والشاعرة وفاء عبد الرزاق في مذكراتها هذه، هل ترثي الطفولة، هل تنذر بغد اكثر سوادا ؟، لسنا هنا في معرض اختراع ألأسئلة، وأختراع لها أجوبة، فنحن امام نص واضح وصريح، والديوان يزخر بصور ومشاهد، فيها مايدعو الى التامل الفني والتاويل كذلك، من الموضوع ومعالجته، من خلال الترميز، وألأستعارات، والوصف المكثف، كذلك يتضح جهد الشاعرة في اشتغالها على النص من حيث توافق البناء،  وهذه المذكرات تشكل صرخة ضمير انساني تدعو الى التضامن مع الطفولة في العالم اجمع، لما فيها من شمولية موضوعية ولغة عالمية، وان لم يخل النص من المفردات المحلية، لما يتطلبه البناء الفني للنص، والحفاظ على تفصيل الاحداث في آن، وقد تمت ترجمة العمل الى اللغة الانكليزية، واللغة الايطالية، واللغة الفرنسية، وسوف تتم ترجمته الى اللغة الاسبانية واللغة المانية،

 

أحمد كاظم نصيف

ناقد عراقي

ميلاانو - ايطاليا

  

...........................

خاص بالمثقف

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (عدد خاص: ملف: تكريم الأديبة وفاء عبد الرزاق، من: 05 / 11 / 2010)

 

 

 

 

في المثقف اليوم