تكريمات

قراءات نقدية: السماء تعود إلي أهلها

إلا أن الكثير، أو لنقل أن غالبية هذه الكتابة، اتخذت من الجنس وسيلة للتعبير عن النزوع للحرية، فضلا عن أنها لاقت رواجا كثيرا، علي اعتباره أنه، ربما، يكون الاهتمام الأول للإنسان العربي، الذي يفكر بنصفه الأسفل، مثلما تؤكد الشاعرة والروائية العراقية " وفاء عبد الرزاق " في روايتها " السماء تعود إلي أهلها "  والتي اختلفت بها عن هذا النهج، أو هذا التناول . فجعلت هذا التفكير من الإنسان العربي قصورا وتخلفا، فراحت تكيل له النقد، وتنهال عليه بمبضع الجراح الباحث عن جذور الورم الخبيث . فجاءت روايتها تشريحا للمجتمع العربي البغدادي، سعيا نحو ثورة علي التخلف والظلم والقهر الإنساني عامة، وتعرية لفترة من أشد فترات الإظلام السياسي القائم علي القهر الإنساني، والذي قاد البلاد بعد حربين (إيران ثم الكويت) خاسرتين، لم تؤديا بالبلاد إلا إلي المزيد من الخسارة والضياع .

و من هنا – في تصوري – أرى أن مدخل الرواية يأتي في ذلك الحوار البسيط بين " وليد " وأحد زملائه في كلية الفنون عما يرسم كل منهما فقال الزميل (ص 88)  :

{ أرسم ابنة العراق السمراء، أنثي غامضة اليفة الجمال، انظر كيف الأنوثة تصفو في عينيها .

رد عليه وليد :

-ترسم ابنة العراق، وأنا أرسم العراق كله .}

فماذا كان يرسم وليد ؟

إنه {يرسم أشكالا غير واضحة الملامح، مجرد حفر في وجوه، العيون حفر، الأفواه حفر، الأشكال غير مترابطة، مجرد فوضي وهيجان}

وهذا ما أعتقد أنه بؤرة العمل كله . تصوير الإنسان العراقي الذي أحاله حكامه إلي هياكل عظمية، شكل خارجي، والداخل مفرغ . وهو ما أعتقد أنه ليس العراق وحده، وإنما هي أمتنا العربية . فقد تحول الإنسان فيها من جراء ما عاني البطش والظلم وغياب الديمقراطية، إلي شكل خارجي لإنسان، بينما داخله، ليس كذلك .

وهو ما أكدته الكاتبة بالعلاقة بين " وليد " العراقي  و " عبد الحق " السوري :

{التقت أفكارهما وآلامهما} وكأنها تقول أننا كلنا في الهم شرق .

وإذا كان الإباع ينبع في الأصل من تجربة إنسانية، إلا أن المبدع الحق هو الذي يستطيع الخروج بهذه التجربة الفردية إلي التجربة العامة، وهو ما نجحت فيه الكاتبة حين تم الربط بين الخاص والعام، بين الفرد والمجتمع، بين الإنسان والوطن، في تلك الصورة التي ربطت فيها بين انتصاب الرجل – انتصاب " وليد " حين كان شابا بالمدرسة - إشارة إلي الرجولة والكرامة والقدرة، وبين ارتفاع علم البلاد :

{لا ترفع علمك، دعه في سباته .. حين اختمرت رجولتي كنت أخبئ علمي بين فخذي لئلا يفضحني أمام أمي وأختي ......

وغادرت مسرعا إلي المدرسة، حيث وصلت متأخرا، كان علم المدرسة مرفوعا والأولاد تجلوا بالنشيد الوطني ...} ص 117، 118 .

كما نجحت في توصيل نفس الإحساس من خلال شخصية " وليد " الفنان الذي فقد رجولته، وفقد ذراعه في المعتقل . أي أن الوطن – بسوءاته أفقد الإنسان إنسانيته وجعله عاجزا، ليس لديه ما يفعله غير الثورة الصامتة {كل المستباح من رجولتنا إلي أرضنا، ثورة ألوان . وهو ما تؤكده الكاتبة في النهاية، حين توضح أن كل ماسبق، مجرد سطور في كتاب، علها توقد الثورة :

{إنها الكلمات يا وليد، والطرقات هي الطرقات يا راوية، لا أكتب خطأ فيكم أو أعمق الضوء فالحلم ما زال علي الشجيرات الصغيرات تلعب به الريح، فقط أعطيت يقين حبري لآخر قطرة .. لم تعد ذاكرتي جاهزة للذبح، ها هي أجراس تقرع في الكتاب، يكفي زحفكم نحو البداية . فقط عودوا إلي (السماء تعود إلي أهلها)} .

وكأن الكاتبة تعاني لحظة يأس فتستدعي شخوص عملها ليستكينوا داخل جدران (أغلفة) كتابها، فما هم إلا شخوص ورقية . وهو الأمر الذي يضعنا في مواجهة العنوان الرئيسي للعمل (السماء تعود إلي أهلها) والذي رغم ما وفقت الكاتبة فيه في استخدام حرف الجرهنا  " إلي "، ولم تقل (السماء تعود لأهلها) أي أنها لم تستخدم حرف الجر " لـ " . حيث تمنح الأولي " إلي " مسافة زمنية لا يمنحها استخدام " لـ " التي توحي بالمباشرة والتو، فعودة السماء – إن سلمنا باستخدام " السماء " بأنها تعني الأرض أو الوطن– فإنها تحتاج إلي وقت وكفاح ومعاناة، أي أن العودة تحتاج هذا الوقت لتتحقق العودة . إلا أن العنوان باعتباره العتبة الأولي للدخول إلي النص، فهو ما يحتاج لوقفة سوف نعود إليها بعد قليل .

استخدمت الكاتبة تقنية ما يمكن تسميته (الدومات) وهي الدوامة الصغير يليها دوامة أكبر فأكبر وهكذا . والتي من شأنها إحداث حركة متصاعدة تمنح العمل حركية دائرية تظل تتسع حتي تشمل العمل بكامله .

فإذا ما تصورنا إمرأتي اللوحة (الشقراء والسمراء) دائرة صغري تتحرك وتتفاعل مع من حولها، فمن حولها دوامة  "وليد " صانع اللوحة، صانع المرأتين، يمثل دائرة أوسع، ويصبح قدرته في التحكم محصورا في لوحته – إمرأتيه - . ثم تتسع الدالئرة أكثر حيث نجد  " راوية " أي الراوية في الرواية، صانعة " وليد " صانع المرأتين،وتتسع الدائرة أكثر لنواجه بدائرة الكاتبة " وفاء عبد الرزاق " صانعة " راوية " التي هي صانعة " وليد " الذي هو صانع المرأتين، أي أنها صانعة العمل بكل شخوصه وأجوائه .

ولو أن الكاتبة أعطت هذه التقنية عناية أكبر، من التركيز والتكثيف، لمنحت الرواية، ومنحتنا مزيدا من التأويل، كان أقله الرؤية الإنسانية للإنسان عامة، سيرورته وجبريته، وكيف هو الإنسان ليس حرا مطلقا . وهو مان يتماشي – أيضا – مع منطق الرواية وبؤرتها، حيث نستطيع القول أن هذا الانتهاك لا يقع من فرد بعينه، وإنما هو يقع من الرأس علي من يليه في السلطة، الذي بدوره بؤثر علي من يلهي – في السلطة – وهكذا يتدرج الانتهاك من الأعلي إلي الأسفل، حتي يبين أنه واقع علي الكل، وأن أحدا لم ينجو من انتهاك حقوقه في المعيشة الكريمة، أو في الحياة السوية . وهو الذي يجعلنا نري أن عدم تسمية إمرأتي اللوحة من قبل صانعها (اللوحة) كان موفقا من الكاتبة – حتي بالرغم من محاولة الغير تسميتهما فيما بعد (شمس وفجر مثلا) – حيث ظلا موحيين بما أرادته من كونهما رمزين للشمال والجنوب، أو لإمرأة العراق، أو الشرق (السمراء)، وإمرأة الغرب – الشقراء - .

إضافة إلي أن هذه التقنية، هي التي ساعدت في منح نهاية الرواية جمالها الناعم، حيث تبين عن أن الكاتبة، بوعي وحنكة، جمعت شخوصها داخل طائرة حلقت كثيرا في الفضاء. وعند هبوطها استطاع الطًيار - الكاتبة - أن يلامس بعجلاتها الأرض دون أن يشعر الرُكاب بأي ارتطام، فوصل بهم لبر الأمان . ومن هنا تأتي مفارقة العنوان " السماء تعود إلي أهلها " . حيث تعود المؤلفة " وفاء عبد الرزاق " بكتيبة من شخصياتها الروائية من التحليق في سماء الخيال إلي أرض الواقع معلنة أنها صاحبة العمل، وخالقته . فالعودة إذن هي عودة العمل لصاحبته، والعودة إذن هي عودة إلي أرض الواقع لا عودة السماء، خاصة أن سطور الرواية لم تشر إلي عودة للسماء – ولا للأرض - اللهم ذكر عنوان الرواية في ص 303، أما أن أرض العراق أو سمائها فليس هناك ما يشير لعودتها . إذ أن من تولوا السلطة فيها – من واقع الرواية ذاتها – هم من أعلنوا الولاء، ولا شئ يشير لأن انتهاكات حقوق الإنسان قد توقفت، حيث لا تغيير حدث ولا بادرة أمل تلوح من سطور الرواية . لذا أري أن العنوان لم يكن موفقا  كمدخل للرواية، كما  جاءت العناوين الفرعية للفصول أيضا، حيث لم تكن كذلك مدخلا لأي منها، اللهم فصل وحيد وهو المعنون " إكتشاف إبليس " وهو أحد الدوافع التي جعلتنا نستشعر وجود " فاوست " في هذا الفصل – مثلما سيتضح بعد قليل - . فضلا عن إصرار الكاتبة علي التوقيع علي مقدمات هذه الفصول، بينما أن هذه العناوين لو كانت مقتبسة، لكتبت الكاتبة اسم صاحبها، أما أنها جاءت في روايتها ولم تزيل باسم، فمن الطبيعي أنها كاتبتها، ولا يحتاج الأمر للتوقيع في كل فصل .

احتشدت الرواية بعديد مشاهد التعذيب وعديد مشاهد الانتقاد للمجتمع العراقي خاصة، والعربي عامة . ففقدت التركيز ووقعت في الترهل . كما أن كثرة الاستشعادات بأعمال الشعراء والمفكرين والفلاسفة، اقترب بالرواية من الدراسة البحثية، والأعمال الفكرية .

فمثل المشاهد الخارجية التي سجلتها كل من إمرأتي اللوحة لـ " لندن " ظلت مشاهد خارجية ليست ذات تأثير علي الخط الدرامي في العمل، وحذفها لم يكن ليؤثر علي الرواية .

وأيضا حكايات " راوية " عن من قابلتهم في لندن، من صدق معها ومن أثبت عدم وفائه،  لم يكن لها تأثير علي سير الأحداث، اللهم تقديم بعض النماذج البشرية والطبائع الإنسانية، واختلاف البشر فيما بينهم، وهو ما لم يكن في صلب العمل، فالعمل الأدبي إختيار وتركيز وتكثيف  . فضلا عن أن الصفحات العديدة التي استغرقتها في سرد معاناتها داخل سجون العراق، كان من الممكن أن تشكل رواية في حد ذاتها، تنتمي إلي ما ما يسمي بأدب السجون، حيث بدت منفصلة عن الجز السابق عليها من الرواية . فضلا كذلك عن اختلاف تقنية الكتابة في المرحلتين . ففي الجزء الأول من الرواية اعتمدت إسلوب التوازي، أو الخط العرضي، وهو ما يساير الرواية الحديثة . بينما الجزء الخاص ب " راوية " جاء تصاعديا، أو تتابعيا، وهو ما يساير الإسلوب التقليدي للرواية .

من مظاهر الرغبة في قول كل شئ في عمل واحد، أن نجد صدي لأكثر من عمل من الأعمال الكبيرة في الإبداع العالمي والعربي .

فالجزء الخاص بجولة إمرأتي اللوحة في لندن، من الممكن أن يحيلنا إلي " موسم الهجرة إلي الشمال " للطيب صالح، " الحي اللاتيني " لسهيل إدريس وغيرها . حيث قام هذا الجزء علي المقارنة – الداخلية – بين الشرق والغرب، وما يحمله – ضمنيا – من انتقاد لأوضاع الشرق العربي – تحديدا – والرغبة في الاستفادة مما يوجد (هناك) ولا يوجد (هنا) .

وأيضا، الجزء الخاص باتفاق المرأتين مع " وليد "، وما يؤكده عنونة الفصل الخاص بها    " اكتشاف إبليس " يرمي إلي الحكاية الألمانية الشعبية التي أصبحت مصدر إلهام للعديد من الأعمال الأدبية في العالم  " فاوست " الذي باع نفسه للشيطان نظير المتعة السياحية لفترة زمنية محددة . وهو ما فعلته (المرأتان) مع " وليد " حيث طلبتا منهم الخروج من اللوحة، والتجول في البلد (لندن)، فوافق شريطة أن يعودا قبل الثانية عشرة من منتصف ليلة محددة – قبل ميعاد افتتاح معرضه، ليعودا بعدها إلي حالتمها الجامدة الصامتة داخل اللوحة، لينجح المعرض . فهي إذن ذات الصفقة، المتعة لفترة زمنية محددة، يسلم الطرف الثاني فيها نهايتها نفسه للطرف الأول، يتصرف فيه كيف يشاء .

وأيضا قصة العشق بين " وليد وسمرائه – إحدي إمرأتي اللوحة – والتي تحيل إلي أسطورة بجماليون (المثال الذي عشق تمثال المرأة التي صنعها بيديه) والتي أيضا كانت منبع إلهام للعديد من الأعمال الأدبية العالمية .

وأستطيع في النهاية بكل ارتياح أن أؤكد أن " السماء تعود إلي أهلها " دفعة جديدة في تيار كتابة الشاعرات والشعراء للرواية، وتيار ثورة الإنسان العربي علي أوضاعه التردية، والساعية إلي الحرية و الحياة الديمقراطية الحقة، والتي لابد آتية، طالما وجدت مثل هذه الكتابة .

 

شوقي عبد الحميد يحيي

Em: [email protected]

 

13 / 7 / 2010

 

...........................

خاص بالمثقف

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (عدد خاص: ملف: تكريم الأديبة وفاء عبد الرزاق، من: 05 / 11 / 2010)

 

في المثقف اليوم