تكريمات

قراءات نقدية: امرأة بزي الجسد بين التجديد والتأصيل

وأكبر الأضرار التي وقعت على الشعب العراقي هو محاولة قطع الجريان التراكمي للثقافة والفكر العربي السديد، وبشكل خاص الفكر الإسلامي الرشيد، ولا تبغي الدراسة أن نتناول من هذه النقاط الهامة للغاية شيئا، بيد أن الأمر يحتم أن تشير الدراسة إليه، لنبرز أنه بالرغم من استمرار المحاولات في إيجاد فجوة تاريخية في ثقافة العراق.

إلا أن هناك رموزا وعلامات لازالت تصل السابق باللاحق، وترفض أن ينفرط العقد، وما يتكسر من حياته، يحاولون إصلاحه، والرموز كثيرة كسعد الجاسم وبلقيس الجنابي . وغيرهما.

 

وتأتي الأديبة والشاعرة / وفاء عبد الرازق في مقدمة هذه الأمور والعلامات العراقية في الوقت الراهن بل إنها من علامات الأدب العربي كله.

حيث إنها تمتلك حضورا طيبا في المحافل الأدبية على مستوى الوطن العربي كله، إلى جانب تأثيرها. أدبيا وفكريا على الساحة الأدبية العربية.

وتحاول الدراسة استجلاء مناطق التجديد، وكذا إبراز الرؤية التأصيلية في مجموعتها القصصية " امرأة بزي الجسد"وسوف تعتمد الدراسة الطبعة الأولي 2008، حيث تحتوي على اثنتي عشرة قصة قصيرة، تبدأ ب" لها، لي، لا أعرف"وتنتهي ب" حفلة في حاوية زبالة".

وهناك خيط ينتظم هذه القصص كلها، وهو وجود المرأة ـ وبخاصة العربية ـ بمشكلاتها الذاتية من حاجات أولية كطعام ومأكل وملبس وتعليم، وكذا حاجاتها التالية، وهي أساسية وإن سماها علماء النفس ثانوية، كالمستوى الاجتماعي، والطبقات والفوارق الاجتماعية، وهذا ما دعاني للقول بأن القصة القصيرة عند وفاء عبد الرازق، تعبيرا عن موقف المرأة بشكل واضح تجاه قضاياها المتعددة، وقد سبق الجاحظ بقوله: " إن المعاني مطروحة على الطريق يأخذها القاصي والداني "، حيث إن الاختلاف والمقارنات بين الأعمال الفنية  لاتأتي إلا من خلال طريقة التناول، وهو ما أصطلح عليه في عصرنا الحديث بما يسمى " بالخطاب" .

ولذا فلن تعني الدراسة بموضوعات القص، أو الأحداث، بل ستعتني بالخطاب الروائي" تجديداً" وتأصيلاً" وبعبارة أخرى ستحاول الدراسة البحث في كيفية تقديم النص القصصي بشكل يحاول التجديد في النوع الأدبي.

ومستندا إلى أصوله العربية، في محاولة لتثبيت هذه الأصول والدعائم المستمدة من التراث العربي القديم، ولذا ستقوم الدراسة بطرح نقطتين ترى أنهما الأهم، وهما.   

أـ التجديد في الخطاب الروائي عند وفاء عبد الرازق

ب ـ التأصيل في البناء القصصي في مجموعة امرأة بزي الجسد

أولا: التجديد في الخطاب الروائي.

 

حينما تكتب وفاء عبد الرازق

القصة القصيرة، فإنها تحدد تماما موقع الكلمة العربية، وهذا يعني أنها تقصد الكلمة ذاتها قصدا بفكر ووجدان ونية وفعل، ولذا فإنها تفرق بين موقع الكلمة في النص القصصي، وبينها في النص الشعري، وبينهما في المعجم، وبينهما في الاستخدام اليومي، ومن هنا تأتي الكلمة في قصص وفاء عبد الرازق بشكل منفرد، وهي تحارب بكلمتها في اتجاهات متعددة، تحارب ضد معاناة الثقافة العراقية الآتية، وتحارب التعدد الاستعماري في الوطن العربي

فأوطان تعاني احتلال عسكري كالعراق وفلسطين، وأخرى تعاني احتلال ثقافي، وغير ذلك من سيطرت علية الآلة العسكرية من حكامه، وحينما (مضى الاستعمار التقليدي، واستقر في ذكريات مريرة لزمن مضى بشروطه، وتبعه الاستعمار الجديد بشروط مغايرة، ويظهر الآن استعمارآجد،  في علامات أكثر تعقيدا، مصحوبا بتقنيات غير مسبوقة، يتدعم بها  إخطبوطه الإليكتروني الهائل الذي يبسط أذرعه وأرجله التي لا نهاية لها على الكرة الأرضية بأسرها)1

وهذا ما جعل وفاء عبد الرازق تتخلى عن التجربة الصوتية للكلمة العربية، لتضع مكانها تجربة الفعل الجديد، وأقصد بالفعل الجديد، هو ذلك الفعل الذي ينتج عن وعي بضرورة التغيير الجذري، بحيث لا يصبح الفعل العربي رد فعل للدفاع عن النفس بآليات قديمة، لاتتمكن إلا من هزيمة أنفسها، لتنطوي مرة أخرى على ذاتها، وتظل متخندقة تحت مسمى " المقاومة"

(قالت السيدة: عملنا لكم اليوم أطيب كيك واشترينا الزيت الفلسطيني كي نأكل براحتنا، أشارت إليّ: الزيت الفلسطيني لا يربك المعدة.

التفت الجمع كله حول الكيك، مديرة المنزل فتحت التلفاز، لا تنعم السيدات بالكيك والموسيقى. لا أدري ما سمعت وما عرضه التلفاز، صدحت الموسيقى وعربة الكيك دارت من واحدة لأخرى وأنا. أنا وحدي أتمنى أغنية القمح والسنابل، وأعاتبها مثلما للحفل طموحه في ترفيه النفس والمعدة لي طموحي الخاص (لا أطمح إلا لمعاتبة قمح الإنسانية على كفره)(؟) إن الحدث يومي عربي حفلة نسوية عربية تحت عنوان (طفل بصحن هريس) كما جاءت في المجموعة، وترتيبها السادس،الكاتبة لا ترفض أن تقيم النساء احتفالات، ولا ترفض ما يقوم فيها، إنها لا تحارب " بدعة" بالمعني الإسلامي للكلمة، ولكنها تفكر بشكل مختص، انتبهت للزيت الفلسطيني الذي لا يربك المعدة، وكفرّت قمح الإنسانية، ذلك القمح الذي لا يحرم حراما، ولا يحل حلالا، بل هو إلى بلاد الكفر أميل، فهي تريد أن يأتي قمح جديد، للخير لا للشر، للحق لا للباطل، إنها ترفض الانفصال عن الحفلة وترفض كذلك الانخراط في الفعل الذي لا يتناسب مع تطلعاتها، بعبارة أخرى هي ترفض التبعية والرفض معلل والتوقف في منطقة الرفض تعني انتهاء الحلم والتطلعات، لا إنها تأتي بفعل واع جديد يستحدث إمكانيات تغيير جذري لا يستند إلى الواقع، ولا يعاقبه، ولكنه لا يرتبط  به، لا يكون رداً للفعل في هذا الواقع وكذا الكتابة القصصية عند وفاء عبد الرازق .( علاقتي مع التلفاز كعلاقة الغربال بالطحين أنخل برامجه التافهة وانتظر ما تبقى على سطح المنخل، في أحيان يطفو ظلام بكذبه أو نفاقه وتزييفه للحقائق، وليس كونه النقي الصافي بل لحجمه وثقله بحيث صعب على ثقوب الغربال استيعابه وإفساح المجال له، .....

أنا إنسانة عادية لها منزلها المتواضع وتلفاز بشاشة عريضة تفتحه كل صباح توصد الصوت وتترك المذيعين يتحدثون كخرس، أستمتع برؤيتهم يحركون شفاههم ببلاهة ويحركون العيون والأيدي وقسمات الوجه وأحيانا رفع الحواجب تعبيراً عن حركة أو كلمة، أغلق الصوت لأتفرج على شكلهم المضحك تماما كاستمتاعهم بوجعي وثورتي غير المسموعة وحرقة قلبي الموجعة بمشاهد يعرضونها على كل دقيقة، يدخلون صقيعهم داخل صندوقي الصدري ويحفرون كعميان وكرؤساء وسماسرة)3

مقتطفات من قصة (ثواب أم عقاب) وترتيبيها العاشر في المجموعة

وكما أعطت الدكتورة / سهير القلماوي الشرعية لنقد الرواية العربية حينما وافقت على أطروحتين للدكتوراه، هما أطروحة الدكتور عبد المحسن طه بدر تحت عنوان (تطور الرواية العربية الحديثة) وأطروحة عبد الإله أحمد تحت عنوان (نشأة القصة وتطورها في العراق) وكلتا الأطروحتين نوقشتا في جامعة القاهرة في عامي 1963م، 1966م

تعطي وفاء عبد الرازق الشرعية للكتابة القصصية النسوية  في أنحاء الوطن العربي كله، ولا يعني ذلك فضلها في سبق لا، بل يعني سبقها في التجديد، والتحرر من القوالب السابقة، وهذا ما هدفت  إلى إبرازه في هذه الدراسة حيث تستكمل الأديبة أنشطة من سبقها من أدباء العراق ونقادها الأفذاذ والذين تحاول جهات قطع الطريق بينهم وبين شباب مثقفي وأدباء العراق في الداخل والخارج، وتناسوا أن أسماء عبد الإله أحمد، وجعفر الخليلي وعبد الرحمن حمودي وعلى جواد  الطاهر ومحسن جاسم الموسدي وسعد جاسم، وتضاف إليهم وفاء عبد الرازق وغيرهم كثيرون قد حفروا أسماءهم في الذاكرة العربية.

وقد قدمت كاتبتنا تلك المجموعة الرائدة كشكل من التجديد في خطابنا الأدبي، وكذا الخطاب الثقافي العربي، حيث إنها لا تستسلم لضعف الذاكرة، ولا تأتمن غير المؤرخ العربي، وتدرك أن الفكر العربي والثقافة العربية تحتاج إلى منطلق مغاير للواقع يتناسب مع إمكانيات هذا الإنسان الذي غيّر التاريخ لغيره، وقدم الحضارة للآخر وأصبح يشتريها أو يتسولها، والشرفاء يحلمون بها، أما أهل الجسارة، فإنهم يريدون حضارة موصولة بحضارة الإسلام والعروبة، حضارة الحق والخير، لا حضارة الفساد والإفساد، أو الخلاعة والمياعة، وهذا ما يمكن ملاحظته في التجديد في الخطاب الروائي عند وفاء عبد الرازق.

 

 ثانيا: التأصيل في البناء القصصي

حينما حاول الكُتّاب (شعراء وروائيون) التجديد في الأدب العربي في مطلع القرن الماضي عاد الشعراء إلى النموذج العباسي، كما فعل محمود سامي البارودي، وبعده أحمد شوقي.

وحاول الروائيون في منتصف القرن أن تكون هناك ذاتية للرواية العربية، فجعلوها قصص أبطال العرب، فتلكم قصة عن " عنترة بن شداد" والأخرى عن : سيف بن ذي يزن" وغيرها عن" سيف الدين قطز"و : صقر قريش" و"الناصر صلاح الدين" وغيرهم وكان إسقاط الماضي على الحاضر جليا في كثير من الروايات لدرجة كبيرة، ففي الروايات موقعة عين جالوت، وحطين وغيرهما.

وكانت هذه الإعادة لإنتاج التراث معللة بضرورة أن يكون هناك مشروع قومي يوحد الأمة العربية، ليصبح هناك زعيم عربي حوله الإجماع، ولا مجال للاختلاف أو التنوع أو ظهور وجهة نظر جديدة، ولا زال هذا الأمر محل اعتبار وعناية من أولئك الذين يتمسكون بالهوية القومية والذي لا يستطيع أن يتفهمها إلا في هذا الشكل، ناهيك عن إمكانية في اختراع  شكلا جديد لهذه القومية.

وأصبحت القومية تحد من الإنتاج بتجديد إطاره، وتغلق أبواب الفكر والثقافة ليصبح العزف منفردا، ولا توجد منطقة أخرى لإبراز التمايز بين هذه الأحداث التي من الطبيعي أن تتعدد وتتناغم وتتصارع وتتمايز.

هذا المدخل للفكر الأدبي العربي، والتي لا زالت جذوره حتى الآن مؤصله للمفاهيم جعلت الأدب العربي في خندق المقاومة والدفاع ولم يعرف دور الريادة أو القيادة منذ حين طال، حتى ضاق كل ذي عقل رشيد حيث:

إن العذاب يطاق غير مضاعف

                                      فإذا تضاعف صار غير مطاق

حمدت الله أن تأتي أديبة عراقية عربية الأصل والمحتوى وتكتب القصة القصيرة بهذا الشكل المستحدث، فتتخذه وسيلتها الأدبية من لغة القص الحداثي العربي، بشكل غير مسبوق وحينما حاولت الدراسة استجلاء التأصيل في البناء القصصي في قصتها : تحت ظل البياض" جاءت القصة في أربع صفحات وحوالي" 346" كلمة عربية، وقد جاء الاسم فيها بأكبر الأعداد واستخدمت "243" اسما عربيا على الرغم أن الكاتبة تتحدث عن أحداث في "انجلترا " وبالتحديد في مدينة " لندن" واستخدام هذا العدد من الأسماء الذي يمثل أكثر من ثلثي الكلمات لابد،أن يوحي هذا الأمر بتوقف السرد طوال هذه الأحداث، بيد أنها تبين للمتلقي أن قليلاً من الأفعال تكفي لوصف أحداث كثيرة ولتظهر أن الاسم العربي هو متحرك أيضا كالعقل، حينما يستخدم في سياق يناسبه، ويستحدث له قطاعات أخرى من الاستخدامات، وكذا تستخدم الفعل الماضي حوالي "55" مرة، بينما المضارع "35" مرة ويأتي الظرف في مرحلة متأخرة جداً فتستخدمه "13" مرة وكذلك الضمائر المنفصلة لا يزيد استخدامها عن "5" مرات، أما استخدامها للحروف فيزيد عن " مائة" مرة، وكذا الضمائر المتصلة.

إن هذه التوجيهات في الكتابة القصصية وبخاصة في القصة القصيرة العربية، يبرز أن هناك منهجاً يمكن أن ينتج لنا قصا بعد حداثي، ونقدا بمقاييس جديدة، تجعل للعربي الريادة، وهذا ما يجعلني أجزم بحاجة هذه المجموعة القصصية للترجمة إلى لغات أخرى، الكاتبة لا تنمنم للاستهلاك، ولا تفضل الإطالة، ولا تقدم وصفا شعريا للتأثير بدون وجه حق، أو إكساب الحدث ماهيات غيره، ولكنها حاولت بقوة أن تدخل في شخصياتها دون تكلف، أو تصنع أو تقطيع ثيابهم، وحاولت أن تعرف ماذا تريد هذه الشخصيات، ولذا فإنها لم ترسم شخصية من خارجها، ولم تصفها لأنها داخل الشخصية، وليست خارجها،

ومن اللطائف أن تجعل الصراع بين من اتجاههم واحد، فسيدة الأربعين ترافق شابا ربما به شبق والعداوة بين المتصاحبين، مما يجعلها ترسم صراعا جديداً في الأدب العربي، " يا أيها الذين أمنوا إن من أزواجكم وأبنائكم عدو لكم فاحذروهم"  ذلكم تأصيل للكلمة، وفهم جيد للنص،واستحداث مقاييس أخرى للسرد والصراع، ورسم جديد للأشخاص، ولا يمكنني أن أطلب من مبدعي القصة أن يقتفوا الأثر، ولكن أطلب منهم ضرورة التجديد، وللكاتب الحق في أن يكتب ما يشاء، كيفما يشاء بشرط أن يقنع المتلقي، وقد وجدت هذا الشرط وافياً عند الأديبة وفاء عبد الرازق في مجموعتها " امرأة بزي الجسد"

 

تحياتي لأديبة العراق العربية الكبيرة

د/ رمضان الحضري

 

...........................

خاص بالمثقف

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (عدد خاص: ملف: تكريم الأديبة وفاء عبد الرزاق، من: 05 / 11 / 2010)

 

 

 

في المثقف اليوم