تكريمات

قراءات نقدية: رواية اقصى الجنون ..الفراغ يهذي للشاعرة والروائية العراقية المغتربة وفاء عبد الرزاق

فالذاكرة مليئة بالصور والاحداث والشخوص، فكيف السبيل الى فتق تلك الخيوط مالم يكن عبر السيرة التي لابد ان يتوفر فيها الشرط الفني في الكتابة الروائية وليست السيرة الاعتيادية المتعارف عليها . لقد ضخّت الساحة العراقية باعمال مبدعة تحمل في طياتها السيْر الذاتية التي من خلالها ارّخت تاريخ العراق وتاريخ الهم العراقي والمعاناة العراقية، قد يكون الكاتب هو بطل هذه السيرة او هو الصوت المعبّر عن الشخصية التي عاشت هذه المعاناة بكل آلامها، فثمة امثلة لتلك الكتابات المبدعة، فكتابات الكاتب المغترب (حمزة الحسن) (سنوات الحريق / عزلة اورستا / صرخة البطريق / الأعزل) هي نماذج حي لتلك المعاناة، وكذلك (اقليما هيت لك) للشاعرة (وداد الجوراني) والضلع للروائي (حميد العقابي) و(اوراق الزمن الداعر) للروائي (صلاح صلاح)، ورواية (تحت سماء كوبنهاكن) للكاتبة (حوراء النداوي) . انموذجا آخر لاغتراب الانسان العراقي وعذابته داخل الوطن وخارجه، وعندما تستيقظ الرائحة واعمال اخرى كلها ارّخت الجرح العراقي، وفضحت وجه النظام الصدامي القبيح الذي لم يكن يهتم سوى بالحفاظ على وجوده كنظام ديكتاتوري . فالسيْر الذاتية سيْر انسانية معبّرة عما تختزنه تلك الذاكرة . والعمل الذي اود الحديث عنه هي رواية الشاعرة والكاتبة وفاء عبد الرزاق التي اتحفتني قبل هذا بمجموعتها القصصية الرائعة (امرأة بزي جسد) من خلال تلك المجموعة، غدوت مجنونا بكتابات هذه المراة التي ارّخت مالم يؤرّخ من المسكوت عنه سياسيا بالنسبة للانسان العراقي، ففي روايتها (اقصى الجنون .. الفراغ يهذي) ثمة لعبة سردية شعرية جميلة، تبدأها الروائية على شكل رسائل شعرية ترسلها البطلة الى جدتها / الحاضرة / الغائبة / والمتخيلة تارة، فمن خلال تلك الرسائل التي ارّخت بداية كتابة روايتها (اقصى الجنون .. الفراغ يهذي) مابين عامي 2002 / 2003 اي السنوات الاخيرة من عمر اعتى نظام إنهار فجأة، وقد ارّختها الكاتبة لتنطلق عبر منلوجاتها الداخلية بسرد وقائع واحداث الرواية من خلال الراوية التي تجسدت بخمس نساء وباسماء مختلفة، لكن الساردة واحدة فهي التي تتحدث عن حياتها وحياة الاخرين / فمحطة البطلة الاولى/ هي سوريا، حيث تلتقي بحبيبها عباس الذي كان معتقلا في سجون النظام والذي بدأ يعاتبها لانها تخلت عنه فجأة، لكن البطلة اكدت له بانها انتظرته لكن القسمة جاءت لتتزوج من رجل يدعى محمود الذي كان يحبها لدرجة الجنون / فالاسترجاعات التي كانت قد تنقلت اليها الكاتبة من خلالها، تسرد لنا احداثا للبطلة وللاخرين / فالمعاناة بدأت بعد 8/ 8 / 1988 ليدخل الانسان العراقي مرحلة الالم بعد اجتياح الكويت في 2 / آب، لتكون بداية لملاحقة المناضلين والناس العاديين الذين رفضوا التطبيل لنظام هش، وكذلك الوضع المادي الذي ادى بالكثير منهم الى الحروب والهجرة، ومن ضمنهم كاتبة الرواية وفاء عبد الرزاق، واجزم بان هذه الرواية هي سيرتها الحياتية، وقد كتبتها بأسلوب ادبي وفني رائع ومقنع، مستخدمة لعبتها الشعرية/ لكونها امرأة شاعرة / وتمتلك خزينا شعريا متدفقا بالمفردة الجميلة، فالعنوان الذي اطلقته على الرواية (اقصى الجنون .. الفراغ يهذي) هو عنوان شعري، اكثر مما هو روائي، فلوفاء تحليقات مفعمة بالحب والدفء والموسيقى الهادئة التي تقود القارئ عبر إيقاعها الى غابات ملونة ترقص فيها العصافير الجميلة، ايقاعها يقود القارئ نحو جنة خلد، خالقها، هي وفاء عبد الرزاق، لقد اجادت الروائية في ايصال الفكرة والمضمون لكل من قرأ لها هذه الرواية، فالنسيج السردي متماسك والمضمون واضح، والاجمل من كل ذلك هو الايقاع الشعري الساحر الذي تعزف من خلاله الكاتبة معزوفة الامل والانسانية، لقد اجادت في عملها هذا في الوصول الى حقيقة واحدة هو الانسان، مهما بعد .. فالوطن الام، الارض، يبقى راسخا في عقله وذاكرته.. فمهما هذينا.. ومهما لعبنا لعبة الجنون، فالذاكرة لن تمحي شيء اسمه الوطن، فالجنون كل الجنون ان تبقى لوحدك دون ان تشارك الاخرين جنونك . لقد ابدعت حقا هذه الروائية في أرخنة شيئا من تاريخ اسوء نظام قمعي، وابدعت في فضح زيف بعض الانظمة والدول التي تدعي وتنادي بحقوق الانسان، فالاغتراب كشف زيف تعامل الانسان الاوربي مع الانسان العربي والكردي والهندي والايراني، فالعنصرية التي كانت تمارس ضد اولئك، كشفت زيف تلك البلدان التي كانت يمجدها اعلامها المزيف، فوفاء عبد الرزاق أحدثت شرخا في جدار كل الأنظمة التي تفوح منها رائحة العفونة المبطنة برائحة العطر لتلك الدول و(بريطانيا) أنموذجا . ومن خلال تلك الحرية المزيفة، فتقت وفاء عبد الرزاق شرنقة الكبت الجنسي لدى الانسان العربي والاوربي ومدى تعامل كل منهما مع الفعل الجنسي، فللعربي يمثل الفعل الجنسي الاحترام للجنس الاخر وعدم الايغال فيه، اما الأوربي فان الفعل الجنسي يمثل له الايغال حد النخاع، ولا لشيء سوى لإرضاء حيوانيته، ان القيم الانسانية لدى الانسان العربي ارق منها لدى الاوربي، فالعربي يبقى محتفظا بكبريائه وإنسانيته ويبقى محافظا على اخلاقيته واخلاقية الاخرين . فالكاتبة فتحت لنا افاقا كنا نجهلها، لاننا كنا نعيش في شرنفة مظلمة، وتحت ظلال اعلام لم يخدم سوى اعوانه، لقد عبّرت وفاء عبد الرزاق من خلال جدتها التي ترمز بها لجذور العراق بكل اطيافه، ومن خلال رسائلها التي اتت بعضها مشفرة والاخرى علنية، اعلنت من خلالها ما جرى وما يجري وما سوف يجري بعد الان في الوطن الحبيب، فالجدة هي الاسطورة الذهبية لتاريخ العراق عبر كل مراحله .

 

القاص

عبد الكريم حسن مراد

      24\8\2010

...........................

خاص بالمثقف

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (عدد خاص: ملف: تكريم الأديبة وفاء عبد الرزاق، من: 05 / 11 / 2010)

 

في المثقف اليوم