تكريمات

قراءات نقدية: وفاء عبد الرزاق والبحث عن مكان في الشعر العراقي بلا غربة

لغتها غير حادة رغم أنها متوترة ‏.‏ الأرجح أن طفولتها مغرقة باللعنة البصرية، أو لعنة شط العرب على نخيل البصرة:

الخجل،

الحديث بصوت واطئ،

وثالثا: نمو المشاعر في الداخل .

 

هذا التقسيم الثلاثي وجدته لدى الكثير من المبدعين البصريين القاص محمود عبد الوهاب والقاص محمد خضير والشعراء عبد الرزاق حسين وسعدي يوسف وبدر شاكر السياب وكاظم الحجاج . ولا أسدل هذا الستار عن عشرات الأدباء البصريين الآخرين . حقيقة واحدة أجد ضرورة الإشارة إليها، بداية، وهي أن تاريخ الشعر الحديث في البصرة هو في معظمه تاريخ يسجل متاعب ظروف الشعراء أنفسهم في الحياة الصعبة القاسية وهي لا تخلو من عذاب وسجون ومناف . . وها هي الشاعرة وفاء عبد الرزاق تنهض أيضا ــ كغيرها ــ في عملية خلق شعري لكن من دون أداة أو وسيلة تخلصها من روح أو " فضيلة " الخجل البصري .. لا أدري . فهل هي تبحث في يمينها وشمالها عن بغداد أم أن بغداد تبحث عنها . الشمس في صيف البصرة - حيث ولدت وفاء - تحميص لعروق الإنسان، والشمس في لندن – حيث تقيم وفاء - ثروة مقدسة نادرة الظهور . بين الندرة والكثرة تدور حواس الشعر المهموم بوطن قد يبدو لكثير من الشعراء انه ضاع . لا أظن أن وفاء حين تعود إلى مسكنها اللندني الحالي بغير هم، لأنها تقف أمام نفسها في المرآة كما تقف أم حزينة على ولدها في البصرة أو في بغداد، فكل هم عراقي يخترق صدرها كسيف .

وفاء عبد الرزاق شاعرة عراقية مقيمة في لندن . توالت عليها مواكب الغربة بدءً من عام 1970 حين غادرت، وهي في أول شبابها، مدينة البصرة – الميناء الأسمر على الخليج جنوبا حتى تبعتها مواكب أخرى وضعتها في غربة لندن أخيرا:

الرياح ُ الأربع ُلا تنشر الحياة َ

اترك رداء ك

أوشكتُ أن أغيبَ

أسلمت ُ أيامي لوجهكَ

لي ثلاث ُ مقاصير

رحيل ٌ ورحيل ٌ

ورحيل ٌ يحرثه الرحيل

إلى أين ذاهب ٌ أنت يا كلكامش؟

 

هل صحيح هو القول: أن كل شعراء الحداثة متشابهون ..؟ هل صحيح ما قاله محمود درويش قبل أيام: كل الشعراء العرب يكتبون اليوم قصيدة واحدة متشابهة، ولفرط التشابه لا يمكن التفريق بين الشعراء وأيضاً بين القصائد.

على ضوء هذا السؤال الدرويشي العاصف هل يمكن اعتبار شعر وفاء عبد الرزاق شبيه غيره في الشعر العراقي ..؟

الجواب يحتاج إلى دراسة نقدية ينهض بها النقاد العرب ومنهم نقاد عراقيون لا بد أن يضعوا أنفسهم وسط هذه العاصفة كي يجيبوا عليها . بداية اعترف أن هذا ليس من شأني، فأنا مجرد قارئ لشعر العراقيين وهم كثرة في هذا الزمان العراقي العاصف، خاصة بعد رحيل العلامات الشعرية العراقية الكبرى: الجواهري، البياتي، بلند الحيدري، مصطفى جمال الدين وغيرهم .

اتخذ شعر وفاء عبد الرزاق وجوها متعددة في غربتها حتى اتصف ببعض الصفات المميزة لكل صور الحياة في وطنها الأم العراق . أصبحت تحب الحبر والورق والشعر لأنها تعتقد بقدرة هذه الأدوات على التحرر من حب السيطرة ومن تعاسة الغربة بل أن الشعر صار وسيلتها في أن تحاكم نفسها والزمن على حد سواء إذ تقول في قصيدتها " حبرٌ وورق ":

أغافل التاريخ

أشاغله بحبر عنّابي

أعطيه مفتاحاً

وأسقط في اللحظة ضيفاً

يترصد الغائب

يعيد الشكّ

وأكتشف

أني مثقلة بالحبر

أسافر بين العَرق ومسام الجلد

أتحرر من نقيض الشكل

بين الرعدة والغيمة

أسافر

سارقة شفة النسيم

بين التوبة والله

أفجّر الحنجرة

وأكتشف أني مثقلة بالحبر

بين الهاجس والظن

أفتح شبّاكاً

ألهو برئة أرض بكر

أرمي شراعي في لجّ التكوين

وأكتشف

أني مثقلة بالحبر

أي هذا الحبر

اخترق قراركَ

ألبسني صورتكَ القُدرة

أزح خروجك واسفر

لعلّ الأصابع تدوّخ حبرها

أضرب عليّ سوَركَ

لا أرضى بغير النار سوراً

أُدمغُ بها ورقي

أُجري مجاهل الرمال الحبالى

أُصيّر

كل رملة سحابة

أزفها تحت وطن نجمة

كل مساء للبحر

وأتركه يكتشف .

 

هذا الحشد من الكلمات المحترقة تضعنا أمام سؤال: هل تساعدها الكلمات على رسم أو تحديد حدود غير مرئية للوطن أو للقصيدة الناطقة بدعاوى الوطن ..؟ بمعنى آخر: هل تساعدها على الاكتشاف ..؟ ماذا تريد أن تكتشف ..؟ أتلاطف وطنها بالشعر أم تلاطف شعرها بالوطن ..؟ الأسئلة كثيرة وهي تواجهني بصعوبة لأنني أجد في " الشاعرة " أمورا تختلف عن " الشاعر " .. الشاعر يعرض قضيته الشعرية حسبما تحتاج القصيدة إليه .. بينما المرأة الشاعرة تعرض قضيتها الشعرية حسبما تحتاج هي إلي القصيدة ــ لا أرضى بغير النار سورا ــ انه التحدي الأنثوي في الشعر .. ربما وفاء عبد الرزاق تتحدى النار . لست متأكدا.. لكني متأكد أن " الشاعر " لا يحتاج إلى زمان . يحتاج إلى مكان . بينما السؤال مع وفاء هو: هل عندها مشروع شعري خاص بها كامرأة، أي بصفات شعرية مميزة في مكان وزمان ليسا واضحين وضوح نهار بغدادي لا تسكن ثائرته وأنفاس ناسه متهدجة على موقد مرتعد ..؟

مثال اليوم ليس مثال أمس .. ومسرة الشعر لدى وفاء عبد الرزاق ليس كمسرة الشاعرة لميعة عباس عمارة . لميعة بدأت " شاعرة " متواثبة بانبساط . جريئة القول والقصيد . فخورة ببلدها وشجاعة بجيلها، وأستمر شعرها وربما انتهى ولا ينتهي بأي شكل من الخوف من كونها شاعرة أنثى في زمن صارت المرأة فيه تخاف النار فتلجأ إلى الغرام تلاطفه ..أعلنت تحررها من ذلك " الخوف " فكانت موكبا شعريا بارزا في الحياة وبين الأحياء، وهي تحمل منذ شبابها الجميل النشيط حتى شيخوختها غصون زيتون وتيجان وطاقات كبرى .

وفاء عبد الرزاق ليست كشعراء البصرة وليست كشاعرات من خارجها فهي في حالة دفاع شرعي عن النفس، تتبادل مع نفسها ومع قصيدتها همسات لكنها معلنة بجلاء . كما تعلن هنا في قصيدتها أن الاكتشاف هو استدارتها في الشعر والحياة . بل أنها تستشعر بلذة واستمتاع أنها حية في شعرها وهي كتلة أنثوية تقترب من كل ما هو حي مبتعدة عن " الإنسان الصناعي " بالابتعاد عن " الشعر الصناعي " بل هي تعتقد أن المرأة " الشاعرة " هي في مقدمة المكتشفين، فتخاطر بالذهاب إلى الأسطورة تارة والى التاريخ تارة أخرى بخطى واسعة مرة ( اجري مجاهل الرمال الحبالى ) وبخطى متئدة مرة أخرى ( واكتشف أني مثقلة بالحبر ..) .

تتطلع حواليها فتجد نفسها في غير وطنها وان كل شيء عار وان جلجامش في بلادها وفي غربتها حلم مجرد، ربما حلم غير دائم . تحاول توظيف الأسطورة في شعرها كغيرها من الشعراء لكنها تجابه صعوبة . ترى أية أسطورة يمكن لها أن توجد لها انسجاما بين الميثولوجيا والتاريخ وقرار الأنثى على الاغتراب بين ميناءين .. ميناء البصرة حين تجبر الأنثى العراقية على " التزين " بالقناع والحجاب، وميناء لندن حين يسرع الناس مع حركته القصوى لصنع شراب جديد للإنسان والحيوان على حد سواء .

 

يا رحيلَ النهد العاري/ أتجلسُ القرفصاءَ وحيداً

 

أم يشعلك الليلُ لفافة تبغ؟

أيها المحترقُ بجرعةِ ماء

إني رنينُ مملكة جارية

.غريبة ٌ في ثقوبِ الثلج ِ

ليس لي أمّ ٌ

تنبثقُ منها رائحة ُ السنوات

والمكانُ انقطع

كخيطٍ بمغزل ِ السكون.

بين لميعة عباس عمارة ووفاء عبد الرزاق ربع قرن من الزمان . بل لنقل نصف قرن من الزمان .. نصف قرن من خوف المرأة العراقية من النار .. نصف قرن وأكثر من برق زيوس .. مسافة طويلة بين أجنحة الطيران الشعري في سماء أسمها العراق. فها هي وفاء العراقية تقول في لندن: ليس لي أم / تنبثق منها رائحة السنوات / والمكان انقطع ..!

أهي مشكلة الشعر أم مشكلة الشاعرة أن روح الوطن غدت الآن بلا صولجان أو بلا مكان مع وجود الزمان .

يوم الثالث من أيلول كنت اقلب شاشات الفضائيات العربيات وما أكثرها وما أحوجها للتطهير اللغوي وما أحوجها لغسالات سياسية أوتوماتيكية لتنظيف أفكار ٍ، منها وفيها . المصادفة قادتني إلى قناة الفيحاء العراقية وإذا المتحدث الدكتور نجم عبد الكريم بلباقة تشبه مروحة تدور في سقف غرفة حارة توزع الأحاديث الممتعة المملوءة بالآمال عن الإبداع الشعري في العراق، ثم فاجأني والمشاهدين جميعا، أنه يقدم شاعرة عراقية لنخبة عراقية متجمهرة في قاعة المركز الثقافي البولوني في لندن حضروا خصيصا لسماع صوت وفاء عبد الرزاق حاملة أحلام موطنها الأم إلى لندن بالشعر الحر تارة وبالشعر الشعبي تارة أخرى . هل يعني كلامي أن الشعر الشعبي ليس كائنا حرا ..؟ كلا . هذا القول جاءني في ندى ليلة ثقافية جميلة كنت أشاهدها من على شاشة تلفزيون الفيحاء وقد وجدت وجوه الحاضرين ووجه وفاء الشاعرة ووجه الدكتور نجم كلا ً عراقيا موحدا في الهم والآلام والمعاناة .

تقرأ وفاء عبد الرزاق قصائد شعبية مرة ً وقصائد من الشعر الحديث في مرة ثانية . في قراءاتها بالحالين شكلت نظاما خاصا بين نبرة الإلقاء ونبرة المفردة الشعرية . هذا النظام قد يعبر عن وظيفة الخطاب الشعري سواء كان بالفصحى الحديثة أو بالمفردة الشعبية .

في خطاب الشعر الشعبي كثافة مع وضوح، أما خطابها الشعري الحديث ففيه كثافة وغموض .

في الحالتين أي في النوعين من الخطابين لا نجد شيئا عصيا في التحديد لكن البنية المعرفية في النوعين غير موحدة الرؤية . وجدت فرقا بين المفردة والصورة الشعبية إذ تملك " عرفاً " شعبيا أو لنقل تملك أجزاء من فولكلور، بينما قصيدتها الحديثة مبنية على " فعل " الغموض الإبداعي .

التجربة في قراءة الجنسين الشعريين ليس شيئا جديدا في الندوات الشعرية .

يفعلها مظفر النواب في كل مناسبة .

يفعلها الشاعر الشعبي رياض النعماني .

كثيرون آخرون يقدمون في أمسية واحدة هكذا أثر .

لكن البعد الإنساني في ندوة وفاء عبد الرزاق يأخذ مكانه في صوت " شاعرة " وليس في صوت " شاعر " فصار هذا معادلا رئيسيا في أمسيتها التي تخطت بها خيبات وطنها في هذه الأيام العراقية خصوصا وفيها فواجع كثيرات كان منها فاجعة جسر الأئمة التي ظن الجميع أن هذه الفاجعة التي حدثت على ضفاف نهر دجلة ببغداد قد تلغي أمسية العراق الأبدي الحزن، في أمسية وفاء عبد الرزاق تشدو فيها شعرا عراقيا على ضفاف التايمز في لندن وهو لما يزل حزينا بفاجعتي تموز الماضي التي صنعتها نفس الأيادي الإرهابية البشعة في أقبية المترو اللندني الشهير .

تاريخيا كان الشعر هو الملاذ الأخير للحزن العراقي ولن تستطيع الشاعرة وفاء أن تخلق بديلا جديدا رغم أنها كانت في أمسيتها الفيحائية أكثر إشراقا وجمالا في الاستذكار والإلقاء حققت فيها الشاعرة تركيز نظر الحاضرين والسامعين والمشاهدين على بؤرة واحدة اسمها عراق التغيير أو تغيير العراق بعيدا عن سيادة الظلم الإرهابي الدولي في وطن الشعر والشعراء .

الشاعر العراقي المعاصر يجد نفسه مشابها للشاعر العراقي الآخر وربما يشابه الشاعر العربي الآخر لأنهم يشتركون جميعا بصفة واحدة هي البحث عن توازنهم النفسي مع مجتمعاتهم المتدهورة إلى وراء . التشابه الشعري هنا مرده فقدان القدرة على الحلم وفقدان القدرة على التخيل وفقدان القدرة حتى على الهروب من مواجهة واقع يزداد تأزماً وكوارث .

باكراً تنهض لضحىً وحشيّ /تركلُ الهوّة الأولى/تشقّ صيفها بلوز نجلاوين /وتمنح ُ صفة النهر ِ /لصدأ غرّبه السيفُ /سمراءُ الألم /مكشوفة ُ القلب ِ /تركلُ الهوّة َ العاشرة /وتصرخُ / طالبة ً خارطة ً / رسمت نهريها ضفيرتان /هما من جبالِ الحدادِ الألِق /ِومن وعاءٍ لايضيقُ ألا للجرح /يزمّ شفتيه كقبُلة ٍ من وجع /تركلُ جثامينَ بؤسها وتصرخُ /طالبة ً خارطة / ًليس فيها موطن ٌ من خشب / فيها الرهيفُ من نسيم ٍ يحنو/لرقصة الياسمين / وإحدى عشرة َ جبهة ً/ لم تبدّل رؤوسَها/تصرخُ من سكونها / بعهد ٍ ندف َ مقلتيها واختنق /مَن لهذا الكرز الذي تحلّل واختمر؟ /

مَن ليديها البرعمين؟ / وخصرها الذي نام عليه عصفوران /أهكذا تنام العصافير؟ / إذ عوّدها الوداع ُ أن تغنّي / لنساء ٍ شوّشهنّ الوهنُ / وأصبحن  كائنات ٍ أخر / لسنَ خشخاشات / لسنَ أبوابا تجرّدت من ضلفاتها / كائناتٌ توّحدنَ بهنّ / وعدنَ مدينةً / غيرَ قابلةٍ للتجزؤ / زنابق ُ على ظهر حمامات /أجنحة ٌ تقبّلها الأرضُ /وتنهمرُ دموعُ السماء لأجلها / إنهنّ حنطة الروح / جنونُ عنبرٍ / وفارسُ ربيع / بجموح القلبِ يقتحمنَ الحياة .

في هذه المفردات الشعرية المتتالية بحدة وعنفوان تتولد وسائل متغيرة في محاولات وفاء عبد الرزاق أو أنها تصبح مولّدة لمتشابهات المرأة في عصر راهن تنهمر دموع السماء من أجلها . المتشابهات الشعرية هنا تئن من عبودية المرأة التي تواجه فيها صرخات السكون جعلت منهن كائنات أخر .. أنها عبودية المرأة الاجتماعية التي جعلتها السياسة ملكية الطبقة والسلطة والقوة الغيبية . بهذا تميزت وفاء عبد الرزاق كغيرها من شاعرات متعبات، مرعبات، من واقع ذي بنية لا إنسانية، لا أخلاقية مع مطلع القرن الحادي والعشرين في بلد جلجامش، والميثولوجيا والإيحاء والتأويل، بلد الرافدين .

وتظل وفاء عبد الرزاق

شاعرة الخجل،

و الحديث بصوت واطئ،

وتظل مشاعرها تنمو في داخل قصيدتها .

وهي رغم هذا وذاك تقدم مثالا عن إرادة في التحرر من استبداد العصر الراهن، وتبقى متميزة برفض حالتي الاستلاب والخيبة، من خلال التجريب الشعري الممتد حاضرا ومستقبلا .

 

...........................

خاص بالمثقف

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (عدد خاص: ملف: تكريم الأديبة وفاء عبد الرزاق، من: 05 / 11 / 2010)

 

 

 

في المثقف اليوم